|
نساء الأنقاض
محمود يعقوب
الحوار المتمدن-العدد: 2903 - 2010 / 1 / 31 - 22:45
المحور:
الادب والفن
( لقد عرفت أن الحرب لن تنتهي أبدا ً، طالما ظل ّ ينزف في مكان ٍ ما جرح ٌ سببته الحرب ) . الأديب الألماني هاينريش بول .
إنها لوحة ٌ مؤثرة ٌ ، تحرك المشاعر في كل وقت .. اللوحة الملحمية التي تتوسطها النساء الباسلات ، اللائي خضن معركة بناء الأعشاش أثر انجلاء العاصفة !.. إنها معركة السباق مع غيوم الزمن بالأيادي الخالية ..الأيادي العارية المتحدية . في برلين كما في أغلب ساحات المدن الألمانية ، هناك العديد من النصب التذكارية ، التي تمثل النسوة وهن يقفن بثبات ٍ وعزم راسخ فوق القواعد الكونكريتية ، تلك التماثيل الممتلئة بالحياة ، والناطقة بكل الأحاسيس الإنسانية الفياضة ، تنتصب متغنية بوطنها وتقول لك حالما يقع نظرك عليها : ـ نحن بناة ألمانيا .. نحن اللواتي انتشلنا الوطن من براثن الخراب !!.. إنها النصب التي تستحقها عن جدارة ٍ ( نساء الأنقاض ) الألمانيات الشجاعات اللائي تخطين هزيمة بلادهن ، في الحرب العالمية الثانية ، واجترحن المعجزة الوطنية الكبرى ، وكتبن بالأرواح والعرق والدم والدموع صفحة ً متوهجة ً لا تنسى في التاريخ الألماني الحديث . ستظل موضع فخر واعتزاز لألمانيا كلها . بفعل الضربات الجوية المتلاحقة ، والقصف المتواصل بلا هوادة ، ونتيجة القتال الضاري في داخل المدن الألمانية ، حيث تقاتلت قوات المشاة النظامية من كلا الطرفين ـ الحلفاء والألمان ـ تحولت أغلب المدن الألمانية في نهاية الأمر ـ 1945 ـ إلى مدن خرائب وأنقاض ، لاسيما المدن الكبيرة منها ، التي ناءت بالحمل الباهض طوال مسلسل الحرب الدموية ، من مثل برلين ، درسدن ، ميونيخ ، هامبورغ ، لايبزيج ، كولونيا ... وعلى سبيل القول والتذكير فإن المعروف من الوثائق التاريخية المتعلقة باحتلال برلين ، أن هذه العملية أدرجت في سجل جينس للأرقام القياسبة ، بوصفها أكبر معركة في التاريخ ، كثافة النيران وعدد الخسائر تشير إلى مقتل عشرة أشخاص في الدقيقة الواحدة على وجه التقريب . وحالما دخلت قوات الحلفاء المنتصرة إلى هذه المدينة وجدتها عبارة عن هياكل خالية .. ( كل شيء في الحرب عرضة للاشتعال ، كل شيء يحترق : الحديد والبشر والأشجار، كل شيء يحترق ) . يوم توقفت الحرب الثانية ( 8 / 5 / 1945 ) ، بدت ألمانيا بلدا ً في حالة خراب شامل . كانت الشوارع ملأى بالأنقاض ، الطوب والحجارة والتراب ، وأعمدة الخشب والحديد ، إضافة إلى الأثاث المنزلي المدمر ، تلك المدن كانت شظايا سقوط النازية . كان 95 ٪ من المنازل قد دُمِرت أو أصيبت بأضرار متفاوتة ، ناهيك عن آلاف الأبنية الحكومية ودوائر مؤسسات الدولة الألمانية . بعد أن عم ّ السلام ، كان من الضروري إعادة إعمار البلاد ، ومن أولى المهام إزالة ذلك الحطام الهائل الثقيل . لم يكن هنالك العدد الكافي من الرجال لرفع تلك الأنقاض ، ونقلها بعيدا ً ، وإعادة ترميم المدن ، إن الرايخ الألماني كان قد فقد الملايين من رجاله بين قتيل ٍ وجريح ٍ وأسير ٍ ومفقود ٍ . فور توقف الحرب لم تكن المدن الألمانية سوى مدن أشباح .. لذلك اقترح مجلس الحلفاء ـ في المانيا ـ بضرورة تصدي النساء الألمانيات لهذا العمل الجبار . بين عشية ٍ وضحاها ، ارتقت الألمانيات إلى مستوى التحدي ، لتتحول الأكف الحريرية والأيادي الناعمة إلى سواعد َ من حديد ، تقبض بثبات على المعاول والمطارق والرفوش ، وتحرّك العربات الحديدية الثقيلة إلى مسافات بعيدة .. كانت تلك السواعد يشد بعضها أزر البعض الآخر . وهكذا تخطت المرأة الألمانية واجباتها التقليدية التي مارستها طوال فترة الحرب المدمّرة ، حين كانت الطاهية والممرضة والمعتنية بالأسرى ودفن الموتى .. كان أمام هؤلاء النسوة 3٫5 مليون منزل ومؤسسة مهدّمة ، أو ما يعادل 400 مليون متر مكعب من الأنقاض والقمامة ، أضف إليها الكثير الكثير من المباني والواجهات الآيلة للسقوط بفعل القصف . وجدت الألمانيات أنفسهن أمام عمل هائل بإمكانياتهن البسيطة ، وكان من المستحيل عليهن نقل تلك الأنقاض إلى خارج المدن ، فعملن على تجميعها في أماكن محددة داخل هذه المدن . تم تجنيد جميع النسوة القادرات على العمل اللواتي تتراوح أعمارهن بين 15 ـ 65 سنة ، وكان في برلين وحدها حوالي 60٫000 امرأة عاملة . هؤلاء النسوة الشجاعات واصلن العمل بلا كلل ، في ظل ظروف ٍ قاسية ٍ .. ظروف معيشية بالغة السوء ، تميزت بقلة الغذاء وتقنينه تقنينا ً صارما ً، وكانت الأغذية تـُباع في السوق السوداء ، وانتشرت السرقة من أجل البقاء ، كما ارتفعت معدلات الجريمة إلى أعلى مستوياتها ، يرافق ذلك تفشي أمراض الكوليرا والدفتريا ، مثلما رافقها شتاءٌ قاسي البرد لاسيما شتاء 1945 ـ 1946 . لم يكن يمر يوم دون وقوع الحوادث المؤسفة والمميتة ، نتيجة لانفجار المقذوفات القديمة بين الأنقاض أو انهيار الجدران والمباني المتداعية .. إن تلك الظروف المرّة لم تثني عزمهن في إعادة تنظيف مدنهن وبناء بيوتهن ، فعملن بروح معنوية عالية عملا ً تضامنيا ً وطنيا ً مخلصا ً، لم يتوقفن ولم يتراجعن ، إنما كان البعض منهن يرقصن على وقع الموسيقى في أوقات استراحتهن في مواقع العمل !.. لقد أقامت الألمانيات الشجاعات جبالا ً من الأنقاض داخل المدن ،لا تزال هذه الجبال إلى الآن، وقد تحولت إلى أماكن استجمام ، ستظل شاهدا ً أسطوريا ً على التضحية والعزم والوطنية الحقــّة . إن الكثير منهن شاركن في البناء أيضا ً ، وكان لهن دورا ً أساسيا ً في إعادة الحياة إلى المدن مجددا ً وجعلها صالحة للعيش والسكن . وقد رافق هذا الجهاد العظيم أدب ٌ يتغنى ويمجد بهؤلاء النساء ، في الشعر والقصة والمسرح ، أصبح يعرف بأدب الأنقاض . إن الأجيال الألمانية اللاحقة ستبقى وإلى الأبد ممتنة ً لأولئك النساء المنتصرات في حربهن التي تلت الهزيمة ، والتي لم ترمّم حطام المدن فقط ،وإنما رمـّمت الأرواح المحطمة أيضا .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشطرة / 2010
#محمود_يعقوب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
( اللطف العجيب ) ترنيمة جون نيوتن الخالدة .
-
متمسك ٌ بك ِ يا عزيزتي
-
قصة كفاحي : قصة قصيرة
-
القافز بعصا الزانة(قصة قصيرة)
-
حفلة ذبابات آيار القصيرة
-
أسطورة الجندي شيبوب : قصة
-
نخيل العراق يتمايل طربا ً لأشعاركم . ( بمناسبة تكريم الشاعري
...
-
الفراشة الميتة : قصة قصيرة
-
تشابيه
-
الشَطريّون : قصة
-
حكاية ابن ( علي بابا ) : قصة قصيرة
-
أثناء الحُمّى
-
أغنية صديقي البَبَّغاء
-
ورد الساعة الرابعة
-
نبيذ العشق العرفاني من كوز الأمام الخميني
-
درس في الرسم :قصة قصيرة
-
الندّاف
-
تهيؤات : قصة قصيرة
-
الحب من آخر نظرة : قصة قصيرة
-
برعم وردة على صدر العجوز
المزيد.....
-
بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ
...
-
مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
-
روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
-
“بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا
...
-
خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر
...
-
الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا
...
-
الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور-
...
-
الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
-
على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس
...
-
الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|