أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود يعقوب - الشَطريّون : قصة















المزيد.....


الشَطريّون : قصة


محمود يعقوب

الحوار المتمدن-العدد: 2539 - 2009 / 1 / 27 - 05:28
المحور: الادب والفن
    



إنه موجود ٌ هناك ، كل يوم ٍ في المكان نفسه . هناك حيث الريح الثملة تلعب في الماء الأخضر .
تنطلق برائحة الكحول ، نزقة ً ، معربدة ً ، تنشرها فوق النهـر ، في دروب السماء ، فوق النياسم
، بين الأشواك والأكمات ، وتمسح بها ريش الطيور وأصداف الحشرات ..
هناك ، في صريفته الصغيرة ، النائية ، متوحدا ً إلا ّ من الريح والماء . لا يعرف من أين تأتي
هذه الريح ، مباغتة ، تهـزّ ثيابه بعنف وهي تنزل إلى النهر ، متزحلقة فوق الماء ، مخلفة ً
خطوطا ً متموجة ً ، مائلة ً تترجرج مترنحة ً سكرى ..
ما تلبث الريح ان تصعد محلقة ً ، دائرة ً بنشوة ٍ في السماء ، ثم تنعطف مقبلة نحوه ، تصفر بلحن
بري ٍ سريع ، فتدخل ناعمة ً وباردة ً تحت ثوبه ، وتعبث بكوفيته ، تبعثرها وترفرف بها ،فيدفعها
بيده ، ويطلب منها أن تكف عن الهزار ، يدعوها أن تنتحي جانبا ً .. أن تذهب حيث الطيور .. أن
تلهو بين الدغل ِ . لكنـّما الريح كانت تجده هناك ، وهناك كانت تلعب معه .
في كانون الثاني ، الليل يأتي راكضا ً ، ما ان تمضي الساعة الرابعة عصرا ، حتى يسقط الظلام
شجيا ً ، يلمّ ُ البرد َ بعبائته السابغة من الدروب ، ويأتي شجيا ً .
في هذا الغروب ، كان لائذا ً بجانب صريفته ، معتزلا ً مثل كلب الماء . ينفذ بسمعه وبصره
بعيداً ً في النهر ِبعينيه العميقتين ، المسوّرتين بجفنين رقيقين أحمرين ، وبين آن ٍ وآخر
تتغرغران بالدمع ،حين يلذعه البرد ، فتسرع الريح ُ ضاحكة ً ، تمسح عينيه بلمساتها الراعشة
وتمضي . كان الهواء ُ باردا ً ، وكان وجهه النحيف في الهواء .
يقف ًُ ويداه مسترخيتان في جيوب سترته العسكرية القديمة ، وكوفيته ملفوفة حول رأسه ، ومن
وسطها يبرز وجهه المغضن ، الحنطي ، الصغير ، الذي يشبه التين المجفـف .على وجهه كانت
ثلاثة خطوط ٍ متوازية ، مائلة ، من الجانبين ، تنزل من الصدغين إلى طرفي فمه ، كانت تظهره ُ
وكأنه مبتسم ٌ طوال الوقت .. مبتسم ٌ حتى وهو راقـد ٌ في صريفته ، وما أرقّ وأحلى أن ترى
الإنسان مبتسما ً في رقاده !..
اسمه ( فلاح ) .. ( فلاح السمـّاك ) ، أنيس الصيادين . لكن الجميع ينادونه ( أبو تغريد ) . منذ ُ
أن مارس الصيد َ معهم صار يـُعرَف ( أبو تغريد ) فقط . كان رجلا ً خـُلِق َ للماء والريح ، بين
أضلاعه قلب ٌُ حر ٌ ، لا يعرف حدودا ً للحريـّة ِ . تخطـّى الأربعين ومازال أعزبا ً ..
بمزاحهم الساخر الفظ أطلقوا عليه لقبا ً تهكميـّا ً ، وهم يقارنونه بلا إنصاف ٍ مع جاره ، الأشقر،
الغني ، ( أبو تغربد ) .. وكانت إبنته تغريد بلورا ً مشعا ً على الطرقات حين تروح وتغدو ...
كان إسم تغريد ، في نظرهم ، إسما ً عصريـّا ً ،متحضرا ً ، جذابا ً ، يطلع من زغب الريش
الملون وزقزقات الطيور ، لم يكن قد اُُختـِرع َ لأمثال ( فلاح ) ، الـّذي تكفيه تلك الأسماء
الريفية من مثل ( ملكيّة ، هنديّة ،رسميّة) ، من تلك الأسماء التي ارتبطت ببؤس ٍ بالياء
وتاء التأنيث حين لم تجد ما ترتبط به . هذه الأسماء وحدها تليق به ، وفي أحسن الأحوال ِ
يمكنه التشبث بـ ( فاطمة ) أو حتى ( نجاة ) ..
الـّذي حدث فيما بعد وأدهش الجميع ، أن ( فلاح ) نفسه تمـَسّـك باللقب هذا ، عازما ً أن لا يموت
إلا ّ مبتهجا ً بأجمل التغاريد . وعلى ساعده الأبيض وتحت عبارة ( آه يازمن ) ، وشم َ لقب
( أبو تغريد ) أيضا ً !..
حتى سنوات ٍ قريبة ٍ ، كان يشتغل بدأب ٍ مع مجموعة ٍ طيبة ٍ وحميمة ٍ من الصيـّادين ، مغمورا ً
بحبهم وحماسهم ونواح أغانيهم التي تنهمر في الروح كالشمع الذائب . كانوا يعملون في الشتاء
فقط ، موسم الأسماك والرزق . ويصطادون بوفرة في نهـر ( الغرّاف ) . إعتاد العمل في
النوبات الليلية ، في الليل فقط كان يكدح ، ساهرا ً مع الماء والخمر والريح ..
لم يكن مجرد رامي شباك ٍ إلى الماء ، إنّما كان شيئا ً جميلا ً مشاعا .. جميلا ً ومشاعا ً مثل
بحيرة سماء الليل الزرقاء ، التي يتوهج فيها الألماز ، والتي توشك أن تنسكب فوق جباههم
وعيونهم .عشِق َ دندنة النهر ، وعلى شواطئه ظلّ يسبح بفيروز الماء والسماء حتى النفس الأخير
.وهناك كل الأشياء تعرفه ، تطوّقه بروائحها النديّة ، وصحبتها التي لا تهون .. تعرفه كأنه شيئا
لا ينفصم عنها أبدا ً!.. في ذلك
الخلاء المتلألىء الوديع ،جنب النهر الساكن الذي لا تحركه سوى ارتعاشات زفيف السمك في
الماء ، من وقت لآخر ، وفي ذلك السهر السحري ، تحت ضوء القمر والنجوم وخيوط الضوء
التي تنوس على صفحة النهر ،وأصوات الغناء العجيب الذي لا يتوقف عن الصعود ملتاعا ً
وحنينا ًإلى قباب السماء !..
في مرات ٍ عدة ٍ ، كسب الكثير من المال ، فأسرع في تبديده على عائلته الكبيرة . ليبقى عازبا ً ،
فقيرا ً ،مُغتـَما ، لا يملك شيئا ً..
ذات مرة ٍ ،راح يلمـّح في خلجات السُكر ِ إلى أصحابه عن رغبته في الزواج ، مثيرا ً زوبعة ً من
المفاجأة والسخرية ، وكأنه الوحيد الذي ليس من حقه الزواج !.. وفي سُكرهم تمايلوا أمامه
كالجان عارضين عليه أنفسهم للزواج ، وسرعان ما انفجر ضاحكا ً بحطام أسنانه التي تشبه
حبوب الهرطمان . نسي الأمر ، وعاد لينغمس في الصيد والشراب .
لقد تغيرت أشياء ٌ كثيرة ٌ ، بعد سنوات ٍ فـُرِضَ الحصارُ على البلاد ، وتوقف السمك عن المجيء
وشحّ الرزق.. شحّ إلى الحد الذي جعل أكثر الصيادين يتخلون عن الصيد ، ويهجرون عملهم ،
ويذهبون إلى المدينة كبائعي أسماك ٍ وحسب !.. كانوا يجلبون الأسماك من مناطق َبعيدة ٍ ،
أسماك مختلفة ، صغيرة ٌ برائحة زفر لا يحتمل ، وأخرى كبيرةٌ ببطون دمويـّة حمراء ، لا تثير
الشهيّة . بينما إنكفأ ( فلاح ) معانيا ً من الفقر والبطالة ..
ان كل هذا الأمر لا يعني بالنسبة له شيئا ً ، ولا بأس أن تتوقف الأمور عند هذا الحد ..لا بأس ،
لكن الأنكى من أي شيء ٍ آخر ٍ، ان الخمرة لم تعد تصل إلى المدينة ، ولم تصل إلى فمه الضمآن
خلال هذا الوقت قطرة ٌ واحدة ٌ منها !.. وكل ما فعل أصحاب محنته، أنّهم دلـّوه على باعة الخمر
المحلي والكحول السيء ، الذي كان سُما ً حقيقيا ً أكثر من أن يكون شراب نشوة ٍ . وحتى هذه
البضاعة الرخيصة ، سرعان ما استنفدت ، لتختفي تماما ً .
حالا ً ،وبلا تأخير ، جاء البديل القاتل الرهيب ، كحول المستشفيات المعروف بأسم ( السبرتو ) .
كانوا يخفقونه بكثيرٍ من الماء ، ويتجرعون منه جرعات ٍ صغيرة ٍ تكفي لإلهاب الجسد واشعال
النيران فيه ، وتدوير الدماغ بشكل ٍ لا يوصف !.. وقد نجح هذا المشروب الجديد في القضاء على
حياة العديد من شاربيه ..
بوسيلة ٍ أو أخرى ، كان هذا الكحول يصل من المستشفيات ِ إلى ( فلاح ) .. يصل تحت جنح
الظلام .. يصل دون مساومات ٍ..
منذ ُ تشرين الثاني ، في هذا العام ، جاء إلى هنا مرة ً أخرى . جاء بذكريات الصيد وأحلامه ..
جاء بروح الماضي الذي لا يموت ، بشجرة حياته التي تفوح من أوراقها رائحة السمك ، وتتلألأ
على فروعها الأصداف الفضيـّة . جلب الحصران والقصب ، وصنع كوخا ً صغيرا ً على جرف
الماء .. كوخا ً ظلّ يبرق مثل الذهب تحت وهج الشمس وألق القمر ، وتنعكس صورته مهدهدة
في حضن النهر . نائيا ً عن المدينة ، في العراء .. العراء الذي يمتدّ بلا حدود ..
قرب الكوخ ، غرس وتدا ً عميقا ً في الأرض ليثبت زورقه ، وعلى جداره كانت تتكىءُ درّاجته
الهوائية القديمة .
لم يأت ِ إلى هنا ليصطاد الأسماك ، إنـّما جاء لأمر ٍ آخر ٍ !..إنّه موجود ٌ لأجل كلاب الماء
فقط . في هذا الشتاء يصيد كلاب الماء المنحدرة في نهـر ( الغـرّاف ) ..
لا أحد يدري كيف تـَعرّف ( فلاح ) إلى هذا النوع من الصيد ، وكيف تسنى له التدرّب عليه
بمهارة ٍ ؟.. إلا ّ ان الناس تقول ان رجالا ً غرباء يأتون ليشتروا جلود كلاب الماء ، وكانوا
يدفعون بالغ مغرية ً لقاءها .. إنّها مهنة ٌ غامضة ٌ ، وهم يقولون أيضا أن الرجال يذهبون بتلك
الجلود إلى الأردن وسوريا ، ومن هناك كانت تذهب إلى دول ٍ اخرى ، وكانوا يرددون أسم
( قبرص ) بينها كثيرا ، من يدري !..
منذ ُ عودته إلى الصيد ، عاد قلبه يخفق عاليا ً ، بات يسمع خفقانه مثل خفق الساعة . وذابت
أحاسيسه لتصبح هبـّة ريح ٍ تنزلق من مكان إلى آخر بلا توقف ٍ ولا تردد ٍ .
في الشتاء ، كلاب الماء أكثر تواجد ٍمن أي وقت ٍ آخر . تسبح باحثة ً عن الأسماك ، متوجسة ً
حذرة ً . تنشط ليلا ً بعيدا ً عن الإزعاج . تطفو مقدمة وجوهها فوق الماء ، في ضوء القمر ، أو
عند الغبش ، في رماد الليل ، تتشمـّم بهدوء ، تنساب ببريق ولمعان عيونها . آذانها وعيونها
وإنوفها على مستوى واحد ٍ ، لهذا فهي تسمعُ وتشمّ ُ وتنظر دفعة ً واحدة ً . وحين تستجيب
لأدنى نأمة ٍ يـُخيَـل إليك انها بأ لف عين وألف أذن . تندفع بأجسامها الطويلة الرفيعة ،كالزوارق
الصغيرة . عائمة ً بصمت . لا تعرف الإستقرار ، تقطع النهر صاعدة ً ونازلة ً على الدوام ..
تغطس في الماء .. تغطس طويلا ً باحثة ً بنهم ٍ عن الطعام .لا تخرج من الماء إلا ّ في الأماكن
الآمنة البعيدة .
كم هو جميل ٍٍ أن تأتي تلك الكلاب بجرائها الصغار ، وهي تزعق ُبصوت ٍ رفيع ٍ وعميق ٍ ،
يشبه جرّ الحديد على البلاط .. جذلة ٌ تعبث حول أمّها ..
لم يعلـّمه أحد ٌ ذلك ، تعلم صيد كلاب الماء بفطرته ، إكتسب الخبرات سريعا ً ، وتبادل المشورة
مع الصيـّادين الآخرين الذين كان يلتقيهم عند تخوم المدينة .
كان رقيقا ً كالماء ، لا يستعمل بندقيته إلا ّ ما ندر ، معتمدا ً في صيده على الفخاخ التي ينصبها
في أماكن ٍَ متفرقة ٍ من النهر ِ .
كان يصيد في حدود مدينة ( الشطرة ) فقط ، لا يمكنه تجاوز تلك الحدود . هنالك صيـّادون مثله
في كل مدينة ٍ وناحية ، إنـّهم يحترمون الحدود ، ويعرفون إلى أي مدى يذهبون .. لكل ِ مدينة ٍ
حدودها ، وهم لا يجسرون على كسر الحدود وخرقها .. إنـّهم متفقون على خريطة رزقهم بلا
إتفاق مبرم .ٍ
لم يكن ( فلاح ) لوحده صيـّاد كلاب الماء هنا ، فعلى طول عشرين كيلو مترا ًٍ كان يأتي الكثير
من الصيـّادين .. العديدون جاءوا .. جاؤوا وفي عيونهم نظرات التصميم على صيد الكلاب ،
لكنهم رحلوا دون أن يفعلوا شيئا ً. وحتى قبل أيـّام ٍ ، مـرّ رتـلٌ من الفتيان بوجوههم الداكنة ،
المُبَقَعَة ، المليئة بالفقر ِ ، وبتيجان شعورهم الشعثاء ، حاملين شباكهم وبنادقهم ، رمقوه بنظرات ٍ
متفحصة ، مرتبكة ، متسائلة ، أطلقتها عيونهم الجاحظة التي توشك أن تسقط من محاجرها بين
أقدامهم . جاءوا وذهبوا بلا إثارة ٍ , فقط ، إنـّه وحين ابتعدوا عنه ، رفع رأسه ورشق سراويلهم
الواسعة الغريبة بنظراته ، وكان يـَوُد لو يخبرهم أنّ كلاب الماء لا تخاف من هذه السراويل
مطلقا ً !..
في الشهر السابق ، إصطاد ( فلاح ) كلبين ، سلخ َ جلديهما ، وباعهما بمليون دينار ٍ . وحمل
المال كلـّه بسحره ِ وزينته وأعطاه لأهله ، عرفانا ً بالجميل .. جميل سنوات البطالة التي أمضاها
بينهم مثل قط وجاق .
كان يعمل من أول الليل حتى أول الصباح ، ويستسلم للنوم طوال النهار .
الآن ، في كانون الثاني ، حيث ينزل الظلام البارد كالثلج الأزرق ، يشعر ( فلاح ) بتجمد أطرافه
، فيجلس في حمى الكوخ ، يراقب النهرصامتا ً ، مُقَلِصاً رقبته بين ياقة سترته العسكريّة الناصلة
اللون ، والتي تُظهِرَهُ مثل جندي ٍ مجهول ٍ ، مجالد ٍ وصبور ٍ ، مرابط في موضعه ِ .
ومالبث حتى دخل الكوخ لينهمك في إعداد العشاء والشاي .. وحين انهى ذلك ،تناول مجذافه وقفز
إلى زورقه وانطلق بصحبة الليل والريح ، منسابا ً بصدر ٍ ترتعش فيه أحاسيس الجمال ، يقطع
المسافات البعيدة بحثا ً عن طرائده ِ .
يتكسر السعال في صدره الصغير .. الصدر المليء بالحب والأيمان ، كان واثقا ً من معونة رَبـِّه
على الدوام .
كانت السحب القزعية الشفــّافة العالية تعبر السماء ،و ترسم ُ في أطوارها مناظرَ كثيرة ً
تحت النجوم والقمر ، في غاية الدهشة والإفتتان ، توحي بأن السماء ترتفع تارة ً ، وتهبط تارة ً
أخرى .
كان منطلقا ً مع الليل والسحاب ، ليس بوسعه أن يحسّ بالتعب ، مكتفيا ً بقليل ٍ من الحظ .. لم
يقلق بشأن سِلالِه ِ ، سواء امتلأت أم فرغت ، المهم هنا ، انه يحب رائحة الليل ويستنشقها عميقا ً،
موله ٌ بها ، كانت تسكره . وهنا يمكن أن ينسى همومه وينسى كلَّ شيء ..
جـدّفَ بزورقه مسافات ٍ بعيدة ً، صاعدا ً شمالا ً ونازلا ً جنوبا ً ، ماسحا ً صفحة النهـر لساعات ٍ
عدّة ،قبل أن يرجع إلى كوخه .
ربط زورقه ،ثم عرج إلى تفحص شبكة صيد سمك ٍ مثَبتة جانبا ً في الماء .. كان يكرر هذا الأمر
كلّ ليلة ٍ ، وكل ليلة ٍ يجلس متحفزا ً في الظلام أمام النـهـر . وحين يحسّ بالتعب ِ ، يدلف إلى
الكوخ ليستمع إلى نواح مطربه ،في آلة التسجيل ، ويحتسي شيئا ً من الكحول . كان سعيدا ً بهذا
القدر من الدنيا ، ولسوف يكون أكثر سعادة ٍ لو جاءت كلاب الماء ..
بعد استراحة ٍ قصيرة ٍ ، خرج وقفز مرة ً أخرى إلى الزورق وأخذ يجوب النهـر .
الآن ، تقوضت ساعات الليل ، وها هو الغبش ..الغبش الذي تكون فيه السماء مضيئة ومظلمة
في آن ٍ واحد . النهـرعاري ووديع . الريح والنهـر واهنان ، السماء والبريّة والأشياء ..كل
الأشياء تبدو هشة ً وباردة ، متغشية ًبالغشاء الرمادي الكوني المهيب ..
بالرغم ممّا وُصـِفَ بأن جلده جلد نمـر ٍ ، إلا ّ انّ البرد كان موجعا ً ، يوخز العظام ،وقف في
حمى الكوخ مقفقفا ً يراقب النهـر. خلال دقائق سمِعَ صوت ارتعاش ماء النهـر ، وهسيسا ًٍ
ينبثق هادئا مع الماء !.. سرعان ما تهيأ ممسكا ً ببندقيته ، شاخصا ً في عمق الغبش الداكن .
بعد ثوان ٍ شاهد كلاب الماء سابحة ً وزاعقة بصوتها النافذ الرفيع . كانت تروغ من مكان ٍ إلى
آخر . ضحك من كل قلبه ، وتساءل أين كانت هذه الحيوانات ؟.. منذ شهر ٍ لم تظهر ، لقد
تأخرت عليه طويلا ً. النهـر يزهـر الآن ، ولم يستطع أن يصرف نظره عنها لحظة واحدة .
مالبثت كلاب الماء حتى انبجست من النهـر وصعدت إلى الجرف . إنتزع نظراته منها ، وهبَّ
خفيفا ًإلى سمكاته ، التي كان قد اصطادها ، وراح يضعها في بعض الفخاخ القريبة . وفي
رمشة ِ عين ٍ قفزت كلاب الماء إلى النهر ، وعادت تخوض في الماء ، وكان الماء يتماوج
مرتعشا ً .
كان يقف متحفزا ً ورائحة الدخان الكامدة في سترته تملأ منخريه ..
قبل انبلاج الفجر اقتربت تلك الكلاب مسافة ً منه ، وعلى الفور عرف أنّها أنثى مع صغيرها
الوحيد . كانت شديدة الحذر ، لم تدن ُمن الفخاخ رغم السمك الموجود فيها . هنا وجد ( فلاح )
نفسه مضطرا ًإلى سحب بندقيته ، إنّها لا تريد الإقتراب من الفخاخ ، وبعد قليل سيأتي الصباح
وتختفي عنه . جلس رافعا ً إحدى ركبتيه ، ساندا ًعليها يده اليسرى التي تمسك بالبندقية ، مسددا ً
ومصوبا ً ناره إلى رأس الكلب .. إلى الرأس ِ فقط ، لأنه يعلم أن الجلد المثقوب لا يـُباع ولا ُ
يُشترى .
بعد لحظات ٍ من التحسب والإنتظار ، دو ّى صوتٌ فَجـّر النعاس الحالم في العراء . إهتزّت الريح
موشوشة ً وأرتجف جسد الماء ، ومن بعيد صرخت الطيور فزعة بأصواتها الخشنة التي
طاشت في السماء . وظل ّ يَتـَلفت حوله وهو يشعر بالأسف والإحراج !..
أصاب الأم مباشرة ً .. أصابها في رأسها ، راحت تنتفض في الماء نازفة ً . ركض نحو الزورق
وانتشلها ، وعاد بها بعد أن غسل دماءها . وعلى الجرف تركها تقضي نحبها . حين نظر إلى
النهـر ، لم يجد أيّ أثر ٍ لصغيرها ..
كان متعبا ً وجائعا ً ، دخل إلى الكوخ وأكتفى ببضع رشفات ٍ من الكحول وخرج على الفور .
عند باب الكوخ ، جعل الكحول جسده يقشعر ويهتـزُّ . في ضوء الغبش الرطب الخافت ، كانت
أجفانه الرقيقة تبدو أشدّ َُ احمرارا ً وهي تغالب النعاس . وضع يده على فمه وأخذ َ يتثاءب
بصوت ٍ عال ٍ .حين نظر إلى فريسته ، دُهـِشَ إذ رأى جروها الصغير منحنيا ً يتشمـّمُها
مرتجفا ً مرعوبا ً، على الفور أحسّ الجروَُ بتسلط أنظار الصيـّاد عليه ، فأشاح برأسه صوب
النهـر، ثم رمى نفسه إلى الماء وغاص تحته ، تاركا ً الألم يترنح بين عيني ( فلاح ) .
بعد دقائق ، طفا الجرو فوق الماء ، راح يدور دورات ٍ واسعة ٍ وهو يجأر بصوت ٍ حزين
يقطع نياط القـلب ، صوت ٌ راعف ٌ تتلجلج فيه اللوعة والحنين ، جعل ( فلاح ) يهتـزّ أسا ً
وندما ، إندفع إلى داخل الكوخ ، وشرب جرعات ٍ أخرى من الكحول . ثم خرج منصتا ً إلى
بكاء الجرو الصغير بصوته الشجي المبحوح ، الذي كان يحوم وحيدا ً وغريبا ً لا يعرف
إلى أين يذهب !..
أخذ َ تيـّارٌ كهربائيّ ٌ يسري في جسده ِ المكدود ، وتنمّـلت أطرفـُهُ ، وأخذته الرعشة ُ ، وبدأ
دُوار السـُكر ِيدير رأسه ، ووقف مترنحا ً ، لا يقوى على ضبط نفسه .تحت وطأة السـُكرِ شعرَ
بالأسف العميق حيال الجرو الصغير . وراودته أفكار ٌ لا ترحم . كان يشعر بأن الريح والماء
والطير والسماء ، تنظر إليه شزرا ً بعيون ٍ تقدح ُ غضبا ً لفعلته هذه . تأججت مشاعره ، وأنتفض
الحب في صدره ، وملأ أذنيه طنين ُ عالي وأنساب فيهما عميقا ً !..
بألم ٍ هادر ٍ ، وقف مستغربا ً أن تكون في داخله فضاعات كهذه ، وراوده ضرام فكرة أنّه قتل أمّ َ
طفل ٍ صغير ٍ . ظلّ حائرا ً ، متمايلا ً بضميره المُـعَـذ َب ، يقتله الإحساس بالخطأ الفادح !..
الآن أشرقت شمس الصباح .. ضوؤها يتماوج على السطح الكريستالي للماء ، ويتوهج على
شعر الكلبة الميتة على الجرف . كانت نظراته كابية ً، ألمّ َ بها الحزن ، قال هامسا ً :
( كان لا ينبغي أن أهشم رأسها ) . وسقط في لجة إحساس ٍ بالفجاجة وقلة الخبرة ِ .
الجرو لم يزل يدور على سطح الماء ، راميا ً بنظراته المذهولة ، اليائسة نحو أمه وهو يواصل
نحيبه . بينما كان السـُكرُ يعصف بمشاعر (فلاح ) ، الذي إنخلع قلبه أمام هذا المنظر ،وفي ثورة
أحاسيسه طفق ينتحب كالطفل الصغير ..أمام الجرو وقف يسكب دموعه !..
كان رجلا ً بهيئة طفل ٍ .. بهيئة طفل ٍ يتيم ٍ ، وحيد ٍ ، مهترىء الثياب ، متسخ ، لم يحلـُق ذقنه منذ
وقت ٍ طويل ..
توقف عن البكاء ،أخذ يصيح بأصوات ٍ كتلك التي نطلقها حين ننادي على الكلاب ، يتوسل طالبا ً من الجرو الإقتراب . كان في شوق ٍعارم لإلتقاطه..يصيح به ( تعال إلى هنا .. تعال ) ، لكن الجرو راح يوسع دائرة عومه ، جاعلا ً ( فلاح ) يصيح بصوت ٍ أعلى :
ـ لأجل الله لا تبتعد .. لأجل الأنبياء تعال .
كانت روحه تتألم كثيرا ، وهو يناشده مترجيّا ً ، كانت رقصات أحلامه قد انتهت .
وما لبث أن تعتعه ُ السـُكرُ نحو النهـر .. خلع سترته ورماها على الجرف ، ورفع كوفيته عن رأسه وتركها تنجرف مع الهواء ، وهبط إلى النهـر وهو يخلع ثوبه ويرمي به إلى الماء ..
تقدم إلى وسط النهـر مترنحا ً .. تقدم بقـلب ٍ من الفحم المتجمر والدخان . وحين غمره الماء راح يضرب بيديه سابحا ً ، يبرز رأسه مبلولا ً تتقطـّر منه الشفقة والحنو .. كان يسبح نحو الجرو ، وقد بدا مستنزفا ً ، غير أن الجرو فـَزع َ وغطس متواريا ً في الماء . توقف ( فلاح ) عائما ً في ً وسط النهـر ، بجلده المزرق ولهاثه المسعور ،يبحث عنه ، ولمـّا لم يجده ، غطس في أثره، تاركا
الماء المضطرب حوله يرسم دوامات ضيقة ًأخذت تتسع وتبتعد مخلـّفة ً رقرقة ماء ٍ فوقه تماما ً
لينة ًوهادئة ً ومضيئة ً كالفضة ِ !.



#محمود_يعقوب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حكاية ابن ( علي بابا ) : قصة قصيرة
- أثناء الحُمّى
- أغنية صديقي البَبَّغاء
- ورد الساعة الرابعة
- نبيذ العشق العرفاني من كوز الأمام الخميني
- درس في الرسم :قصة قصيرة
- الندّاف
- تهيؤات : قصة قصيرة
- الحب من آخر نظرة : قصة قصيرة
- برعم وردة على صدر العجوز
- اسقربوط البحر المظلم
- في أرض رجل ليس مريضاً :قصة قصيرة
- غسق الرشّاد البرّي (قصة قصيرة )
- غسق الرشّاد البرّي
- ضريح السرو : قصة قصيرة
- كرابيت GRABEIT
- هكذا تكلمت (خميسة )وهكذا سكتت
- خلدون جاويد: قلب يغرد بالمحبة
- تفاح العجم
- احتباس


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود يعقوب - الشَطريّون : قصة