أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد خيري الحيدر - أنتظار ...... قصة من خيال بلاد ما بين النهرين القديمة















المزيد.....

أنتظار ...... قصة من خيال بلاد ما بين النهرين القديمة


حامد خيري الحيدر

الحوار المتمدن-العدد: 4730 - 2015 / 2 / 24 - 22:10
المحور: الادب والفن
    


برتابةٍ ونسق كان تلاطم مويجات النهر على ضفته، مُشعراً كل من يتأمل تلك الحركة الديناميكية المتواصلة من أخذ ورد بالنعاس، مذكّرة من يرنو بتمعن لتتابعها بغرائب الحياة ونقائضها، من تدفق وأقبال أحياناً جالبة معها شيئاً من الخير وبعضاً من نفحات الامل، أو انحسار وأدبار في أخر تاركة خلفها همومها وآلامها وهباء زبَدها..... وضعت رأسها بين راحتيها منتظرة قدومه المعتاد في هذا الوقت، حيث بلغ انعكاس وهج الشمس على صفحة المياه الواسعة أشده، بعد أن غدت واهبة النور شديدة الاحمرار محاولة أرسال كل ما تبقى لديها من ضياء قبل أن تغادر يومها الطويل.... يا ترى هل سيأتي أم سينفذ هذه المرة رغبته القديمة بالسفر؟ أصبح الرحيل هاجسه وحلمه رغم مرارة البعاد عن (أوروك) الحزينة، تلك الجميلة الغافية على دموع الفرات، السابحة مع آهات مظلوميها، الحائرة بأمنياتهم الصغيرة ، الحالمة منذ يومها بمستقبلٍ أخضر جميل..... ليس لنا رجاء في مدينة أمسى الناس فيها عبيداً للمجهول، ليكون قادم أيامهم أحجية لا أحد يعرف كيف ومتى ستحل طلاسمها، كما عمّرت الآلهة (أوروك) هي كذلك شيدت بلاداً ومدناً أخريات يمكن اكمال مسيرة حياتنا المتعثرة فيها..... هكذا كان يقول دوماً مبرراً الهجرة راسماً معها ملامح غد جديد يضم بين ثناياه ولو نزر يسير من انسانية البشر وكرامتهم..... رغم أمنيته التي طرّزها اليأس، كانت هي تحيا عالم وردي بعيد، لا يوجد ألا في مخيلة الملائكة، حيث الأمل ومثالية أحلامه هو ما تملك أفكارها الغضة البريئة، فأقسمت على التشبث بمدينتها حتى آخر رمق من حياتها، جاعلة منها قدراً أبدياً ارتضت احتمال جراحه، لتصّبر ثورته وعنف غضبه محاولة ثنيه عما تسرب الى قلبه من بؤس تلكم الأمنيات وهمومها.... لن يكون رحيلنا عن (أوروك) سوى جبناً وهروباً.. مدينتنا لم تكن يوماً مجرد نسمة عذبة أستنشقنا برودتها لنطلق زفرة وجعها عند قسوة محنتها، كانت أماً رؤوماً أستظل الجميع بعطفها، هي اليوم بحاجة لأبنائها، لحبهم لها وتشبثهم بها، هذا من سيعيد جمال (أوروك) ويرجع لها بسمتها الغائبة..... ليعود للقياها عند موعدهم الذي الفته ساعة الغروب وشاعريتها، طارداً تلك الفكرة العبثية عن حشايا مخيلته.. محتضناً اياها.. أنها (أوروك) أيتها الحبيبة، كيف أترك الفاتنة التي جُبّلنا على الهيام بها منذ أن أبصرت عيوننا زرقة السماء، وكتبت مصائرنا دوامة الأيام، رغم آلامها وآلام أهلها ستبقى هي الملاذ والعشق الذي لن ينتهي..... لقد تأخر اليوم عن موعده.. لعل طارئاً ما قد أخره، لكنه حتماً سيأتي، محال أن لا يأتي..... مع أخذ الشمس طريقها نحو الأفول اشتدت بالضد حركة الريح لتزيد معها قسوة تلاطم المويجات، جاعلة القصيبات الهيفاوات الطوال الناطرات عند النهر يتراقصن برشاقة ودلال ذات اليمين وذات اليسار على أنغام معزوفة أخاذة متناسقة، موزعة أدواتها بين نقيق الضفادع وبطبطة طيور الماء وطنين البعوض، لكنها رغم ذلك أبت ان تبارح منبتها، متحدية غضب الطبيعة وقسوتها منذ أن جعلت ارتشاف مياه الفرات عنواناً لحياتها، مكونة من ثباتها والتصاقها ببعضها مصّداً للريح وحصناً منيعاً لأعشاش الطيور.... تأملت الفراخ الجائعة الخائفة، وقد سارعت الام لتلفها بجناحيها الحنونين..... ماذا سيحدث لو احتضننا الوطن كحال تلك الصغار؟ هل يكون حلماً، أم أمنية فارغة ملؤها البطر، أم معجزة لا تحدث الا في الأساطير وحكايا العجائز، أن يحتمي الناس بسقف أوطانهم ينعمون بخير عطائها؟ بعد أن كنت قصيدة للحب ومنبعاً أبدياً للحياة، ها قد غدوت في هذا الزمن القبيح عنواناً صارخاً للموت ورمزاً أدهماً للبُغض والحقد.. ماذا جرى ليغدر الدهر بدنياك فينقلب حالك هكذا يا (أوروك) ليصبح الجميع ينفرون منك لاعنين لأيامك؟ تذكرت ما كان يقوله حين تتسلل غيمة الاغتراب لنجوى حديثهما وعتاب قلبيهما.... لتذهب الغربة الى الجحيم، أنها ليست سوى نعش كبير منقوش بالذهب.. تذل الهجير وتغتال عصافير أحلامه.. رغم جمال زخارفها ولمعان الوانها الزاهية تراها تمتص دماء كل طريد هائم مُتعب يبحث له في هذا العالم الفسيح عن بيت دافئ يريح فيه أقدامه المتهالكة..... منذ أن عشقت عيونها دربه عرفت عدم حبه للسفر، كره الغربة دون أن يحيا أيامها وقبل أن تمزق عذاباتها أمنياته..... ليتركها مع دوامة حيرتها بعد عودة تلك الرغبة الكريهة اليه من جديد، وقد أشتد به الغضب أثر اكتوائه بلسعة من نار معاناته.. هذا هو لقائنا الأخير.. لم أعد أحتمل العيش في هذه الارض، لم يعد لنا مفر من الرحيل بعد أن أصبحنا أغراب في (أوروك).. أي وطن هذا الذي غدا الناس فيه مجرد ذئاب تلتهم كل ما تصل اليه أنيابها.. ما هذه البلاد الذي نعيش كل يوم هواجس مأساتها، حتى نست افواهنا كلمة الأمان وعيوننا بسمات الأطفال، لنصبح عبيداً مسجونين بين أسوار خوفها.. هل ظل شيء من هذه الارض بعد أن فاضت فيها الدماء لتطغي حتى على مياه الفرات.. ماذا تبقى منها وقد تحول الاحرار الى رقيقٍ لأكاذيب الكهنة وريائهم، مأسورين بقيد خرافاتهم، مرتهنين لخزعبلاتهم ودجلهم وفتاويهم التي لم تجلب للناس سوى الهموم والكراهية..... الوقت يمر.. لقد تأخر كثيراً عن الموعد.. الدقائق تمضي متسارعات.. قلق بدأ ينتابها.. حيرة تملكت أوصالها.. رمت بصرها الى جريان الماء الذي لا يتوقف كحال الزمن، مصغية لخريره الساحر، سارحة بخيالها، محاولة شغل تفكيرها بشيء آخر يبعد عنها مخاوف الظنون..... من أين جئت أيها النهر، من هو وطنك.. ألا تشعر بشيء من الحنين اليه؟ هل ظلمت انت الآخر في أرض ميلادك، لترحل عنها مانحاً خيرك لأغراب لا تعرفهم بعد يأسك من أرواء تربة جحود لم تتمسك بك فجعلتك تفّر من بين سواقيها؟ تنبهت من سرحانها.. سمعت خلفها حركة خفيفة معلنة قدوم أحد ما.. ابتسمت وأغمضت عينيها التي يملأهما الشوق، لتبدد من مخيلتها تلك الاوهام والافكار.... لقد أتى، لم يطاوعه قلبه على ترك (أوروك)، كانت أحاديثه تلك مجرد زفرة الم وثورة غضب وحقد على واقع مُر ليس ألا... لقد جاء اليها أخيراً ليكتبا معاً ملحمة حبهما الجميل.. اقتربت الحركة منها أكثر، لتتسع معها ابتسامتها شيئاً فشيئاً، مواصلة أقفال عينيها التي تحب دوماً ان تفتحهما للقياه.. لمسها صاحب الحركة مع صوت خافت حزين أشبه بالأنين.. التفتت اليه فاتحة بهدوء جفنيها.... لم يكن سوى جرو صغير يبحث هنا وهناك عما يمكن ان يملئ به جوفه.. انتظرها قليلاً هازاً لها ذيله عسى أن تتصدق بشيء عليه.. بعد يأسه من كرمها غادرها باحثاً عن مبتغاه في مكان آخر... تتبعت غيابه بين الاحراش... تنهدت بصوت مسموع بعد موت ابتسامتها، ثم التفتت الى ما تبقى من الشمس وهي ترسل آخر خيوط أشعتها قبل أن يُكمل ابتلاعها الافق، معلنة للعالم لحظة الفراق، راسمة ببقايا الوانها لوحة حزينة عنوانها الرحيل.



#حامد_خيري_الحيدر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خطوات نحو قدر مجهول ...... قصة من خيال بلاد ما بين النهرين ا ...
- أول ثورة شعبية عرفها التاريخ
- نظرة على الأفكار الدينية القديمة
- أحلامُ غرفة الدرس ...... قصة من خيال بلاد ما بين النهرين الق ...
- ذكرى اللقاء
- عُقدة تدعى الوطن
- نظرة على تطور النظم السياسية في العراق القديم
- القيثارة العتيقة ...... قصة من خيال بلاد ما بين النهرين القد ...
- سرقة آثارنا ... نزيف متى يتوقف؟
- منبع الحضارات القديمة
- أرض السنابل ...... قصة من خيال بلاد ما بين النهرين القديمة
- سفرٌ نحو السَحَر
- ما هكذا تمنيتم العراق يا أبا حازم
- الطاغية وخراب بابل
- حكاية تحفة أثرية نادرة
- أحداق وسكين ...... قصة من خيال بلاد ما بين النهرين القديمة
- رحيل الآثاري العراقي برهان شاكر


المزيد.....




- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد خيري الحيدر - أنتظار ...... قصة من خيال بلاد ما بين النهرين القديمة