حميد طولست
الحوار المتمدن-العدد: 4550 - 2014 / 8 / 21 - 20:28
المحور:
المجتمع المدني
تمر في حياة الإنسان الكثير من المواقف المدهشة ، التي تفضح كم هو غامض ، وكم هو متردد في مشاعره وأخلاقياته المقرونة بأفعال وأحداث ذات شحنات عاطفية عالية ، تتخذ أحيانا كثيرة ، مسارات منحرفة ، ، تتسبب في ولادة سلوكيات وتفاعلات سلبية تقوده إلى متاهات وتداعيات قاسية معادية لسلامته وسلامة مجتمعه وأمنه وأمانه .
من مدة ذهب بونوارة ولم يعد من رحلته الأخيرة التي واراه أحبته فيها ثرى المقبرة الباردة ، وعادوا مسرعين كالعشاق إلى محطة "لاكار" التي ألف معهم الطواف في حواشيها بقامته الفارهة الممدودة ، وهامته المفرودة التي تتنفس عشقاً لأزقتها الضيقة المغبرة ، رغم الإستصلاحات ، والتي إنقطع عنها حس خطواته التي طالما درعت شوارعها والدروب المحيطة بها التي لم تعد تسمع وقع "جرجرة" حذائه الذي مل الثقوب ..
عاد الجميع إلى محطة "لاكار" ليستعيدوا بها طاقة مشاعرهم احبيسة في مرافيء الأحزان ، وليلمموا أطياف وجدانهم ، ويتملكوا نواصي أحاسيسهم ، ولينشغل في رحاب فضاءاتها - رغم الضيق المنبعث منها - حتى المعتدون والمتهورون والمجازفون ، كل بهمومه اليومية ، فهذا يبيع شبكة الكلمات المتقاطعة ، وذاك يبيع المناديل الورقية "كلينيكس" ، وثالث يبيع الأذكار والأدعية الدينية ، ورابع يحرس السيارات ، وآخر يحجز مقاعد سيارات الأجرة للمسافرين السياح منهم والمقيمين العائدين إلى حر مدينتهم ، وتلك كوكبة ماسحي الأحدية وقد حمل كل منهم صندوقه ، مترنما بأنغام طرقات فرشاة المسح ، محدثين سافنونية أزلية تجذب الزبائن ، وهذا تاجر الهندية يدفع "كروسته" ، متبوعا بكروسات أخريات صفت على بعضها ، من غير تنسيق ولا جمالية ، خضر وعلى بعضها الآخر فواكه صيفية ، والقائمة طويلة وتطول وتطول بمن طوحت بهم المهن الترقيعية إلى فضاء محطة "لاكار" ، المستفحلة في مراسي النسيان ، التي أنستهم جميعا وأسلتهم عن التفكير في اربعينية زميلهم بونورة ، الذي لازالون يتشوقون لرائحة دخان سجائره المحترقة على "طيراس" مقهى قاسم ، رغم أنهم يبدون في خضم ضجيج معارك الحياة المملة ، وجلبة طاحونة الزمان الروتينية الدائرة على ركح محطة "لاكار" ، وكأنهم غير مهتمين به ، أو غير مشدودين أو مشدوهين بتاريخه ولا يشغلهم مصيره الذي صار معلوما ومكشوفا وبات الحقيقة الوحيدة التي يأملون محو ضغوطها النفسية التي تواجه مسيرة حياتهم اليومية..
فنم قرير العين يا بونورة وحسبك ما تركت من أثر يأبى أن يفارق الذاكرة المتخمة بالكثير من المواقف المحفوضة في ذاكرة زملاء التسكع في شوارع ودروب "لاكار" بكافة التفاصيلها الصغيرة التي تحتويها الأرصفة التي سرت وإياهم عليها ..
وعزاؤك امتيازات الجنة ذات القطوف الدانية ، وانهار الخمر والعسل الجارية من تحتها ، والحوريات اللائي لم تنعم بهن في دنيا محطة "لاكار" الفانية ، جزاء على ما اذخر عند ربك وما قدمت يداك ..
حميد طولست [email protected]
#حميد_طولست (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟