أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد خيري الحيدر - أرض السنابل ...... قصة من خيال بلاد ما بين النهرين القديمة














المزيد.....

أرض السنابل ...... قصة من خيال بلاد ما بين النهرين القديمة


حامد خيري الحيدر

الحوار المتمدن-العدد: 4699 - 2015 / 1 / 24 - 12:49
المحور: الادب والفن
    


مثل حمامة حانية انحنت على الجسد المُسجى الملفوف بالقماش العتيق، محاطة ببكاء النسوة وصراخهن الذي ملأ فناء البيت، وبأيادٍ نحيلة مرتجفة كشفت عن وجهه... أنه هو، أجل أنه هو، أخيراً تراه بعد كل تلك السنين.. لم يتغير منه شيء سوى لونه الأبيض الباهت الذي يوحي ببراءة الموتى وخلو أياديهم من نفايات الدنيا.. ها هو أخيراً يعود اليها منذ أن فارقها يوماً ليمتطي ريح الجنوب.. (أنا راحل يا أماه... سألتحق بسرب النسور الحالمة بالحرية)... هكذا قالها بهدوء ثم رحل... لازالت تذكر بريق عينيه الممتلئين بالتحدي وحب سومر.. لم يترك خلفه سوى نظراتٍ وحسراتٍ لأمٍ حزينة أودعت روحها لكف الأقدار مع رشقة ماءٍ نثرتها وراء دربه الطويل، ودقات قلب سريعة لحبيبة خائفة منحت حبيبها لمخالب المجهول..... أمسكت براحتيها ذلك الوجه الذي لم يفقد بريق شبابه رغم قسوة الموت، راحت تتأمله بعينيها المُبيضتين.. (أحقاً أنه نفس الطفل البريء الذي كان يلهو يوماً مثل فراشات الحقول وعصافير الربيع؟).. برفق أخذت تهزه كمن تحاول ايقاظه من نوم عميق كما اعتادت دوماً أن تفعل، لتتفتح عيناه على نور الصباح ووجه أمه الذي اختطت عليه الأيام تجاعيداً عميقة أصبحت سواقياً لجريان الدموع على مدى طول الصبر والفراق... (أنهض يا حبيب النجوم... أنهض يا شدة الياسمين وضياء القمر..... ضفة الفرات تناديك.. موسيقى سومر تحّن لصوتك العذب.. حبيبتك الجميلة تنطرك لتزف اليك).. لم يرد عليها سوى السكون.. ثم تحول هز جسده الى حركة هستيرية بعيدة عن الشعور.. دون جدوى.. الصمت هو الصمت، الموت هو الموت، صلباً، قاسياً، قاضٍ غير عادل.. كلمته واحدة وحكمه واحد، لا يعرف محبة أو حنين...... (من يموت من أجل سومر يصبح حبة قمح، تغدو سنبلة تزهو بها الأرض القاحلة). هكذا أجابت سؤاله بعد قدوم أبيه محمولاً على أجنحة النوارس.. حينها لم تذرف دمعة واحدة رغم قلبها الدامي بهول الفاجعة... رددت ذات الكلام مع عودة أخيها عائماً على أشعة الشمس... ليبادرها ببراءة قلوب الأطفال (ستمتلئ الأرض بحبات القمح... فمتى نرى السنابل؟).... (أجل متى نرى تلك السنابل؟).. ها هي اليوم بعد أن أكتمل لديها ذلك الثالوث الأليم تعيد نفس السؤال الصعب الذي لم يعد أحداً في سومر يمتلك الاجابة عليه.
سار موكب الموت بطيئا رتيباً بين طرقات المدينة المتهاوية حاملاً حزمة قصبٍ احتضنت جسداً كان يوماً ينبض حياتاً وأملاً بسعادة شعب سومر، يدور حوله العويل بتناغم موسيقي غريب ينم عن تعود واحترافية، مصحوباً بلطم الصدور ونثر التراب على الرؤوس، باتجاه أرض كئيبة غدت متخومة من كثرة ابتلاع أجساد البشر مع مرور الأيام و سيول الجنائز.... تلاصقت شواهد القبور مع بعضها لضيق المكان لتغدو غابة من غابات الجحيم، وتشابهت حتى لم يعد يُستدل على قاطنيها.. انتشرت النسوة المكللات بالسواد بين تلك الحفر اللعينة التي سلب ظلام قعرها الأحبة ورفاق الدرب، باكيات صارخات يندبن راحليهن، يرافق بعضهن كهَنة متزلفون، بلحايا طويلة يقتادون من الافتاء بمواعظ الموت والحياة..... ورويداً رويداً أنزل أبن سومر الى تلك الهوة السحيقة التي ليس لها قرار، ثم بهدوء أهالت عليه الأكف قبضات التراب، لتغلق أمامه نافذة الحياة الى الأبد..... تبعثر المُشيعون، واحداً تلو الآخر دون مبالاة بعد أن سلموا من جمعهم الى شياطين الموت ليكملوا دورة حياتهم وانتظار مصائرهم، غير مكترثين بأمٍ ثكلى أرتمت على تلك البقعة التي سرقت منها وحيدها وكل ما جنته من متاع هذه الدنيا، محتضنة اياها لا تريد مفارقة من كان يوماً قطعة من أحشائها.
لم تدري كم مضى عليها من الوقت، لعلها كانت ميتة هي الأخرى.. ربما كانت في رحلة لعالم الموت، لتطمئن على من فارقها في سفرته الأبدية، أو في محاولة يائسة أخيرة منها لأطلاق أموات سومر من محشرهم الخانق، كما سعت قبلها عشتار.... مع غروب الشمس، وبعد أن يأست من استرجاع روحها الثانية، تركت القبر بأيادٍ وثياب مُعفرة، سارت متثاقلة مبتعدة عنه شيئاً فشيئاً ملتفته اليه مع كل خطوة تبعدها عنه، غدت وحيدة بعد أن خلى موطن الموتى من رواده، ألا من مُغني مَنسي ضيعه فراق الراحلين وغدر الزمان ظل جالساً عند أحد الشواهد.. غير عابئ بقدوم عتمة الليل التي أخذت تزحف بهدوء نحو القبور لتبتلعها الواحد تلو الآخر.. محتضناً بحنو قيثاراً قديماً، تداعب أنامله برفق أوتاره المهترئة، راح يردد بصوتٍ خافت مبحوح مخافة أن يزعج أولئك المُتلحفين بالثرى أغنية قديمة لم يتبقى بين ثنايا ذاكرته سواها....
كًلكًامش لم يزل هائماً .. حائراً
يسعى وراء حلم بعيد يدعى الخلود
متى يعود الشريد .. متى يعود
شعبه مقهور اثخنته الجراح
يبحث عن شعاعٍ في ظلمة هذا الوجود
متى يعود له الأمل .. متى يعود
سومر زنبقة غضة بيضاء
اغتصبتها حراب الجنود
متى يعود ربيعها .. متى يعود
سمعت تلك الكلمات مع هروب آخر شعيراتٍ للضوء، ثم نظرت بذهول بعد أن استعادت شيئاً من وعيها الى الأرض المزروعة بحبات القمح والممتدة نحو الأفق كأنها تراها لأول مرة، ابتلعت شهقة عميقة، ثم أطلقت صرخة مدوية مزقت السكون (أما ارتويت دماً يا أرض سومر؟).



#حامد_خيري_الحيدر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سفرٌ نحو السَحَر
- ما هكذا تمنيتم العراق يا أبا حازم
- الطاغية وخراب بابل
- حكاية تحفة أثرية نادرة
- أحداق وسكين ...... قصة من خيال بلاد ما بين النهرين القديمة
- رحيل الآثاري العراقي برهان شاكر


المزيد.....




- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد خيري الحيدر - أرض السنابل ...... قصة من خيال بلاد ما بين النهرين القديمة