أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سلامة كيلة - العلمانية كمطلب واقعي















المزيد.....


العلمانية كمطلب واقعي


سلامة كيلة

الحوار المتمدن-العدد: 1293 - 2005 / 8 / 21 - 12:09
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


لخّص الصديق ياسين الحاج صالح نقاط الخلاف بيننا في ثلاثة، هي: مفهوم العلمانية، الإخوان المسلمون و السلطة و السياسة، و الثقة. لكن سيبدو لي أن النقاش يحتاج إلى التطرُّق إلى زوايا أساسية أخرى، منها ما يتعلّق بما هو منهجي و هو جانب يفيد في فهم نقاط الخلاف بشكلٍ أوضح، و ربما يسهّل فهم نقاط الخلاف بدقّة أعلى. و لهذا فإن النقاش سوف يطال نقاط أخرى، رغم أنه سوف يتناول تلك النقاط الثلاثة.
فيما هو منهجي:
وفق الطريقة التي يعالج بها الصديق ياسين مسألة العلمانية، فإن الديمقراطية تصبح إشكالية كذلك. فمادام الغياب الواقعي لمسألة العلمانية يفرض تحوّلها إلى دعوة أيديولوجية متضخّمة، كذلك الحال فيما يتعلّق بالديمقراطية حيث أن التضخّم الذي نلمسه في طرحها، و تحويلها إلى دعوة أيديولوجية هو نتاج غيابها الواقعي، فهل نشطب الديمقراطية كذلك؟
و إذا كان الصديق ياسين قد إستند إلى ماركس في القول بأن الفلسفة تزول كفلسفة حينما تتحقّق في الواقع و تتضخّم حينما يخذلها، ليصل إلى التأكيد بأن جدل العلمانية مماثل، فإنه يمكن القول بأن جدل الديمقراطية مماثل كذلك، و جدل المسألة القومية أيضاً، و كل مسألة لم تتحقّق في الواقع و يفترضها الواقع ذاته. بمعنى أن الحضور " الذاتي " للفلسفة ( وفق ماركس )، أو للعلمانية و الديمقراطية و المسألة القومية، ينتفي حينما تتحقّق في الواقع، و مثال المسألة القومية في أوروبا واضح هنا، حيث إنتفت حالما تحقّقت الوحدة القومية. و هذا يعيدنا إلى " المثال "، الذي حاول الصديق ياسين ثلمه في عنوان رده ( الحوار المتمدن، العدد 1282 تاريخ 10/8/2005 )، عبر وضعه في مواجهة " العالم الإجتماعي "، حيث أن عنوان الرد هو: علمانية في العالم الإجتماعي أم في عالم المثل؟ و هو يوحي بأن ما يقدّمه هو تحليل " مادي "، مقابل تحليلي الذي سيكون مثالياُ بالتأكيد.
هذا التضاد بين العالم الإجتماعي و عالم المثل موجود كذلك في قسمه العلمانية إلى دعوة أيديولوجية و عملية موضوعية، و بالتالي وضعهما في تضاد، مشيراً إلى أن العلمانية تتضخّم كدعوة أيديولوجية قدر ما تضمر كعملية موضوعية،مؤكّداً على أن تضخّمها ذاك يعني رفع مبدأ فصل الدين عن الدولة إلى مرتبة " مبدأ مقدّس ". و هو ما يُطلق عليه العلمانوية، و يؤشّر إلى أن ردّي السابق هو مثال على ذلك.
قبل أن أناقش مسألة العلمانية، أشير هنا إلى جانب منهجي أري أن الصديق ياسين لا يلتفت إليه ( و ربما يكون ذلك من حقّه )، يتمثّل في طبيعة العلاقة بين العالم الواقعي ( أو كما يسميه: العالم الإجتماعي )، و عالم المُثُل، أو بين الموضوعي و الذاتي. فلاشكّ في أن العلمانية دعوة " أيديولوجية " مثلها مثل الديمقراطية و الحداثة و التحرُّر و الوحدة القومية، و كثير من " المثل " التي باتت تُطرح كبرامج بديلة للواقع القائم. و بالتالي فهي تتأسّس على واقع معاكس بالضرورة، و إلا لما كان من حاجة لأن تصبح مُثُلاً. بمعنى أن التطوّر الواقعي يفترض تجاوز الواقع كما هو إلى واقع جديد تكون هذه " المُثُل " هي " المتخيّل " لما يجب أن يكونه ذاك الواقع الجديد. من هذا المنطلق سـ " تتضخّم " الدعوة لها كلما كان الواقع معانداً، و ستنتفي ( كما الفلسفة لدى ماركس ) حالما تتحقّق في الواقع. لكنّ معاندة الواقع لا تقود إلى تجاوز هذه المُثُل و القبول بما هو " واقعي " ( أي القبول بالأمر الواقع )، فهذه عملية صراع إجتماعي سياسي، ما يتحقّق منها هو نتاج ميزان قوى الصراع في لحظة محدّدة، لهذا تحقّقت " العلمانية الملتبسة " مع إنتصار الأحزاب القومية العربية، و لم تنتصر العلمانية، لكن ذلك لم يقلّل من أهمية نضال مفكّري عصر النهضة من أجل العلمانية ( و الديمقراطية و الوحدة القومية و التصنيع )، على العكس فإن هذا النضال هو الذي فرض في الواقع هذا المستوى من العلمانية. و بالتالي فإن النضال من جديد من أجل العلمانية يصبح ضرورة من أجل فرض علمانية كاملة. و هذا ما دفعني إلى الخوض في نقاش مسألة العلمانية، و إقتناعي بضرورة طرحها و تأسيس تيار علماني ديمقراطي، خصوصاً بعد عودة الأيديولوجيا الدينية إلى موقع الهجوم و ميلها إلى فرض نظام ديني يقوم على تطبيق الشريعة.
في هذا الإطار يبدو أن ياسين لا يعتبر بأن الذات هي جزء من الموضوع ( و هذا هو الجانب المنهجي الإشكالي )، لهذا يطرح مسألة تحقُّق العلمانية في صيغة مبهمة و عفوية، أي و كأنها تتحقّق وحدها دون مجهود البشر. يقول ياسين بأن العلمانية كعملية موضوعية ( و هي التي يدعو إليها و يتمسّك بها ) هي " مستقلة عن ثقافة المجتمعات و أديانها و الأيديولوجيات السائدة فيها و الأحزاب الحاكمة، و مرتبطة بالمقابل بالحداثة و مفاعيلها – النازعة للسحر عن وجه العالم، حسب ماكس فيبر -، و نزوعها إلى التخصّص و إستقلال كل ميدان من ميادين الخبرة البشرية بمنطق خاص و معايير أداء ذاتية ". بينما يشير إلى أن العلمانية كدعوة أيديولوجية يحملها تيار خاص. إذن، ليس للبشر دور في تحقُّق العلمانية، بل أن الحداثة و مفاعيلها هي التي ستجلب العلمانية. لكن كيف تتحقّق الحداثة؟ فهذا ما لا يجيب عليه الصديق ياسين، و بالتالي تحوّلت الحداثة إلى صيغة مجرّدة من جهة، و تتحقّق عفوياً من جهة أخرى، و في سياقها تتحقّق العلمانية. لكن هل نقول الشيء ذاته فيما يتعلّق بالديمقراطية التي هي أيضاً نتاج الحداثة؟
هنا سيكون الرابط بين الذات و الموضوع ليس ضرورياً، و بالتالي ليس من حاجة إلى التأكيد على العلمانية كهدف، و أن التمسّك بهذا الهدف يعني تحويل العلمانية إلى دعوة أيديولوجية، و تقديسها بعيداً عن العالم الواقعي، الأمر الذي يشوّش على مسار الحداثة، و يبرز نزعات " تعصّب " لدى تيار خاص.
العلمانية، مثل الديمقراطية و الوحدة القومية و التحرُّر.... ألخ، هي برنامج الحداثة الذي تحمله فئة محدّدة ( إجتماعية ثقافية )، و تسعى لتحقيقه. و هو لن يصبح عملية موضوعية دون ذلك، لأن ما هو موضوعي يتضمّن بالضرورة ما هو ذاتي، حيث سيبدو فِعل البشر مهماً في التاريخ ( و في العالم الإجتماعي ). و بالتالي فإن العلمانية كما كل الأهداف الأخرى، هي " أيديولوجيا " ( و هنا أُدخل المعنى الذي أقصده، و الذي يعطي للأيديولوجيا قيمة إيجابية. أي أنها رؤية مصالح فئات إجتماعية و تصوّر تحقيقها )، و أن ذلك هو الذي يجعلها جزءاً من العملية الموضوعية و يربطها بالصراعات الإجتماعية. حيث أن وعي البشر لمصالحهم هو جزء من فِعلهم الواقعي. لكن تحقّق العلمانية يرتبط بميزان القوى الإجتماعي، و هل يمكن لبرنامج الحداثة هذا أن يُحمل على مصالح طبقات إجتماعية قادرة على فرضه؟
عن العلمانية:
لكن ما صدمني هو تعريف الصديق ياسين للعلمانية، حيث بدا أنه يشتقّها من العلم، و بالتالي ساواها بالعلمية، و ربطها بزاوية النظر التي تفصل بين العقيدة الذاتية و متطلبات الواقع، أي زاوية النظر التي تعزل التحيّزات الأيديولوجية عن مجال البحث في الواقع، و هو ما يُسمّى عادة النظرة العلمية. و تحديده للعلمانية كعملية موضوعية المشار إليه أعلاه يؤكّد ذلك، خصوصاً حينما يستشهد بماكس فيبر، و بالتالي فهو يتناول الحداثة من زاوية الوعي، أي الوعي الحداثي، و ليس من زاوية المشروع المجتمعي، لهذا فهي نازعة للسحر عن وجه العالم. و هو من هذه الزاوية يعتبر ذاته علمانياً.
و إذا كان إشتقاق العلمانية قد رُبط بالعلم لدى بعض الكتّاب، و بالتالي إرتبط بزاوية النظر، فإن العلمانية كما نشأت في أوروبا، و كما تُطرح الآن، هي تلك التي تُشتقّ من العالم، و التي تعني نقل التشريع و إدارة المجتمعات من السماء إلى الأرض، ليكون الشعب هو مصدر التشريع و السلطات. و هذا الإنتقال فرض التخلّي عن تشريع مقدّس مسبق الوجود. الأمر الذي عنى فصل الدين عن السياسة و عن الدولة. و هذا هدف سياسيّ و ليس عقيدة كما يعتقد الصديق ياسين. لهذا هو مرتبط بالديمقراطية، لأن الديمقراطية تبدأ من أن الشعب هو مصدر السلطات و مصدر التشريع، و بالتالي تنفي حُكماً " المصدر الإلهي "، و تقوم على ما يقرِّره البشر فيما بينهم.
من هنا يكون الفصل بين الدين و الدولة جزءاً من المبدأ الديمقراطي، لأنه تمظهر تحويل مصدر التشريع من السماء إلى الأرض. لهذا فإن دفاعي عن العلمانية هو من صميم دفاعي عن الديمقراطية. و بالتالي فالعلمانية ليست عقيدة، كما الديمقراطية كذلك ( التي يمكن أن أشير إلى أنها تحوّلت إلى عقيدة لدى قطاع من طارحيها، و ربما ذلك يطال بعض طارحي العلمانية كذلك )، بل هي هدف واقعي، يفرضه السعي لتحقيق التطوّر المجتمعي: الإقتصادي، الإجتماعي، و السياسي، الذي يُسمّى مشروع الحداثة ( أو مشروع النهضة ). و هو من هذه الزاوية متصادم مع الحركة الأصولية حُكماً. كان منذ بدء عصر النهضة، و كان نشوء حركة الإخوان المسلمين كحركة مضادة لمشروع الحداثة الذي كان يتسرّب و يتّخذ أشكالاً سياسية. و هذا أمر طبيعي لأن الأصولية تدعو إلى العودة إلى السلف الصالح، و تسعى لفرض أيديولوجيا صيغت في عصر قديم، و حيث كانت ترتبط بمصدر إلهي. و حيث أن الحداثة تبدأ من فصم هذه العلاقة بالتحديد. و كل أهمية فكر عصر النهضة الأوروبية تكمن في إعادة الأمور للعقل البشري و التشريع للشعب.
و هنا، لا أفرض " عقيدتي " على الواقع ( كما يشير ياسين )، بل أطرح ما يفرضه الواقع منذ عصر النهضة العربي، بتأثير عصر النهضة الأوروبي، لكن أيضاً بتأثير التطوّر الواقعي الذي فرضته الرأسمالية الأوروبية على كل العالم. حيث أصبح الإنتقال إلى مجتمع مدنيٍّ حديث و صناعي ضرورة حاسمة، و لم يعُد ممكناً إستمرار التكوينات القديمة ( الزراعية ) إلا كملحق بالرأسمالية المنتصرة، و بالتالي لم يعُد ممكناً تحقيق المساواة و التكافؤ في عالم تسيطر عليه الرأسمالية إلا بتحقيق ذاك الإنتقال إلى المجتمع المدني الصناعي الحديث. و إذا كان " التفكير العلمي " ( و هو الأمر الذي يشير إليه ياسين تحت مُسمّى العلمانية ) أساسيٌّ هنا، فإن العلمانية بما هي فصلٌ للدين عن الدولة أساسية كذلك في إطار صياغة النظام السياسي الذي يسمح بتحقيق الحداثة.
و هذا لن يتحقّق إلا في سياق مشروع تحمله أحزاب و طبقات، في إطار الصراع الإجتماعي القائم. و بالتالي فهو سابق لتحديد " اللحظة الراهنة " و ضرورة التكتيك ( رغم أن ياسين لم يستسغ هذا التعبير )، أو ضرورة السياسة ( كما يحبّ الصديق ياسين ). فـ " السياسة " لا تلغي الرؤية و الأهداف ( التي يبدو أن الصديق ياسين يُطلق عليها تعبير: العقيدة )، على العكس فهي تستدعيها. و لاشكّ هنا أن معنى السياسة يحتاج إلى نقاش، لكنني سوف أؤجّل ذلك إلى وقت لاحق.
إذن، النظرة العلمية تحتاج إلى تطوّر تاريخي، لكن العلمانية هي هدف راهن، و يتعلّق بالنظام السياسي، و هو ملازم للديمقراطية، و إلا ( كما أشرت سابقاً ) سوف تنشأ " ديمقراطية الطوائف ".
العلمانية و الشيوعية:
يكرِّر الصديق ياسين نقد شيوعية القرن العشرين بالجملة، كما بالعموميات. و يبدو لي أنه لم يدرسها بل إنطلق مما كانه هو. و لهذا يجانبه الصواب في الغالب، و فيما يتعلّق بموضوعنا بالتحديد، و أقصد العلمانية. حيث يبدو أنه يكرِّر ما كانت تقوله الحركة الأصولية فيما يتعلّق بموقف الشيوعيين من الدين، أو يستعيد ما كان موجوداً في الإتحاد السوفييتي، و لا يقول ما كانت تطرحه الحركة الشيوعية فعلاً. فهو يتّهمها بالدعوة إلى الإلحاد، و حيث كانت العلمانية توحي بالنسبة لها، كما الديمقراطية، بالإصلاحية و الميوعة البرجوازية، و أن برنامجها الثوري كان " محو الدين ". و يؤكّد أن ميلها إلى العلمانية كان في ثمانينات القرن العشرين حين تحوّلت موازين القوى، لشعورها بالضعف.
و إذا كان التعميم في الحكم على شيوعية القرن العشرين ( و هذا تعبير محبّب لياسين )، و القائمة على المذهب الماركسي اللينيني، يشكّل خلطاً بين إتّجاهات متعدِّدة، فإن الحكم بأنها كانت تنشر الإلحاد يشكّل خطيئة، و هو يجانب الحقيقة، و يوحي بتقصّد ما ( ربما تصفية حساب مع الذات ). و إذا لم تكن العلمانية واضحة في برامج الحركة الشيوعية، فقد نتج ذلك عن رؤية مشابهة لما يطرحه الصديق ياسين، أي السياسة . و هذا التيار لم يُعرف عنه أنه كان ينشر الإلحاد. كما أن بعض التيارات الماركسية إنبنت رؤيتها على الدعوة إلى الديمقراطية و العلمانية ( ياسين الحافظ مثلاً )، قبل تغيّر ميزان القوى. و حين كانت تتصادم هذه التيارات مع الإخوان المسلمين، كان السبب السياسي هو أساس الصراع و ليس الدين، حيث شكّلت الحركة الأصولية التيار المضاد لكل قوى التطوّر و الحداثة.
و لهذا آمل من الصديق ياسين أن يدقّق في المواقف قبل إلقاء التهم، و أن لا يعتبر أنه " مكتشف البارود " بما يطرح، لأنه يمكن تأصيل ذلك من خلال دراسة " شيوعية القرن العشرين " العربية، و سيلحظ بأن المنطق الذي يحكم توجهاته كان يُطرح في السابق، و كان أساس الخلل الذي عانت منه الحركة الشيوعية العربية ( و منها السورية حكماً )، حيث لم تكن العقيدة أو الأيديولوجيا هما مَنْ كان يحكمها، بل البراغماتية العملية هي التي حكمت توجهاتها.
و ياسين يضعني ضمن تيار الماركسية اللينينية رغم أنني من الرافضين لشيوعية القرن العشرين، و من الذين دعوا إلى تجاوزها. لكن يبدو أن كل ماركسي هو ضمن هذا التيار رغماً عنه، هل أقول أن الصديق ياسين وقع " تحت وطأة البارانويا العقيدية " كما إتهمني؟ أظنّ أن التعميم خاطئ، و أن الحكم دون العودة إلى الوثائق أكثر خطأً، و أن " التقييم الإجمالي " مسيء. يمكن للمرء أن يتجاوز قناعاته، لكن يجب أن يكون موضوعياً في تناول تاريخ التيار الذي كان ينتمي إليه، و خصوصاً إذا تحوّل إلى الديمقراطية، التي تفترض أن يعترف بالآخر، لا أن يشطب تاريخاً بأكمله، و خصوصاً أيضاً أن الصديق ياسين يدعو إلى فصل العقيدة عن متطلبات الواقع.
الماركسيون بحاجة إلى المراجعة ككل التيارات الأخرى، لكن ليس المطلوب أن يتخلّوا عن تصوّراتهم لكي يُعترف بأنهم أصبحوا جديرين بالحوار. لكل تيار تصوّرات خاصة به ليس من الممكن أن يتخلّى عنها، و مثلما لم يتخلَّ الإخوان المسلمون عن معتقداتهم ( رغم البرنامج الديمقراطي الذي يطرحونه )، فإن من حق الماركسي و العلماني أن يطرح معتقداته، و أن يدافع عنها. و عبر ذلك يمكن نسج الحوارات و التحالفات، رغم أنه ليس بالضرورة أن تلتقي كل التيارات دائماً.
هذا يُدخلنا في الواقع السوري، حيث يُطرح الواقع الراهن، و حيث تنطرح مسألة العلمانية في مقابل الحوار مع الإخوان المسلمين، و حيث يكون الهدف هو تجاوز أزمة الثقة الوطنية.
الظرف السوري:
لاشكّ في أننا نختلف في توصيف الواقع السوري، و بالتالي في آليات التعامل معه. حيث أنني لمست أن الصديق ياسين ينطلق مما يمكن أن أسمّيه: تناحر الأطراف السياسية، الذي بلغ أوجه في ثمانينات القرن العشرين، و الذي أسّس لأزمة الثقة الوطنية كما يسمّيها. الأمر الذي جعله ينطلق من ضرورة تجاوز أزمة الثقة و الوصول إلى الثقة الوطنية. مؤكّداً على أن ذلك وحده هو الذي يزيل نظام الحزب الواحد، و يمنع السلطة من الإفادة من تناقضات الأطراف التي تشكّل الطيف الديمقراطي.
هذا المنطق يحوّل الصراع إلى محض ممارسة " تقنية "، حيث يصبح السؤال هو: كيف نعالج مشكلة وجود حزب سياسي محظور؟ و كيف نؤسِّس الثقة بين الأطراف المختلفة؟ و كيف نبحث عن حلول تفاوضية، حيث التفاوض و الحوار هما " منطق السياسة الحديثة "؟ و في هذا السياق تُطرح مسألة التدرُّب على الحوار و التعارف و خلق مناخات الثقة و الإلفة و تشجيع تشكيل تيارات سياسية و فكرية معتدلة، و البحث عن حلول تفاوضية. و إنطلاقاً من ذلك تعود " الحدّية " ( أي التخيير بين حدِّين )، حيث تصاغ المسألة على شكل: إما " فتح الباب لسياسة القتل و الإستئصال " أو التفاوض و بناء الثقة، عبر التسويات و الحلول الوسط؟ بمعنى أن ليس للصراع إلا شكل واحد هو القتل و الإستئصال، و بالتالي فإن تجاوز ذلك يفرض حتماً التسويات و الحلول الوسط عبر التفاوض. لكن التفاوض على ماذا؟ و هل بالضرورة يجب أن نصل إلى حلول وسط؟ مثلاً ما هو الوسط بين فصل الدين عن الدولة و تأكيد أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي، أو حتى مصدر من مصادر التشريع؟ أن نلغي فصل الدين عن الدولة يفرض حتماً إعتبار الشريعة مصدر رئيسي. و كيف نوفّق بين قانون للأحوال الشخصية مدني، و بين تطبيق الشريعة في هذا المجال؟
أظن أن هنالك فرق بين تأكيد حق التواجد لطرف معيّن، و مسألة التفاوض و الحوار معه، و هذا لا يفترض الثقة بل يفترض تكريس آليات ديمقراطية، فالديمقراطية هي آليات تنظيم العلاقة بين مختلفين و متناقضين كذلك. و هذا ما جعل مطلب الديمقراطية يحظى بأهمية و أولوية. لكن تحقيق الديمقراطية يفترض، ليس الثقة الوطنية، بل الصراع الإجتماعي. الأمر الذي ينقل رؤية الواقع السوري من مستوى سياسي ( يتعلّق بالقوى المتطاحنة، و بضرورة إنهاء نظام الحزب الواحد، و بالتالي بخلق الثقة بين القوى )، إلى مستوى مجتمعي يتعلّق بأزمة الإقتصاد و رؤى حلّها، و الفقر و البطالة، و التطوير الإقتصادي، و التعليم و الصحة ...... ألخ، حيث لن تتحقّق الديمقراطية إلا في هذا السياق، أي عبر نهوض الحركة المجتمعية، و بالتالي خارج " منطق السياسة الحديثة " الذي يقول به الصديق ياسين، دون أن يعني ذلك القتل و الإستئصال.
الأمر الذي يجعل إعادة بناء التيارات السياسية الفكرية هو الضروري، لكن في إطار الصراع الإجتماعي من أجل تأسيس قوى إجتماعية حقيقية. خصوصاً و أن تحقيق الديمقراطية يتلازم مع الصراع الإجتماعي ذاته. لهذا فإن إعادة صياغة العمل السياسي في الوضع الجديد الذي لم يتجاوز الإستبداد بعد ( و بالتالي المسألة هنا لا تتعلّق بمعالجة وضع حزب محظور فقط )، هو الأمر الضروري ، و الذي يفرض توضيح الأفكار و الرؤى، و ليس تلخيصها في مستوى واحد.
و بالتالي فإذا كان توصيف الأزمة مختلف عليه بيننا، فإن آليات معالجتها مختلفة كذلك، رغم التوافق على أهمية الديمقراطية التي يحدّدها الصديق ياسين بـ " سيادة القانون و إنفصال السلطات و دستور يكفل تعدّد الأحزاب و تداول السلطة عبر إنتخابات دورية حرّة، و تمثيل الحاكمين للمحكومين، و كفالة الحقوق و الحريات الأساسية ". و الخلاف هنا يتحدّد في كيفية تحقيق ذلك.
هنا نصل إلى جماعة الإخوان المسلمين. أشير أوّلاً إلى أنني لست ضد الحوار، و ليس لديّ أي ميل عنفيّ تجاهها، و أعتبر أنها قوّة موجودة في الواقع، و أدعم حلّ المشكلة الإنسانية التي نتجت عن صراع بداية الثمانينات، و أطالب بإلغاء القانون 49 كذلك. و لكن أعتقد أن هناك مفاصل أساسية في رؤية الإخوان تحتاج إلى نقد حقيقي، و لقد أشرت إليها في ردّي السابق، و ألخّصها أوّلاً في تضاد تشكيلها مع مبدأ المواطنة، حيث تقوم على رؤية للبشر سابق على عصر الحداثة و التشكيل المدني، يؤسّس للتمييز الديني و الطائفي، و هنا أشير للتشكيل ذاته بغض النظر عن ما يمكن أن يقول أيٍّ من أعضائه. و ثانياً الميل لفرض الشريعة دستوراً، و رغم أن الجماعة قدّمت برنامجاً ديمقراطياً إلا أنه يستند إلى الشريعة دون مواربة، و هذا يعيد تشكيل المجتمع على ما نسعى للتخلّص منه، أي التمييز بين المواطنين على أساس ديني أو طائفي. و لهذا فهي تقوم على الضد من الميل الحداثي، و من التطوّر الضروري في عصر الرأسمالية، لأنها تستعيد أيديولوجيا ماضوية و تضعها في مواجهة كل الأيديولوجيات الحديثة ( القومية و الديمقراطية و الإشتراكية ). و كان دورها التاريخي منذ أنشأ حسن البنّا الجماعة يصبّ في هذا السياق. الأمر الذي يجعل المسألة تتحدّد في تناقض برنامج الحداثة و الأصولية، في إطار الصراع مع السلطة القائمة.
هل تستطيع الجماعة تجاوز هذا التاريخ؟ يفترض ذلك عدم إدّعاء تمثيل المسلمين، و بالتالي تجاوز الإسم، كما يفترض تجاوز الإستناد إلى الشريعة و بالتالي تسييس الدين، و إن ظلّت موصولة مع الحضارة الإسلامية بشكل أو بآخر. و بالتالي تقبُّل الديمقراطية ليس كحق إنتخابي فقط ، بل كحق فردي كذلك يبدأ من حقّ المواطنة، الأمر الذي يفرض إقرار حقوق المرأة أيضاً. حيث أن هذه الأمور هي التي لا تقود إلى وضع الشورى مقابل الديمقراطية، و لا تسمح بالتمييز بين المواطنين، و لا تلزم الدولة و السياسة بإستخدام الدين.
هل أضع شروطاً على حزب أعتبر أن له قوّة ما، كما أشار الصديق ياسين؟ لم أدخل في مساومة مع هذا الحزب لكي أضع شروطاً، و لا أرى للمساومة أية ضرورة. بل أحاول توصيف المشكلة من جهة، و تقديم تصوّر حداثي ( و لا أقول ماركسي أو إشتراكي، لأن الواقع يفترض التطوّر و بالتالي الحداثة، دون أن أتخلّى عن تصوّري الماركسي ) هو حُكماً يقوم على الضد من الحركة الأصولية من جهة أخرى، لكي يكون ممكناً تأسيس تيار ديمقراطي علماني يساري يقدّم بدائله و يخوض الصراع الإجتماعي على أساسها.
ألخّص هنا، إن الصديق ياسين حينما ينطلق من اللحظة الراهنة ( أو من الواقع كما يبدو في مشهده السياسي )، ليصل إلى ضرورة بناء الثقة الوطنية بين أطراف الطيف الديمقراطي، من أجل إنهاء نظام الحزب الواحد، يبدو و كأنه يشطب كل الرؤى و الأهداف لدى التيارات الأخرى لإنجاح هذه الخطوة، رغم أن جماعة الإخوان المسلمين طرحت تصوّرها " العقيدي " في إطار مشروعها لسوريا المستقبل. و لقد شنّ هجوماً على هدف العلمانية و المنادين به، رافضاً أن يكون هدفاً واقعياً، من أجل أن تتحقّق الثقة، رغم أن الجماعة لم تتخلَّ عن الشريعة كمصدر لرؤيتها و بالتالي للتشريع. وهو بذلك يكرّس ضياع و دمار القوى الديمقراطية و اليسارية، في الوقت الذي نحتاج فيه لإعادة صياغة تصوّراتها. و لهذا كانت المعادلة المطروحة هي أن نتخلّى عن أهدافنا و نتمترس خلف الديمقراطية فقط لكي نسمح ببناء الثقة .
و هو هنا ( و ليسمح لي ) لازال شيوعياً أصيلاً، لأن هذا المنطق هو أسّ مشكلة شيوعية القرن العشرين ( و ليس العقيدية فقط ، بل أن العقيدية هي الغطاء لذلك ). و بالتالي فإن " منطق السياسة الحديثة " التي يقول بها، هو منطق تلك الشيوعية منذ أن ضاعت الرؤى و طغت البراغماتية العملية، لتصبح النظرية ( العقيدة ) هي مجال تبرير " الخطوة العملية "، و ليست مجال إيضاح الواقع و مبتدأ فهمه.



#سلامة_كيلة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حين تتجرّد الديمقراطية من علمانيتها
- اليسار السوري في ميله الليبرالي
- مناقشة - مشروع بيان غير شيوعي
- منطق الإستبداد لحظة القرار الأميركي بالتغيير في سوريا
- الماركسية و أفق البديل الإشتراكي: الماركسية في أزمة؟
- مأزق اليسار الديمقراطي و إشكالية الإشتراكية الديمقراطية
- دافوس البحر الميّت
- سياسة أميركا
- ورقة عن الحرب الإمبريالية الصهيونية في المنطقة العربية
- الحركة القومية العربية: تجربة نصف قرن
- مسار الخصخصة في سوريا
- عودة الى الطبقة العاملة
- الحركات الشعبية و دور أميركا
- التغيير التائه بين الداخل و الخارج
- ديمقراطية الطوائف
- أميركا و الأصولية
- منزلقات الأصولية
- الإصلاح ليس ضرورة
- الى الأستاذ حسقيل قوجمان
- نداء إلى كل الماركسيين في الوطن العربي


المزيد.....




- ضغوط أميركية لتغيير نظام جنوب أفريقيا… فما مصير الدعوى في ال ...
- الشرطة الإسرائيلية تفرق متظاهرين عند معبر -إيرز- شمال غزة يط ...
- وزير الخارجية البولندي: كالينينغراد هي -طراد صواريخ روسي غير ...
- “الفراخ والبيض بكام النهاردة؟” .. أسعار بورصة الدواجن اليوم ...
- مصدر التهديد بحرب شاملة: سياسة إسرائيل الإجرامية وإفلاتها من ...
- م.م.ن.ص// تصريح بنشوة الفرح
- م.م.ن.ص// طبول الحرب العالمية تتصاعد، امريكا تزيد الزيت في ...
- ضد تصعيد القمع، وتضامناً مع فلسطين، دعونا نقف معاً الآن!
- التضامن مع الشعب الفلسطيني، وضد التطبيع بالمغرب
- شاهد.. مبادرة طبية لمعالجة الفقراء في جنوب غرب إيران


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سلامة كيلة - العلمانية كمطلب واقعي