أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود يعقوب - اليقظات قصة طويلة















المزيد.....



اليقظات قصة طويلة


محمود يعقوب

الحوار المتمدن-العدد: 5048 - 2016 / 1 / 18 - 15:20
المحور: الادب والفن
    


اليقظات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قصة ط

قال لنفسه ، وقد خامرته أفكار ٌ جمّة :
" لا شك أن الله اخترع الأرض واخترع السعادة ، بينما اخترع الإنسان التعاسة والأحزان ، ولا شك أيضا ً أنهما مبسوطان معا ًباختراعهما هذا .. "
ثمة سبل لا تـُحصى لبلوغ المباهج ، وبوسع كل واحد ٍ منا اجتراح ألف طريقة وطريقة لإدراكها والتشبث بتلابيبها ، وأغلب تلك السبل ننغمس فيها عفوياً طالما كنا منغمسين في الحياة .

تساقطت شمس الغسق في عرض حديقة ( نادي الموظفين ) مثل نحاس ٍ متوهج ٍ ، مصهور . كانت أغصان الشجر تلاعب الضوء فتلوح خيوط الشمس كأنها تتراقص في غنج ٍ ، والنسائم الرخية ما لبثت تدلف إلى الحديقة بسرور وانتشاء . العصافير عادت من العمل واندست في مجاثمها ، رفعت رؤوسها و فاضت حناجرها بالترانيم والأنغام التي تسبق نومها..
في قلب هذا المشهد البديع بسط ( أبو علي البعشيقي ) صدره الذي يشبه صدر بجعة ، وجذب نفسا ً عميقا ً من هواء الأصيل المتضمخ بشتى ألوان الروائح ، ثم تقدم بقميصه الأبيض الفضفاض ، ووجهه المحلوق بعناية . يدفع عربة العمل الحديدية التي أخذت تخد أرض الحديقة بعجلتها الوحيدة القاسية ..
توافد الزبائن إلى النادي منذ ساعة تقريبا ً ، والآن بدأت روائح الشراب تضوع في الأجواء وتخفق في أركان جسده أيضا ً .. روائح السحر ، والكوثر الذي لا يقاوم . وهاهي خيالاته ، وحنين روحه الدفين تمتزج مع الرائحة امتزاجا ً لذيذا ً ، وتلهب جذوة الرغبة في أعماقه . قال لنفسه :
" أي حظ ٍ ساقني إلى هذا المكان ؟.. "
ينكشف شيء من التعاسة في مظهره إبان العمل ، بجلاء . يلف كوفيته حول رأسه كالعمامة ، فمه نصف مفتوح ، و شفته السفلى هَدِلت بلين ٍ وارتخاء ، تزيغ نظراته وهي تبحر بغموض نحو المجهول ، وقد بان على ملامحه كبر العمر وقسوته ، يغالب أحزانا ً جليلة ً ، وقورة ً ، وجروحا ً خفية ً ، غير أن من يحاول أن يكيل له النظرات سيبدو له في النهاية أنه رجل فاز على الدنيا فوزا ً متواضعا ً .. فوزا ً لا يـُعد ، ولكنه على أي حال فوز ٌ غمر روحه بندى التفاؤل وأنوار الأمل ..
ملأ صدره بنفس ٍ آخر من الهواء العطر أكثر امتلاءا ً ، وحدق مليا ً في الشريط البنفسجي الذي يغطي هامة الشمس الجانحة إلى الغروب ، الذي يغمر قوسها العلوي مثل تاج ليلكي جميل . وسرعان ما وقع تحت تأثير إحساس بأنه يشم عطرا ً بنفسجيا ً في الغسق .. عطرا ً ليلكيا ً ، ناعما ً ، تبثه الشمس كالأنوار ، راح يدغدغه فيسري خدرا ً لذيذا ً في أوصاله !..
ما برح يعمل منذ أول الصباح ، ينقل رملا ً جديدا ً ويغمر فيه حديقة النادي ، وساحته المنبسطة ، الواسعة ، يفرشه على تلك الأرض ويساويه بعناية .. منذ أول الصباح وهو منكب على عمله بمثابرة ، وصمت ، كعادته الدائمة حين ينشغل مستغرقا ً في العمل استغراقا ً نهائيا ً..

كان (البعشيقي ) عامل بناء حقيقي ، يلتصق به الإخلاص والجد أينما عمل ، يمضي سحابة يومه في الكد ويأبى إلا ّ أن يتم عمله قبل حلول المساء ، وهو يكدح بهمة ٍ ويكافح طوال ساعات النهار . لا يزهق من ضناء العمل ولا يسأم من مشاكله . وكان وجهه الطليح يعبر عن ذلك الجد وعن تلك المثابرة الصادقة . وجراء العمل المتواصل نحل جسده وصار كالنصل ، غير أنه احتفظ بقوة العامل التي لا تتخاذل أمام أكثر الأعمال قسوة ٍ ..
يغرق في عمله سريعا ً دون حاجة إلى النصح والتوجيه ، وعلى عكس الأمر كان هو من يسدي النصائح إلى الآخرين . إنه لا يتكلم كثيرا ً .. رجل غير مُحدّث ، ولكنه يستطيع أن يعظ الناس بكل ما يبشر به الواعظين ، حتى يخال المرء حين يسمعه بأنه جندي مواعظ مجهول ، وإن هذا الواعظ المجهول سرعان ما ينهي خطبه القصيرة برشفة من الخمر !..


شبّ الضحك واللغط في أركان الحديقة ، وانطلقت روائح المشروبات كأنها تنبعث من أشجارها الظليلة ، فأيقظت في حناياه ذلك العطش القامح . إنه رجل ٌ مرهف الأحاسيس ، قادر ٌ أن يجس سريعا ً ، ومن مكان بعيد ، كل الروائح والطعوم كما يجسها القط البري ، المتحفز ، اليقظ .
منذ عودته من الأسر .. قبل أكثر من سنة ٍ ولغاية اليوم لم يذق طعم الخمور ، ولا تيسر له أن سكب قطرة واحدة منها بين شفتيه . كانت عودته هذه في وقت ٍ بائس ٍ .. وقت ٍ طالعه سيء على الجميع ، أخلى كل وفاض وأجدبه ، ولم يتبق َ في أعماق جيوب الناس سوى أخلاقهم الحسنة التي لم ينفقوها هدرا ً . لاح َ مغلوبا ً على أمره ، وما عاد بوسعه أن يفكر في شرب شيء ، وليس ذلك بمناسب ٍ له بالطبع !..
لكنه اليوم منذ أن جاءوا به في الصباح الباكر ، وأوقفوه جوار تل ٍ مرتفع من الرمل الطري ، المرطوب ، في الشارع المحاذي لمبنى النادي ، وطلبوا منه أن ينقله ويفرشه في حديقة المبنى ، وهو يقاوم عبثا ً تلك الرغبة الدفينة في دنان أعماقه ، والتي جعلت فؤاده يخفق ظمأ ً ، ويغرق في تيه الأفكار ويساءل نفسه : " هل العمل في مثل هذا المكان نعمة ٌ أم نقمة ٌ كبيرة ٌ ؟ . "
كلما مرّ الوقت تبدّدت مقاومته ، واندثر بين الرمال صبره . كان يعمل بلا جلبة ٍ ، دون أن يجذب أنظار أحد ٍ ، إلاّ أنه الآن شرع يعمل وهو يأتي بحركات مبهمة ، غامضة ، ليس لها سوى تفسير واحد فقط هو أنه يريد أن يبل جوفه المحترق .. قال لنفسه : " أنظر ْ إلى هذا الحظ الأسود الذي ساقني اليوم إلى هنا .. "
أكسبه هيامه بالشراب واحترامه له ، ذلك الاحترام الذي لم يألفه أحد ٌ، في يوم من الأيام لقب ( البعشيقي ) بين معارفه وندمائه الذين لم يعد لهم ذكر ٌ ، بعد أن نثرتهم الأيام والرزايا كما تنثر الريح الدخان .. لم يكن الرجل من أهل ( بعشيقة ) *حتى يتخلـّص باسمها ، غير أنه ، في مطلع شبابه أخذ يرتشف رشفات ٍ ، لم يستطع الفكاك منها ، تحييه وتجعله يعوم بين النجوم مطوفا ً .. رشفات متلاحقة طوال الأيام قلبت أوضاعه رأسا ً على عقب ، وأصبح إثرها بعشيقيا ً !..
غالبا ً ما يربح المميزون من الناس الألقاب ، فلا غرو إذن من أن يفوز بهذا اللقب في النهاية .
والحق أن الرجل لم يكن مدمنا ً على طريقة مدمني الخمور الذين يعاقرون الخمر ليل نهار ، وهم يترنحون ويجاهدون في أن يطلقوا بعض الكلمات عبر أنوفهم المتورمة الحمراء ، أولئك
العطشى المقمحين الذين يوهمون ا لآخرين بقدراتهم الزائفة وإدمانهم الزائف ، الذين لا يشربون إلاّ لأجل أن يتساقطوا حطاما ً بين المقاعد ، وشظايا مبعثرة أسفل الموائد !..
أولئك لا يثقون سوى بالهواء .. الهواء إذا تدفق يمسي شهما ً معهم وحنيناً ، لأنه وحده ، لا غيره ، من يتكفل بسوقهم على مهل إلى مساكنهم في آخر الليل ، مهتديا ً بالنجوم ، كما تساق البهائم . أما إذا كانت السماء مدلهمة الغيوم فسوف يتخبط بهم خبط عشواء ، يغدو ويروح دونما أمل ٍ .. وحده الهواء من يسندهم ويقتحم بهم الحواجز والعثرات ، بينما تعلو في دوّامته الشتائم واللعنات . الكثير منهم يشبهون الخيل الظامئة ، يشربون بلا روية مثلما يأكلون الكثير ، وبعد ساعة يمكن لأي منا أن يسمع ما تفعله الخيل إذا ارتوت وشبعت .. إن المرء لا يستطيع اقتحام النوادي التي تغص بهم ليلا ً إلاّ إذا كان ماشيا ً خلف كاسحة ألغام ..


( البعشيقي ) ليس من نوع المراهقين الذين يتحسسون قناني الخمور على سبيل التجربة واللهو . إنه بالتأكيد من صنف ٍ نادر ، ندرة اللآليء المدفونة في الأعماق ، من ذلك النوع المتوله الذي يحمل محبوبه على رأسه ، مثلما تـُشك الوردة العطرة في شعر الحسناء .. المحبوب الذي يمنح لحياته معنى خالصا ً لا تشوبه الدناءة ولا الشهوات المدمرة .
كان عاشقا ً عجيبا ً للشراب ، ولطالما أخفى عشقه عن العيون ، يكتفي منه بالنزر اليسير . حسوة ٌ واحدة ٌ منه ، شبيهة ٌ بحسوة الطير الضاميء يمكن أن تكون كافية . وعلى الرغم من غرابة وضعه هذا فإنه لم يلق الاشتهار والذيوع بين الفضوليين ، لما عرف عنه من أنفة ٍ ونفور عن الاختلاط الزائد مع أولئك الأدعياء ، المتباهين ..
طالما يكتفي برشفة واحدة .. رشفة واحدة يمكنها أن توقظه وتفتح عينيه .. رشفة واحدة تجعله يرى الدنيا بصفاء ٍ ، ونقاء ٍ، مثلما يرى الفجر ، وتبث فيه الرغبة الجامحة على العمل والإقبال على الحياة !.. إنها ليست رشفة من كأس مألوف ، إنما هي رشفة من الديم الريانة .. رشفة صغيرة تغسل أديم جسده ، وتتغلغل في مسامات تربته عميقا ً فتحيي بذوره الدفينة ، التي سرعان ما تتبرعم صاعدة ً إلى الشمس والهواء بشوق ٍ يتدفق كالنبع المتفجر !..
حالما يحتسيها تستبد به النشوة والفرح ، فيفتح عينيه على وسعهما ، يستقبل الدنيا كالطفل الوليد ، يباركها مبتسما ً ، فتباركه وتبتسم في وجهه أيضا .. هذه الجرعة السحرية قادرة ً على خلق الانطباع الجميل الذي يريده عن هذه الحياة وبهجتها .
كان يشعر وكأنه غـُـمِس في نهر ٍ وأُخرج منه دفعة ً واحدة ، مثل صابئي يرتمس في الماء بنشوة مقدسة ..
كأس صغيرة قادرة أن تمده بالعون ، والقوة ، والشباب .. كأس تنتزعه من يد الزمان ، وتنتزعه من يد المكان . حين يرتشف من رحيقها يشعر بأنه يـُسلخ عن جسده .. الجسد الثقيل ، الذي تغشاه رائحة العرق الغزير ، وينطلق سابحا ً في رحاب السماء كالطيور العائمة في حبور !..


إن من ينتشي فعلا ً في النهاية هو قلبه .. قلبه الذي يفز ، وينتفض معربدا ً ، إذ يبدأ صوته المنطلق من بعيد يقترب ، ويعلو داويا ً كصوت القطار ، فتهتز ضلوعه وتضج مرتعدة كأنها سكك حديدية ، حتى يتوقف ذلك القطار ، وتشرع أبوابه ، فيترجل منه أناس ٌ كثر ، وتمتلئ بهم محطـّة صدره !. عندما يمر في خاطره هذا الشعور يطبق جفنيه الحالمين على بعضهما ، محتضنا ً تلك الصور بألوانها الدافئة ، ثم ما يلبث أن يرفعهما وينظر إلى جميع الناس من حوله وكأنهم قد خرجوا للتو ، حقا ً ، من محطـّة قطار قلبه هذا ، وفي إثرهم كانت الروائح تنثال متأرجة ً!..
كان ينتشي فيسخن جسده ويعرق ودادا ً . يغدو ميـّالا ً للحديث عن كل شيء يخطر في البال ، وتحسب أن هذا الرجل المتوحد ، المغلق ، يتفتح برقـّة ٍ يسهل معها النفاذ إلى أعماقه السحيقة ، النقية ، كما تنفذ الأشياء في الماء ِ.
تتوهج أحاسيسه ومشاعره كالأقمار المتلألئة في عمق البحيرة الصافية ، حتى عظامه .. هل فكـّر أحد ٌ بالعظام وما سيصيبها ؟.. حتى عظامه تنتعش وتنتصب بشكل آخر ، وتختفي كل آلامها المبرحة فتبدو صلبة لم يطلها التعب ، تسند جسده برصانة ٍ واعتدال ن ذلك بمثابة شق نفق سري .. شق نفق في غاية الحذر والكتمان ، للهروب من إسار الحياة وأسوارها الكابية .
تلك الرشفات ألهمت الآخرين معنى خالصا ً لتسمية مثل تسمية ( البعشيقي ) ، لأنها توقظ الإحساس بالحياة وجمالها الكوني الذي لا يوصف . توقظ عينيه ، وأذنيه ، وفمه ، وأنفه ، ومسامات جسده ، وكل ذرة في كيانه ، وتمس أوتار قلبه ، فيهتز طربا ً ، ويستيقظ فؤاده ، مثل شيخ ٍ يفيق من علـّته وينهض نشطا ً لينجرف في الحياة سريعاً . وحتى ذاكرته أيضا ً ، إنه لا يكذب حين يقول بأن مجرد رشفة واحدة من شرابه تجعله قادرا ً على تذكر كل ما يمكن أن ينساه باله !.. فما أروع ذلك النفق السري الذي يمتد من فؤاد الدن إلى فؤاده ..
كم من الأمور المثيرة حقا ً في هذه الحياة ؟.. كأس واحدة تنير أعماقه ، فيتوهج منتشيا ً ، ويصفو كالثلج ، وتتبدل الأشكال والألوان أمام ناظريه ، بل وحتى الروائح تضوع بطعم ٍ آخر ، ويعود صبيا ً جميلا ً .. صبيا ً يتوج رأسه الشيب النقي ، المثير !..
إنها رغبة مطلقة لا تخبو ، تشرّبت فيها روحه ، فلا غضاضة من أن يتمسك فيها حتى نهاية العمر ..
لا سنوات الأسر الطويلة ولا جفاف وقسوة هذه المدينة انتزعت منه تلك الرغبة .
أحيانا ً يقترب منه بعض من يعرفونه ، ويهمسون إليه بهمس لا يسمعه أحد ، يجعل وجهه يتورد غبطة ً . ولكنه ينكفئ متراجعا ً يغمره الشعور بالخجل .. يتراجع بوجهه المتورد المصبوغ بالكبرياء والثقة الوقورة ..
مذ كان غض الأهاب اعتاد حينما يشرب الكأس أن يفتح عينيه ، وينظر بفرح غامر إلى الكأس مباشرة ً ، كأنه طفل يحتضن ثدي أمه ، وفي تلك النظرات كان وجهه يبدو أروع وجه !.
كان يتهيأ للشراب تهيأ ً بسيطا ً للغاية ، مجرد يتوقف ، وينفض التراب عن قميصه ، ثم يمسح كفه اليمنى في جانب بنطاله ، قبل أن يتناول بها الكأس من يد الساقي . ويتوقف لحظات يتأمل ذلك الكأس قبل أن يضمه بين شفتيه ، ويصب الشراب في فمه وهو ينشعه كما ينشع الدواء . ثم يضع الكأس الفارغ في يد الساقي في وقار ، و يقول له في غاية التواضع :
" أشكرك .. رَحِمَ الله والديك .. "
وثمة مسحة من الرقة الحنونة في صوته تتجلى عن عرفانه ، الذي لا يوصف ، بالجميل .. مسحة ٌ تملأ الكأس الفارغة بأغلى إحساس .
ولكن هل يدرك أحد ٌ ما يحدث في لحظات التأمل تلك التي يتوقف عندها قبل الشرب ؟..
إنه يمسك الكأس بين أصابعه بثقة ٍ وإيمان ٍ حقيقيين ، كمن يمسك بإناء من أواني النذور المقدسة ، وهو عاجز ٌ عن شكر الله ، ذلك الشكر المهول على نعمته الغامرة .. النعمة التي تجلب كل هذه السعادة .. حبيب ٌ يمسك بين يديه حبيبه ، يلتهمه بنظراته المسلوبة ، يكاد جسده المتعب وروحه المتعبة يتحطمان فوقه من شدة الوجد !..
وهل يدرك أحد ٌ ، كذلك ، ما الذي يحدث حين يضع الكأس بين شفتيه ؟..
إنها لحظة العناق .. لحظة تنطبق الشفاه على الشفاه ، يأخذ يشمه ، وهو مبهور الأنفاس بلهفة غامرة ، ويشمه ، ويشمه ، حتى يفيض الصدر برائحته . ثم يشرب بخشوع ٍ عجيب ٍ ، يرتشف مثلما يمتص الرضيع بأطراف شفاهه ولسانه في حالة ٍ من الاستسلام الشامل . فيسيل هو ذاته سلسبيلا ًعذبا ً ، ورائقا ً ، وجميلا ً ، ومحبوبا ً ، كما تسيل الخمرة عبر الشفاه .. يتجلى رجلا ً مستقطرا ً من أروع الفاكهة والأعناب ، كأنه كان جاثيا ً في سحابة كروم ٍ ، واستمطرته السماء ، فتلقفته الأرض بذلك الرضا الرحيم !..
يا لروعة شراب الابتهاج هذا الذي يجعل البسمة ترفرف وهي تحاول أن تقحم نفسها ، كالفراشة ، بين أكمام شفتيه !.. ويا لهذا الكرم الإلهي الغزير الذي يملأ الوجود روعة ً !..
إن مثل هذه الشخصية التي تمنح حبها واندفاعها إلى العمل ولكل الناس ، لا يمكن أن يستحوذ عليها نفر ٌ واحد ٌ وينفرد بها لوحده .. لذلك فقد أمضى حياته بلا صديق محدّد اقترن به ، ولازمه على الدوام ..


توقف قليلا ً ، ورفع وجهه ، كان طافحا ً بنور الغروب الأحمر ، وقد سالت رغبته بجنون . كان حجلا بنطلونه مبتلان ، وعيناه غارقتان في بئرين من التعب . يمد النظر إلى الأقداح التي تملأ الموائد ، وهي تلصف لصفا ً أحمرَ ، وفي نظراته الشغوفة ومضت كل مقاصده .
وما لبث أن أكب على العمل مرّة أخرى ٌ وعلى شفتيه القاحلتين تنام ابتسامة ٌ غير مفهومة .. ابتسامة ٌ متكسرة ، شديدة السمرة ، تبقى تتهزهز فوق شفتيه كما يتهزهز ظل الشجرة فوق الرمال . أما لم َ تبدو ابتسامته هذه غير مفهومة ، فذلك على الأرجح لأنها ابتسامة فطرية ، تشبه ابتسامة الرضيع حينما تطلع من تحت قطرات الدموع ونداها .. ابتسامة تخلق في أعماق عمـّال البناء ، وهم يتأملونها الهمة على مواصلة العمل !..
في هذه الأثناء عاد يعمل وكأنه لم يكن يفكر في شيء ، أو على الأقل تصرف وكأنه لم يكن يرغب في شرب شيء ، وهو متماسك ، يحاول أن يتظاهر بالرزانة والاحتشام ..
عاد يعمل بفكر شارد ، أذهلته رائحة الخمر ، وسلبت اشراقة الأقداح لبه ، فاستولت عليه رغبة الشرب بطغيان لا مفر منه ، وقد رمض كما يرمض الطائر في شدة القيظ ..
بانت على وجهه ملامح الاحتدام ، وطافت به صور تلك الأيام ..
منذ متى وهو لم يصب في جوفه شيئا ً ، ولم يُبرّد غليله ، ويداوي علله بذلك الدواء المـُعرّق ، الشافي ؟.. منذ متى وهو يحيى متصحـّرا ً تدوس على صدره أخفاف الجمال الراحلة ؟..
كان يحار جوابا ً في الرد على كل من يسألونه عن حاله وهم يقولون " كيف الحال ؟ " ، ويحسب أنه لا يعرف كيف يجيب ، فكان يكتفي في الرد عليهم بالقول الواحد : " والله أنا عائش " !.. نعم عائش ، أما كيف عائش ، فإنه بلا شك عائش كما تعيش الزواحف مطمورة ً في رمال الصحارى .

أراح نفسه ، مستندا ً إلى مجرفته ، يلتقط أنفاسه اللاهثة ، وعيناه تلاحقان الأقداح والقناني على البار والموائد .. تلاحقانها بنظرات متعطشة ، فاضحة . وكان وجهه ونظراته تنم عن ذلك الاحتراق ..
جال في خاطره أن كبده تفطـّر خلال أيام هذه السنة الطويلة الشديدة الجفاف ، كما جفـّت أحشاءه ، وأمسى أرضا ً بورا ً .. أرضا ً اسودت وتفصدت فيها الأملاح .
تنشق عميقا ً هواء الأصيل العذب ، المعطر بشذى ألوان المشروبات ، مستغرقا ً في عمله من جديد . قال لنفسه :
" إن قلبي يابس ٌ كالهشيم والنيران مُضرمة ً فيه من كل جانب ٍ .. "
إنه ليشعر بأنه كلما مضى به العمر هام فيها وتاق إليها بجنون ، كمن يشعر بأنه سيفارقها قريبا ً، إنها حالة من الوجد الذي لا ينطفئ إلا برشفة أو رشفتين !..

حتى في سنوات الأسر لم يستطع أحد ٌ أن يمنعه أو يصده عن الشرب ، على الرغم من أن معسكر أسره كان مخفيا ً في دسكرة ٍ جبلية ٍ ، وعرة ٍ ، نائية ٍلا تتوافر فيها المُسكّرات .
في أول يوم ٍ له في معسكر الأسر ، أمسك به مؤذن المعسكر حالما سمعه ينطق بذكرها ، وقاده إلى المغاسل ، أمام أنظار جميع الأسرى ، وطلب منه أن يشطف حلقه المتنجس جراء ذكر الخمور !.

لحظة وقوعه في الأسر ، إثر معركة ( الطاهري ) * كان يضحك ضحكات مشرقة .. ضحكات جعلت جميع الجنود والأسرى يذهلون ، لأنه لا أحد يمكن أن يعن في باله أنه سكران في تلك اللحظات الدموية ، الرهيبة . كان يقاتل وزمزميته مملوءة بالنبيذ الأحمر الرديء ، الذي كان يعتقه بنفسه في موضعه العسكري . وكان الدوار الذي يخلفه ذلك النبيذ عاصفا ً .

لأجل ذلك الشراب بات يعمل في الأسر مُزَوّرا ً ، كما يعمل المُزَورين ، المرشدين ، في الأضرحة المقدسة ، وهم يسعون جاهدين تيسير الزيارة لنفر ٍ من الناس ، فيأخذون بأيديهم منطلقين بهم من مكان لآخر ، ويتلون على أسماعهم الأدعية والأوراد القدسية .
المُزَوّر ، هذا هو اللقب الذي عُرِفَ به في معسكر الأسر ، يوم كان يسرع حثيثا ً لاستقبال أي زائر ٍ جديد ، و يتطوع مسرعا ً لاحتضان ا لأسرى الجدد القادمين إلى هذا المعسكر ، ويسعى لتعريفهم بكل شيء ، وإرشادهم إلى كل حاجة . إنه لا يفعل ذلك مجانا ً بالطبع ، وإنما كان يتوسم به الانقضاض على حصصهم الصغيرة من الفاكهة ، التي يلجأ إلى تخميرها . كانت هذه الفاكهة الثدي الذي يستقطر منه الري ، والطلاوة في تلك الدسكرة الموحشة ، الضنينة !..
كثيرة ٌ هي الخمور التي أجاد صنعها .. كثيرة ٌ لا تتشابه مع بعضها ، لا في الطعم ولا في المذاق ، ولا حتى في النشوة التي تورثها ، إلا أنها جميعا ً قادرة على أن توقظ في سريرته شخصيــــــة ( أبو علي البعشيقي ) .. الشخصية التي أحبها في أعماقه وأراد أن يقطع بها طريق الحياة .. وبين آونة ٍ وأخرى كان يفوز بشيء من القرنفل ، عن طريق بعض الحرس العطوفين ، ليمزج القليل منه مع شرابه ، فيمنحه مزاجا ً يسلب العقل َ . ويخلط ما تبقى منه مع التبغ ، يدخنه بنشوة ٍ رفيعة ، متلذذا ً بأصوات فرقعة القرنفل المحترق في السيجارة ..
لم يكن عمله هذا محفوفا ً بالمخاطر ، كما يقفز إلى البال ، فمن كان يدفعه الفضول إلى رفع الأغطية عن تلك القدور المعدنية ، المُطعـّجة ، المدسوسة بتحرز ٍ شديد ٍ تحت سريره ، تفاجأ برائحة التخمير الحامضية العطنة ، فيرمي لفوره تلك الأغطية ، متراجعا ً ، مغمضا ً عينيه ، وضاغطا ً بإبهامه وسبابته على منخريه ، وكأنه نبش جثة ً متفسخة ، مدفونة ً تحت السرير منذ وقت ٍ طويل ٍ !..
وعلى الرغم من أنه لم تمح َ عن وجهه آثار سنين الأسر الطويلة إلا أن جدرانه لم تتصدع
وتتداعى كما تداعت جدران الآخرين ، اللذين لم يزل ، وسيبقى ظلام الأسر مخيما ً في أعماقهم المغبرة . استطاع ( البعشيقي ) أن يوفر لنفسه شمسا ً ، وقمرا ً ، ونجوما ً ، أركزها في سماء الأسر ، وتحت نورها الشفيف صمد ثلاثة عشر عاما ً بأيامها ولياليها المريرة والغريبة !.. ألفه سكان المخيم ، كما ألفوا سلوكه وعاداته ، وكانوا يقولون أن قلبه بارد ، ومن أعجب
الصدف أن يكون القلب في الأسر باردا .. يدّعون أنه كان آخر أسير يُطلـَق من ذلك المعسكر ، وتمادوا في القول ، متهكمين ، بأنه كان يرفض الإخلاء ، إلا أنه تحرّر في نهاية الأمر ، نظـّف قدوره بعناية ٍ وأهداها إلى الحرّاس .. قدوره التي امتلأت بالوداد في كل الأيام ، ووقف خارج المعسكر دقيقة من الوقت ، مصوبا ً نظرة ً أخيرة ً على الدسكرة .. نظرة ً عميقة ً خالية ً من الجحود وملؤها العرفان ، وقال لمن كان من حوله : "أن نشوة فاكهتها المعتــّقة ستظل تسري في دمائي حتى الموت .. " وكان أكثر سكان المخيم حظوة بإعجاب الحرّاس اللذين لا ينظرون إليه كأسير حرب إنما خبروه مثل رجل ٍ مُهَجّر من بلده . عندما عاد من الأسر اكتشف أنه ليس بمقدوره أن يبقى مُزَوّرا ً ..


نشطت النسائم الندية ناثرة ً طعم الخمرة في كل أرجاء الحديقة . راح ( البعشيقي ) يكابد حرقة الظمأ ، وقد عيل صبره وضعفت حيلته . بدا بائسا ً أشد البؤس وهو يترع صدره بتلك الروائح .
نظر حوله وقد صح عزمه على أن يشرب شيئا ً يطفأ به الظمأ. ربما ومضت في داخله فكرة عاجلة ، أو خطفت في رأسه صورة معينة ، فراح يتلكأ في عمله ، ويتوقف هنيهات يجوس هنا وهناك ، وهو يغالب الرغبة الجامحة . كان يريد رشفة ً واحدة ً فقط تفرج عن قيود همه .
قال لنفسه : " أمسيت مثل ذبابة تحوم حول العسل . "
وقال لنفسه : " إن سوء الحظ قاد بي اليوم إلى هذا المكان ، وأنا كدت أنسى الخمر في حياتي . "
جرّب أن يغض طرفه .. جرّب مرّات ٍ عديدة ، غير أن ذلك محال . قال لنقسه :
" إنه يومض ، يناديني ، وحري بي أن أجيب دعوته .. "
جاش غليانا ً ، وتأكد أن لا خيار أمامه الآن .
قال لنفسه : " علي ّ أن أعثر على وسيلة أرتوي بها ، فليس معي الآن فلسا ً واحدا ً .. "
إن ضوع الرائحة الذي يسبح في المساء من خلال أغصان الشجيرات هو الذي كان يناديه ، يُلـَوِح له مرفرفا ً مثل أنفاس ٍ ملائكية تنفثها السماء .
بدأت نظراته تتعدى الموائد والجالسين حولها بعيدا ً إلى الخلف .. إلى البار الذي اصطفت فوقه تلك القناني المروّقة . كان سطح البار صقيلا ً لامعا ً كسطح غدير ٍ صاف ٍ ، تنعكس عليه خيالات الأقداح والقناني ، وتلوح له مثل طيور ماء بيضاء ، وديعة ، واقفة ً باستكانة . وعلى مرآة فؤاده أمست تنعكس تلك الخيالات مثلما تنعكس على سطح البار ذاته . ثارت الرغبة في أعماقه ، وارتعش جسده كله ، وقال لنفسه : " علي أن أكون متماسكا ً ولا أفضح نفسي .. "
راح يطمح ببصره إلى البار مستشرفا ً ، ويتلفت حوله ثم يعاود النظر إليه كلما سنحت له الفرصة ثانية ً . وما لبث أن تظاهر بأنه يبحث عن شيء ٍ .. يبحث عن قليل ٍ من زيت الطعام ليصبه على عجلة عربته الحديدية ، ويمنع انبعاث الصرير المزعج منها ..
أجاد التمثيل بمهارة ٍ ، وكانت محاولته ناجحة ً حقا ً ، فأقترب من البار كثيرا ً ، إلى درجة أنه دس أنفه في فوهة زجاجة خمر ، وجرّ منها نفسا ً سريعا ً ، وعميقا ً ، طاش بين قطرات دمه كلها في لحظة ٍ واحدة !.
كانت زجاجة الخمر صهباء اللون ، صافية كالبلور السائل ، تفوح منها رائحة تفاحية ، مشرقة ، وبهيجة . تلتف حولها ورقة بيضاء مليئة بالكتابة . نظر إلى هذه الكتابة وامتعض ، وقال لنفسه :
" لماذا لا يَدَعون القناني عارية ً على طبيعتها ؟.. هل فكـّر أحد ٌ أن يلف الورق حول الغيوم ، ويملئها بالكتابة ؟.. "
كانت الزجاجة فوق البار مثل طفل ٍ صغير ينظر في وجهه ، ويلوح له ، ويطلب منه أن يحتضنه ، ويحمله بين ذراعيه ..
وكما يضم المرء ذلك الطفل الجميل بين ذراعيه ، بحنو ، بوداعة ، بلطف ، باحتضان حميم ، وبسيل قبلات ، هكذا رفعه ( البعشيقي ) ، فتح عينيه على وسعهما ، وأطبق عليه شفتيه ، وذابا معا ً في قبلة ٍ طويلة ٍ ، لاهفة !..
على الفور لمحه رئيس النادلين فصرخ في وجوههم :
" أنظروا .. أنظروا إلى هذا الدابّة ماذا يفعل ، عمى يعمي عيونك .. "
تراكض النادلون إلى ( البعشيقي ) وزنقوه من رقبته ، وهم يسحبون القنينة من فمه يريدون انتزاعها ، بينما كانت يداه تتشبثان بها كما يتشبث الرضيع بصدر أمه !..
كانت روحه كأسا ً فارغة ً ، أراد أن يملئها من ذلك المشروب حتى أصبارها .. حاول أن يبقي شفتيه مطبقتين على القنينة لوقت ٍ أطول ، إلا أنه لابد من فتحهما في النهاية ، في مواجهة تلك الوجوه العابسة ، الغاضبة . .
كانت حدّة الشراب ومرورته قد وخزت أحشاءه وخزا ً لطيفا ً ، مألوفا ً ، فأيقظت في أعماقه شخصية ( البعشيقي ) الحقيقية التي لا غموض ، ولا لبس فيها . فجأة ً أحس وكأنه كان غائبا ً ، فجأة ً تنبه إلى خضرة الأشجار الظليلة ، التي عمل قربها طوال اليوم ، ولم يكن قد تنبه إليها حتى هذه اللحظة .. فجأة ً راح يسمع ترانيم العصافير ، وكأنها كانت صامتة .. هكذا على حين غرة أحس بأنه هو البعشيقي ، ومن كان يدفع بالعربة الحديدية قبل قليل لم يكن غير شخص ٍ غريب ٍ آخر لا يعرفه ولا حتى يرغب برؤيته !..
أن الله وحده يعلم بتلك الأشواق ولوعتها التي يكنها ولا يفصح عن الاعتراف بها لهذا الشراب السحري .
ما أن فزّ وفتح عينيه ، حتى تراجع إلى الخلف قليلا ً ، وتساءل بشيء من الغضب المفتعل :
" لماذا سحبتم قنينة الماء هكذا من فمي ، هل شرب الماء محرّم ٌ هنا ؟.. "
" وهل كنت تشرب ماءا ً يا حاج ؟.. ألم تشم رائحته ، ألم تذق طعمه ؟.. "
" ماذا ؟ أي شيء شربت ؟.. إنني لم أشرب سوى ماء .. "
تدخـّل رئيس النادلين ، بوجهه المحمر ، وهو يرفع القنينة ، ويفرغ ما بقي منها من ثمالة ٍ بين أقدام ( البعشيقي ) ويقول بغضب :
" إنه شراب يا حاج .. شراب وليس ماء ، الله يلعن الشيطان ، كيف صببت كل هذا الشراب في جوفك دفعة ً واحدة ؟.. "
كان أكثر ارتياحا ً وبهجة وهو يرى الفزع الكبير في عيونهم المشرّعة ، المضطربة .. عيونهم التي اخترقت الزجاجة وذابت في داخلها .. كان راضيا ً بالفعل عما بدر منه من عمل ٍ بارع ٍ ومخادع انطلى على الجميع ..
اجتاحت النشوة ملامح وجهه الشاحبة ، وتلألأ السرور فوقها أحمر َ بلون الغروب .
صاح رئيس النادلين في وجهه ، وقد انتفخ الوريد في عنقه جراء غضبه :
" كيف تسنى لك أن تفعل ذلك ، ألم تميز بين الشراب والماء ؟.. " " حسبته ماء ً ، كنت ميتا ً من العطش .. " " ما ء يا أخي ؟.. هل يوجد أحد ٌ في العالم لا يعرف لون الماء ؟.. " ثم أمر أحد النادلين قائلا ً : " اذهب ْ به إلى المغاسل وأغسل فمه ووجهه ، عليه أن يجلس ويرتاح ، إن هذه الخمرة المِسطارة ستصيبه بالدوار سريعا ً .. " أمسك النادل بمعصم ( البعشيقي ) وقاده ، رغما ً عنه ، وباشر بغسل فمه ووجهه . عند ذلك أنزل كوفيته ، التي يعصب بها رأسه ، فضّها بين يديه وأخذ يجفف بها وجهه ، وفيما هو يقوم بذلك خطفت في رأسه ذكرى المؤذن الذي اقتاده في الأسر ليشطف فمه ، فما كان منه إلا أن رفع وجهه عاليا ً ، والتهم النادل بنظرة ٍ عارمة ، وسأله فجأة ً : " هل أنت مؤذن هذا المكان ؟ .. " بهت النادل قبل أن يطلق سيلا ً جارفا ً من الضحك ، وعاد به وهو ينادي على أصحابه قائلا ً : " أبشركم إن الحاج بدأ يثمل سريعا ً .. "
كان واقفا ً بينهم بثيابه المترهلة ، المتسخة ، والعرق الذي سال منه رسم فوق قميصه خطوطا ً ملحية ، بيضاء . وعلى الرغم من هذا المظهر المزري كانت روحه زهرة ً بيضاء ، ترتجف أوراقها بحبور ٍ مع نسيم المساء .
قال لنفسه : " لحت لهم وكأنني رجل ٌ غير واثق البتة من تمييز أجناس الخمور عن الماء !. "
قال أحد النادلين :
" رجل ٌ في سنـّك ينبغي أن يكون أكثر تحرزا ً .. " وقال آخر :
" إنه أكبر سنا ً من أن تكون له المقدرة على التمييز . "
بينما تساءل رئيس النادلين وقد تبدّد غضبه :
" كيف أمكن له خطف الزجاجة من فوق البار مع وجود أربعة نادلين يملؤون المكان بحركتهم الدؤوب ؟ . " كان اسم رئيس النادلين ( خورشيد ) ، وكان هو ونادلوه الأربعة الآخرون غرباء عن المدينة .. خمستهم غرباء وطيبون ، زينوا ( نادي الموظفين ) بجمال سلوكهم ، أغدقوا طيبتهم على المدينة ، الأمر الذي جعل ستار غربتهم يتلاشى كالضباب ..
وقف ( البعشيقي ) بينهم بنظرات ٍ مخاتلة ٍ ، وترقب ٍ شيطاني ، وهو يشعر بأنه خدعهم خدعة مبتذلة . علت شفاهه تلك الابتسامة الضالـّة وهو يسمعهم يقولون :
" لاجرم أن لا يفرق هذا العامل الهرم بين الماء والخمر .. " قال لنفسه : " الواضح أنني أزعجتهم وأثرت غضبهم .. " قال نادل ٌ : " لقد بلغ سنا ً لا يناسب الكد والعمل ، وحريا ً به أن يمكث في البيت أو في المقاهي .. "

كان مبتسما ً بصمت ، واقفا ً بجبهته العريضة الشمـّاء وحاجبيه الزاجـّين ، يتلقف كلماتهم المشحونة في غاية البرود ، فيما تألقت عيناه تألقا ً لؤلؤيا ً غامرا ً ، وأحسّ بأن مهجته بردت واستكانت ، وترطـّبت محياه بنشعة ٍ لطيفة ٍ ..
وأراد الانصراف إلى عمله ، التفت إلى ( خورشيد ) وخاطبه بلطف :
" يا عم لا يصح التحديق طويلا ً في وجه عجوز خاطئ .. " لم يكن يريد أن يُظهِر لهم الاستخفاف مع ما فعله معهم حين عمد إلى سرقة الشراب من بين أيديهم بشيء من الاستغفال ، وشيء من الدعابة . كانت بهجته مكنونة في أعماقه لا يجرؤ على إظهارها . بدوا له أشد حذرا ً واحتسابا ً ، فقال لهم مطمئنا ً : " طيبوا قلوبكم من جهتي فأنا لن أقترب من البار ثانية ً .. " انصرف إلى عمله ، وكانت أبصارهم تحاصره من كل مكان ، وتراقب كل حركة ٍ تبدر منه . وأمسى ظله الطويل ، الذي يسبق عربته ، يلقي الريبة على أرض النادي . لكنه كان يدفع العربة بتفان ٍ ، ماشيا ً على أطراف أصابعه كأنه سحابة تعبر فوق الرمل ..
عاد إلى العمل بحيوية ، وقلبه يرقص بين ضلوعه طربا ً ، يرش الرمل الجديد في حديقة النادي بهمة ٍ ، والجميع يسمعون صرير عربته يعلو ويحتدم ، وصوت اصطفاق حذاءه على الأرض لا يتوقف .
مضى ( خورشيد ) إلى أعماله بعد أن نصح النادلين قائلا ً :
" فات أوان العتاب واللوم ، عليكم بمراقبته حتى ينتهي من شغله . " كانوا بمجموعهم يراقبونه بدهشة مستثارة ، حينما لاح لهم وهو يعمل بنشاط ٍ ، كانت لديهم أسبابهم الكثيرة للهمس والسؤال عنه . كانت كل حركاته تنم عن الارتياح ، نهض قلبه من مرقده ، وأمسى أصغر سنـّا ً ، ينضح بالفتوة والشباب . توهج الإحساس في أعماقه بروعة الحياة ، وصار بإمكانه أن يشم أوراق اليوكالبتوس ويسمع همسها ، وعندما أوقف عربته تحت هذه الأشجار ، ملتقطا ً أنفاسه ، والغبار الناعم يغطي كوفيته ، ويتعلق بأهداب عينيه ، لاحا معا ً هو وعربته ، مثل طائرين وديعين ، متعبين ..
توقف يتأمل بيرقا ً كبيرا ً يسبح في الهواء على السطوح المجاورة ، ينظر إليه بدهشة ٍ وهو يخفق ، واختض جسده خافقا ً ، هو الآخر ، سابحا ً معه .. آه ، لقد صبـّت تلك الزجاجة في المساء لمسة ً سحر ٍ خفي لا يُقاوَم !..
وحتى تلك الأرجوحة الساكنة في الركن القصي ، المواجه له ، تناديه ، تفتح أحضانها ، تدعوه للانطلاق بها عاليا ً في الهواء ..
كانت عيناه تشعـّان الآن وتملأن الحديقة نورا ً ..
قال لنفسه :
" ليتهم يدركون كيف أرى الحياة ؟.. الحياة التي أهواها وأحبها بشغف ، إنني أراها كما تراها عيون السماء ! .. "
رفع قبضتي العربة إلى الأعلى وعاد بها سريعا ً إلى العمل . وجد نفسه خفيفا ً يستطيع أن يسرع أكثر دون أن يعيقه شيء ٌ ، أو هكذا أحس بخفته وقدرته حتى على التحليق والطيران !..
أخذ يتمتع بروح المثابرة وقوة الاندفاع ، وجهه إلى الأعلى ، وصدره إلى الأمام ، يتقدم بعزم ، وشمس الغروب الحمراء تنير وجهه . كان الرمل غزيرا ً لا ينضب ، وكان اليوم طويلا ً ، وعلى أي حال ، لم يجد ( خورشيد ) بأسا ً فيما حدث ، وهو لم يزل يتابع ( البعشيقي ) .. يتابع ذلك النضال ، وتلك الحمية ، اللذان لا مثيل لهما ، بينما كان النادلون يراقبونه بهدوء قاتل ، خوفا ً من أن يغير على البار مجددا ً ..
قال لنفسه :
" إنني على يقين بأن الكثير من الهمز واللمز يدور بين رواد النادي حولي .. إنهم يحدجونني بنظراتهم المستكشفة ويتهامسون في السر والنجوى . ما فتؤا ينادون على النادل الأفقم ويسألونه عما جرى ، إن هذا الهتر يجيبهم على مسمع ٍ مني ، وكأنني ثملت من الشراب ، وبت غير موجود !.."
كان اثنان من الزبائن لا تغيب أنظارهما عن ( البعشيقي) لحظة ً واحدة ً ، وفي كل حين يتهامسان ويثوران ضاحكين ، وما أن يدنو منهما بعربته فإنهما يصمتان فجأة ًويعودان إلى شرابهما ..
قال لنفسه : " إن أحدهما يعرف الكثير عني ، وها هو يغتابني لا محال ، علي أن أنغص جلستهما ، وأفسد غيبتهما . " وشرع يسوق عربته مارّا ً من جانبهما بأقصى ما يستطيعه من سرعة ٍ ، مثيرا ً غمامة من الرمل الناعم ..


كان الرمل والمساء ناعمين ، ورائعين ، وباردين . تثاءب الرمل ونادى ( البعشيقي ) أن يرتمي فوقه ، لكنما ( البعشيقي ) بقي صامتا ً .. مبتسما ً وصامتا ً ، غير أنه في النهاية أوقف عربته وارتمى بطول جسده فوقه ، ويداه تمسحان عليه بحنو ٍ ووداعة ٍ . لم يكن هو وحده من ينتعش إنما كانت الدنيا كلها من حوله تنتعش ، وأخذ يشعر بأنه يتناثر رملا ً أخضرا ً بين ضفتي الحديقة السكرى !..
فجأة ً وجد الفراغ المتسع أمام عينيه ، والذي كان يغمره بالرمل ، وجده حديقة غنّاء معتمرة بالجمال واللطف ، وكان الغروب فيها أخضر َ ريا ً ، تصدح العصافير فيه بدوي عجيب !.


كان يثير الإعجاب المعجون بالشفقة ، وهو ينكب متفانيا ً في عمله حتى الدقائق الأخيرة ، وقد بان التعب عليه وأثقل حركاته ، تلاحقت أنفاسه سريعا ً ، وسرحت نظراته ، وتحت عينيه تلألأت قطرات عرق صغيرة ، وعلا الشحوب ملامحه ..
تنبه ( خورشيد ) له وهو يمر من أمامه ، جميلا ً ببسمته الغامضة ، ووجهه الأسمر المتوقد ، لاح له مثل سحابة ثملة تتصبب قطرا . مال نحوه حاملا ً إليه قدح ماء ، طلب منه أن يتوقف عن العمل ويريح جسده ، غير أن ( البعشيقي ) أجاب باقتضاب .. ردّ بكلمتين ميتتين من فرط التعب لم يسمعهما أحد ٌ .. لم يسمعهما حتى ( خورشيد ) نفسه . وما لبث أن جاء أحد النادلين واقتاده نحو البار ، وأجلسه على كرسي ، وفتح له قنينة شراب غازي ، وعرض عليه تناول شيئا ًمن الطعام ، وقال له :
" تخطـّاك اللوم .. تخطـّاك اللوم يا حاج .. لقد استسبعت عربتك وافترست الرمل افتراسا ً لا مثيل له .. " اختلط الظلام قليلا ً ، وعزم على التوقف عن عمله ، ليعود إليه غدا ً باكرا ً ..
أحس َ بلطفهم وطيبتهم ، فندم على ما بدر منه ، وقال للنادل الذي وضع أمامه طبقا ً من الطعام للتو كلمات نابعة من الأعماق :
" إنني أعتذر بصدق .. " وعندما تحلقوا حوله يلاطفونه ، ويمازحونه تضرج وجهه ، ونزلت أنظاره إلى الأرض ، جلس مرتبكا ً ، نادما ً ، متمنيا ً أن يضرب رأسه في الجدار.. أن حيلته الناجحة أثمرت في آخر الأمر كل تأنيب الضمير هذا !.. رفع أنظاره إلى وجوه النادلين . كانت تعبيرات وجوههم تنم عن الإحساس بالرأفة والرحمة ، هذه التعبيرات التي خلطت الحزن والسعادة معا ً في أعماقه ، فارتسمت فوق شفتيه ، على الفور ، تلك الابتسامة الغير مفهومة . وقفوا ينظرون إليه بنظرات حنان كثيب ، كانوا يعتقدون بأنه شائب ، خمدت ناره ، ومازال يرهق نفسه في العمل المضني . حسبوا أن آثار الشراب قد أخذت مأخذها منه ، وإنها بعد دقائق لا غير ستعصف به وتهزه هزّا ً عنيفا ً..
غالبت ( خورشيد ) شفقة حميمية ، صادقة على ( البعشيقي ) ، فتقدم نحوه وأعطاه أجرا ً يفوق أجره ، وقال له :
" مازال هنالك رمل ٌ كثير ٌ في الشارع ، سنكون بانتظارك غدا ً ، تعال مبكـّرا ً .. "


بدأ الضياء يتوارى بتكاسل ٍ ، بينما سكرت النسائم في ( نادي الموظفين ) وراحت تتمايل وتترنح . قبض ( البعشيقي ) أجره مبتسما ً ابتسامة لا تبرأ من المكر . وجدّد اعتذاراته السابقة بنبرة ندم ٍ . مضى ماشيا ً مثل مركب مصنوع من خشب الصندل الجميل ، عبق الرائحة ، منساب على سطح بحيرة من الخمر ، يتهادى بشراعه الأبيض الصبوح !..
شيعه النادلون وهم مستغرقون بالترقب ، ورئيسهم يمج سيجارته بتأثر ظاهر . وقال يذكرهم :
" إنه عامل ٌ كفء ٌ يستحق هذا الأجر .. " وقفوا جميعا ً يراقبونه وهو يبتعد عنهم ، وعلى وجوههم انطبعت علامات القلق ، وحسبوا أنه غير قادر ٍ على تلمس طريقه . قال ( خورشيد ) بتشاؤم وتوجس :
" من سيتحمل عاقبته إذا دهسته – لا قدّر الله – عربة في هذا الزحام ؟.. " " إنها مشكلة حقا ً ، ماذا فعلت بنفسك أيها الحاج ؟.. " قال نادل ٌ هذا واستطرد : " أرى أنه من الأحسن أن نوصله إلى بيته .. " وعلى الفور أمر ( خورشيد ) النادل الأفقم ، وكان أصغر النادلين سنا ً ، أن يتعقبه ، ويلازمه ، حتى يطمأن من وصوله إلى داره سالما ً قبل أن يغيب عن أعينهم في كنف العتمة ، وهذا ما حصل بالضبط ، عندما انطلق النادل في أثره ، تاركا ً بينهما مسافة قصيرة فاصلة ، ماضيا ً خلفه يحتضنه بنظراته المتلاحقة ، المضطربة .. غاص ( البعشيقي ) في الظلمة مثل شبح ٍ منتشي ، يسير سيرا ً متئدا ً ، رصينا ً ، يبدد المخاوف ، ويسقط كل التخيلات . أخذ الظلام يمشي في الشوارع والأزقة وهو يدهس كل ما يعكر مزاجه ، وصفوه . ظل الرجل هادئا ً ورهيفا ً ، ماشيا ً باعتدال على طرف الجادة ، مثل نسيم ٍ هاب ، لا يعلم سوى الله في أي الدروب القادمة ينساب ..
تلاشت غمامة قلقهم ، وهم يشخصون إلى قامته المنتصبة ، وثقة خطوه ، وكل ما تبقى على وجوههم المترقبة تلك هي مسحات ٍ من الذهول المضحك ..

عند إحدى عقفات الطريق حانت من ( البعشيقي ) التفاتة سريعة ، وقع فيها بصره على النادل الأفقم وهو يتعقبه . صُدِم َ بحق جراء هذا التصرف الأرعن . توقف فورا ً واستدار ليواجه النادل ، متسمرا ً في مكانه . فهم مباشرة ً أنهم يترصدونه خوفا ً عليه .. يترصدونه بظنونهم البائسة . وقد وجد في ذلك عملا ً مشينا ً ينتقص من رجولته ، وقابلياته الخفية ، وبدا لنفسه مهانا ً على نحو سكير ، مترنح ، مطارد ..
وقف في مواجهة النادل ، وقال له :
" كما ترى ، مازلت صاحيا ً ، وليس من المعقول أن أنام ماشيا ً . أرجوك عد ْ أدراجك إلى النادي وقل ْ لأستاذك أن ( البعشيقي ) يسلم عليك ويقول أن عشرة من قناني ماءك الخفيف هذا لن تطرحني أرضا ً . هيا عد ْ أنا بخير كما ترى ، وسوف لن تبعثرني الرياح .. " توقف النادل منكمشا ً .. غارقا ً في ملابسه المبرنقة ، الأنيقة ، مضطربا ً من شدة الحياء ، ومن قوة نظرات ( البعشيقي ) الغائرة ، الجارحة ، ولم يجد ما يقوله إزاء احتجاجاته سوى أن يعتذر له :
" عفوا ً .. عفوا ً .. " وتراجع عائدا ً على مهل ٍ .. لم يتقبل النادل تلك الأقوال ، واعتبرها مكابرة ً من مكابرات السكارى الفارغة ، ولذلك ما أن خطى الرجل بضعة خطوات ٍ حتى استدار ، وعاد يتعقبه مرّة ً أخرى !.. كان ( البعشيقي ) يرفض أن تكون سمعته ملوثة على نحو ٍ آخر ، إنه ليس سكيرا ً من نمط أولئك السكارى المترنحين ، الذين يفقدون رشدهم ، ويضحون ألعوبة في أيادي الآخرين ، وأضحوكة في أفواههم ..
كان يشعر بالإهانة من فكرة أن يأخذ أحدهم بيده ويقوده إلى البيت كالخروف التائه ، وهو يتكئ عليه ليدرأ السقوط والتهاوي إلى الأرض . كان يمضي وكل شيء فيه طبيعي واعتيادي ، إلى الحد الذي لا يجذب نحوه أية أنظارٍ غريبة ٍ .
قال لنفسه :
" هل أنا من التفاهة إلى حد يرسلون خلفي صبيا ً غـَرِل لم يختن بعد ، يرافقني كالظل ويراقبني طوال الدرب .."
ومضى مهموما ً ، تراوده شتى التساؤلات ..


صادفه درب ٌ جانبي ٌ، ترابي ٌ .. درب ٌ متعرج ٌ ، وضيق ٌ ، انعطف فيه سريعا ً . وفيما هو ينعطف لمح النادل خلفه مرّة ً ثانية . توقف واستدار مبتسما ً ابتسامة ساخرة ومريرة ، وهتف في النادل قائلا ً :
" ما الذي يحدث يا ولد ، مازلت تجري خلفي ؟.. " تراجع النادل متخوفا ً ، مزمعا ًالتوقف بعيدا ً عنه ، وكان في غاية الحرج ، متلعثما ً ، وفشل في الرد المناسب على تساؤله .. نظر ( البعشيقي ) إلى الفتى ، وأطال النظر . في طلاوة المساء وهدوءه رآه شيئا ً طريفا ً ، متميزا ً ، ونادرا ً . فجأة ً تحركت غيرته عليه ، ففي هذه المدينة الغبراء ، القاعدة على أرض مالحة ، خشنة ، بمناظرها الظامئة ، خاف على الفتى ، الذي أمسى بعيدا ً عن محل عمله ، خوفا ً صادقا ً . ها هو غريبا ً ويضرب في دروب لم يخبرها ، و يرتدي مريلته البيضاء وبنيقتها الحمراء ، جاذبة ً أنظار كل المارّة إليها !.. تقدم من النادل ، وأمسكه من يده الغضة ، بتأثر حسي ، وأبوة صميمية ، وقال له :
" الظلام خيّم الآن وقد توغلت بعيدا ً في هذه الشوارع الغريبة عنك ، أنا قلق عليك ، وعلي الآن واجب إعادتك إلى النادي .. " قرّر بحزم أن يعيده إلى النادي ، وعلى الرغم من الأعذار والتوسلات إلا أن النادل أذعن له في النهاية ، بعينيه البريئتين اللتين تتطلعان نحوه بصمت مثل عيني بقرة .. قاده بملامح مفعمة بالحرص .. قاده بأسلوب موغل في الأصالة ، وهو يضرب بكل توسلاته عرض الحائط . أمسك يده وقاده كمُزَوّر يقود أحد الزائرين ويخطو به خطوات المُدِل الواثق . وبينما هو يقوده عائدا ً به ، هاجت في ثنايا روحه نزعة الوعظ ، وارتقت منبر الحكمة ، وراح يكيل له الوعظ والإرشاد ، وأسدى له النصح المعجون بالقلق ، وخشيته عليه من تجواله لوحده ليلا ً في شوارع المدينة وأزقتها .. أسدى له النصح في غاية التلطف ، وطوال طريق العودة كان يفيض عليه لطفا ً . كان النادل الأفقم منبهرا ً به ، وهو ينظر أليه مُعَمَمَا ً بكوفيته ، ومعفرا ً بالتراب ، كأنه كاهن ريفي ، يعظ ماشيا ً وابتسامته الغامضة لا تفر من بين شفتيه . وفي وعظه استنفد الكثير من أفكاره وقصصه القصيرة ، مما جعل النادل يسترخي بين يديه استرخاء الولد بين يدي أبيه . وعلى مدى عدة أيام ظل النادل يتحدث بحماس حول هذا الوعظ ، وكأن ( البعشيقي ) كان كنيسة التائهين .. أعاده ، ووضعه عند باب النادي ، وودّعه مسرعا ً ، وما لبث أن تزاحم النادلون عند الباب ينظرون خلفه ، وقد فاض ذهولهم ، وسحق كل تصوراتهم السابقة في غضون ما مر من الساعات القلائل !..
مشى مسترسلا ً، مفعما ً بالثقة ، وعيناه مثبتتان في الأرض مثل رجل ٍ عميق الأسرار ..
بعد مضي دقائق على رحيله سمعوا في النادي من أفواه بعض الزبائن ، ممن كانوا يعرفونه حقا ً ، لاسيما ذلك الزبون الذي غطـّى( البعشيقي ) مائدته بزوبعة تراب .. سمعوا العجب ، وانبهروا بكثير من الومضات المدهشة حقا ًعن حياته الماحلة . وكان الكثير مما سمعوه عنه مشوقا ً .. بعد سماعهم حكايات كثيرة عنه اتضح أنهم صدقوها دون تردد ، وقالوا في نهاية المطاف إنه ليس عجوزا ً إنسيا ً !.. يبدو أن الأمور تجري على هذا النحو ، صدقوها ولم يتناقش أحد ٌ حول غرابتها ، وإمكانية اختلاقها .. صدقوها على عواهنها .. صدقوها واحتفظوا بها لأنفسهم . وفي اليوم التالي بدوا مغتبطين بوجوده بينهم .. في اليوم الثاني دُفِنت تلك الحادثة الصغيرة أصلا ً ، وعاود ( البعشيقي ) عمله ، ونظراتهم المرحة تتراكض خلفه !..
في هذا اليوم لم يكن أحد منهم على حذر ٍ من أن تطال يده البار ، راح كل ٌ منهم ينتظر الفرصة المؤاتية ليقدم له كأسا ً مترعة بالبهجة والاغتباط !.. بينما كان هو يحسد هؤلاء السقاة في سريرته ، ولم يكد يعمل ساعة ً من أول الصباح حتى اقتاده ( خورشيد ) وانزوى به في ركن من البار ، وفتح له حُقا ً شفـّافا ً ، كبير الحجم ، مليء بسائل عسلي اللون ، صبّ منه القليل في قدحين ، قدّم أحدهما له بلطف . شــربه ( البعشيقي ) في جرعة واحدة ، وأحس بحرقة حقيقية في جوفه ، وما لبث أن أحس بنشعة ٍ لذيذة ٍ ، جعلته ينعر نعرة ً سُمِعت من كل جانب وهو يقول :
" هذا ما يسمى بالشراب الرائع .. هذا ما يسمى بالنشعة الرائعة ، صب ْ لي كأسا ً أخرى ، رحم َ الله والديك .. " كانت رائحة الشراب تنساب عبر شاربيه الأشيبين مثل ضوع ٍ يتخلل العشب . وقد نما إليه أن هذا الشراب أجنبي ، غالي الثمن .. نظر في وجه ( خورشيد ) متبسما ً وقال له : " إن لذّته تفوق لذة الشاي .. " كان ( خورشيد ) يمسك القدح في كفه الأيمن ، بينما ساعده الأيسر ، المرفوع ، استمر يهتز صاعدا ً وهابطا ، وهو يؤشر ، يوميء ، ويأمر . كان ساعده أحمر ، مغطى بشعر ٍ أصفر ٍ ، خفيف ٍ ، يندلق برشاقة من كم القميص القصير ، وساعته البيضاء تومض فوق معصمه . كان هذا الساعد يهتز بحرارة ٍ جعلت ( البعشيقي ) يتفصد عرقا ً ، ومنذ تلك اللحظة أحبه حبا ً جما ً.


طوال ثلاثة أيام متواصلة أوفوا له كيل العناية والإحسان ، وتركوه يبلي في عمله بلاء ً حسنا ً ، يسوق عربته جذلا ً، طائرا ً من الفرح ، والسكارى يمازحونه ، ولم يكن التعب موجودا ً . تذوق أجود الخمور على حسابهم الخاص ، وهو يثرثر بنشوة ، وتلقائية ، وظرف ، ويسرد حكاياته المدهشة على سجيته ..
في اليوم الثالث أظهر ( خورشيد ) خالص كرمه ، كان يحمل له بين الفينة والأخرى كأس الشراب العسلي وهو يلاحقه ، ثم يوقفه ويقول له :
" توقف ، إسترح ْ قليلا ً ، إن العمل لن يهرب منك وهو لا ينتهي في أي يوم ٍ من الأيام .. " في واقع الأمر كان هذا الشراب الأجنبي قويا ً وثقيلا ً ، لم يسبق أن تناول منه ( البعشيقي ) ، الرجل المتواضع ، شيئا ً . شرب منه هذا اليوم كمية ً كبيرة ، وقد أفرط ( خورشيد ) في سقيه ، إلى الحد الذي أفعمه بالسعادة والانتشاء . وعند الأصيل لاح متعبا ً جراء يوم ٍ متواصل من العمل الحقيقي المثابر ، والمرهق أيضا ، إن أية رشفات ٍ جديدة ٍ أخرى كانت ستطيح به حتما ً ، وقد حدس ( البعشيقي ) ذلك ، لذا ردّ ( خورشيد ) وهو يحمل إليه كأسا ً جديدة ً بالقول :
" شكرا ً ، شربت اليوم ما يفوق طاقتي ، ولم يعد بإمكاني شرب المزيد . "
" خذ ، اشرب ْ ، لا تخجل ولا تتردّد ، هذا الشراب لا يُمَل على الإطلاق . "
وحيال الإغراء الذي لا يقاوم ، مدّ ( البعشيقي ) يده إلى الكأس ، وهو يقول بصوت غلبت نبرته بحّة ٌ أحدثها الشراب :
" بالفعل شراب لا يُمَل ، إنه ينزل في أحشائي مزغردا .. "
كان أوان العمل قد انقضى ، وفات عليه بعض الوقت . آن له أن ينصرف الآن ، إذا رغب في ذلك ، ولكن ( البعشيقي ) أصرّ على مواصلة عمله حتى ينتهي تماما ً من مسألة الرمل ، أذ لم يتبق منه سوى الشيء القليل . دأب يعمل ، وهو في غاية الإجهاد ، بينما لاح على قسماته وحركاته الخدر المُسَكـّر . فجأة ً بدأ صرير العربة يضيع في غمار ضجيج النادي . بعد ما يقارب من ساعة على موعد انتهاء فترة العمل ، كما هو معهود ، تقدّم ( خورشيد ) رافعا ً بين أصابع كفه قدحا ً طويلا ً ، جميل الصنع ، طافحا ً بالشراب ، وكان هذا الكأس ، على ما يظهر ، هو كأس ( البعشيقي ) الأخير . توقف بين الموائد ، يجول بعينيه باحثا ً عنه ، ولكنه لم يعثر عليه هنالك .
قفل ( خورشيد ) عائدا ً نحو البار ، وطلب من أحد النادلين أن يلقي نظرة ً خارج النادي ، ليرى فيما إذا كان ( البعشيقي ) موجودا ً هناك . غير أن النادل نفى وجوده أيضا ً ..
عاد ( خورشيد ) أدراجه ، يبحث عنه في حديقة النادي ، ليجده جاثيا ً في العشب ، أسفل الشجيرات ، في وضع ٍ لم يألف مثله من قبل ..
كان ( البعشيقي ) يجلس في أطراف الحديقة ، وقد نأى بنفسه ، وغاب عمّا حوله غيابا ً شاملا ً . كان يجلس في غاية الاسترخاء ، وعلى ملامحه ترتسم الصور الموحية بالطفولة . حاشرا ً نظراته بين باقات الحشائش ، متابعا ً بعناية ٍ الضفادع الخضراء ، وهي تلعب وتمرح حرّة ً ، في ذلك المساء الأخضر .. الضفادع التي تزخر فيها الحديقة ، التي تتقافز زوجا ً إثر زوج . تهيأ له أنها شربت الكثير حتى ثملت ، وغلبتها البهجة ، وانطلقت تلعب بلا قيود .. كان جسده متنملا ً ، وعيناه حجرتان من الطين اللزج ، تنزلق منهما النظرات انزلاقا ً شديدا ً ، فتتساقط متدحرجة ً بين العشب كما تتدحرج الضفادع . كانت عيون الضفادع جميلة ً وساحرة ً ، تنظر إليه وهي تطرف ، لأول مرّة ٍ يعثر على عيون في غاية الروعة تشبه تماما ً عيون الأطفال ، ثم تفتح أشداقها الواسعة ، وتطلق في وجهه ضحكات ٍ بريئة ٍ ، وصادقة .. ضحكات ٍ مزيـّنة تخرج من قلوبها النقية ، وكانت أجسادها تنتفخ أثناء ذلك بشكل ٍ أثار حفيظته ، وجعله يشاركها مستغرقا ً في الضحك أيضا ً ، خافضا ً رأسه ، يكاد جبينه يلامس العشب ، وظهره يهتز ..
تقدم ( خورشيد ) منه وجلس إلى جواره ، وبدأ يبحث ، في ذهول ٍ عمّا يضحكه ، ولما لم يعثر على شيء معين ، أطلق ضحكة ً صاخبة هو الآخر !..
ثم ربت على كتفه ، في صمت ، وناوله الكأس .
أخذ ( البعشيقي ) الكأس دون أن يتفوه بشيء . وقبل أن يرتشف منه أتى بحركة غريبة تماما ً ، إذ غمس طرف سبابته في الشراب وشرع يمسح به جفنيه المثقلين ، مسحا ً رقيقا ً جعله يفتح عينيه ويستيقظ فجأة ً، وكأنه كان في غيبوبة ٍ ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*( بعشيقة ) : من نواحي نينوى . معروفة في صناعة الخمور
* معركة ( الطاهري ) : إحدى معارك الحرب العراقية ــ الإيرانية .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشطرة / 2013




#محمود_يعقوب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- روعة اللمسة الأخيرة / قصة طويلة
- تحت جسر الهولندي قصة طويلة
- التاريخ السري للعقرب / قصة طويلة
- يوميات معتقل سياسي
- فورة الشكوك
- الشجرة الرابعة
- أكاليل حب إلى نقاهة الشاعر خلدون جاويد
- عصفور الشطرة الكحلي
- حامل شمعة الحب .. ( سمنون المحب )
- بائع الصُوَر المقدسة : قصة
- النوم مُبتَلاّ ً : قصة قصيرة
- أسرار النجم الغجري
- نزلاء الفنادق : قصة قصيرة
- المنفاخ : قصة قصيرة
- نساء الأنقاض
- ( اللطف العجيب ) ترنيمة جون نيوتن الخالدة .
- متمسك ٌ بك ِ يا عزيزتي
- قصة كفاحي : قصة قصيرة
- القافز بعصا الزانة(قصة قصيرة)
- حفلة ذبابات آيار القصيرة


المزيد.....




- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود يعقوب - اليقظات قصة طويلة