أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عطا درغام - الأرمن في النظارات المصرية في القرن التاسع عشر-4















المزيد.....


الأرمن في النظارات المصرية في القرن التاسع عشر-4


عطا درغام

الحوار المتمدن-العدد: 4744 - 2015 / 3 / 10 - 08:15
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


وهكذا، يتضح أن الأرمن قد قاموا من خلال تقلدهم منصب المسئول الأول في جهاز التجارة والخارجية بدور مهم في مجال العلاقات بين مصر والأستانة وأوربا. بيد أن نوبار باشا يعد وبحق أهم الأرمن قاطبة الذين ساهموا بدور بارز في السياسة المصرية خلال القرن التاسع عشر.
فقد تقلد العديد من المناصب الكبري في الحكومة المصرية قام من خلالها بدور بارز في السياسة المصرية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. فإلي جانب مناصبه السابقة ، أصبح نوبار أول ناظر للأشغال العمومية منذ 10شعبان 1281 حتي 22 شعبان 1282 ه( 1864-1865)

تولي نوبار نظارة الخارجية منذ 10 يناير 1866 حتي 24 مايو 1874 ، ثم منذ 7 يونية 1875 حتي 6 يناير 1876 ، وتأسست نظارة التجارة تحت إدارته في عام 1875. وعندما تأسست النظارات المسئولة منذ نهاية حكم إسماعيل ، شكل أول نظارة مسئولة منذ 28 أغسطس 1878 حتي 19 فبراير 1879 ، ثم شكلها ثانية خلال حكم توفيق منذ 6 يناير 1884 حتي 7 يونية 1888 ، ومرة ثالثة خلال حكم عباس حلمي الثاني منذ 16 أبريل 1894 حتي 11 نوفمبر 1895.
في بداية حكم إسماعيل ، أصبح نوبار ساعده الأمين ومستشاره الرئيسي وأداته التنفيذية لمعظم مشروعاته لا سيما المشروعات التي تحتاج إلي مفاوضات مع الأستانة والدول الكبري. بيد أن العلاقات قد اهتزت نسبيا بين إسماعيل ونوبار حينما تدخل الأخير من واقع عمله كناظر للأشغال في شئون دوائر إسماعيل الزراعية فضلا عن إخفاقه في مفاوضات تقليص شروط امتياز حفر القناة ومفاوضات قرض السكك الحديدية بباريس في أكتوبر 1865 . لذا ، نقله إسماعيل في 10 يناير 1866 من نظارة الأشغال إلي نظارة الخارجية ليكون مسئولا عن العلاقات مع الأستانة والدول الكبري وشركة قناة السويس.
ومنذ ذلك الحين، انشغل نوبار بعدة مفاوضات حول توسيع استقلال مصر الذاتي الذي أسفر عن صدور فرمانات 1866و1867 و1873 التي بمقتضاها تم تعديل نظام وراثة العرش المصري بحيث يكون في أكبر أبناء الوالي ، كما حصل إسماعيل علي لقب"خديو" الذي ميزه عن بقية الولاة العثمانيين ، وعلي حق عقد المعاهدات مع الدول الأجنبية بشأن التجارة والمرور وبوليس الأجانب ، وحق سن القوانين التي تمس الأوضاع الداخلية ، وحق عقد القروض وزيادة عدد الجيش والأسطول ، كما قام نوبار بمفاوضات متواصلة مع الدول المتمتعة بالامتيازات من أجل إصلاح النظام القضائي في مصر أسفرت عن إنشاء المحاكم المختلطة في أوائل عام 1876.
ثم ، بدأت العلاقات تتأزم بين إسماعيل ونوبار عندما أخذ الأخير ينتقد سياسة إسماعيل المالية ، ففي عام 1871 انتقد نوبار قانون المقابلة الذي نص علي إعفاء كل من يدفع ضريبة الأرض لست سنوات مقدما من نصف الضريبة إلي الأبد . وحينما فكر إسماعيل في فرض رسوم جمركية داخلية علي البضائع المنقولة من إقليم إلي آخر شريطة أن يدفعها المصريون فقط ، أصر نوبار علي تطبيقها علي الأجانب ، وأمكنه أن يفرض رأيه رغم معارضة القناصل . واستنكر نوبار استحواذ إسماعيل وأسرته علي "1.200.000 " فدان من مجموع "4.200.000" إلي "4.400.000" فدان صالحة للزراعة في مصر .
وأيضا، استنكر القسوة المتبعة في تحصيل الضرائب واتجاه إسماعيل إلي فرض الاحتكار علي تجارة السودان. وكذا ، اعترض علي سياسة إسماعيل التوسعية في إفريقية. كل هذا ، أدي إلي إعفائه من الخدمة في 24 مايو 1874 ، ثم اضطر إسماعيل إلي إعادته للخدمة في 7 يونية 1875 نظرا لحاجته الشديدة إليه.
وفي ديسمبر 1875 ، وصلت بعثة "كيف" بناء علي طلب إسماعيل لإجراء تحقيق في مالية مصر التي ازدادت سوءا. وقد أدرك نوبار أن البعثة ترمي إلي تدخل بريطانيا في شئون مصر الداخلية. ولهذا ، سعي إلي عرقلتها متفقا مع الحكومة الفرنسية إيفاد "أوتري" المكروه لدن إسماعيل في بعثة مالية إلي مصر لموازنة بعثة كيف. ولكن تجدر الإشارة هنا إلي أن نوبار كان يطنح شخصيا من وراء نشاطه ضد بعثة كيف إلي التقرب لدي الباب العالي لتعيينه بسبب أصله الأرمني واليا علي أرضروم التي كانت ثمة مشروع بمنحها استقلالا ذاتيا. ورغم فشل هذا المشروع، اكتسب نوبار إلي جانبه قناصل روسيا وألمانيا والنمسا وإيطاليا ، فضلا عن الباب العالي والقنصل الروسي بالأستانة الذين نصحوا إسماعيل بالتعقل وعدم الاستسلام للنفوذ البريطاني وحده.
عندئذ، تأزمت العلاقات بشدة بين إسماعيل ونوبار ، إذ ازدادت انتقادات نوبار لسياسة إسماعيل الاقتصادية وللسخرة وجباية الضرائب مقدما والإنفاق الباهظ علي الجيش.كما انتقد إسماعيل في أنه يحيط نفسه بمستشاري سوء لا يتنبئون بالعواقب ويسيرون بالبلاد صوب الخراب. وبالمثل ، اتهم إسماعيل نوبار بأنه المحرك لبعثتي كيف وأوتري ، وبحب السلطة وادعائه الليبرالية رغم ميله للطغيان. وأيضا ، أدرك إسماعيل الورطة التي ورطه نوبار فيها بإنشاء المحاكم المختلطة مما سيؤدي إلي خضوع الحكومة المصرية ودوائر إسماعيل الزراعية لسلطتها القضائية . ومن ثم اهتزاز سلطته المطلقة.
والحق، أن النزاع بين إسماعيل ونوبار كان يدور حول مستقبل مصر . لذا ، أخطأ الخديو في تجاهل نصيحة نوبار بالاعتماد علي ألمانيا والنمسا وإيطاليا وروسيا ومقاومة أي تدخل في شئونه الداخلية . ولما شعر نوبار بفقده لثقة إسماعيل ، استقال من نظارة الخارجية في 4 يناير 1876 وأمره الخديو بمبارحة مصر .
وجدير بالذكر أن نوبار قد شن من منفاه في أوربا حملة ضخمة ضد إسماعيل مستغلا فيها تردي الأوضاع المصرية وخبرته بشئونها ، فضلا عن تأزم العلاقات الدولية بعد تصدي بريطانيا للتوسع الروسي في البلقان. وكان نوبار منذ بعثة كيف قد اقتنع بأن جسامة ديون مصر لا بد أن تؤدي إلي التدخل الأجنبي الذي ربما يقضي علي استقلال مصر تماما . ولهذا ، رأي أن أفضل وسيلة للحفاظ علي مصالح الشعب المصري هي إما الاحتلال البريطاني لمصر أو فرض الحماية البريطانية عليها . وقد لاقت هذه الفكرة ترحيبا من بسمارك في برلين ومن العسكريين الإنجليز ووزارات الخارجية والهند والخزانة البريطانيين . وكذا ، اتصل نوبار بكل من يهمهم ديون مصر ونصحهم بعدم إجراء تخفيض في فائدة الديون قبل اتخاذ الخطوات اللازمة لتقدير قيمتها ومدي مقدرة مصر علي الدفع وإجراء تحقيق حول الأسباب التي أدت إلي الارتباك المالي.
وفعلا ، تشكلت لجنة التحقيق العليا الأوربية في 27 يناير 1878 لفحص إيرادات مصر أولا ، ثم شملت فحص المصروفات فيما بعد بموجب مرسوم 30 مارس 1878 . وفي هذه الأثناء ، ركز نوبار حملته ضد إسماعيل في مسألتين : الأولي ، أن سلطته المطلقة هي العقبة الأولي في وجه أي إصلاح ، ودعا إلي تنازله عن سلطته لحكومة دستورية يدخلها بعض الأوربيين . والثانية ، أن أملاك الأسرة الحاكمة هي السبب الأول في شقاء مصر ، ودعا إلي إعادتها إلي الدولة . وبإيحاء من حملة نوبار ، وتمشيا مع مصالح الدائنين ، قررت اللجنة تنازل إسماعيل عما بقي من أملاكه إلي الدولة ، فضلا عن تنازله عن سلطته المطلقة لمجلس نظار يتكون بصورة يقبلها الدائنون.
وبات واضحا أن نشاط نوبار ضد إسماعيل سوف يرشحه لدي الأوربيين لتشكيل النظارة المقترحة. ويعد هذا الترشيح بمثابة العلاج المر الذي كان علي إسماعيل ابتلاعه بعد ظروف طرد نوبار من الخدمة في عام 1876.
وفعلا ، وصل نوبار إلي مصر في 15 أغسطس 1878 بعد أن حصل علي ضمانات من بريطانيا ضد احتمال إقالة إسماعيل للنظارة الجديدة . وبعد ان وافق إسماعيل علي قرارات لجنة التحقيق كلف نوبار علي مضض في 28 أغسطس 1878 بتشكيل النظارة مقرا مبدأ المسئولية الوزارة.
وهكذا ، بدا أن نوبار قد انتصر علي إسماعيل في هذه الجولة . بيد ان الظروف التي تألفت فيها نظارة نوبار المعروفة ب" النظارة الأوربية" كانت سيئة جدا. فرغم تأييد بريطانيا وفرنسا لنوبار ، كان لا بد من تأييد إسماعيل – الذي كان لا يزال مسيطرا علي الموقف- لكي تستطيع النظارة البقاء والاستمرار. ولكن نوبار أصر علي استبعاده عن أية مشاركة في الحكم وإحالته إلي مجرد حاكم إسمي. كما ان إسماعيل قد قبل النظام الجديد علي كره منه. لذلك حمل مشاعر فاترة نحو النظارة وأخذ يتحين الفرص لاسترداد سلطته . أكثر من هذا ، جهر إسماعيل بنفوره من نوبار ونظاره المسيحيين مما أدي إلي سخط الشعب عليه وتحميله كل ما أصاب مصر من مشكلات .
وفي نفس الوقت ، كان نوبار مكروها من المصريين الذين اعتبروه بمثابة أداة إنجليزية لفرض الحماية علي بلادهم، وأنه يدين بتعيينه للأجانب الذين يسندونه. واعتقد الموظفون المصريون أنه أثري علي حساب شعبهم بوصفه عميلا للرأسماليين الأوربيين، ورأي فيه الفلاحون مؤسس المحاكم المختلطة التي أسلمتهم إلي شراهة المرابين اليونانيين. كما امتعضت منه الطبقات الثرية بسبب تصديه للمحسوبية والظلم والفساد التي عمت إدارة البلاد. ناهيك عن جهله باللغة العربية وكونه مسيحيا من الأرمن المكروهين بشدة من المسلمين وقتئذ بسبب تصاعد ثورتهم ضد السلطان العثماني.
علاوة علي هذا ، تألفت النظارة في وقت كانت فيه الخزانة تعاني الإفلاس بحيث لا يقبض الجنود ومعظم الضباط رواتبهم مدي عشرين شهرا، وازداد شقاء الشعب بسبب عدم انتظام مياه النيل. وعلي حين كان ريفرس ويلسون – ناظر المالية- يملأ نظارة المالية بالإنجليز ، خفضت رواتب المصريين وأغلقت المدارس وأحيلت مئات الضباط إلي الاستيداع بحجة الاقتصاد دون قبض متأخرات رواتبهم. وباع الفلاحون محاصيل عام 1878-1879 مقدما بربع قيمتها لكي يدفعوا الضرائب التي ازدادت وقتئذ.
وفي إطار هذا الجو المفعم بالصعاب والمساويء ، لم يلتفت أحد إلي اهتمام نوبار بتطبيق قوانين المحاكم المختلطة وغيرها علي المصريين والأجانب سواء، وفلرض الضرائب علي الأجانب المقيمين في مصر ، وتحجيم استغلال المناصب والفساد السائدين في الجهاز الإداري.
والحقيقة أنه لم يتوفر للنظارة الوقت الكافي لتنفيذ برنامجها الإصلاحي في الوقت الذي تعرضت فيه لسخط واسع النطاق. وطفق إسماعيل يستغل هذا السخط لإقالة نوبار بعدان جنبه الخطر الذي كان يتهدده من جراء التحقيق. وقد جاءت الضربة التي أسقطت النظارة في 18 فبراير 1879 عندما تجمهر أكثر من "2500" ضابط من المسرحين الذين ساءت أحوالهم حول نوبار وويلسون وهاجموهما فيما عرف ب"حادثة الضباط" . عندئذ، تدخل إسماعيل مسيطرا علي الموقف ، وأعلن أنه لن يكون مسئولا عن الأمن العام إلا إذا استرد سلطته علي البلاد كما اشترط استقالة نوبار الذي كان سببا في تصدع مركزه. وعنددما سأل القنصلان الإنجليزي والفرنسي نوبار عما إذا كان علي استعداد لحفظ النظام اجاب بالنفي وقدم استقالته في 19 فبراير 1879.
وعبثا ، حاولت بريطانيا إعادة نوبار إلي منصبه امام إصرار إسماعيل علي استعداده لقبول أي حل نظير عدم عودة نوبار إلي الحكم. وهكذا، بدا أن إسماعيل قد انتصر علي نوبار في هذه الجولة. والحقيقة أنه رغم إقصاء نوبار عن الحكم وتشكيل نظارة برئاسة الأمير محمد توفيق في 10 مارس 1879 ، ظل مبدأ حرمان إسماعيل من سلطته موجودا ، وواصل الناظران الأجنبيان تحديهما له ، كما أن النظار الوطنيين الذين عملوا مع نوبار – مثل رياض وعلي مبارك- واصلوا علاقتهم بنوبار.
هذا ، وقد ظل نوبار بعيدا عن الخدمة في الحكومة المصرية منذ استقالته في فبراير 1879 ، ولم يسمح له توفيق- الذي خلف إسماعيل بعد خلعه- بالعودة إلي مصر وآثر بقاءه في الخارج مراعاة للحالة السياسية.
وقد ظل هكذا حتي نشبت أزمة بين إفلن بارنج ( كرومر)- المعتمد البريطاني في مصر- ومحمد شريف باشا الذي شكل النظارة منذ أغسطس 1882 حول مسألة إخلاء السودان في أعقاب كارثة هكس- جنوبي الأبيض بالسودان- في 5 نوفمبر 1883- ، وعندما لاحظ كرومر تصميم شريف علي عدم إخلاء السودان ، أبلغ حكومته بانه لا يستطيع العثور علي نظار مصريين يقومون بتنفيذ الإخلاء. وبالتالي ، يجب أن تكون الحومة البريطانية مستعدة لتعيين نظار إنجليز بصفة مؤقتة في حالة إرغام الحكومة المصرية علي الإخلاء .
أكثر من هذا ، هدد كرومر بتوليه إدارة البلاد مما أزعج الخديو ودفعه إلي قبول الإخلاء واستقالة شريق.
عندئذ، عرضت النظارة علي رياض باشا الذي رفضها من منطلق تأييده لشريف . ولم يبق في الميدان سوي نوبار الأكثر مرونة الذي قبل تشكيل النظارة في 10 يناير 1884 علي أن يكون إخلاء السودان هو البند الأول في برنامجها. وجدير بالذكر أن إخلاء السودان يعد أكبر الانتقادات التي وجهت إلي نظارة نوبار الثانية نظرا لأهمية السودان السياسية والاستراتيجية والاقتصادية بالنسبة لمصر.
ورغم ان نظارة نوبار الثانية قد تشكلت علي أساس قبول النصائح البريطانية ، إلا أن مدتها قد شهدت صراع نوبار ضد الاحتلال البريطاني لمنع تغلغله إلي سائر المناصب المهمة في الإدارة المصرية. فقد كان نوبار يستنكر بشدة تدخل أية قوة أجنبية في الشئون الداخلية لمصر. وكان من رأيه أن الاحتلال البريطاني العسكري يهدف إلي حفظ الأمن. أما إدارة البلاد فهي من شأن النظارة.
وكان نوبار يتشكك في قيمة استخدام الموظفين البريطانيين في الإدارة المصرية، كما انتقد بريطانيا في أنها قدمت كثيرا من النصائح وقليلا من المساعدة في حين أن المطلوب هو العكس.
ولذا ، دخل نوبار في صراع من الاحتلال البريطاني لزعزعته ومنع تغلغله في الجهاز الإداري المصري. في الابتداء ، اصطدم مع كليفورد لويد وكيل نظارة الداخلية حول إعادة تنظيم البوليس، وتصاعد خلافهما حتي هدد نوبار باستقالته في أبريل 1884 ، ثم استغل نوبار الخلاف بين لويد وبينسون ماكسويل الإنجليزي- النائب العام بالمحاكم الأهلية- حول سوء معاملة المسجونين ، فتخلص من الأول في مايو 1884 ثم من الثاني في يناير 1885 . وعبثا ، حاولت بريطانيا تعيين مفتشين إنجليزيين عموميين بدلا من لويد أمام إصرار نوبار الذي كان يري أن نظارة الداخلية مرتبطة بحياة البلاد الخاصة والتدخل البريطاني في شئونها يحدث ارتباكات عديدة في حياة البلاد.
ثم واصل نوبار صراعه ضد التدخل البريطاني في الإدارة مستغلا بدء مفاوضات أحمد مختار- دومند وولف في أغسطس 1885 من أجل تحديد موعد لجلاء القوات البريطانية عن مصر. فسعي إلي الحد من سلطات مفتشي الري الإنجليز الذين كانوا يستغلون وظائفهم ويكسرون اللوائح ويتصرفون كما لو كانوا فوق القانون. ولهذا ، اصطدم نوبار كثيرا ب" سكوت" مونكريف وكيل نظارة الأشغال العمومية. وكذا مع إدجار فنسنت- مستشار نظارة المالية – الذي سعي إلي تطبيق سياسة مالية ترهق اقتصاديات البلاد.
وفي أوائل عام 1888 نتهز نوبار وفاة فالنتين بيكر رئيس البوليس وسعي إلي إعادة تنظيم البوليس للتخلص من الضباط الإنجليز وإعادة تبعيته إلي مديري المديريات وإلغاء مركزه الرئيسي في القاهرة . أكثر من هذا ، اشتكي نوبار السير إفلن بارنج( كرومر) إلي حكومته.
وإلي هذا الحد أصبح الصدام مكشوفا بين نوبار والمعتمد البريطاني في مصر ، وسعي كلاهما النيل من الآخر. في تلك الأثناء ، كان الخديو السابق إسماعيل في زيارة للأستانة ، فخشي توفيق- الذي كان علي علاقة سيئة بالسلطان وقتئذ – أن يكون ظهور والده في الأستانة إيذانا بخلعه ، ولهذا ، اعتمد علي نوبار في هذا الوقت مما شجع الأخير علي المضي قدما في صراعه ضد كرومر الذي اشتكاه إلي حكومته. بيد ان الخارجية البريطانية التي كانت قد أدركت ضعف مركز نوبار منذ فشل مفاوضات مختار- وولف في يولية 1887 فضلا عن شدة السخط عليه لملئه المحاكم بقضاة مسيحيين أيدت قنصلها العام وأوعزت إلي توفيق بقبول نصائح كرومر في الشئون الداخلية كي تقف بجانبه في الشئون الخارجية.
عندئذ، آثر توفيق التأييد البريطاني علي تأييد نوبار الذي أقيل في 7 يونية 1888 . ويعلق كرومر علي إقالة نوبار بقوله :" كان أمام نوبار فرصة للبقاء رئيسا للنظار حتي آخر حياته ، لكنه مع الأسف لم يتصرف نحو ذلك:.
وقد ظل نوبار بعيدا عن الخدمة في الحكومة المصرية منذ إقالته في يونية 1888 حتي وقع الجفاء بين الخديو عباس الثاني ورئيس نظاره مصطفي رياض باشا علي أثر ما عرف ب"أزمة الحدود". عندئذ، استقال رياض فرشح كرومر نوبار كي يخلفه في رئاسة النظارة بحجة عدم إمكان تطويع المسلمين برئيس نظار له ميول إسلامية متشددة . وفي 16 أبريل 1894 شكل نوبار نظارته الثالثة علي قاعدة التوفيق بين الموظفين البريطانيين والوطنيين . ولكن ، استسلم نوبار تماما في هذه النظارة للنفوذ البريطاني في الإدارة المصرية . وقد اتضح هذا من تعديله لنظام البوليس وإلغاء وظيفة مفتش عموم البوليس وتعيين مستر الدون جورست أول مستشار لنظارة الداخلية في 3 نوفمبر 1894 ثم تأسيس محكمة من شأنها محاكمة المتهمين بالاعتداء علي ضباط جيش الاحتلال وجنوده في 25 فبراير 1895.
ثم وقع الخلاف بين عباس الثاني ونوبار بسبب رفض الأخير رجوع الخديو الأسبق إسماعيل إلي مصر . فسعي عباس إلي التخلص من نوبار ، بيد أنه قد أرجأ هذا خشية وقوع أزمة. ورغم شعور نوبار بموقف عباس ،إلا أنه لم يفكر في الاستقالة ىاستنادا إلي كونه مؤيدا من الاحتلال . وكوسيلة للتخلص من نوبار ، أعرب عباس إلي اللورد كرومر عن رغبته في إعادة مصطفي فهمي – المعروف بولائه الشديد للإنجليز- إلي النظارة .
عندئذ ، لم ير الإنجليز داعيا للتمسك بنوبار الذي استقال في 11 نوفمبر 1895.
ويعلق كرومر علي استسلام نوبار للسياسة البريطانية خلال نظارته الثالثة بقوله :" وإني أعتقد أن نوبار باشا يستحق شكر البلاد التي استوطنها علي الأعمال التي أتاها في مدة الثمانية عشر شهرا المذكورة إلي درجة تفوق كثيرا مدة توظفه الطويلة السابقة". وأكثر من هذا ، أنعمت عليه ملكة بريطانيا بنيشان النجمات الهندية من الدرجة الأولي في أعقاب استقالته نظير خدماته الجليلة لحكومتها.
وهكذا ، خدم نوبار فترة طويلة في الحكومة المصرية امتدت منذ أوائل الأربعينات حتي منتصف تسعينات القرن التاسع عشر ، عاصر خلالها ، با واشترك في العديد من الأحداث المحلية والدولية التي مرت بمصر.
هذا ، وتكشف مذكرات نوبار عن وجهات نظره في حكام مصر الذين عاصرهم وخدم معهم وعن فترات حكمهم منذ محمد علي حتي إسماعيل. ورغم انه يذكر مرارا في مذكراته أن انتقاداته للحكام ومواقفهم نابعة من حبه لمصر، إلا أنه يشتم من بين سطور المذكرات أنها في الغالب كانت صدي قبوله ورفضه لدي هؤلاء الحكام.
في الابتداء ، أثني نوبار علي محمد علي وحكمه – وكان وقتئذ موظفا صغيرا في معيته- فوصفه ب" المتبربر العبقري" صاحب التحول الكبير في مصر الحديثة ، والتي اختفت بموته العبقرية التي كانت توجه وتركت بصماتها علي كل شيء فيها حتي التربة والنيل . أكثر من هذا ، ذهب نوبار إلي أن مصر هي محمد علي ذاته.
ولا زال نوبار موظفا صغيرا أثناء حكم عباس الأول- ولم يكن وقتئذ غير ممقوت من عباس- فوصفه بانه نموذج للأمير الشرقي. وكذا ، وصفه بالكسل والتشكك والتهور في ارتكاب الجرائم. ووصف فترة حكمه بالصمت والركود، ولكنه أقر بان المصريين لم يعانوا في فترة حكمه من الضغوط المالية والاقتصادية التي أثقلت كاهلهم في عهد محمد علي.
ومنذ حكم سعيد ، أخذ نوبار يتقلد بعض الوظائف المهمة ولكنه كان ممقوتا-إلي حد- في ذلك الوقت ، ولولا حاجة سعيد إليه لأقصاه عن الخدمة . وقد انتقد نوبار سعيدا بشدة في مساعدته الأجانب علي التغلغل داخل البلاد وانصياعه التام لرغباتهم. كما انتقده في عشقه لذاته وللمظاهر وافتقاره إلي الاحترام .
ويلخص نوبار رأيه في شخصية سعيد بقوله:" ولد سعيد للتدمير وليس للتعمير". وفوق هذا ، اعتبره نوبار من الأسباب الرئيسية لبدء مرحلة التدهور في مصر.
أما أثناء حكم إسماعيل ، فقد تقلد نوبار أكثر من منصب كبير رغم تأزم علاقاته مع إسماعيل الذي كرهه بشدة. وقد أبقاه إسماعيل في خدمته علي كره منه نظرا لحاجته الماسة إليه. وقد أدرك نوبار هذا ، فبادله نفس الشعور كما يبدو من كتاباته عن إسماعيل وفترة حكمه التي شغلت أكثر من نصف مذكراته تقريبا. وينتقد نوبار إسماعيل دوما في اهتمامه بالترف والبذخ والملذات والإسراف ، فضلا عن أخذه قشور المدنية الحديثة وفتحه أبواب الاستدانة . ويلقي نوبار علي عاتقه مسئولية الكوارث التي حلت بمصر.



#عطا_درغام (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأرمن في النظارات المصرية في القرن التاسع عشر-3
- الأرمن في النظارات المصرية في القرن التاسع عشر-2
- الأرمن في النظارات المصرية في القرن التاسع عشر-1
- الدكتور محمد رفعت الإمام بعيون أرمنية (رؤية الأستاذ أنترانيك ...
- إدارة الأرمن للأقاليم التابعة لمصر في القرن التاسع عشر
- الكماليون والأرمن ( 1919-1923)-3
- الكماليون والأرمن ( 1919-1923)-2
- الكماليون والأرمن ( 1919-1923)-1
- الأرمن تحت حكم الاتحاديين (1909-1918)-5
- الأرمن تحت تحكم الاتحاديين (1909-1918)-5
- الأرمن تحت تحكم الاتحاديين (1909-1918)-4
- الأرمن تحت حكم الاتحاديين (1909-1918)-3
- الأرمن تحت حكم الاتحاديين (1909-1918)-2
- الأرمن تحت تحكم الاتحاديين (1909-1918)-1
- الأرمن العثمانيون (1461-1909)-5
- الأرمن العثمانيون (1461-1909)-4
- الأرمن العثمانيون (1461-1909)-3
- الأرمن العثمانيون (1461-1909)-2
- الأرمن العثمانيون (1461-1909)-1
- نشاط الأرمن في الصحافة والأدب في مصر - 4


المزيد.....




- فيديو أسلوب استقبال وزير الخارجية الأمريكي في الصين يثير تفا ...
- احتجاجات مستمرة لليوم الثامن.. الحركة المؤيدة للفلسطينيين -ت ...
- -مقابر جماعية-.. مطالب محلية وأممية بتحقيق دولي في جرائم ارت ...
- اقتحامات واشتباكات في الضفة.. مستوطنون يدخلون مقام -قبر يوسف ...
- تركيا .. ثاني أكبر جيش في الناتو ولا يمكن التنبؤ بسلوكها
- اكتشاف إنزيمات تحول فصائل الدم المختلفة إلى الفصيلة الأولى
- غزة.. سرقة أعضاء وتغيير أكفان ودفن طفلة حية في المقابر الجما ...
- -إلبايس-: إسبانيا وافقت على تزويد أوكرانيا بأنظمة -باتريوت- ...
- الجيش الإسرائيلي يقصف بلدتي كفرشوبا وشبعا في جنوب لبنان (صور ...
- القضاء البلغاري يحكم لصالح معارض سعودي مهدد بالترحيل


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عطا درغام - الأرمن في النظارات المصرية في القرن التاسع عشر-4