أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عمرو محمد عباس محجوب - إزالة الفقر: السودان نموذجاً (2-8) المشهد الإقتصادي – الإجتماعي















المزيد.....


إزالة الفقر: السودان نموذجاً (2-8) المشهد الإقتصادي – الإجتماعي


عمرو محمد عباس محجوب

الحوار المتمدن-العدد: 4730 - 2015 / 2 / 25 - 12:38
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


عندما انجز د. تيسير محمد احمد على عمله الرائد "زراعة الجوع في السودان"، كان يتناول الدولة السودانية وسياسات التنمية الإقتصادية التي سادت فيها منذ ما قبل الاستعمار وحتى انتهاء الحكم العسكري الأول. طرح تيسير عبر منهجه –ربما لاول مرة في السودان- في دراسة اكاديمية محققة، وكانت المنشورات والمقالات الشيوعية وبعض الكتابات قد سبقتها، الملامح الأساسية للدولة السودانية في تطورها عبر عقد ما بعد الاستعمار والتي ستلقي بظلالها الداكنة على هذا التطور حتى تأريخه. وسوف تغتني المكتبة بدراسات تفصيلية فيما سنتناوله لاحقاً (د. تيسير محمد احمد (ترجمة محمد علي جادين): "زراعة الجوع في السودان" مركز الدراسات السودانية، القاهرة، 1994.

الملمح الأساسي الأول، وما سوف يصبح معلوماً بالضرورة بعدها، أن سياسات الدولة السودانية ظلت ثابتة لوجود قوى طبقية مهيمنة "ظلت دولة ما بعد الاستقلال دولة تشكيلة اجتماعية محيطية مهمشة وتابعة". وسوف تؤكد الدراسات اللاحقة التي فصلت طبيعة هذه القوى، علاقاتها مع رأس المال الأجنبي، ادوارها وغيرها. دشنت د. فاطمة بابكر محمود هذه بدراسة ميدانية تفصيلية بعملها الرائد: "الرأسمالية السودانية...أطليعة للتنمية؟" والذي تم نشره بالأنجليزية عام 1984، وتتالت اعمال د.علي عبد القادر علي، محمد ابراهيم عبدة كبج، مبارك عثمان واخرون.

الملمح الثاني، أن الدولة السودانية تعتمد على انتاج السلع الأولية المتدنية الربحية وتستورد غذاءها، وكل المنتجات المصنعة. ضمن إطار هذا النمو تركزت السياسات على الارتباط الوثيق مع قوى السوق العالمية، التوسع الافقي في المشاريع الزراعية والدعم الحكومي الكبير للقطاع الخاص. وسوف تتم دراسة التنمية الإقتصادية وتاثيراتها على الإقتصاد وتطوره من الوكالات المتخصصة لاحقاً، من العديد من البحاثة لتتابع تأثيرها على الحياة اليومية السودانية من مثل كتابات ودورد، د. قسوم خيري بلال وغيرهم.

الثالث تناوله نشوء ما اسماها ب"البرجوازية الطفيلية" ويرجع اصلها إلى فترة الحرب العالمية الثانية حيث استفادت من العمل في إمدادات الحرب، من ثم العمل ابان الحكم العسكري الأول في الاستيراد، مشاريع الخطة العشرية في توفير المشتريات الحكومية، مشاريع الري، بناء الخزانات واعادة توطين أهالي حلفا.

يصف تيسير هذه الشريحة باعتبار علاقتها بالإقتصاد بالاستغلالية من طرف واحد. تعمل في مجال عرقلة التدفق الطبيعي للسلع، عن طريق التخزين وخلق الندرة وبالتالي رفع اسعارها. واخيراً يخلص لتاثيرها "والواقع أن هذه الفئة لا تعمل فقط في هذه النشاطات الغير مفيدة للمجتمع، بل تقوم أيضاً، بتبديد موارد البلاد في الاستهلاك التفاخري والحياة المترفة".

راج تعبير "البرجوازية الطفيلية" وأحياناً "الرأسمالية الطفيلية" بعد الانتفاضة 1985، ليبدأ د. صدقي كبلو في تفحصها بعمق وتوسع في سلسلة مقالات نشرت في صحيفة الميدان في فترة الديمقراطية الثالثة، وتم نشرها لاحقاً في كتيب بعنوان "من يقود الرأسمالية السودانية؟، وصدر عن دار عزة 2008م". تناولت المقالات: هجوم الرأسمالية الطفيلية، تركيب الرأسمالية السودانية، انتفاضة مارس ابريل 1985 تطرح من جديد قضية القيادة: من يقود الرأسمالية السودانية؟ الطفيلية ام التجارية ام الصناعية؟، كما ختم الكاتب بمقال بعنوان "انقلاب 30 يونيو 1989 انتصار للرأسمالية الطفيلية". دخل تعبير "الرأسمالية الطفيلية" الادبيات الإقتصادية والسياسية السودانية وتحول لتعبير دارج في تحليل الأنشطة الإقتصادية لرأسمالية الجبهة الإسلامية القومية.

واصل حسين أحمد حسين تفحص "الرأسمالية الطفيلية" مستعملاً السياق المادى التاريخى في دراسة عميقة وتفصيلية، واوضح أثرها على الواقع السياسي السوداني. يرى الباحث أن فترة 85- 1989م كانت بداية طغيان العناصر الطفيلية داخل الشريحة التجارية، وسيادة العناصر الطفيلية بين كلِّ الشرائح حتى المنتج منها وانشغالها بالمضاربات في الغذاء والعملات والعقَّارات، إرتباط العناصر الإسلاطفيلية بالعالم الخارجى بنية تهريب أموالها للمحافظة على قيمتها وتأمينها (حسين أحمد حسين: حيثيات الواقع الإقتصادى – الإجتماعى فى السودان، وآفاق التغيير السياسى، 4 مايو 2013 ،http://www.sudaneseeconomist.com/?p=852.

دراسات الفقر

لم تتوجه دراسات كثيرة نحو قضايا الفقر بشكل محدد سوى كجزء من دراسات التطور الإجتماعي والإقتصادي بشكل عام، وكانت قضية الفقر تحتل مكانها كإفراز لسياسات وإنحيازات. راجعت معظم الكتابات المعاصرة التي تناولت قضايا الفقر في المكتبة السودانية، وهي ليست بالكثيرة والمطمئنة لشعب يعاني من الفقر الشديد في دولة غنية. وكما ذكرت سابقاً فقد تم في الغالب تناول القضية كجزء من قضايا التنمية الإقتصادية، او سمنارات وعروض مؤتمرات في تصميم التدخلات التي تمثل حلولاً لقضية الفقر.

الفقر ليس ظاهرة أبدية متأصلة في الحضارات البشرية تظهر بفعل عوامل بيولوجية يتوارثها الأفراد والمجتمعات، وإنما هي نتائج لأنماط تاريخية تحددها العلاقات التي تربط بين البشر. إن الفقر مرتبط بالتمايز الإجتماعي واللامساواة وانعدام العدالة. ورغم وجود نظريات متعددة في تفسير نشوء واستمرار الفقر، فهي بشكل عام تتفق حول أن مفهوم الغنى أو الفقر يرتبطان بالتمايزات الإقتصادية ولا يمكن فهم عوامل تشكل أي منها بمعزل عن الآخر.

تعريف الفقر

لا يوجد إتفاق دولي حول تعريف الفقر نظراً لتداخل العوامل الإقتصادية والسياسية التي تشكل ذلك التعريف وتؤثر عليه، إلا أن هناك اتفاقاً بوجود ارتباط بين الفقر واشباع الحاجات الأساسية المادية أو غير المادية، عليه فهناك اتفاق حول مفهوم الفقر، ويعرف على أنه حالة من الحرمان المادي الذي يترجم بانخفاض استهلاك الغذاء، كماً ونوعاً، وتدني الوضع الصحي، التعليمي، السكني، الحرمان من السلع المعمرة والأصول المادية الآخرى، فقدان الضمانات لمواجهة الحالات الصعبة كالمرض والإعاقة والبطالة وغيرها (سعيدة همت محمد: ظاهرة الفقر فى السودان بين تفاقم المشكلة وجهود الدولة لاحتوائها، وكالة السودان للانباء، 11 مايو 2011 ، http://www.sunanews.net/sudan-special-reports/19444-2011-05-11-23-20-07.html

تعريف تقرير التنمية البشرية 2006 يؤكد على أن "التنمية هي تطوير وتنمية العنصر البشري بما يؤدي إلى توسيع فرص ومجالات الاختيار أمامه في شفافية وحرية وديمقراطية، بما يؤدي إلى تحسين نوعية أو جودة حياة البشر". رغم ذلك تم حصر قياس الفقر ليعتمد على ثلاث مؤشرات أساسية هي: مؤشر غذائي صحي: نسبة ناقصي الوزن من الأطفال دون سن الخامسة، مؤشر صحي إنجابي: نسبة حالات الولادة دون إشراف صحي ومؤشر تعليمي معرفي: بنسبة الأمية بين الإناث.

مؤشرات قياس الفقر

ناقش تقرير التنمية البشرية عام 1997 ضرورة التخلص من الفقر، واشار أن هناك نوعين من الفقر: اولاً: فقر الدخل ويشير إلى الفقر بقياس معيار الدخل، و ينقسم إلى فقر مطلق وهو الذي يشير إلى حصول الفرد على دخل أقل من خط الفقر والفقر النسبي؛ ثانياً: الفقر التنموي أو البشري وهو من وجهة نظر معيار التنمية البشرية حرمان الفرد من العناصر الأساسية للتنمية البشرية والمتمثلة في رعاية صحية جيدة (تعرض الفرد للموت المبكر ويتم تمثيله بنسبة الافراد المتوقع أن يموتوا قبل سن الاربعين)، مستوى تعليمي مرضى (حرمان الفرد من التعليم ويتم تمثيله بنسبة الافراد غير المتعلمين من الكبار) ومستوى معيشي مقبول (يتم تمثيله بمتغير مركب من نسبة الافراد الذين لا يتلقون رعاية صحية، ونسبة الافراد الذين لا يحصلون على مياه نقية، ونسبة الاطفال أقل من خمس سنوات الذين يعانون من سوء التغذية. هذا المتغير الثالث لا يعكس فقط الدخل الخاص بالفرد ولكن يعكس أيضا الجزء من الدخل العيني الذي يحصل عليه الفرد في صورة خدمات عامة من الحكومة. احتل السودان المرتبة 154 من البلدان البالغ عددها 169 التي شملها مؤشر التنمية البشرية لعام 2010 الذي أعده برنامج الامم المتحدة الانمائي.

بدلاً من قياس الفقر بمعيار قلة الدخل-الإنفاق الذي يقوم على "خط الفقر"، والتي فيها نقائص منهجية ، من أنه لا يوفر توصيفاً كاملاً للفقر، ولا يعكس الاختلاف في القدرة الشرائية للدولار الواحد عبر البلدان المختلفة، الأمر الذى يفسد العديد من المقارنات الدولية، والأهم من ذلك أن هذا الأسلوب لا يعالج مسألة آليات توليد الفقر بشمول كاف، ولهذا فهو لا يقدم حلولاً كفيلة بالقضاء على الفقر. بدلاً من ذلك يميل هذا الأسلوب إلى الاكتفاء بالعمل على التخفيف من الفقر من خلال تحويلات الدخل، أسلوب شبكات الأمان الاجتماعية وغيرها. قدم تقرير التنمية البشرية الصادر عام 1997م عن برنامج الامم المتحدة الانمائي مؤشراً لايركز فقط على فقر الدخول ولكن أيضاً على الفقر بوصفه احد وجوه الحرمان من الخيارات، الفرص في عيش حياة محتملة ومقبولة. يعد مؤشر الفقر البشري مؤشراً مجمعاً لثلاثة مؤشرات أساسية للحرمان تشمل البعد الصحي، التعليمي والمستوى المعيشي.

المؤشر الأول للحرمان من حياة طويلة بصحة جيدة وهو يتمثل في نسبة الافراد الذين يتوقع الا يعيشوا حتى سن الاربعين؛ المؤشر الثاني هو مؤشر تعليمي معرفي يتمثل في نسبة الامية، وتعبر هذه النسبة عن درجة الحرمان من التسلح بالعلم والمعرفة والمؤشر الثالث يقيس درجة الحرمان من مستوى معيشي لائق وهو يتكون من مؤشر مركب من نسبة السكان الذين لايحصلون على مياه مأمونة ومؤشر غذائي صحي يتمثل في نسبة ناقصي الوزن من الاطفال دون سن الخامسة، وتعبر هذه النسبة عن درجة القصور في القدرة على تأمين الغذاء الجيد وما يرتبط به من حالة صحية جيدة. ويأخذ هذا المؤشر بعض الابعاد التي توضح مستوى المعيشة السائد في البلدان محل الدراسة. إلا أنه يعاب عليه عدم اخذ أي مقياس للدخل في الاعتبار والاخطر من ذلك هو عدم وجود تعريف محدد لاحد مكونات هذا المؤشر الا وهي نسبة السكان الذين لايحصلون على مياه مأمونة فمثلاً ما هو تعريف مياه مأمونة.

عالج عديد من البحاثة حساب مؤشر الفقر متعدد الابعاد العالمي (الامم المتحدة) من ناحية صلاحيتها لتقديم صورة حقيقية عن الفقر وتناسبها مع طبيعة الفقر في السودان. تناول البروفسير عصام عوض محمد (برفسير الاقتصاد، جامعة النيلين، الخرطوم، السودان) هذه المؤشرات في دراسة "قياس الفقر والتنمية البشرية في السودان"، والتي توصل فيها إلى عدم كفاية المقاييس النقدية المعتمدة في قياس الفقر والتي تقوم على التحليل الاقتصادي سواء على المستوى الكلي او الجزئي والتي تعتمد في قياسھا على جانبى الدخل والاستھلاك، وضرورة اللجوء الى المقاييس الغير النقدية (الصحة، التعليم والسكن) بحيث تصبح مقاييس مكملة إلى المقاييس النقدية (عصام عوض محمد: قياس الفقر والتنمية البشرية في السودان، http://mpra.ub.uni-muenchen.de/32560/)

أسباب الفقر

أسباب الفقر سياسية، إجتماعية وإقتصادية. البعد السياسي ويكون نتاجاً لسياسات الدولة في تركيز السلطة والثروة، الحروب او التوزيع الجغرافي، وكلها قابلة للتعامل معها إذا توفر للبلد قيادة ذات رؤية. سياسات الدولة هي العامل الحاسم في السودان، فمنذ الاستقلال لم تتوفر قيادة تعاملت مع هذه القضية من واقع العدل الإجتماعي. لقد تقلبت السياسات السودانية من تركيز السلطة والثروة في نخبة وسط السودان والمناطق الحضرية بشكل عام والتفضيلات والامتيازات التي جعلت هذه القضية ممكنة. رافق هذا الاعفاءات المتعددة من الضرائب والتهرب من الرسوم والجمارك ..الخ، أن تحولت الساحة إلي تحكم وسيادة الانشطة الطفيلية للرأسمالية منذ منتصف السبعينات وتصاعد تاثيرها وقبضتها على مفاصل الحياة الإقتصادية حتى تمت السيطرة الكاملة لها مع صعود تيار الدولة الدينية. هذه الرأسمالية "الطفيلية" ليس لديها أي معالجات لقضايا التفاوت في الدخول والاحتكار وصناعة الفقر.

يقدر عدد سكان السودان بحوالي 32 مليون نسمة (2011)، الغالبية العظمي، حوالي 70% وفقاً لتعداد السكان عام 2008 يعيشون في المناطق الريفية. إن الغالبية العظمي من السكان فقراء بمتوسط دخل فرد أقل من 400 دولار في السنة، ولكن هذا المستوي المنخفض للدخل لايعكس التباين الكبير بين الأقاليم في التنمية الإقتصادية. إن مستويات التعليم منخفضة، والأمراض واسعة الإنتشار وتشكل عبئاً ثقيلاً، البنيات الأساسية إما غير موجودة أوغير متطورة وغير كافية، وحتي القليل الموجود منها منهار نتيجة للإهمال الطويل لعمليات الصيانة الضرورية والدورية.

وفقاً للمسح القاعدي لبيانات الأسر السودانية في العام 2009م، فإن 46.5% من الأسر في الولايات الشمالية من السودان تعيش تحت خط الفقر ويبلغون حوالي 14.4 مليون شخص. حدد خط الفقر في السودان لإغراض بحث عام 2009، بأنه الشخص الذي يعيش بدخل شهري أقل من 114 جنيه، او استخدام 2400 سعرة حرارية للشخص الواحد في اليوم. نسب الفقر أعلى في اسر الارياف 57.6% من الأسر مقارنة ب 26.5% في المناطق الحضرية. ويمثل فقراء الريف حوالي 75% من مجموع الفقراء ومعظهم من الاسر الزراعية. وسوف تقدم لنا بيانات مسح العام 2014م رصداً اكثر دقة، حيث أضيف إليه بيانات عن الفقر. يمكن التوصل لخط الفقر 2014 بحساب الدولار 2 جنية سوداني عام 2009 و9 جنيهات عام 2014 بالسعر الرسمي، أي أن خط الفقر 513 جنية سوداني شهرياً. تمثل المساهمات العامة منه: الصحة حوالى 4 دولار فى السنة، التعليم اقل من ذلك.

وفيات الامهات في فترة الحمل والولادة مازال يسجل نسباً عالية، مقارنة بالدول الآخري في اقليم شرق المتوسط حيث 49% من النساء ينجبن تحت اشراف كوادر مؤهلة، تبلغ النسبة حوإلي 20% في السودان، كما ان %31من الاطفال دون الخامسة يعانون من نقص الوزن الحاد، وتزداد معدلات وفيات الاطفال طردياً مع زيادة مستويات الفقر في اوساط الاسر في ظل انتشارالاسهالات، الملاريا، محدودية فرص الحصول على مياه الشرب النقية والصرف الصحي.

كيف يصنع الفقر في بلادنا؟

رغم أن العديد من الايديلوجيات تطرح افكاراً مختلفة حول النشأة، فإن هناك اتفاقاً لحد ما إلي ارجاعها لمجموعة معقدة من تداخل السياسي، الإقتصادي والإجتماعي، الا أننا للتبسيط أولاً، وثانياً لأن الدول التي نجحت في القضاء على الفقر ركزت عليها في وضع الإستراتيجيات. هناك آليات مهمة في صناعة الفقر تتمثل في التفاوت التنموي وسياسات التوزيع ونتناول الخدمات في مقال لاحق. هناك علاقة وثيقة بين توزيع الفقر والتفاوت الإقتصادي الجغرافي.

العامل الهام الاخر هو سياسات التوزيع، سواء التنمية، الخدمات او المواطنين والمجتمع. هنا يتجلي الفرق بين كل الإستراتيجيات التي تبدأ من ربط هذه السياسات بخطة واضحة من الاستقرار السياسي- تعالج كافة قضايا التمييز والاقصاء سواء العرقي، الجندري او الديني وغيرها- وتترجم هذا بالإستقرار بالعمل على تحقيق العدالة الإجتماعية ومعالجة التفاوتات الجهوية، الإجتماعية. سياسات التوزيع وحل التفاوتات تعالج قضايا الفقر على المستوى الاستراتيجي ضمن اطار رؤيوي "ماليزيا: النمو يقود إلي المساواة في الدخل، كوريا الجنوبيه: الصناعات التصديرية كثيفة العمل وذات الأجر المنخفض، جنوب أفريقيا: التنمية في جميع المجالات، إصلاح العدالة وتقاسم الثروة والمساواة في الفرص والصين: معدلات نمو مرتفعة، العدالة في التوزيع ، محاربة الفساد وتحقيق اندفاعه قوية في مجال الإبداع والتطوير والتجريب".

موجات الفقر السودانية وخصائصها

نمط إستراتيجيات التنمية الموروث منذ القدم، والحروب التي خاضها الخليفة التعايشي (1885-1898) وادت لانهيار حياة العديد من المجتمعات، كانت المصادر الأساسية لأول موجات الفقراء الذين توافدوا على المشاريع الزراعية في النيل الابيض، الجزيرة، القضارف. هؤلاء هم اجداد القبائل التي نزحت من دارفور وكردفان وشكلت القوى العاملة في هذه المشاريع. سكنوا الكامبوهات، القطاطي وبيوت الطين في الجزيرة ابا على شواطيء النيل. أبناء هؤلاء تم استيعابهم في دائرة دولة التعليم والصحة المجانية واستطاع كثير منهم الافلات من دائرة الفقر.

مع منتصف السبعينات بدأ السودان يشهد تحولات إجتماعية وإقتصادية اعنف واشد قسوة، بدأت الدولة بالاستجابة لروشتة الصندوق بالتخلي عن دولة التعليم والصحة المجانية، الانكماش في الوظائف والاجور وغيرها. لعب ارتفاع اسعار البترول بعد حرب اكتوبر 1973 دوراً كبيراً في زيادة الاسعار وعجز الدولة عن توفير الكميات الكافية منها لاغراض الزراعة. هذا هو عصر تآكل الطبقة الوسطي وفقدان التوازن بين الاجور وتكاليف الحياة. أيضاً عاني السودان آنذاك من توزيع اراضي الزراعة المطرية بعد نزعها من ملاكها الاصليين، سوء إدارة المشاريع الزراعية والعوامل الطبيعية من الجفاف الذي اصاب المنطقة. انعكس هذا أيضاً على الفقراء وبدأت الموجة الثانية بتكاثر اعدادهم، الزيادة والظهور في طرقات المدن وفي مجاري الامطار (ما اطلق عليهم بعد ذلك الشماسة).

مع اشتداد قبضة صندوق النقد الدولي على النظام، إنشاء البنوك والمعاملات الإسلامية ودخول الإخوان المسلمين ضمن حكومة النميري وبدء المصالحة الوطنية وفد إلي السلطة نوع جديد من الرأسمالية، كان يتواجد دائماً على هوامش الحركة الإقتصادية ويلعب دوراً محدوداً فيها. بدأ نشوء فئة ما اطلق عليها الرأسمالية الطفيلية. إن هذه الفئة التي تنامت منذ اواخر السبعينات، وكانت جزءاً من إستراتيجيات بناء حزب الإخوان المسلمين، ذات خصائص محددة في السودان:

الخاصية الأولى: فهي نشأت بشكل مفاجيء، عكس رصيفتها الرأسمالية التقليدية، التي تطورت عن طريق إنشاء مشاريع إنتاجية او تجارية وعلى مدى زمني طويل استغرق اجيالاً من الاسرة. وهذا طبيعي لأن طبيعة عمل هذه الفئة ارتبطت بإنشطة ذات عائد سريع وكبير مثل تجارة العملة او تغييرها، الاراضي وتخصيصها، احتكار السلع ورفع الاسعار..الخ.

الخاصية الثانية: إنها تعتمد في نموها على علاقتها بالدولة وروابطها مع البرقراطية الحكومية. الخاصية الثالثة: إنها ضعيفة الحس الوطني (العملة، تجريف الاراضي هي أنشطة تخريبية للدول..الخ) وتعمل في الأنشطة غيرالانتاجية، لاتعترف بالقوانين السارية وأخلاقيات العمل، الاجور او تأثيرانشطتها على التدهور الإقتصادي العام. في هذه السنوات اندلعت حرب الجنوب الثانية عام 1983.

هذه الفترة دفعت بالموجة الثالثة من الفقراء، بنوعين من الفقراء كانوا الأثر المباشر للسياسات التي سادت آنذاك. النوع الأول كان بدء هجرة الجنوبيين في رحلة عذاب طويلة إلي الشمال والدول المجاورة، المجموعات التي اسست أحياء اطراف حاج يوسف، مايو، السلام ...الخ. النوع الثاني أيضاً ترحلوا طويلاً بعدما اجتاحت المجاعة غرب السودان، وبالأخص إقليم دارفور، في عام 1984 مما حدا بهم إلي النزوح إلي أقرب مدينة بحثاً عن ضروريات الحياة حتى وصلت طلائعهم إلي معسكرات المويلح، الشيخ أبو زيد على مشارف أم درمان.

مع هذه المجموعات سيبدأ ظهور المنظمات الإسلامية المحلية أولاً، ثم ستتبعها المنظمات العالمية في السودان بشكل كبير، التي لن تغادر السودان بعد ذلك. من هذه المجموعات ستبدا خصائص جديدة فقد هاجروا إلي مدن دولة الفساد والاستبداد المايوية وقد افل نجم دولة التعليم والصحة المجانية، ودخلوا دائرة فقر متشابكة لن يفلتوا منها لاهم ولا ابنائهم. هذه سنوات بداية إستراتيجيات محاربة الفقر لانها عمت القارة الافريقية بسوء ادارة إقتصادها، الفساد الكبير، حروبها وكوارثها الطبيعية والجفاف الطويل.

عندما خرجت جماهير ضاق صبرها بالضنك، الظلم وفقدان الامن الإجتماعي يوم 26 ابريل 1985، ضم كل الوان الطيف من بقايا القوي الحديثة: القانونيين، الأطباء، الصيادلة، المهندسين. مع هؤلاء ظهر لاول مرة مشردي المدن، جائعي الاطراف ومهاجري الهوامش، ما اطلق عليهم الشماشة. الاعوام التي تلت لم تشهد سوي محاولات بطيئة في حل المشاكل العالقة من دستور دائم، حل مشكلة الهوية والتفاوت الجهوي والمناطقي، مثلت تلك الفترة في أحسن حالاتها، إستراحة شعب أهلكه الغلاء، الفقر والتهميش.

الموجة الرابعة من الفقراء، كدسها نظام الإنقاذ طوال أكثر من عقدين. هذه الموجة تكونت من مدقعي الفقر – قدر عددهم 3-4 ملايين- الذي يعرفون بأنهم يعيشون باقل من دولار واحد في اليوم، دفعت بهم الحرب المهلكة في الجنوب والشرق في عقد التسعينات حتى منتصف الالفية الثانية (أحمد يونس: خبراء يشككون في نصائح صندوق النقد للسودان، http://www.alrakoba.net/news-action-show-id-70662.htm

النوع الأخير في هذه الموجة هم ضحايا حرب دارفور والذين تشردوا من قراهم الآمنة من واقع القمع القاسي تدمير المنشآت، الاعتداءات والاغتصابات. الذين قتلوا تقدرهم الجهات المحايدة بحوالي 300- 400 الف والباقون تشتتوا في أكثر من 100 معسكر ووصلت اعدادهم لملايين عديدة. تبعهم بعد قليل نازحي جبال النوبة والنيل الازرق. لقد افلحت الإنقاذ في أن تقيم افضل نظام، واكفأ عملية لتوليد الفقر والعجز والاخفاق، وانتجت البلاد البترول الذي نجح في وضع أكثر من 50% من السكان تحت خط الفقر (اقل من دولار في اليوم) و40% على عتبة الفقر (دولارين في اليوم).



#عمرو_محمد_عباس_محجوب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إزالة الفقر: السودان نموذجاً (1-8) مداخل أولية
- الدولتيه: المصلحة الدائمة ام المباديء الدائمة
- اليمن: درب الآلام والاحلام
- الاصلاح الديني: تجارب دول الرؤية (4-4)
- الاصلاح الديني: الحركات الصوفية (3-4)
- الاصلاح الديني: تيارات الاصلاح (2-4)
- الاصلاح الديني: المصطلح والمفاهيم (1-4)
- الرؤية الاستراتيحية (7-7) أليات التوصل لرؤية
- الرؤية الاستراتيحية (6-7) الكفاءات الأساسية
- الرؤية الاستراتيحية (5-7) تجارب محاربة الفقر
- الرؤية الاستراتيحية (4-7) تجارب وضع الدستور
- الرؤية الاستراتيحية (3-7) تجارب عربية ودولية
- نداء تونس: ابدعي في التوافق
- الرؤية الاستراتيحية (2-7) ما قبل الرؤية
- الرؤية الاستراتيحية (1-7): مفاهيم منهجية
- اليمن وداعاً........اليمن أهلاً
- من إرادة الثورة إلى إدارة الثورة (4) دروس الثورات
- من إرادة الثورة إلى إدارة الثورة (3) مطالب الثورات
- من إرادة الثورة إلى إدارة الثورة (2) صناعة الثورات
- من إرادة الثورة إلى إدارة الثورة (1) الطريق إلى ثورات الربيع ...


المزيد.....




- بوتين يؤدي اليمين لولاية خامسة في حكم روسيا: لا نرفض الحوار ...
- لافروف يؤكد مع نظيره السعودي ضرورة توحيد الجهود لحل الصراعات ...
- 1.5 ألف جندي ومدرعات غربية ومستودعات وقود.. الدفاع الروسية ت ...
- وسائل إعلام: -حزب الله- أطلق 6 مسيرات مفخخة من لبنان باتجاه ...
- يوم عالمي بلا حمية غذائية.. شهادات لأعوام في جحيم الهواجس ال ...
- ماذا نعرف عن -رفح-- المعبر والمدينة؟
- وزيرة الخارجية الألمانية تضيع ركلة ترجيح أمام فيجي
- -جدار الموت-.. اقتراح مثير لسلامة رواد القمر
- لحظة دخول بوتين إلى قصر الكرملين الكبير لأداء اليمن الدستوري ...
- معارك حسمت الحرب الوطنية العظمى


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عمرو محمد عباس محجوب - إزالة الفقر: السودان نموذجاً (2-8) المشهد الإقتصادي – الإجتماعي