أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سليم نصر الرقعي - فتاة الحي الثاني!؟















المزيد.....


فتاة الحي الثاني!؟


سليم نصر الرقعي
مدون ليبي من اقليم برقة

(Salim Ragi)


الحوار المتمدن-العدد: 5455 - 2017 / 3 / 9 - 00:48
المحور: الادب والفن
    


فتاة الحي الثاني !؟
(قصة حب طفولي ذهب مع الريح!)
•••••••••••••••••••••••••••••••
في صباي ، في باكورة ارهاصات سن المراهقة ، ربما حين كان عمري 11 عاما ، كنت معجبا بفتاة جميلة تصغرني بعام تقريبا او يزيد ، كنت اراها معنا في الاحتفالات الكشفية بملابس الزهرات الانيقة بينما أنا كنت من أشبال الكشافة ، ولعل ما جعلني أتعلق بها عاطفيا اكثر هو انها ذات مرة جلست بجواري في احدى الاحتفالات ومدت يديها الصغيرتين وأخذت تصلح من شأن منديلي الكشفي (ربطة العنق الكشفية) وتعمل على تسويتها كما ينبغي حيث أنني لم اكن حينها مهتما كثيرا بمسألة هندامي ! ، فشعوري حينها في تلك اللحظة بانها تعتني بي وتهتم لأمري زاد من انجذابي التلقائي اليها ، ربما كان ذلك باكورة شعوري بالانجذاب نحو الجنس الآخر ، وهذا الانجذاب كما اذكر لم يكن ذا طبيعة جنسية وشهوانية قطعا ، لم تخطر هذه الامور في بالي وفي رأسي الصغير يومها حيالها ابدا بل كان انجذابا من نوعا آخر !! ، اعجابا وانجذابا ذا طبيعة رومانسية افلاطونية عذرية ليس للاشتهاء الجنسي والجوع الجسدي فيه محل ! ، فالإحساس الجنسي بمعنى اشتهاء الفتيات جسديا وتخيل ذلك في ذهني من خلال أحلام اليقظة أو أحلام المنام بدأ يطرق بابي مع الارهاصات الاولى لبلوغي ، وذاك كان تحديدا في سن الثالثة عشر ! ، أما قبل ذلك وخصوصا حيال ملاكي الطاهر ذاك فلا محل للجنس ، شعورا وتصورا ، في نفسي البتة !! ، لهذا كان تعلقي بها تعلقا عاطفيا عذريا بريئا بالفعل ربما كان الى حد كبير كارتباط أبينا (آدم) بأمنا (حواء) قبل ان يغريهما الشيطان بالأكل من الشجرة المحرمة مما تسبب في استيقاظ الغريزة الجنسية من مهجعها وخروجها من مكمنها بعد طول سبات وطول كمون! ، هكذا كانت مشاعري الوجدانية نحو ملاكي ذاك ، فهو اعجاب نفسي بريء وتعلق عذري رومانسي دون أي احساس وانجذاب جنسي !! ، شعور من المحبة البريئة الغامرة تملأ قلبي الصغير فاشتاق اليها وأحن الي رؤيتها مرارا وتكرارا بلا انقطاع، ولكن لأن الحفلات الكشفية المختلطة بين الذكور والاناث (الاشبال والزهرات)(الفتيان والفتيات) كانت نادرة جدا في ذلك الوقت حيث أن للبنات والفتيات مقرا خاصا بهن ، فكنت اعاني من لحظات الوجد والشوق لرؤية ملاكي الطاهر ذاك والأنس بقربه ، ماذا افعل؟ وكيف أراها وأفوز برضاها!؟ ، ذلك ما كان يشغل عقلي الغرير و قلبي الصغير ! ، ولم اجد حلا عمليا لهذا الوجد الوجداني المتقد بناري القلق والشوق الا أن اتقرب من اخيها وأتودد اليه وأقيم صحبة معه وهو كان في عمري تقريبا او يكبرني بعام ونيف لعله يكون هو بوابتي الى فردوس النعيم حيث يقيم ملاكي الكريم ! ، وبهذه الصداقة الجديدة التي توثقت عراها بشكل طفولي مع أخيها اصبح بإمكاني ان أذهب للعب معه أمام بيتهم واحيانا يأتي ليلعب هو معي أمام بيتنا !! ، وكان الشي الذي يثلج صدري حينذاك هو ان (ملاكي الساحر الصغير) ذاك ، وزهرتي الرقيقة الرائعة ، كانت تخرج من بيتهم لتلعب مع بنات حيهم ، الحي الثاني ، بجوارنا في الشارع كما جرت العادة تلك الايام ، واحيانا ، لحسن حظي ، كنا نشارك البنات في ألعابهن الخاصة مثل لعبة (النقيزة) و(نط الحبل) (*) وتارة يشاركننا هن العابنا الذكورية كلعبة (الليبره)(الوابيص) (البطش) (التصاوير) و(عسكر وحراميه) و(طق طربق)(*) ، وهكذا اصبحت من مجموعة الاصدقاء والرفاق لها كما لشقيقها ، وذلك كان يومها انتصارا كبيرا غمر قلبي بالفرح والسرور ، فقد كنت اعيش أحلى احلامي واسعد ايامي بقربها كما لو انني (آدم) وقد عاد الى (الجنة) التي طرد منها من جديد !!!.


ذات مرة غلبني الوجد ولم أتمالك نفسي فاشتريت كرت مراسلة (بطاقة اهداء) يحمل صورة فتى وفتاة يلعبان بطائرة هوائية وسط حديقة خضراء تموج وتعج بالزهور وكتبت خلف (الكرت) عبارة واحدة بخط طفولي ركيك ومرتعش وهي (احبك) !! ، وأخذت اتحين الفرص لأقدمه لها ولكنني كنت مترددا بسبب الخوف من انفضاح امري وما سيترتب عن ذلك من تداعيات قد يكون أخطرها وأشدها ايلاما ومضاضة على روحي هو طردي من جنتي تلك الماثلة هناك في الحي الثاني ومنعي من الاقتراب من (حوريتي) الجميلة مرة اخرى وربما الى الابد !، كنت مترددا بين نارين ، نار الشوق والرغبة في البوح بحبي لها ، ونار الخوف والقلق من مغبة فعلتي تلك ! ، وظللت رغم ترددي احمل (بطاقة المحبة) تحت قميصي مثبتة بسير البنطلون اينما سرت لعل وعسى أن يحالفني الحظ ! ، ولازلت على هذا الحال والمنوال من التردد حتى لاحت ذات مساء الفرصة السانحة فجأة كما لو انها غيث مفاجئ هطل على أرض عطشى تكاد أن تلفظ انفاسها لشدة العطش! ، تلك الفرصة السانحة لاحت لي حينما ذهبت ذات مرة وطرقت باب بيتهم سائلا عن اخيها فكانت المفاجأة السارة أن كانت هي من فتح لي باب البيت ، وحين أخبرتني أن شقيقها في محل الحلاق )الحسان) لتحسين شعره اعترتني على الفور لحظة شجاعة وجرأة بشكل مباغت لاستثمار هذه الفرصة فأخرجت بطاقة المحبة (الكرت) بسرعة و قدمته لها في ارتباك تام وأنا اتمتم بكلمات مرتعشة غير مفهومة ولا معنى لها (!!) في الوقت الذي كانت (صغيرتي) ترمقني بعينيها الواسعتين الجميلتين بنظرات طفولية تشع حيرة واستغرابا !، فما كان مني حيال هذا الوضع الملتبس الحرج الا أن اطلقت ساقي للريح وقلبي يقرع الطبول بصوت عال وايقاع سريع كما لو أنه يطلق انذارا باندلاع الحرب !! ، ركضت بكل قوتي وسرعتي من بيتهم حتى بيتنا دون توقف وأنا لا اصدق نفسي بأنني قد فعلتها !! ، هل اعطيتها الكرت بالفعل ام خيل لي ذلك !!؟ ، يا الهي !! ، كيف تجرأت على فعل ذلك !!؟ ، وحين وصلت الى البيت كنت في حالة يرثى لها من شدة التعب والذعر بينما صوت غريب ومخيف في أعماقي يشبه في نبراته صوت ابيها يصرخ في وجهي موبخا في غضب : " ما هذا الذي فعلته يا ولد!!؟".

وظللت بعد تلك العملية الجريئة (الباسلة) عدة ايام في قلق شديد وخوف مضني عتيد أترقب متجنبا الاقتراب من حيهم، الى أن التقيت ذات مرة بأخيها حينما كنت في طريقي لشراء الخبز من المخبز الذي يقع بين حينا وحيهم ، وحينما رأيته قادما من آخر الزقاق المؤدي للمخبز باتجاهي عاد قلبي يقرع طبول الخطر ، ثم وما إن اصبح على بعد عدة خطوات مني احسست ان قلبي توقف تماما عن الخفقان بل وانقطعت انفاسي واحتبست في صدري ، والتقت عيناي بعينيه وادركت للوهلة الأولى، من خلال لغة العيون وما تحمله نظراته من معاني اللوم والعتاب، أن أمري قد انكشف وأنه قد عرف بالموضوع وانتهى الأمر! ، اعتقدت للحظات بأنه سيباغتني بلكمة على وجهي او سيشد شعري بشكل عنيف حتى يسقطني أرضا، فاستعددت لهذا الاحتمال المخيف دون أن افكر في نفسي ان أبادله العنف بالعنف ، كيف لي أن امس شعرة من شقيق ملاكي الحبيب !!؟؟ ، لن يسمح لي قلبي بفعل ذلك اطلاقا فلو ضربته كأنني ضربتها !!، لهذا كنت فقط استعد لتلقي وتحمل ضرباته العنيفة اذا قرر ان يضربني انتقاما لتجاوزي حدودي وحدودهم ! ، ولكنه فاجئني بابتسامة باهتة وقال لي ساخرا : " أين هربت !!؟" فأجبته في ارتباك وبنبرات مرتعشة متظاهرا بالصلابة : " انا موجود ! ، ماذا هناك!؟" ، فوجه لي نظرة ماكرة ذات مغزى : "لقد علمت بموضوع الكرت ، وكذلك علمت أمي!" ، احسست بقلبي يسقط بين قدمي وأسقط في يدي ولم أحر جوابا ، ولشدة اضطرابي سألته بسذاجة : " هل وصل الخبر الى ابيك؟" ، فضحك وقال بطريقة بدا لي منها انه يريد تطميني : "لا ، وصل امي فقط ، وأمي طلبت منا عدم اخباره بالموضوع !" ، ثم اخذ يعاتبني ويلومني الى أن فاجئني بقوله : " لو كنت اعطيتني الكرت منذ البداية لكنت أوصلته أنا اليها بدون مشاكل!!" ، لم اكن اتوقع منه هذا الموقف ولكن جوابه هذا كان بمثابة جردل مملوء بماء بارد تم سكبه بشكل سريع ومباغت على نار تتقد في مهجتي فانطفأت على الفور !! ، ثم فاجئني مرة اخرى بما هو اكبر وأعجب وغير متوقع بقوله : " في المرة القادمة اذا اردت ان تهديها هدية او ترسل لها رسالة اعطها لي وانا أوصلها اليها !" ، فرحت بهذا الاقتراح كثيرا وعادت المياه بيني وبينه الى مجاريها وقررت ان أعود الى سيرتي الاولى أي الى زيارة جنتي وحوريتي في الحي الثاني يوميا، وفعلت ذلك بالفعل في اليوم التالي بحماسة منقطعة النظير وذهبت للعب معها ومع اخيها بجوار بيتهم من جديد كأن شيئا لم يكن !.

وحين عدت لزيارة حيهم كنت اتوقع منها أن تستقبلني استقبالا خاصا يفيض بالفرح والترحاب، ولو من خلال لغة العيون على الاقل، بعد أن عبرت لها بذلك الكرت الملون عن حبي العظيم !! ، لكن صدمتي كانت كبيرة ومريرة حينما قابلتني ببرود وبطريقة عادية جدا كأن شيئا لم يكن !! ، ولسان حالي يقول لي ساخرا : "كأنك يا أبا زيد ما غزيت وما خضت تلك الحرب الضروس" !! ، وبينما انا في حيرتي اخذت هي تلعب معي ومع بقية الاولاد كعهدها السابق كما لو انني لم أقم بكل تلك المغامرة الجريئة الخطيرة وكل تلك المخاطرة الكبيرة لإيصال صوت قلبي اليها والاعتراف بحبي لها !! ، فشعرت بخيبة أمل كبيرة وبغصة مريرة في حلقي !! ، ومع ذلك لم ينل اليأس من قلبي وحبي لها وظللت الح في طلب ودها الى درجة انني كنت ادخر بعض النقود من ثمن افطاري المدرسي كي اشتري لها بعض الحلي النحاسية المقلدة المعدة للفتيات الصغيرات ، حيث يمكنك الفوز بقطعة من هذا الحلي المقلد إما في شكل خاتم مرصع بجوهرة من البلاستك الملون بألوان الاحجار الكريمة الجذابة او سلسلة عنق معدنية ذهبية اللون في وسطها قلادة أو قطرين للأذنين أو أسورة للمعصم ، وغير ذلك من الحلي النحاسية ذات اللون الذهبي أو الفضي المرصعة بالمجوهرات المقلدة المعدة للأطفال من خلال ما كان يعرف بصندوق الحظ (بختك نصيبك) ، وهو عبارة عن صندوق كبير من الورق المقوى المزخرف يحتوي داخله على عدة صناديق صغيرة مغلقة مرصوصة ومصفوفة بانتظام وعليها ارقام حيث تدفع خمسة قروش تقريبا للبائع ثم يطلب منك ان تقوم باختيار احد الصناديق الصغيرة تلك من خلال اختيار احد الارقام المتوفرة ، ثم يقوم بثقب وفتح ذلك الصندوق الصغير واخراج محتوياته لتكون هي (حظك ونصيبك) مقابل الثمن المدفوع ، وهكذا كنت كل فترة اشترى لها مثل هذه الحلي النحاسية البديعة التي تعجب البنات كثيرا وأسلمها ، كما اتفقنا سابقا ، الى أخيها والذي بدوره كان يحملها اليها ثم يعود ليبلغني كالعادة بان هديتي الرائعة قد اعجبتها وسرت بها جدا حتى كادت تطير من الفرح وانها تبعث الي بشكرها الجزيل ، وكان هذا يسرني ويملأ روحي بالسعادة الغامرة التي تصاحبها نشوة عجيبة تسري في كل انحاء جسمي خصوصا حينما اتخيلها وهي تنظر الى هديتي اليها بفرح وشغف وهي تتذكرني وتتخيل وجهي المحب فتهمس قائلة لي في خيالها : ( وانا احبك أيضا!) ، يا الهي ! ، كم كنت احلق من فرحتي وسكرتي كلما خيل الي انه ستهمس في أذني ذات يوم بكلمة حب ! ، فذلك التصور الخيالي لطريقة استقبالها لهديتي كل مرة كان يغمرني بذلك الاحساس الغامر بالفرح والهناء ويزود افلام وأحلام اليقظة التي ترافقني في لحظات خلوتي بكل اللقطات الحالمة اللطيفة السارة ، ولكنني ، ويا للأسف ويا للغرابة !، مع ذلك كله لم الحظ أي تغيير في موقفها الاعتيادي نحوي حينما التقي بها في واقع الحال ،حين نلعب سويا مع بقية الاطفال في الشارع امام بيتهم ، لا شيء يذكر على الاطلاق ولا تأثير فعلي لتلك الهدايا المتكررة المرصعة بالمجوهرات والتي كانت تكلفني غاليا من مصروفي الخاص ، 5 قروش كاملة في كل مرة وهو مبلغ لا يمكن الاستهانة به في ذلك الوقت ! ، وما يتضمنه ذلك احيانا بالتضحية بفطور المدرسة !! ، فالطابع العام الذي كان يكتنف سلوكها نحوي هو ذلك البرود الاعتيادي حيث تتعامل معي كما تتعامل مع اي صبي آخر من صبيان الحي ورفاق شقيقها !! ، فهي تتعامل معي كما تتعامل مع كل الاولاد الذين يشتركون احيانا مع البنات في العاب جماعية مشتركة أمام بيتهم لا اكثر ولا اقل!! ، وذاك ما كان يومها يؤلمني ويضايقني جدا بل يكاد يجنني اذ أن المحب يتوقع ممن يحب الاهتمام الخاص جدا !، مقابلة الاهتمام بالاهتمام فهذا هو مبدأ العشق والغرام!.


وفي الوقت الذي اكتشفت فيه هذه الحقيقة المرة والتي مفادها ان لا خصوصية لي في قلبها وعقلها وسلوكها، اكتشفت أيضا أن رفيقتها الصهباء، وهي فتاة جميلة ايضا، كانت توليني اهتماما خاصا من دون كل الاولاد الآخرين ولكنني لم أكن مهتما بها ! ، كان كل الرفاق معجبين بها ربما احيانا اكثر من حوريتي صعبة المراس ، فهي صهباء حمراء البشرة و الشعر كما لو انها فتاة اوروبية لكنني لم اجد نحوها أية جاذبية ، فكل الانجذاب الوجداني كان متوجها وبشكل عفوي وكبير الى زهرتي وفتاتي تلك لا غير ! ، فتاتي التي كانت لسوء حظي لا تبادلني ذلك الشعور!، حتى انني أتذكر في مشهد طفولي ساخر انني ذات مرة حملت زهرتي وحوريتي تلك على دراجتي وانطلقت بها بكل قوتي اجوب بها حيهم ممنيا النفس أن يكون ذلك سببا في اطلاق شرارة التعلق بي، بينما تلك الفتاة الصهباء المسكينة كانت تركض خلفنا وتستجديني ان أعطيها فرصة ايضا في ركوب دراجتي الى جانبي ولكنني لم ابال بها بل لرغبتي الانانية في الانفراد بفتاتي دفعتها ذات مرة بقدمي حينما تعلقت بالدراجة من الخلف فسقطت المسكينة على الارض واخذت تبكي بينما انا كنت مشغولا بالملاك الذي كان يقعد امامي على عمود دراجتى الممتد من مقعدي حتى مقود الدراجة !!، كان تصرفا طفوليا انانيا قاسيا حيال تلك الفتاة الصهباء ولكنني في تلك الآونة لم ادرك مدى قسوة ذلك التصرف وتأثيره الفظيع على مشاعر وقلب تلك الفتاة!.


لاحقا وبشكل دراماتيكي يخلط بين اوراق (الكوميديا) و(التراجيديا) اكتشفت ان صغيرتي وزهرتي معجبة بفتى آخر يسكن في حيهم، أحد أولاد الحي الثاني ، كان يمتاز بأناقته والعناية بمظهره فضلا عن نوع من العجرفة الذكورية المصطنعة التي تكسو تصرفاته والتي تجعله يبدو أكبر من عمره الحقيقي ، وربما تكون عجرفته تلك هي التي شدت بعض الفتيات ومنهن فتاتي اليه وعلى طريقة (الممنوع مرغوب) !! ، ورغم استقبالها له بحفاوة كلما مر بنا احيانا ليلعب معنا محاولا اظهار ذلك كما لو أنه تعطف وتكرم منه علينا !، وهي حفاوة كانت تلهب نار غيرتي ، الا أنه، لحسن حظي، ورغم كل اهتمامها الكبير به، لم يكن يبالي بها ولا يعيرها اهتماما البتة اذ انه كان مولعا برفيقتها الصهباء التي كانت في ذلك الوقت مولعة بي وتركض خلف دراجتي طمعا في أن ابادلها اهتماما باهتمام! ، وهكذا، ونتيجة هذه الاهتمامات المتناقضة، كان المشهد كما يلي :
أنا اركض خلف فتاة لا تعيرني اهتماما ولا تبادلني الشعور نفسه ، وهي تركض خلف فتى آخر لا يعيرها اهتماما ولا يبادلها الشعور نفسه ، وهو يركض خلف فتاة اخرى ، وهي رفيقتها الصهباء ، والتي لم تكن تعيره اهتماما ولا تبادله الشعور نفسه ! ، بل كانت معجبة بي و تركض خلفي انا! ، وأنا لا أعيرها اهتماما ولا أبادلها الشعور نفسه وعيناى متسمرتان بالكامل على رفيقتها !! ، وهكذا دخلنا في دوامة عجيبة و قصة غريبة متشابكة ومحيرة !! ، كل فرد فيها يركض خلف الآخر والذي بدوره لا يلتفت اليه ويركض خلف شخص آخر !! ، كأننا نلعب لعبة الكراسي الموسيقية ولكن دون ان تتوقف الموسيقى عن العزف البتة، ولو للحظة ، كي تتيح لكل منا فرصة القفز على احد الكراسي للجلوس عليه والفوز بحق البقاء في اللعبة !! ، وظللنا نمارس هذه اللعبة ، لعبة الركض بلا انتهاء في دوران مستمر ، كل منا يطارد الآخر دون أن يطول صاحبه ولا ينال بغيته، بل دوران مستمر بلا جدوى!، كما لو اننا فئران تجارب تركض في متهات دائرية مغلقة لأكثر من عام بلا نهاية !!، ألف وأركض وأدور ذهابا وايابا من حينا لحيهم دون ان أفوز بكرسي قلب ومحبة زهرتي الجميلة حتى أصابني واصاب جميع المشتركين في هذه اللعبة المرهقة للأعصاب الدوار والاكتئاب ، فأكل قلوبنا الملل واليأس وتفرق شملنا وذهب كل منا في حال سبيله !! .



حملت خيبة املي وحزني ومرارة الهزيمة في قلبي الصغير ورجعت من حيث أتيت الى حينا واولاد شارعي وجيراني ألعب معهم تاركا الحي الثاني نهائيا خلف ظهري بذكرياته الحلوة والمرة الى الأبد ، وانشغلت بعالمي الطفولي في حينا العب برفقة اولاد وبنات الجيران تارة، واذهب للمكتبة العامة المجاورة لبيتنا للاطلاع على قصص الخيال الطفولي وأغوص بعقلي في عالم الحوريات والجنيات المسحور حيث الأقزام السبعة وسندريلا وذات الرداء الاحمر وأميرة حسناء يتحول اخوتها الأمراء السبعة الى سبع بجعات اثناء النهار وفي الليل يعودون كما كانوا بشرا ينطقون وهي تحاول جاهدة تخليصهم من هذا السحر اللعين ، وقصة أرنب مغرور تسبقه سلحفاة مجدة في سباق طويل، ومجموعة من الفتيان المغامرين معهم ببغاء يكتشفون كهفا مليئا بالأسرار الغامضة !! ، وطفل مشاغب يهوى المقالب ولا يملك غير شعرة واحدة في رأسه اسمه (زوزو)، وقصص ميكي وبطوط وسمير وتهته ، وعالم كبير وساحر من الخيال الباهر ، عشت هناك في قعر المكتبة العامة بكل وجداني بعيدا عن واقعي الحقيقي العياني ربما محاولا نسيان فتاة احلامي وفردوسي المفقود وملاكي الضائع في ذلك الحي الثاني ، ومما ساعدني على النسيان ان أخاها غاب هو ايضا عن حينا ولم يعد يزورنا للعب معنا ولم أعد التقي به في دار عرض السينما كما كان يحدث احيانا، أما جمعية الكشافة فقد هجرتها ولم اعد التزم بحضور اجتماعاتها وحفلاتها بعد ان وجدت في المكتبة وفي عالم القصص عالما سحريا بديلا لفردوسي الارض المفقود ، ثم وبعد مرور عدة اشهر انتقلت أحدى عائلات اولاد الحي الثاني الى حينا واصبح بالتالي ابنها الذي كان يلعب بالأمس معنا في الحي الثاني بعد انتقاله لحينا من جيراني ورفاقي المقربين، ثم ذات يوم حينما كنا جالسين سويا ،هو و انا ، على رصيف باب بيتنا ، قبيل الغروب، نتجاذب اطراف الحديث ونستحضر بعض ذكرياتنا القديمة مع اولاد الحي الثاني الى ان تطرقنا وبشكل جانبي للحديث عن شقيق زهرتي الصغيرة وملاكي المفقود، فوجدته يفاجئني وهو يرمقني بعينين تلمعان وتشعان بنظرات ذات مغزى بالبوح بسر كان يكتمه عني لم يخطر لي على بال ! ، حيث اخبرني بأن شقيق فتاتي تلك كان يخدعني ويبتزني ويستغلني من حيث لا أدري!! ، وعندما استغربت مندهشا وسألته : (كيف ذاك !؟) ، أخبرني بان تلك الهدايا من الحلي التي كنت اعطيها له لكي يوصلها بدوره الى شقيقته بالنيابة عني كهدية وعربون محبة مني لم تكن تصلها على الاطلاق !! ، بل كان يقدمها ، طوال تلك الفترة ، كهدية منه ، لإحدى فتيات الحي الثاني التي كانت تستهويه وتعجبه ! ، وبالتالي لم يصل منها شيء الى يد شقيقته !! ، وكانت صدمة كبيرة وحسرة مريرة اكتويت بنارها لعدة ايام وكنت استغرب في نفسي حينها كيف انني لم الحظ ايام كنت ألعب بجوار بيتهم في الحي الثاني ان فتاتي تلك لم تكن ترتدي وتتزين بأي من تلك الحلي و الهدايا الثمينة التي كنت ارسلها اليها بواسطة شقيقها في يوم من الايام في حين الفتيات كن يفرحن بامتلاك مثل هذه المجوهرات والقلائد والحلي !!؟، كيف غاب عن بالي ذلك !!؟ ، كيف لم يخطر لي أن أسألها ولو لمرة واحدة : ( هل اعجبتك هديتي!؟) ، لا ادري لماذا لم افعل !؟ ، ولكن لا شك ان لذلك البرود العجيب الذي كانت تقابلني به حينها وتلك المعاملة العادية جدا هي ما جعلني امتنع عن توجيه مثل هذا السؤال اليها ! ، لقد استغفلني شقيقها واستغلني ولعله فاز بقلب فتاته بعد ان أغرقها بكل تلك الهدايا والحلي الثمينة ، هداياي وحليي التي اشتريتها بثمن فطور المدرسة لشقيقته !!، ولكن الغريب هنا هو انني لم احقد عليه ولا فكرت حتى في البحث عنه ومواجهته بهذه الحقيقة المرة والانتقام منه بل تقبلت ما جرى على مضض بل لعلني سامحته وغفرت له ذلك في قلبي، فحب شقيقته في تلك الأيام رغم كل شيء كان يحول بين قلبي والحقد عليه ، فنسيت أمره وبقيت هي ذكرى جميلة من عالم الطفولة لعدة سنوات تداعب خيالي، وكنت أحن اليها كلما لاحت صورتها في خاطري ثم ما لبثت أن نسيتها او تناسيتها من بالي وجعلتها في هامش بعيد من مركز انتباهي واهتماماتي اليومية، ثم مع بلوغي سن المراهقة غصت عاما بعد عام في عالم الافكار الدينية والفلسفية والسياسية وعجائب العلم والتقنية وعالم المخترعات وتأثير كل ذلك على حياة البشر اجتماعيا واقتصاديا واخلاقيا وسياسيا !! ، ثم مع بلوغي سن الثامنة عشر غرقت في متهات الاهتمام بالقضايا العامة والمشكلات السياسية والفكرية وصراع الايديولوجيات حتى تورطت في السياسة وهاجرت من بلادي الى الدول العربية ثم الى احدى الدول الغربية (بريطانيا) بحثا عن الحرية والامان بسبب موقفي المعارض للنظام الديكتاتوري وانعدام حرية التعبير في بلادي ! ، واليوم وقد تجاوزت الخمسين من عمري وقد خففت كثيرا من تعاطي السياسية ، وجدت ذكرى فتاتي تلك وملاكي المفقود في ذلك الحي الثاني تقفز فجأة دون سبق انذار ودون سبق استدعاء من ذلك الهامش البعيد في حافظة الذكريات وذاكرة الايام ، لتعود فتطرق باب انتباهي بشدة في حماسة طفولية منقطعة النظير وتحملني على جناحيها الى عالم الذكريات وعالم الحوريات المسحور من جديد كأنني (الشاطر حسن) أو (علي بابا) أو (السندباد) وقد أخذ يطير في الهواء على بساط الريح!!، من يدري!؟ ربما يكون التذكير الذاتي بالماضي وخصوصا ايام الطفولة هو جزء من آليات وسيكولوجيا العقل الباطن للانسان للمحافظة على هويته الشخصية الفردية حينما تطرق الشيخوخة الأبواب مع بداية تساقط اوراق الاشجار في فصل الخريف ! ، ربما ! .
*********
سليم الرقعي
2017
(*) اسماء العاب جماعية للأولاد والبنات في زمان طفولتي في ليبيا في مدينتي (اجدابيا) باقليم (برقة) وسأخصص مقالة للحديث عن العاب الاطفال في ذلك الزمن الجميل الضائع كما عاصرتها بنفسي.



#سليم_نصر_الرقعي (هاشتاغ)       Salim_Ragi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين الكسب المعز والكسب المذل!؟
- العيب في النخب اولا لا في الشعب !؟
- عن الطرب العراقي الحزين!؟
- سر الفشل والنجاح في الحياة!؟
- لقاء مع مواطن عربي منتهي الصلاحية!؟
- من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر !؟
- الديموقراطية الواقعية لا تعني حكم الشعب !؟
- المال والسلطان في مجتمع السوق الحرة!؟
- التباس في زمن الارهاب!؟
- المايسترو والجني الاخرس!؟
- اللذة الضائعة !؟
- المستذئب !؟
- موقفي من السلفيين والإخوان المسلمين!؟
- مفاجأة من العيار الثقيل!؟ (تجربة أدبية!)
- صبابة!؟ شعر
- ظاهرة انتقال امراض النظام الشمولي لمعارضيه!؟
- صعود القبلية والطائفية وجمود الدولة الوطنية المدنية!؟
- لماذا سأم الغربيون من الهجرة لبلدانهم!؟
- الشخص الآخر ذو الوجه المألوف !؟
- هل للسوق تأثير على الحاكم العربي!؟


المزيد.....




- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سليم نصر الرقعي - فتاة الحي الثاني!؟