أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود يعقوب - هكذا تكلمت (خميسة )وهكذا سكتت















المزيد.....

هكذا تكلمت (خميسة )وهكذا سكتت


محمود يعقوب

الحوار المتمدن-العدد: 2159 - 2008 / 1 / 13 - 08:39
المحور: الادب والفن
    


قطعت عهدا على نفسي ،ان لا افشي هذا السرّ الرهيب لكائن من كان ،السر الذي دفنته في اعماق صدري باشمئزاز طول عمري!..لكنما اليوم اجدني متراجعاً عن عهدي وميثاقي وانا اضعه بين ايديكم بكل خيانة .
ولسوف يستوقفني بعض من عرف ( خميسه ) ،يعاتبني على ذلك ، فأردٌّ بهزة غامضة من رأسي،وأنا اسدد بصري الى الشارع المليء بالناس،
وأكشف عن ابتسامة خبيثة ،وأمتنع عن الجواب...
صدقوا ،ِلستُ راغباً في نبش تأريخ عائلة طيبة ،وتسليط الاضواء على المجسات النفسية والاجتماعية للعقد المفترضة في سلوكيات هذه المرأة،
التي تنام الان مستريحة مطمئنة في قبرها ، وعليها ذات الرداء الذي يلتف به الجميع، رجال ونساء ، بقدر رغبتي في اقتفاء خطواتها في السوق الذي كنت اعمل فيه صغيراً .
لم يقوَ احدٌ على كبح جماحها ،ولم يجرأ احدٌ على الوقوف بوجهها ومسائلتها حين خلعت عنها ثياب النساء الزاهية ولبست ثوباً رجاليّاً بعد وفاة والدها ،الذي ورثت منه طوله الفارع ودقة ذقنه المتناهية ،الموحية اليّ بالثقة العالية وصعوبة المراس .
ورغم ان الامر مذهلٌ ، يستثير الدهشة، وينثر الشك والاقاويل في كل تربة وهواء،
الآ اننا كنا نسمع النساء تردد غالباً ان ( خميسه ) انثى كاملة لا ينقصها شيْ مما لدى كل الاناث .ولم يمر وقت طويل حتى اعتاد الجميع رؤيتها في زي الرجال .وبات مألوفاً وقوفها بين شباب الحي القديم !..
تحدرت من عائلة قليلة الاختلاط ..عائلة يبدو انها غصنٌ مقطوعٌ من شجرة نسب مزروعة في مكان اخر ،جلّ ثمارها من البنات .
لم تكن النساء يحبذن مخالطة ( خميسه ) التي لا تتورع –مهما اظهرن لها التملق–من كيل التهم لهنّ بمناسبة او اخرى ..
-(انتنّ قطط منازل ..تتلذذنّ بالخضوع للرجال الوسخين ).
( تشعلنّ أجسادكنّ وعواطفكنّ بخوراً لآناس لا يليق بهم سوى دخان السجائر وروائح التبغ النتنة ) .اذ تشكو اليها واحدة من جفاء وهجر زوجها ،فأنها لا تتردد أبداً من الصراخ في وجهها :
-(ليذهب الى جهنم...أتركيه سياتي كلبٌ غيره..الرجال متشابهون ،من يذهب يحل آخر محله..)
ويحدث كثيراً ان تستفزها النساء بمكرٍ وسط الطريق ، في محاولة لتأجيج
خطابها التحريضي والتحقيري على مسامع الرجال. والويل كل الويل لمن يحاول مقارعتها من الرجال ، فذاك حديث آخر ، ويا ثوب من مزقكُ ؟ ! ..
وفيما بعد ألفنا ( خميسه ) تخرج الى السوق ، بثوب رجالي أصفر سابغ ، وعقال وكوفية وعباءة صوفية شقراء ..
كنت حدثا ، أئِم محلاً لبيع الفحم ، مرتين في اليوم .ليس محلاً كالمعهود ، بقدر ما كان زقاقاً طوله خمس وعشرين مترا تقريباً ،زقاق مظلم ممتليْ بأكياس الفحم، التي توزعت على جانبيه تاركة ممرا ضيقا بينهما لا يسمح لمرور شخص دون تلوث ملابسه بسحمة الفحم ، اكتست جدرانه وسقفه المتهالك بمسحوق الفحم ، فبان في النهاية كل شيْ اسود فيه ، وقد اهمل من أي مصدر للنور. يتسع الزقاق قليلا في نهايته وهو يفضي الى فناء صغير مكشوف يضم غرفتين ،واحدة منهما خربة ، استغلت لقضاء الحاجة ، وظلت تنبعث منها روائح منفرة ، والأخرى أفضل حال منها ، ذات باب خشبي ضيق مدهون بلون أزرق باهت قديم ،لها شباك صغير بدرفة واحدة من الخشب البالي ، سقطت احدى ألواحه . من اليسر النظر من خللها ورؤية داخل الغرفة بوضوح كاف . ولعل هاتين الغرفتين وذلك الزقاق بقايا خان قديم .
كانت الغرفة مكتظة بصفائح الزيت الحيواني الذي يسمونه هنا (الدهن الحر) . ينبسط على أرضها حصير من الخوص المسفوف ، يلجأ اليهاالفحّام في اوقات قيلولته .وعلى ذكر الفحّام ،كان رجلاً مترملاً في العقد الرابع من عمرهِ..في مثل عمر ( خميسه ) تقريباً،رقيق وحسن المظهر ،بيته في اطراف المدينة ،وهذا مايفسر بقاءه في السوق حتى المساء ..
ولايغيبنّ عن بال احدٍ ،ان زبائن الفحّام هم من الصغار عادةً ،اولئك الصبية العاملون في المطاعم ،الذين يجلبون اكياس الفحم على ظهورهم ،حيث يكتفي ارباب عملهم بترك هذا الامر لهم ،اذ ليس بمقدور الكبار التضحية بنظافة ملابسهم ...
عملت في مطعم لايبعد كثيراً عن دكان الفحّام ،واعتدت ان اراه في اوقات قيلولته يعمد الى غلق مدخل الدكان برصف اكياس الفحم فوق بعضها البعض، موحياً ان المحل مغلق، او ان صاحبه غير موجودٍ .وان صادف وجئته في مثل هذا الوقت – وهذا ما كان يحدث نادراً – فأني اضطر الى تسلق الاكياس قاصداً غرفته ،لانبهه من نومه...
مابين محل الفحم ومطعمنا صف دكاكين تجلس ( خميسه ) عندها ، تبتاع الزيت من القرويات. تجمعه في الصفائح التي تودعها في غرفة الفحّام ، التي استأجرتها لهذا الغرض . وما ان تتوفر لديها كمية كافية منها حتى يقدم لشرائها أناس غرباء عادة .
كان يلوح لي ان العلاقة بين ( خميسه ) والفحّام صداقة حميمة ، فهما يمضيان أوقاتا طويلة معا في الدكان . أما ما عدا ذلك ، فقد كانت ( خميسه ) تجلس بعض الوقت في مقهى قريب ، تثرر وتجادل وتعبّ دخان الأركيلة بين الرجال الصاخبين.ولطالما سمعت صوتها يعلو الأصوات حاراً مرهفاً ..لافظةً كلماتها الأخيرة بدقةٍ وكأنها تبصقها بصقاً على ما مضى من الجدال .
بصراحةٍ ، رغم الأعتبار الحسن بين الكثير من الرجال لها ، وظنون البعض بأنها امرأة من العيار الثقيل ،الاّ انني لم أضمر لها أي نوع من الأعجاب . ومع ذلك ظلت عيوني مرصداً ، تجذبه وتغريه صورتها ، ودأبت أتعقب حركاتها وسكناتها على الدوام .
وأنا هنا لا اروم نشر كل ذلك على حبل القصة ، بقدر ما أرمي الى سرد حادثةٍ غريبةٍ عرضت لي مصادفة، أرعبتني وملأت روحي قرفاً وأهاجت وساوسي وأوهامي!.. وستبقى راسبةً في كل زاوية من زوايا جسدي مُذ حدثت في ذلك اليوم القائظ . وكنت حينها قد أسرعت لجلب الفحم ، في وقت قيلولة الفحّام . و على وفق العادة وجدت مدخل الدكان مغلقاً بالأكياس .. والأكثر من ذلك ان الرجل قد بالغ هذه المرة برصف المزيد منها ، موحياً ببلاغة لاتقبل الشك أن لا أحد داخل الدكان . تسلّقت الآكياس ، وولجت الدهليز المعتم الطويل .. واذ قطعت نصف مسافته ، سقطت في مسامعي اصوات تشبه الطحير والتأوهات . توقفت فجأةً أتسقط مصدر الآصوات التي راحت تخبو ، ومالبثت حتى ارتفعت كرة أخرى أكثر حرارة ، يتخللها همس لا أستطيع تبينه . كان لدي شيءٌ من الجرأة في تلك العتمة – فأنا قادم لشراء الفحم ، في يدي الثمن ، وأنا طفل أليف الى جنب اناس طيبين – لذا تقدمت .. تقدمت بوجل ، أمضي خطوةً وأتوقف لحظةً ، أصيخ السمع لهذه الآصوات الغريبة . وجدت نفسي أخيراً أمام نافذة الغرفة الموصدة بأحكام ،متلصصاً ومسلطاً نظرةً خاطفةً الى داخلها – نظرة لم تفلت من عيني أبداً- اضطرب كياني لهول ما رأيت ، وتضرجت بالحياء من رأسي حتى أخمص قدمي ،توقفت لحظة عاجزاً عن فهم ما يجري قبل أن أتراجع على مهلٍ وقلبي يخفق بضراوة ، تراجعت الى داخل الدهليز على رؤوس أصابعي ومن ثم جفلت وأطلقت العنان لساقيّ ، مخلفاً جلبة ارتطامي باكياس الفحم !.. هربت مذعوراً .. هربت من السوق كله ، وغبت عن العمل أياماً متخبطاً في دوامة من الغموض والمرارة والندم .. الندم على تلك النظرة القاتلة التي اختلستها ببراءةٍ . أعترف .. انني رأيت الفحّام ممتداًً على ظهره، مستسلماً ، عارياً ، وقد أغمض عينيه ، وتشنجت تقاطيع وجهه بحدةٍ ، فيما كانت ( خميسه ) تمتطيه كما يمتطي الفارس جواده ، عارية تماماً ..أنثى تماماً ، وجهها منكفيءٌ فوقه ، وهي تأن أنين المكلوم ، تلهبه بسياط اللذّ ة ، غائرةً به في سهوب لا حدود لها ..
في وقت متأخر من ليلة الحادثة ، هبط عليّّّ ملاكٌ ، هدهدني ، وأغمض جفنيّ المسهدين بعد طول أرقٍٍ ، وردّ عليّ طرف غطائي ، وتركني أنام بأمان . وفي الليلة التالية ، هبط ملاك آخر ، نضحَ ماءَ كوثرٍ عطري على وجهي ، ومسّد جسدي وأوقف ارتعاشاتي . لم أصدق هذا ،لكن أمي ظلت تردده على مسامعي تكرارا .
ثِبتُ لى رشدي بعد بضعة أيام ، وعدت الى عملي بقلب يلازمه الخوف وفزّات الحذر . توقفت عن الذهاب الى دكان الفحّام ، الذي ما ان يصادفني حتى تعلوه ابتسامة حائرة ، ويروغ بوجهه هنا وهناك . وصارت نظرات ( خميسه ) الشزرة تخترقني كالسهام النافذة . نظرات غامضة مرعبة ، صاخبة كالموج ، تهدّ أعصابي ورباطة جأشي ، وترغمني أن أخفض رأسي وأمضي مطأطأً مرتبكاّ !..
حفزني ذلك الخوف على مراقبتها بعناية ودقة . وجدت انها ، مع ألآيام ، لازمت الفحّام ملازمة طويلة . ما عادت تجلس في المقهى الاّ قليلاً . وحين تفعل ذلك فانها تجلس بوقار في ركن قصيٍ من المقهى ، بعيداً عن الرجال ، لم تعد تمدّ ساقاً وترفع آخرا على حافة التخت كما كانت تفعل من قبل ، بل تلفّ ملابسها بحشمة . وغدا صوتها أكثر رقةٍ ونعومةٍ من ذي قبل . و أنا أوشك أن أقول انه سكت ! . وحين تسحب نفساً عميقاً من خرطوم الآركيلة ، ويتوهج الجمر أمامها ، يمكنني أن أرى تألق بعض الحمرة في خديها !.. خبا رنين جرسها الذهبي وغام خيلاؤها . وصارت تمتزج في مخيلتي بصورة الفزاعة الخالية الجوفاء ،رغم جلجلتها . ومع هذا ..مع هذا كله، فأن نظرةً واحدة من ( خميسه ) .. نظرةً واحدةً لا غير ، كافيةً لأن ترعبني وتجعل قلبي يرفس قي صدري ذعراً وخوفاً .. خوفاً لا نهاية له ..خوفَ طفلٍ بريْ ،طاهر القلب .. خوفاً تنزّه أوهامي العظيمة بأن هذه المرأة تريد أن تمتطيني كما امتطت الفحّام يوماً من ألآيام .



#محمود_يعقوب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خلدون جاويد: قلب يغرد بالمحبة
- تفاح العجم
- احتباس
- الرجاء الصالح (الى استاذي د.شاكرخصباك )قصة قصيره
- أللوز ..من ذلك ألجبل أ لبعيد


المزيد.....




- فنانة لبنانية شهيرة تكشف عن خسارة منزلها وجميع أموالها التي ...
- الفنان السعودي حسن عسيري يكشف قصة المشهد -الجريء- الذي تسبب ...
- خداع عثمان.. المؤسس عثمان الحلقة 154 لاروزا كاملة مترجمة بجو ...
- سيطرة أبناء الفنانين على مسلسلات رمضان.. -شللية- أم فرص مستح ...
- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود يعقوب - هكذا تكلمت (خميسة )وهكذا سكتت