أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ماجد الحيدر - صور ومؤثرات مسيحية في أدب أبي نؤاس















المزيد.....


صور ومؤثرات مسيحية في أدب أبي نؤاس


ماجد الحيدر
شاعر وقاص ومترجم

(Majid Alhydar)


الحوار المتمدن-العدد: 4030 - 2013 / 3 / 13 - 08:15
المحور: الادب والفن
    



(خلاصة للبحث المقدم في الحلقة الدراسية حول دور السريان في الثقافة العراقية – عينكاوا-أربيل في 22 تشرين الثاني 2012)


تهدف هذه الورقة الموجزة الى بيان وتحليل الصور والمؤثرات المسيحية في شعر أبي نؤاس الحسن بن هانئ المتوفى سنة (814) ميلادية.

ولقد عمدت الى تقسيم بحثي المتواضع هذا الى أربعة فصول قصار أوجزها فيما يأتي:

أولاً:نظرة موجزة على العصر العباسي الأول:
ومعروف أن عصر أبي نؤاس وهو العصر العباسي الأول قد شهد توطيد أسس الدولة الجديدة وانتقال مركزها الى العراق وبناء عاصمتها العتيدة في موضع تلك القرية المسيحية الغافية على شاطئ دجلة. وكان ذلك العصر، بحق، عصراً ديناميكياً خلاقاً شهد النتائج التوطيد النهائي للفتح العربي للشرق الأوسط وما نتج عنه من تكوين دولة كبرى قوية، مترامية الأطراف، متعددة القوميات والأعراق.جمعت طيفا واسعا من التيارات والمذاهب والميول الدينية والسياسية والفسلفية والعرقية والطبقات الاجتماعية التي تعايشت بشكل سلمي تارة وبشكل عنيف تارات أخرى.
بدأ هذا العصر بمجزرة كبرى أقامها الخلفاء الجدد من بني العباس لأبناء عمومتهم الأبعدين بني أمية، وشهد مجازر أقاموها لأبناء عمومتهم الأقربين العلويين حلفاء الأمس الذين كانوا يطمحون الى تصدر الحكم بعد القضاء على الدولة الأموية وما لبث العباسيون أن أخمدوا ثوراتهم وحركاتهم بقسوة من جاء ليبقى. وانتهى بعد مائة عام تقريبا بمجزرة أقامها المتوكل المتزمت الأصولي للفلسفة الناهضة والعقل الجدلي ممثلاً بالمعتزلة وللتسامح الديني والمذهبي الذي انتعش في عهد عمه المأمون وأبيه المعتصم وأخيه الواثق!
لم تهنأ الدولة الجديدة بفترات سلام طويلة فكان المناوشات مع البيزنطيين تخف ثم تستعر وكانت الثورات الداخلية والحروب الأهلية تتفجر هنا وهناك لا على تخوم الدولة البعيدة وحسب بل في قلبها نفسه، في البصرة، في الحجاز، في أهوار الجنوب العصية، ثم في بغداد التي شهدت الفصل الأخير من معركة الأخوين الشرسة من أجل تاج الملك.
كانت الأموال والثروات والعبيد وأسرى الحروب والجواري تتدفق جميعاً على العاصمة الجديدة حتى تحدثت كتب التاريخ عن أرقام فلكية من الدنانير المكدسة في خزائن الخلفاء والقواد والوزراء ومن لف لفهم من رجال الطبقة الحاكمة الجديدة، بينما قبعت الأغلبية المحكومة (بضمنها العدد الأكبر من الفلاحين وصغار المزارعين والكسبة والعمال وجلهم أو أكثرهم من أهل البلاد الأصليين) في قاع السلم الطبقي كما يحدث على مدى التاريخ.
لكن ما اتفق عليه أغلب المؤرخين من كون هذا العصر هو العصر الذهبي الذي لم يتكرر في التاريخ العربي والعراقي على الرغم من هذا المشهد السياسي والاجتماعي العاصف يضع علامات استفهام جادة أمام الرأي القائل بأن الاستقرار السياسي شرط لازدهار الحركة الفكرية أو الأدبية أو العمرانية.
فقد شهد هذا العصر على الصعيد العلمي انفتاحاً غير مسبوق على العلوم بمختلف فروعها، ولم يعد العلم يقتصر على رواية الأخبار والأشعار وحفظ القرآن وتفسيره وما يتعلق به بل تعدى الأمر الى وضع الأسس المكينة لعلوم العربية فظهرت المدارس النحوية وأولى المعاجم اللغوية وكتب العروض وفقه اللغة واستقر الإملاء العربي على صورته الحالية وانتعشت حركة كبرى لجمع الحديث وتبويبه ووضع قواعده وظهرت أولى الموسوعات الشعرية والتاريخية والفقهية. واعترف بالرياضيات والهندسة والكيمياء وعلم الحيل (الميكانيك) والفلك والصيدلة والطب والحيوان والنبات وغيرها الكثير كعلومٍ أساسية يحظى أصحابها بالاحترام والتقدير.
وشهد الشعر ثورة في القوالب والأغراض والمضامين حمل لواءها عدد من الشعراء العباقرة المتمردين أمثال بشار وأبي العتاهية وأبي نؤاس، ولم يتوقف التجديد ها هنا على هجر الكلمات الغريبة وعذوبة التركيب ووضوحه واستحداث البديع والاستكثار منه وترك الابتداء بذكر الأطلال الى وصف القصور والخمور والإغراق في المدح والهجاء والإكثار من التشبيه والاستعارة أو الإكثار من النظم في البحور القصيرة أو ابتداع أوزان أخرى أو فنون شعرية جديدة فحسب، لكنه (كما يذهب الزيات) كان واضحا في توليد المعاني الحضرية واقتباس الأفكار الفلسفية وروحية الجدل الفكري والرأي الحر والخيال البديع الناتجة عن التلاقح الحضاري بين الأقوام العديدة التي شكلت الإمبراطورية المزدهرة(1) مثلما شهد النثر وفنونه إنتاجا غزيراً ومتميزا على يد ابن المقفع والجاحظ وغيرهما.
وشهدت البنية التحتية للدولة (على وفق التعبير المعاصر) ثورة مماثلة، إذ فتحت الطرق والأنهار والمستشفيات والحمامات العمومية وتطور البريد وأسس المحاسبة المالية وإدارة الدولة والعلوم الحربية الخ.
أما على الصعيد الفكري فقد شهد هذا العصر أجرأ محاولة لتأسيس فلسفة إسلامية تعتمد على العقل وتنفتح على مؤثرات الفلسفة الإغريقية وروحانية الهند والكم الهائل من التراث المسيحي الشرقي والفارسي، ولقد كان ظهور المدرسة المعتزلية وهيمنتها ثم أفولها العنوان الأعظم في هذه المحاولة الجريئة التي لو كتب لها الاستمرار والتطور لكان للتاريخ مسار آخر وللعقل العربي والإسلامي أن ينجح مثلما حدث في أوربا لاحقا في أن يحقق للفلسفة استقلاليتها الكاملة وفي إحداث قطيعة مع علم اللاهوت وتحقيق الاستقلالية الكاملة للعقل بالقياس الى النقل(2)

ثانياً:نظرة موجزة على تاريخ المسيحية قبيل وبعد الفتح العربي ومكانة المسيحيين (وأهل الذمة بشكل عام) وأوضاعهم الاجتماعية والديموغرافية في ظل الدولة العباسية.

تذهب أغلب المصادر التي بين أيدينا الى أن الوجود المسيحي في العراق يعود الى فترة مبكرة جدا من وجود المسيحية نفسها أي الى القرن الأول الميلادي عندما اندفع المبشرون الأوائل في جبال الرافدين وسهولها ووديانها يبشرون بالدين الجديد ويقيمون الأديرة وبيوت العبادة ولم تمض بضعة قرون حتى كانت مناطق برمتها تدين بالمسيحية يساعدها على ذلك أجواء التسامح الديني التي أتاحتها الدولة الساسانية في بعض مراحلها، مدفوعة أحيانا بحساباتها السياسية المتمثلة بعدائها للدولة الرومانية الوثنية حينا ورغبتها أحيانا أخرى في منح ملاذ آمن للفرق والطوائف المضطهدة الخارجة عن الكنيسة الرسمية لمنافسيهم التقليديين أو المتفرعة عنها (بعد تحول المسيحية الى دينهم الرسمي)، ولهذا لم يكن غريباً أن مناطق من العراق الحالي كانت تعج بالعشرات وربما المئات من الكنائس والأبرشيات والاسقفيات والأديرة والمرجعيات الدينية المسيحية المختلفة مثل الكوفة والنجف وتكريت وأربيل وكركوك ونينوى وحتى بغداد التي يقال أن الاسم القديم لمنطقة الباب الشرقي فيها هو باب كلواذي وهو اسم لقرية كلدانية قديمة مشهورة كانت إحدى القرى التي تأسست على أنقاضها بغداد. (3)
لكن من الملاحظ أن المسيحية ورغم انتشارها الجغرافي وتكاثر المؤمنين بها لم تصل يوماً الى مرتبة الدين الرسمي للدولة في العراق كما حدث في الغرب، حتى قبل مجيء الإسلام، فكان عليها أن ترضى على الدوام بالمرتبة الثانية أو الأقلية المستضعفة التي يتحتم عليها أن تتمتع بدرجة عالية من الحكمة والمرونة والمسالمة وأن تنأى بنفسها (ما أمكنها ذلك) عن الصراعات الأهلية والنزاع على الحكم ناهيك عن إنهم صاروا (بعد تحول الروم والبزنطيين الرسمي الى المسيحية) الى نوع من رعايا دولة أجنبية معادية أو منافسه على أقل تقدير طوال العهدين الساساني والإسلامي مما أدى الى تقديمهم المزيد من التنازلات لنفي هذه النظرة، رغم أن العديد من فرقهم (كما يحدثنا تاريخ الكنيسة الشرقية) قد فرت من قمع الدولة (المسيحية) نفسها والهروب الى من تسميهم تلك الدولة بالأعداء الذين كانوا أرحم منها في بعض الأحيان!
لقد ظل المسيحيون طوال الحكم الساساني وصدر الإسلامي والأموي وشطر كبير من العصر العباسي يشكلون نسبة لا يستهان بها من سكان الحواضر والأرياف في العراق؛ إذ قيل مثلاً أن عدد من دفع الجزية في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب كان 500 ألف إنسان ومعنى هذا أن أهل الذمة بلغوا 500 ألف منهم اليهود. ويدل إحصاء سكان مصر في القرن الثاني الهجري على أنه كان بها خمسة ملايين من القبط يدفعون الجزية وهذا يدل على أنه كان بمصر زهاء خمسة عشر مليونا من المسيحيين الأقباط.(4) كما يذهب بعض الباحثين الى أن في أواخر العهد العباسي سكن بغداد 43000 مسيحي معظمهم من الكلدان وكانت لديهم 56 كنيسة (5)
ولعل أكبر فرق بين الإمبراطورية الإسلامية وبين أوروبا التي كانت كلها على المسيحية في العصور الوسطى (كما يقول آدم متز) هو وجود عدد هائل من أهل الديانات الأخرى بين المسلمين، أي "أهل الذمة" الذين كان وجودهم من أول الأمر حائلاً بين شعوب الإسلام وبين تكوين وحدة سياسية، إذ حال دون ظهور مجتمع متجانس تماماً وجعل المسلمين يشعرون دائما أنهم أجانب منتصرون لا أهل وطن. لكن هذا الأمر كان له جانب إيجابي في ظهور نوع من التسامح الذي لم يكن معروفاً في أوربا العصور الوسطى. وكان أحد نتائج هذا التسامح نشوء علم مقارنة الأديان أي دراسة الملل والنحل والإقبال على هذا العلم بشغف عظيم. (6)
غير أن هذا التسامح غير المعتاد (بمقاييس ذلك العصر لا بمقاييس عصرنا بالطبع) شهد فترات من التزمت والقسوة هدمت فيها الكنائس أو منع ترميمها وفرضت على أهل الديانات الأخرى إجراءات قاسية وتمييزية مثل فرض أزياء معينة أو إجراءات مهينة في الركوب أو ختم رقابهم أو منعهم من التقدم للشهادة أمام القضاء، ناهيك عن تشريعات ظهرت منذ الأيام الأولى لنشأة الدولة الإسلامية مثل التمييز في العقوبات أو دية القتيل(7) أو تحريم زواج الذمي من المسلمة أو معاقبة المسلم المتحول الى ديانة أخرى بالقتل. غير أن الحقيقة تقتضي القول بأن هذه الأمور كانت شيئا معتاداً في أغلب أرجاء العالم في ذلك العصر (والى وقت قريب في أماكن كثيرة) فقد كان قانون الدولة البيزنطية مثلاً يقضي بقتل المسيحي إذا غير دينه(8)


ثالثاً الأديرة والكنائس والأعياد المسيحية

كان العراق ومنذ قرن عديدة سابقة للفتح العربي موطنا للكثير من أماكن العبادة والكنائس والبيَع والأديرة (أو كما سماها المؤلفون بالديارات) وكانت هذه الأديرة بمواقعها المتميزة وعمرانها الجميل وهدوئها وعزلتها وبما يقام فيها من شعائر يومية واحتفالات ومهرجانات وأعياد موسمية عامل جذب كبير لاهتمام جمهور واسع من الناس وبضمنهم عدد كبير من الشعراء والأدباء والمؤرخين وأصحاب السلطة. إذ يقول الشابشتي مثلاً في حديثه عن دير سمالو ببغداد أن "عيد الفصح قيه منظر عجيب. لأنه لا يبقى نصراني إلا حضره وتقرب فيه، ولا أحد من أهل التطرب واللهو من المسلمين إلا قصده للتنزه فيه (9) ولهذا لم يكن من المستغرب أن يعقد العديد من المؤلفين فصولاً أو كتباً كاملة لوصف هذه الديارات وأجواءها ومن زارها أو كتب عنها من مشاهير. ومن أبرز تلك المؤلفات كتاب الديارات لأبي الفرج الأصفهاني 284-362 هجرية الذي يعد مصدراً لكل الكتب اللاحقة في هذا المجال جمع فيه أخبار الأديرة المعروفة في عصره بالعراق والشام وفلسطين والجزيرة العربية وغيرها وحشد فيه أخبار من مرّ فيها من الخلفاء والخلعاء والشعراء والأمراء والظرفاء وضمنه أخبار الأديرة التي كان يرتادها بنفسه. ولم يصلنا من هذا الكتاب إلا أجزاء صغيرة قام بجمعها الأستاذ جليل العطية وصدرت عن دار الريس بلندن عام /1992/م .ثم كتاب الديارات لأبي الحسن علي بن محمد الشابشتي المتوفى عام /388هـ ـ 998م الذي حققه ونشره كوركيس عواد عام 1951 والذي يعتقد بأنه الكتاب الوحيد في الذي وصل الينا بشكل شبه مكتمل في هذا الباب

رابعاً: أبو نؤاس، حياته وأدبه:

في هذه البوتقة الهائلة والبحر المتلاطم من الشعر والأدب والحروب والصراعات الأهلية والخارجية والزهد والتهتك والثراء الفاحش والفقر المدقع والرقة والقسوة وانحسار البداوة لصالح التمدن نشأ أبو نؤاس ونظر منذ صباه الى كل ما حوله وتمثل بعبقريته كل هذا المشهد المعقد القلق. ولقد ظهرت عليه منذ صباه بوادر العبقرية التي صقلتها كثرة الدرس والمطالعة وحضور مجالس العلماء والفقهاء ومصاحبة الفصحاء والشعراء في كل من البصرة والكوفة قبل أن يلمع نجمه في بلاط هارون الرشيد ويصبح بحق أنموذجا مصغراً لثقافة عصره. لذلك كله وجد الباحث ضرورة أن يخصص جانباً من هذه الورقة لحياة شاعرنا ومصادر ثقافته والسمات الأساسية لأدبه.
لقد ولد أبو نؤاس عام 145 للهجرة أي في نفس العام الذي بنى فيه الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر المنصور عاصمة الدولة الجديدة بغداد ومات عام 199 هـ
ولعل أبا نؤاس، كما يلاحظ العقاد، يكاد يكون الشاعر الوحيد الذي يحظى بشعبية كبيرة بين الأميين وأشباه الأميين (ناهيك عن المثقفين) برغم مرور هذه القرون الطوال على رحيله (10)
لا بسبب شعره فحسب بل، ربما بسبب نمط حياته أو ما روته الأخبار والأشعار، صحيحها ومنحولها، شخصيته المتفردة العبثية الساخرة حادة الذكاء التي تخلط الجد بالهزل والحكمة بالتباله، والتي صارت أنموذجا للشخصيات الشبيهة التي تحدثت عنها كتب التاريخ أو الفن المحكي أو الأدب الشعبي أمثال ملا نصر الدين أو جحا أو جامي نديم تيمور. وقد ذكر لي أحد الزملاء أنه دهش خلال زيارة له الى إحدى بلدان آسيا الإسلامية بأن الناس لا يعرفون هذا الرجل، الذي كان من النماذج المتفردة للشخصيات الحقيقية التي دخلت ألف ليلة وليلة، على أنه فقيه وعالم لا شاعر أو أديب!

خامساًً: الصور والمؤثرات المسيحية في أدب أبي نؤاس:

بعد هذه الفصول التمهيدية الضرورية لا بد من مراجعة متأنية لديوان أبي نؤاس وما نسب اليه من شعر أو روي عنه من أخبار لغرض التقاط وإبراز ما ورد فيها من صورٍ ومؤثرات وألفاظ تتعلق بالمسيحية عموماً وبالوجود المسيحي في عصره بالتحديد.
إن أحد الأسباب الرئيسة لكثرة ورود الصور والمؤثرات المسيحية في شعر أبي يعود بالطبع الى عشقه لمجالس الشراب وللخمر المحرم على المسلمين تعاطيها أو التجارة فيها أو تهيئة مستلزماتها وأماكن تناولها مما جعلها مهناً مقصورة على غير المسلمين ما يستدعي بالضرورة كثرة اختلاط أبي نؤاس ومن ذهب مذهبه من شعراء العصر بهم وتأثره بأجوائهم وتقاليدهم وطقوسهم ومعتقداتهم. غير أن عدم اقتصار تلك المجالس على مواطن هؤلاء وانتشارها الكبير في قصور الأثرياء والوزراء وحتى الخلفاء (تتحدث الأخبار عن ملازمة أي نؤاس للأمين في جلسات شرابه الحافلة التي استغلها أخوه المأمون ومستشاروه الإعلاميون خير استغلال في حربهم ضده) وجو الانفتاح الديني وما صاحبه من ازدهار للجدال الديني والفلسفي علاوة على العوامل الشخصية وطبيعة نشأته العقلية والثقافة العالية للشاعر وتبحره في أكثر معارف عصره تشكل في رأيي عوامل أخرى في كثرة هذا التوارد مدار البحث.
ولعل من الملاحظات الدقيقة ما أشار اليه عدد من الباحثين من كون السكر عند أبي نؤاس أقرب الى الطقس الروحي والديني الذي يعلن من خلاله تمرده على مأساته الوجودية وعبث الحياة والى ذلك أشار عدنان الظاهر بقوله:
السكر لأبي نؤاس رهبنة وصلاة وجو قدسي. الحانة مكان الكنيسة وكأس الشراب بدل سراج الصلاة وأبو نؤاس هو الراهب !! إخترع أو أوجد الشاعر لنفسه ديناً خاصاً به، لكأنما كان يقول : أيها الناس ، لكم دينكم وليّ ديني. لكم طقوسكم التي تقدسون ولي طقوسي ومقدساتي (11) .
ويمكن أن نخلص الى تقسيم تلك الصور والمؤثرات والألفاظ في شعره (وهو ما ينطبق على الكثير من شعراء عصره) الى عدة أقسام منها:

1-ما يتعلق بالديانة المسيحية نفسها وما يتعلق بها من مصطلحات دينية ولاهوتية وطقسية.
من ذلك حديثه عن مسير المسيح فوق الماء (12) في قصيدته الخمرية:
لا يصرِفنّكَ عن قصفٍ وإصباءِ
مجموعُ رأيٍ ولا تشتيتُ أهواءِ
حتى يصل الى قوله:
لو كان زُهدكِ في الدنيا كزهدكِ في
وصلي، مشيتِ بلا شكٍّ على الماءِ

2- ما ظهر في شعره من أصداء للجدل الديني والفلسفي المحتدم في حاضرة الخلافة فيما يخص الأديان والمذاهب والعلاقة بينها.
ومن ذلك هذه المقطعة الطريفة التي تكاد تكون قصة طريفة حافلة بالإشارات الدينية إذ يصف فيها مساومة تجري بليل بينه وبين تاجر خمور جشع يعرف قدر بضاعته:
خطبنا إلى الدهقانِ بعضَ بناتهِ
فزوّجنا منهنَّ في خِدرهِ الكبرى
وما زالَ يُغلي مهرَها ويُزيدهُ
إلى أنْ بلغنا منه غايته القصوى
رحيقاً أبوها الماءُ والكَرمُ أُمها
وحاضنها حرُّ الهجيرِ إذا يَحمى
يهوديةُ الأنسابِ مُسلمةُ القُرى
شآميةُ المَغدى عراقيةُ المنشا
مجوسيةٌ قد فارقتْ أهلَ دينها
لبغضتها النارَ التي عندهم تُذكى
رأتْ عندنا ضوءَ السراجِ فراعها
فما سَكَنتْ حتّى أمَرنا بهِ يُطفى .
فهي أي الخمر يهودية نسبة الى مالكها الدهقان لكنها مجوسية (ربما لشبهها بالنور) غادرت المجوسة لأن الخمر تبغض النار بعد نضجها ولهذا فهي ترتاع خوفاً عندما ترى ضوء السراج الذي يحمله مثلما يفعل الرهبان في جنح الليل!

3-ما يتعلق بالديارات والكنائس وقسيسيها ورهبانها وآلاتها وأبنيتها وطبيعتها وطقوسها ومهرجاناتها. ومن ذلك قوله:
حثثنا مغنينا على شُربِ كأسه
فتُدركه كأسٌ وفي كفّه أُخرى
فأمسكَ ما في كفّه بشمالهِ
وأوما إلى الساقي ليَسقيَ باليُمنى
فشبّهتُ كأسيهِ بكفيهِ إذْ بدا
سراجينِ في محرابِ قَسٍّ إذا صلّى

وهو، ككثير من شعراء عصره، كثيراً ما يذكر حنينه وشوقه الى ديارات بعينه، مثل قطرَبُّل بغداد التي يدعو لها بالخير وقد غضب، لسبب ما، من "عانات":
سُقيا للُبنى، ولا شُقيا لعاناتِ
سثيا لقطربُّلٍ ذاتِ اللذاذاتِ (13)

أو هذه الصورة البديعة النابضة بالحياة وهو يصف كؤوس خمر مزخرفة ببديع التصاوير:
مُلسٌ وأمثالُها مُحفّرةٌ
صُوِرَ فيها القسوسُ والصُلُبُ
يتلونَ إنجيلهم وفوقَهمُ
سماءُ خَمرٍ نجومها الحَبَبُ .

وهو في إلماعة عبقرية أخرى يشبه زقاق الخمر (الشاصيات) إذ يتدفق الخمر منها بجمع من المؤمنين الذين يستمعون في خشوع الى الموعظة الكنسية:
يُصغينَ للكؤوسِ راكعاتِ
فهي إذا شُجّت على العِلاّتِ
بباردِ الماءِ من الفراتِ
تخال فيها ألسُنََ الحيّاتِ! (14)

4-ما يتعلق بالحياة الاجتماعية للمسيحيين ومكانتهم ومعاشاتهم ومهنهم.
ومن ذلك ذكره لاستشارة طبية طريفة حول الخمر والكمية التي يستحسن شربها تقدم بها الشاعر الى الطبيب الشهير جبريل الذي بلغ من مكانته أن كلف هو وزميله ميخائيل باختيار الجاثليق النسطوري إذ يقوا أبو نؤاس:
سألتُ أخي أبا عيسى
وجبريلٌ لهُ عقلُ
فقلتُ: الراحُ تعجبني
فقال: كثيرها قتلُ
فقلتُ له: فقدِّر لي
فقال، وقولهٌ فصلُ
رأيتُ طبائعَ الإنسا..
..ن أربعةً، هي الأصلُ
فأربعةٌ لأربعةٍ
لكِ طبيعةٍ رطلُ! (15)

وتكاد قصيدته التي تبدأ بقوله:
وفتيةٍ كمصابيحِ الدُجى غُرَرٍ،
شُمِّ الأنوفِ، من الصِّيدِ المَصاليتِ (16)

تكاد تضم سيرة مختصرة لحياته وعرضاً فنياً نابضاً وموجزاً لآرائه وأفكاره ومغامراته. وهو يصف كيف أنه، برفقة صحبته النبيلة اللاهية المحظوظة الذين أدارت خمر تكريت المعتقة رؤوسهم، يطرقون في فيلق الدجى باب "كافرةٍ شمطاء" تلبس "زي مختشع لله، زميت"، يطلبون دون انتظار الصبح، ضيافتها والتمتع بخمرها الطيبة وجمال ساقيها وسحر صوت مغنيها "الهيتي" السخي، المؤدب، فصيح اللحن، ذي الأنغام المثقفات (أنظر المجاز الجميل). ويمر كالعادة بمدح الخمر ووصف الجنان التي يتقلبون في نعيمها حتى ينتهي الى ذكر الشيب وذمه وندمه على ما فات ودعائه بالعفو والمغفرة!

5-ما يتعلق بأبيات وقصائد الغزل التي قالها في ساكني الديارات والقائمين على شؤون أماكن اللهو والقصف من غير المسلمين.
ومنها هذه الأبيات التي يوظف فيها بعض معتقدات المتغزل به وطقوسه الدينية:
مُزنّرٌ يتمشّى نحو بيعتهِ
إلههُ الإبنُ فيما قالَ والصُلُبُ
يا ليتني القسُ أو مطرانُ بيعتهِ
أو ليتني عنده الإنجيلُ والكتبُ
أو ليتني كنتُ قرباناً يُقرّبه
أو كأسَ خمرتهِ أو ليتني الحَبَبُ .

أو هذه القصيدة الغزلية المزدحمة بالمصطلحات المسيحية:
عَلِقتُ من شِقوتي ومن نَكَدي
مُزنّراً والصليبُ في عُنُقِهْ
أقبلَ يمشي إلى كنيستهِ
فكُدتُ أقضي الحياةَ من فَرَقِهْ
فقلتُ من أنتَ بالمسيحِ وبال
إنجيلِ سطّرتهُ على وَرَقِهْ
وبالصليبِ الذي تُدينُ له ؟
فقالُ بدرُ السماءِ في اٌفُقِهْ
سألتهُ عن محلِ بيعتهِ
فقالَ : في نارهِ وفي حُرَقِهْ.

___
1- أحمد حسن الزيات-تاريخ الأدب العربي-دار نهضة مصر بالقاهرة-بدون سنة طبع-ص251
2- إبراهيم الحريري-النزعة التنويرية في فكر المعتزلة- http://www.elaph.com/Web/opinion/2012/11/771550.html?entry=opinion
3- نزار ملاخا-شذرات مخفية من تاريخ المسيحية في العراق- http://www.kaldaya.net/Articles/Article245_NazarMalakha.html
4- آدم متز-الحضارة الاسلامية في القرن الرابع عشر-ج1- ص84
5- ميخائيل بابو إسحق – تاريخ نصارى العراق – ص 107 – 112
6- آدم متز-مصدر سابق- ص75.
7- تفرد أبو حنيفة بجعل دية الذمي مساوية لدية المسلم، أما عند مالك فدية اليهودي أو النصراني نصف دية المسلم وعند الشافعي ثلثها. أنظر آدم متز، مصدر سابق-ص 87.
8- المصدر السابق-ص76.
9- أبو الحسن الشابشتي-الديارات-حققه كوركيس عواد-دار الرائد العربي-بيروت-الطبعة الثانية-1986-ص14
10- عباس محمود العقاد-أبو نؤاس الحسن بن هانئ-منشورات المكتبة العصرية-صيدا-بيروت-ص10.
11- عدنان الظاهر-الشعراء والأديان الأخرى-الحوار المتمدن- العدد: 897 - 2004 / 7 / 17
12- إنجيل متّى، الإصحاح الرابع عشر، 25
13- ديوانه، طبعة دار صادر،ص 116
14- ديوانه، طبعة دار صادر،ص 115
15- ديوانه، طبعة القاهرة سنة 1898 ص 356
16- ديوانه، طبعة دار صادر،ص 111. الصِيد، الواحد أصيد: الرافع رأسه كبراً. المصاليت، الواحد مصلات: الشجاع.



#ماجد_الحيدر (هاشتاغ)       Majid_Alhydar#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ثلاث قصائد للشاعر الإيراني سيد علي صالحي
- من أقوال صاحب الجلالة الأعور بين العميان-المجموعة الخامسة
- من الشعر السويدي المعاصر - قصيدتان للشاعرة لينا إكدال
- من الشعر الكوردي المعاصر-كل عام مع العشبِ نورق شعر: حسن سليف ...
- من أقوال صاحب الجلالة الأعور بين العميان-المجموعة الرابعة
- أغنية للربيع الجديد
- هكذا أراده الله -شعر: مؤيد طيب
- فرق توقيت - شعر
- من أقوال صاحب الجلالة الأعور بين العميان-المجموعة الثالثة
- من أقوال صاحب السعادة الأعور بين العميان-المجموعة الثانية
- من أقوال صاحب السعادة الأعور بين العميان-المجموعة الأولى
- رحيل - شعر
- شاهدة .. على قبرٍ جندي -متخاذل-
- من دفتري القديم - عموديات
- الى النفس - في معارضة قصيدة ابن سينا
- الألفاظ والمصطلحات المتعلقة بالحاسبات والاتصالات-2013
- بيرسي بيش شيللي - ثلاث قصائد سياسية
- قف للتفتيش - شعر مؤيد طيب - ترجمة ماجد الحيدر
- أيها المصور .. يا مصور الحانة العجوز
- بيرسي بيش شيللي-قناع الفوضى


المزيد.....




- فرصة -تاريخية- لخريجي اللغة العربية في السنغال
- الشريط الإعلاني لجهاز -آيباد برو- يثير سخط الفنانين
- التضحية بالمريض والمعالج لأجل الحبكة.. كيف خذلت السينما الطب ...
- السويد.. سفينة -حنظلة- ترسو في مالمو عشية الاحتجاج على مشارك ...
- تابعها من بيتك بالمجان.. موعد عرض مسلسل المؤسس عثمان الحلقة ...
- ليبيا.. إطلاق فعاليات بنغازي -عاصمة الثقافة الإسلامية- عام 2 ...
- حقق إيرادات عالية… مشاهدة فيلم السرب 2024 كامل بطولة أحمد ال ...
- بالكوفية.. مغن سويدي يتحدى قوانين أشهر مسابقة غناء
- الحكم بالسجن على المخرج الإيراني محمد رسولوف
- نقيب صحفيي مصر: حرية الصحافة هي المخرج من الأزمة التي نعيشها ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ماجد الحيدر - صور ومؤثرات مسيحية في أدب أبي نؤاس