أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - طارق حربي - رمان ياقلعاوي!















المزيد.....



رمان ياقلعاوي!


طارق حربي

الحوار المتمدن-العدد: 3946 - 2012 / 12 / 19 - 10:12
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


* فصل من كتاب (الناصرية .. شخصيات وأمكنة)
تحث الكثير من العوائل العراقية الفقيرة أبناءها على العمل مبكرا، وإيجاد مهنة لضمان مصدر الرزق في المستقبل، ممارسة العمل في مهنة الآباء خاصة : نجار أو حداد أو ميكانيك سيارات أو في حانوت أو غيرها، ومن كان تنبلا ينام حتى الظهر فتعيّره أمه بالمثل العراقي الشهير (نايم ياشليف الصوف نايم نايم والرجال تحوف!)!

الصوف يرتديه النرويجييون اتقاء البرد القارس ولاأظن أن أحدا يّعير به في الثقافات غير العراقيين؟! ووجدت أن هؤلاء القوم بعد 18 عشر عاما من الإقامة في بلدهم لاجئا، ولغرض تنمية شخصية الطفل، لايختلفون عنا في تعليمه مهنة أو طريقة عدّ النقود، وعادة مايجلس الصغار في أيام العطل على أبواب البيوت، لبيع العابهم القديمة ومعها الكيك والعصائر، تجلس بجانبهم الامهات لتعليمهم عد ماحصلوا عليه من نقود وتوفيرها، ليشعر الولد أو البنت أن لديهم مثل الكبار حساب نقدي وعهدة مالية، تتطور مع الدراسة التي تتكفلها بنوك الدولة فيما بعد.

في الطفولة المبكرة سمعت في الشارع أن العمل (موعيب) لكن العيب هو أن تمد يدك إلى الآخرين، فيكون عارا عليك وعلى عائلتك!، ومن يتحمل كلمة عار في مجتمع الناصرية المغلق بل وحتى العراق كله؟!، ومثل أي طفل نشأت على تعاليم عائلية هي خليط مما يفرضه الدين والعادات والتقاليد ومؤثرات الأم والأب والمعلم والشارع، تعاليم تستمد من الوصايا العشر التي انزلها الله على موسى كما ورد في العهد القديم (في الأصل 600 وصية) روحها، وبينها مثلا لاتسرق لاتقتل لاتغتب أحدا لاتخن لاتشهد زورا ...إلخ، وفيما بعد الخدمة العسكرية المتزمتة وكانت خليطا من التعاليم العثمانية والانكليزية في الإنضباط والطاعة!

ومثل الاطفال النرويجيين ممن يتاجرون بباب البيت، عملت وأنا ابن الخامسة أو السادسة بباب الزقاق بالناصرية في بيع الحلويات (عسلية وبالوته!) فترة قصيرة، تجارة معظم الأطفال في مدينتنا!، وكانت خاسرة في الواقع لأني لم أكن أمنع نفسي من التهام العسلية الممزوجة بالطحين!، وفهمت حينذاك أن العوائل في الناصرية والعراق كانوا يرمون من وراء اختراع هذه المهنة الطفولية، لإشغال الاطفال والإبقاء عليهم جالسين بباب البيت، خوفا عليهم من الدهس بالسيارات أكثر من اهتمامهم بالمردود المادي!

في سن التاسعة تقريبا شمرت عن ذراعيّ وجلست مع خالي محمد لبيع الرمان القلعاوي بباب الزقاق، وكانت أغنية حسين نعمه "رمان ياقلعاوي" في ذلك الوقت ذائعة الصيت (ماي وشكر ريان .. رمان ياقلعاوي .. لذة وطعم يإبن الجنوب .. بحمرتك متغاوي!) وهي من كلمات المرحوم عمي شاعر الأغنية العراقية زامل سعيد الفتاح عاشق الطبيعة، وتشهد له أغانيه الكثيرة حولها بينها ياخوخ يازردالي بصوت منير حسني، التي قال عنها الناقد المرحوم عادل الهاشمي بأنها علامة من علامات الاغنية السبعينية الجيدة، وملحمته حاسبينك بصوت المغني فاضل عواد. وغيرها كثير.

كان الخال جنديا هاربا من الجيش منتصف الستينيات من القرن الماضي، وجدتي (أمه) تخشى عليه من غارات الانضباطية؟!

كان ذلك في عام مقتل الرئيس عبد السلام عارف بسقوط طائرته يوم 13أبريل / نيسان 1966 بين القرنة والبصرة، ومن ثم تولي شقيقه عبد الرحمن عارف مقاليد الحكم بعد تصويت مجلس الوزراء عليه، وحينما مرت المتظاهرون في شارعنا ومن أمام بسطتنا أم الرمان، هتفت معهم وخالي أيضا (طار من البصرة لحم .. طاح بالكرنه فحم!)، وعدا المئات من رجال المنطقة المتحمسين لموت عارف ونهاية حكمه الرجعي، شاهدت في التظاهرة معنا نفس الصبيان والشباب الذين كانوا يهوسون في أيام عاشوراء (علي عيوني علي .. إمامي الأولي .. أول وثاني .. هوالحماني .. والما يحبك ياعلي كواد بالكرخانه!)، لكن لعبد السلام - عدا تآمره مع عبد الناصر ضد الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم - مواقف جيدة مع الاكراد، تبلورت قبل حوالي سنتين من مقتله أي نيسان / أبريل 1964 بالاتفاق مع الزعيم الكردي الملا مصطفى البرزاني، على إنهاء الاقتتال وإعطاء الحقوق الثقافية للشعب الكردي إضافة إلى إسهامهم في الحكم، ورغم أن الانفصاليين في الحركة الكردية رفضوا ذلك، لكن جهود الحكومة استمرت حينذاك بمعزل عما كان يرمي إليه الملا مصطفى!

كان (.......) الإنضباط الأشهر في الناصرية، طويل القامة مهابا ذا نظرات مطيرجية أكثر منها نظرة الإنضباطية المسلكيين!، وطالما تداول المواطنون قصص بطولاته بإلقاء القبض على الفرارية بخطط محكمة ومباغتة، بحيث لايفلت منها في الغالب أحد، إلا من كان يقظا ذا تجارب هروب مريرة من حملات الانضباطية في الأسواق والمحلات والمقاهي الشعبية في الصفاة القريبة من الجمبازية (بائعو الحمام)!، ويبدو أن الفرارية ملّوا من تهديده ووعيده فظفرت به ذات مساء مجموعة منهم ذات في أحد أحياء المدينة، وأوسعوه ضربا قبل أن يقصوا أذنه اليمنى!، وبعد فترة شاهدته يمر في شارعنا وأذنه ملفوفة بالضماد!

قبل منحهم الحكم الذاتي في 11 آذار 1970، كانت حرب الحكومة ضد الاكراد المتحصنين بالجبال شرسة جدا في الستينيات من القرن العشرين، في أجواء الحرب الباردة وكانت أحد اسباب استمرارها وتكبد العرب والاكراد الكثير من الخسائر البشرية والمادية، كانت الناصرية حينذاك تستقبل يوميا أو أسبوعيا الكثير من الجنود القتلى والجرحى، لكن ليس بحجم كارثة قتلى وجرحى الحرب العراقية الايرانية!، وكانت هناك إهزوجة (هوسة) يرددها العراقيون لكثرة ماقتل البيش مركه من الجنود العراقيين (طركاعة اللفت برزان .. بيّس بأهل العمارة!)، ويبدو أن ضحايا الوطن تكثر كلما عين دكتاتور جديد على بئر النفط لتأمينه لصالح الولايات المتحدة وحلفائها في أوربا واليابان!، أضف إلى ذلك تطور الأسلحة نتيجة لتطور العلم والصناعة، والتخطيط والمؤامرات ضد بلدنا لوقوعه في منطقة استراتيجية وغنية بالنفط!، وفي تلك الفترة العصيبة تحت حكم الأخوين عبد السلام وعبد الرحمن عارف، كانت تحاك الأساطير حول قوة الزعيم الكردي الملا مصطفى البرزاني وكاريزميته، البيش مركه والدببة التي تختطف الجنود المكبوتين وتسجنهم في المغاور وتمارس معهم الجنس وغيرها!

خشية من مداهمة غارات مفارز الانضباطية كان خالي وهو يبيع الرمان، يرمي نظراته الصقرية أبعد من شارع صاغة الذهب إلى اليسار، ومعظن الصاغة كانوا من الطائفة المندائية وأشهرهم المرحومان شاهين وحربي، وكان البعض يسالني سواء في المدرسة أم في غير شارعنا : هل أنت ابن حربي الصايغ!؟، وماكنة ثلج المرحوم هادي عجام إلى اليمين، وكان الفرارية (وغالبا مايكونوا مسلحين بسكين يطلق علها اسم الدشنة أو قامة تحت السروال) من أبناء محلتنا والمحلات المجاورة وأصدقاء الخال، بينهم حمدي كريم لاعب منتخب الناصرية ذو الوظيفة المرموقة فيما بعد في الحكومة المحلية وقاسم هندي وعطية الربيطي وعبد شنيشل وكاظم ابو زواغي وغيرهم، وأعتذر لعدم تذكر بقية الأسماء، السكينة والرحمة الأبدية على أرواح من رحل والصحة والعافية لمن بقي منهم، يتجمعون حولنا يشترون الرمان بنوعيه الحامض والحلو، يقشرونه ويأكلونه ويرمون بصرهم هنا وهناك خشية من غارات الإنضباطية، ويتحدثون مع خالي في شؤون الحرب الطويلة، وعدم العودة إلى الخدمة في الجبل نادما (من ندم على هروبه من الجيش ويعود إليه بكفالة مختار المحلة أو شخصية معروفة أو موظف في الحكومة) وكانت جدتي حينذاك تلح عليه بعودة النادمين إلى الخدمة العسكرية في الشمال!

في سن العاشرة تقريبا شاهدت عددا من أبناء الجيران يعملون في بيع الأسكيمو (الآيس كريم) ويسميه البغادّة (لكستك)، يُصنع منه نوعان في الناصرية هما أبو العودة وأبو الطابوكة!، ويُدلل على بيعه في الأحياء السكنية صيفا بواسطة العربة أو (الترمس) واخترت الثاني لسهولة حمله!

يقع بيتنا في محلة السيف جنوبي المدينة مقابل بيت (آية الله) عباس الخويبراوي والد (آية الله) محمد باقر الناصري، وأتذكر أني في صيف 1966 وبينما كنت ألعب في الشارع، إذ أقبل أحد القرويين وسألني عن بيت الشيخ فقلت له ماذا تريد منه فقال (بويه عندي خمس وزكاة أريدن انطي هياهن!)، صحبت القروي إلى البيت الكبير وكان له بابان يطلان على شارعين : الأول على شارعنا وزقاقنا غير بعيد عن دكان صغير يصنع فيه الآيس كريم، والثاني على الحمام الحسيني، دخلت لاول مرة في حياتي إلى غرفة الإستقبال وكانت كبيرة نوعا ما وأثاثها متواضع، وجدت الشيخ نائما متلفلفا بعباءته السوداء فندهته، وأخبرته بماجاء من أجله القروي إلى الناصرية، عدل من جلسته وكانت هذه (أول مرة في حياتي أشاهده وأتكلم معه أيضا) وكان طاعنا في السن، قبل أن ينادي على أحد أولاده، وضع عمامته على رأسه وتطلع في وجهينا القروي وأنا، ومالبثت أن خرجت عائدا إلى اللعب مع أولاد الجيران!

في الشارع بين بيتنا في زقاق أشهر شخصية ظريفة بالناصرية المرحوم كاظم عريبي، وبيت المرحوم شيخ عباس، وفي كل صيف تقريبا، كانت تربض قطعان من الجمال في طريقها إلى البوادي المحيطة بالمدينة سعيا وراء الكلأ والماء، كرنفال حيواني مهيب لاسيارة تمر أو دراجة هوائية، الحادي ينزل من الهودج الملون ويجعل الجمال تبرك بإطلاق أصوات تفهمها، قبل أن يذهب إلى سوق بيع الخضار القريب للتبضع، وسط ذهول سكان الحي وابتسامتهم : الرجال والأولاد يقفون في الأبواب والنساء تتطلعن من راء النوافذ للمشهد المثير، ولا أعلم إن كان البدو خلال مرورهم بالناصرية وجعل قطعانهم تبرك في هذا الشارع بالذات، هل كان احتراما لـ (آية الله) والتبرك به، أم لغرض التسوق وأخذ قسط من الراحة؟!

لايبعد دكان أو مصنع الآيس كريم عن بيتنا أكثر من 100 مترا ويقع مقابل مكينة الثلج، وكنت كلما أمر من أمامه في طريقي لشراء الثلج أرى صاحب المصنع جالسا على كرسي بباب الدكان، وكان يعرف العائلة ويسلم على أبي وأخوالي باحترام، لكن لابد من أن أشمر عن ساعدي في تلك الايام التنافسية مع باقي الأولاد، وأثبت رجولة مبكرة وحسا بالمسؤولية أمام الاهل والاصدقاء وأبيع (الاسكيمو) وقبل ذلك أتذوقه!

كان وجه صاحب العمل المستغل لجهود العمال الصغار نسخة مكررة من وجه الدلال المار ذكره في فصل حي الأرامل والأيتام، ضحى أحد الايام سلمني ترمسا جديدا وأوصاني بالحفاظ عليه، (الترمس) عبارة عن آنية اسطوانية من الحديد يفصل بينها وبين الزجاج الرقيق، حيث يوضع الآيس كريم لحفظه من الذوبان، طبقة سميكة من مادة عازلة، وضعتُ فيه نوعي الآيس كريم المذكورين وانطلقت مشيا على الأقدام إلى محلة الإدارة المحلية، وفي الطريق كنت أصيح (أسكيمو أسكيمو) وكان الأطفال يشترون!، وتعتبر الإدارة حينذاك من المناطق الراقية ويقيم فيها موظفون مرموقون في الحكومة المحلية، إضافة إلى بعض الوجهاء والتجار لكن لاتخلو من بقية طبقات المجتمع، وفيها بيت ابن عمتي المرحوم عبودي سعدون محمد الفتاح وكان موظفا كبيرا في الإدارة المحلية، ثم مديرا لمعمل طابوق الناصرية الذي سأعمل به لاحقا!، وفعلا نفد كل الآيس كريم بعد ظهر ذك اليوم البعيد وبقي الترمس فارغا، لكن فرحتي الطفولية بنجاح أول يوم في العمل لم تتم، فقد جمعت ماحصلت عليه من نقود معدنية وقذفتها في الترمس بقوة ودفعة واحدة!، فإذا هو ينفجر بوجهي انفجارا قويا جفلت منه وخفت، ونظرت إلى جوفه فإذا هو قطع من الزجاج الرقيق المتناثر على ليف المادة العازلة!

ياللخيبة وياللخسران ؟!
بالترمس المحطم ودموع الصبي ذي العشرة أعوام هرعت إلى أمي، باكيا من سوء الحظ الذي مايزال يلازمني حتى اليوم!، وعدت إلى صاحب العمل فنظر إلي شزرا وقال بعدما تفحص جوف الترمس وعنفني : لن تعمل في بيع الاسكيمو بعد اليوم وعلى أبيك أن يدفع تعويضا!، لا أتذكر كم كان التعويض في وقتها دينارا أم دينارين أم أكثر!، تركت الأمر لأخوالي - لغياب أبي في بغداد – للتفاوض، ولاأعلم ماذا حصل بعد ذلك، لكن كراهيتي لذلك الرجل ولكل المستغلين في الناصرية والعراق والعالم ازدادت بعد ذلك اليوم المشؤوم!

ويبقى أشق عمل بعد الحي الصناعي هو في معمل طابوق الناصرية بإدارة المرحوم عبودي، وكنت ابن الثالثة عشرة أي قبل رحيل أبي بثلاث سنوات، وكان علي أن أعمل مثل بقية الأولاد في العطلة المدرسية الصيفية، سلمت عربة يجرها حمار ولم أعرف كيف أربطه إلى العربة الحديدية المسطحة، أو أقوده من لجامه، أو أجعله يستريح بعد عناء وأطعمه وأسقيه وأداري مزاجه!، يتلخص العمل بأن أحمّل العربة الصغيرة الضيقة بصفين من اللّبن (هل كانت عشرينا أم أربعة وعشرين؟!) وأقود الحمار إلى الفرن البعيد نسبيا، عن مكان صناعة اللّبن المكشوف لأشعة الشمس الحارقة، وهنا ينتهي دوري حيث يحمل اللّبن إلى الفرن عمال مهرة لغرض فخره، ولطالما سخر مني العمال القرويون ومن ضعف همتي وحيرتي كلما حرن الحمار في منتصف الطريق!، لكني أضحك قائلا لهم (كلمن وقسمته!)، القرويون بطبيعة الحال أشطر مني فقد عاشوا مع الطبيعة والحيوان وروضوهما لصالحهم، أما ولد (الولاية) من مثلي وعدد من الاقرباء الذين (وظفهم) المرحوم في العطلة، فإن الحمير تتدلل عليهم دائما!

لكن تجربة العمل في المعمل كانت مفيدة فقد كنا نعمل تحت شمس تموز الحارة وكانت اليومية جيدة ومضمونة!

وفي سن الثانية عشرة عملت بالأجرة اليومية في بلدية الناصرية، لحفر خطوط طويلة ووضع أنابيب الماء الصالح للشرب في قرية فرحان شرقيّ المدينة، كان ساعداي النحيلان يقصران عن رفع (القزمة) الثقيلة إلى الأعلى وشق الأرض بضربات قوية!، كما يفعل زملائي العمال القادمون من قرى محافظة ذي قار وكانوا أكبر مني سنا وأقوى بنية، لكني كنت أستريح من عناء الحفر وحرارة الشمس المرتفعة في ظلال أسيجة بيت قريب مبني من القصب، في الواقع كانت بيوت القرية كلها التي يسكنها فقراء بينهم عدد من الأقارب مبنية من القصب، مسحوقون معدمون وأطفالها حفاة ثيابهم رثة ووجوههم بانت عليها علامات العوز والفاقة، وأرجح أن الكثيرين منهم بدأوا العمل في سن مبكرة ولم يذهبوا إلى المدارس في البلاد الغنية بالنفط، ولاأظن أن القرى والمدن الصغيرة في الدول الخليجية النفطية حينذاك، أصابها ماأصاب قرية فرحان وغيرها، من إهمال مواطنيها وتحديث بناها التحتية؟!

وكم كنت أكره جملة سيق إلى الخدمة العسكرية؟!
لا تدلل على أن الجندي العراقي عبارة عن رقم سيحترق في حرب فلسطين أو الجبل أو ضد إيران حسب، بل إن معانيها حيوانية أكثر منها إنسانية!، وإن الأجيال تساق إلى محارق الحروب، سوق الحيوانات بإرادة الحكومات المتعاقبة على حكم العراق وبحسب أجنداتها، وماتفرضه الإرادة الأجنبية عليها، فتنفذ الأوامر مقابل رضاها عنها وبقائها مدة أطول في الحكم! ذهبت إلى الخدمة العسكرية سنة 1976 وأنا ابن (سبع صنايع!)، لكن لم أتعلم أي مهنة في الجيش عدا دورة كيمياوية في معسكر التاجي في شهر كانون الأول / ديسمبر من السنة المذكورة، وأشكر القدر فلولا هذه الدورة التي حفظت حياتي في الخطوط الخلفية لكنت أحد ضحايا الحرب، جندي مشاة أو دروع أو غيرها!

وضعت الحرب العراقية الإيرانية أوزارها في 8/8/1988 ووجدت نفسي بعد تسريحي من الخدمة العسكرية بلا عمل ولا نقود!، أو كما يقول الامريكيون (No money No honey!) أي لانقود ولا حبيبة!، فقد بات معلوما لكل الأجيال ومواليد زماننا وحربنا، وبعد أكثر من 12 سنة في الخدمة، أن لاقيمة للجندي في نظام البعث الإجرامي إلا بعد استشهاده!، لترث عائلته من الحكومة قطعة أرض وسيارة وتقاعدا شهريا!

قبل أن أعمل في الحي الصناعي ميكانيك سيارات (حداد) جربت العمل في بيع الخضروات في السوق لمدة قصيرة، في الواقع لم يمتهن أي من عائلتي أو أقربائي من قبل هذه المهنة، مع أن العمل شرف للإنسان وليس العكس، لكني لم أفهم في بيع الخضروات ولا في حدادة السيارات!، وقلت في نفسي يومذاك حتى لو لم أحصل على أرباح فإني على الاقل أحمل شيئا من الفواكه والخضروات لعائلتي بعد أن أغلق الدكان عصر كل يوم!، سيما وأن الحصار بدأ يشتد أكثر، لاعلى الأغنياء بل على الفقراء والمسحوقين من العراقيين، وكانت معاناتنا في البيت معاناة الملايين منهم، مع قلة مفردات الحصة التموينية، التي تنفد قبل العشرة الأواخر من الشهر، ونجد أنفسنا وجها لوجه أمام شبح الجوع، حيث لاقدرة شرائية لدينا لإبتياع المواد الغذائية بسعر السوق! فنحن إما جنود أو عاطلون عن العمل!

أستيقظ عند الساعة الخامسة فجرا وأجوس في ظلام الشوارع الغافية إلى (علوة) بيع الخضار الواقعة (بين مدينة البكر وحي سومر)، أشتري الطماطة والخيار والبصل والفلفل والرمان القلعاوي، والباذنجان الذي أطلق عليه العراقيون في زمن الحصار (وحش الطاوة)، بعدما أصبح وجبة الطعام الرئيسة، ومع انبلاج خيوط الفجر الأولى أستأجر عربة يجرها حمار عائدا في الشوارع الخالية إلى دكان صغير وسط السوق، كان أخي الاصغر ميثم يساعدني في البيع لا في الذهاب إلى (العلوة)، وكان أبناء الناصرية ممن يعرفوني وعائلتي يعرفونني شاعرا وأحيانا متمردا ويستغربون عملي في سوق بيع الخضروات!، ولطالما كنت أستحي من ذلك وأدخل في أحد زوايا الدكان حتى يمر من يعرفني أو أطلب من ميثم أن يتعامل معه!، لكني أعود إلى بيتنا في حي الأرامل كل مساء حاملا أنواعا مختلفة من الخضروات والفواكه، ولم أحصل على مكسب في البيع ويبدو أني كنت قليل الحيلة في قضايا البيع والشراء ومازلت!

كان يأتي غلى العلوة رجل أمن طويل القامة ذا نظرات عدوانية بغيضة، يمسك بيده سجلا، يهابه الجميع ويمشون وراءه خلال مروره على باعة الجملة لقياس الأوزان، التجار يدفعون له رشاوى اتقاء لشروره ومايمكن أن يحدث لأي فرد منهم، بعد كتابة تقرير إلى اللجنة الاقتصادية في مديرية أمن ذي قار!

بعد فترة قصيرة اقترح علي أحد الاقرباء، ترك العمل في سوق الخضار والعمل في الحي الصناعي، وتوسط المرحوم لدى جيرانه، واستأجر لي ورشة في البلوك الثاني مقابل ورشته حيث يعمل هو وأولاده، (كتبت قطعة كبيرة بباب المحل وبحروف سوداء كبيرة (حِداد) بكسر حرف الحاء؟!) كان الإيجار باهضا (200 دينارا) فاحترت كيف أسدده في نهاية كل شهر، لكنه طمأنني بأن ذلك لايصعب على من يعمل بجد ويكون له زبائن يثقون بعمله، ثم تعهد بتقديم المشورة في مجال ميكانيك السيارات!

كان الحي الصناعي الذي زرته لأول مرة في حياتي في ظهيرة أحد الأيام لتوقيع عقد الإيجار، عبارة عن ورشات متلاصقة في شوارع عريضة، سيارات قديمة مركونة (سكراب)، وحديثة يملكها الضباط والطبقة الراقية ومحدثو النعمة، كذلك البدون (الكويتيون من أصل عراقي) بعد غزو الكويت، زيوت محركات ثقيلة وعمال منهمكون في بتصليح انواع مختلفة من السيارات فوقها وتحتها، محلات بيع قطع الغيار أبيض وأسود، ففيما الحكومة تزود الوكلاء بقطع الغياروإطارات السيارات بسعر مدعوم، يبيعها هؤلاء للزبائن بأضعاف سعرها!، أحد الأدلة الكثيرة على أن الفساد في عراق اليوم ليس وليد مرحلة مابعد الاحتلال الامريكي للعراق حسب، بل امتداد للفساد في عراق صدام حسين!

استأجرت الورشة ودخلت عالم الحي الصناعي الواسع وأنا لاأجيد تصليح السيارات ولاأفهم في ألف باء الميكانيك!، بل وحتى ماهو الفرق بين مصطلحي (فيترجي) و(حداد) !، لكني فهمت بعد فترة أن (الفيترجي) هو من يقوم بفتح محرك السيارة وتبديل أجزاء منه أي مايسمى بـ (تجفيت) المحرك، أما الحداد فأقل مرتبة منه يضبط الكوابح ويغير الإطارات وأشياء أخرى في جسم السيارة، بإستثناء المحرك طبعا والكهربائيات والصبغ والسمكرة.

بدأت العمل ذات صباح شتائي سنة 1990 ولم أكن أعلم ماهي الأسعار وأنواع السيارات، وكانت معظمها مستوردة من اليابان والاتحاد السوفيتي القديم، فكنت أستلم السيارة من مالكها وأطلب منه الذهاب إلى المقهى أو المطعم القريب، ويعود بعد ساعةأو ساعات لإستلام سيارته!، فترة كافية لأستفسر من عمال الورشة المجاورة إن كانت التصليح سهلا أم صعبا وماذا علي أن أفعل؟!، أتمدد تحت السيارة ببدلة العمل الممزقة المنقوعة بالدهون، أتفحصها وبيدي درنفيس طويل أو سباين بأحجام مختلفة وجاكوج، يشتط ذهني بعيدا وينشل تفكيري، أشعر بأن هذا ليس عملي الحقيقي وأنني في ورطة لكن لامفر من المغامرة!، ورحت أعمل بثقة الإسطوات وكلما عسر عليّ تبديل قطعة غيار سواء لعدم معرفتي بذلك، أو لقلة الأدوات المستخدمة في الفك والتبديل، أو فك صامولة يصعب فكها إلا بوضع قطرات من (دهن البريك) لتسهيل العملية أو غيرها!، أهرع إلى قريبي أو أحد أولاده وأحيانا إلى أخيه في البلوك الرابع، أطلب منهم المساعدة فيهرعون إلى ورشتي ويقومون بتصليح السيارة بدلا مني!، وكان بعض السواقين الذين يفضلون البقاء في الورشة دون الذهاب إلى المقهى ينتبهون لذلك، ويحارون من أمري فأنا (أسطه!) وصاحب ورشة، لكني أستجير بالأقرباء للقيام بالمهمات الصعبة!، وهكذا مر شهر وشهران وثلاثة وتعلمت ألف باء المهنة، واعتمدت على نفسي في تصليح مايسهل علي من السيارات بعد التعلم من التجارب السابقة!


تعرفت في الأيام الأولى إلى أصحاب المحلات المجاورة وكان بينهم فلسطيني وأريتيريان، ولمحت في صباح منقرض من تقويم المآسي الشخصية رجلا ذا وجه بشوش يقف في محل بيع قطع الغيار المقابل لورشتي، وكان الاستاذ والصديق العزيز حسن علي خلف، أحد ابرز الباحثين في تأريخ الناصرية والعراق، وثمرة جهده كتاب (المفصل في تاريخ مدينة الناصرية) الذي صدر في التسعينيات من القرن العشرين، وأهداني مشكورا نسخة منه وصلت إليّ بيد أحد الإخوة القادمين من الناصرية إلى العاصمة النرويجية، كنت أجلس معه في أوقات الفراغ في محله، نتحاور في شتى مجالات المعرفة وأحوال الناصرية والعراق تحت حكم الطاغية صدام!

ذكرت في فصل حي الأرامل والأيتام بأن الكثير من البيوت في الحي شهدت تغييرات وكان من بينها بيتنا، هدمنا السياج الواطىء بعد بضعة سنوات ووضعنا بدلا منه بابا كبيرا، قبل أن أشتري سيارة نصر قديمة حمراء اللون من الصديق العزيز حسن مصاول!

بعد أشهر من العمل المضني في الحي الصناعي وبمبلغ (500) دينارا، تمكنت من شراء سيارة بالتقسيط، وكانت عاطلة ومركونة علاها التراب بباب بيت حسن، وقمنا ذات صباح بدفعها هو وأنا من أمام بيته الواقع قرب مبنى بريد الناصرية حتى حي الأرامل!، مرورا بكراج سيارات حي سومر ومدرسة الهدى للبنات والمستوصف الصحي، وكان الناس ينظرون إلينا بإستغراب، ونحن نقطع المسافة الطويلة نسبيا وسط زعيق السيارات وصياح السواقين بضرورة فسح الطريق!، وفي اليوم التالي قمنا إخوتي وأنا بدفع السيارة من حي الأرامل حتى أوصلناها بشق الأنفس إلى الورشة!، في الواقع قمنا بتنظيفها لاتصليحها!، فقد بقيت بدون كوابح لعدم توفر قطع غيار خاصة بسيارات نصر المصرية في ذلك الوقت!، ومن الطريف حول هذه السيارة أن إخوتي كانوا قد طلبوا مني تعليمهم السياقة فكنت أصطحبهم مساء إلى باب المتنزه في الصوب الثاني من المدينة، واخترت هذا المكان نظرا لخلو الشارع من المارة ووجود إضاءة كافية، فكانت كلما مرت سيارة وأردنا التوقف نفتح - مثل رجال المافيات في الأفلام - أربعة أبواب لتنزل أربعة أرجل طويلة لإيقاف السيارة!!

توقفت في ضحى أحد الايام سيارة لاندكروز بيضاء اللون بباب الورشة، وكانت عائدة لإحدى المنظمات الحزبية فامتعضت لذلك، وطلب مني سائقها الذي كان يرتدي بدلة البعثيين الزيتونية ويتدلى من حزامه مسدس!، تصليح نوابض السيارة أو مايعرف (بالوركات)، مايعني فتح إطاراتها الأربع وحملها على أربعة من الآلات الرافعة، ولم أملك غير واحدة منها وكنت استعيض عنها بالطابوق والبلوك!، وبعدما أجرينا العمال وأنا تضبيط الوركات في الورشة بدقها بـ (جاكوج) كبير حتى تصبح مثل الهلال، تمددت تحت السيارة الضخمة لغرض إعادة (الوركات) إلى أماكنها قبل تثبيت الاطارات بالصامولات!، ومع تركيب المجموعة الاولى تزحزحت السيارة من فوق الرافعة والطابوق بشكل مفاجىء وسقطت عليّ بكاملها!، ذهلت وبقيت بلا حراك أفكر في تلك اللحظات الوجيزة والمأساوية : أي طرف من أطرافي فقدت ولم أشعر بذلك بفعل (حرّ الصواب!) كما يقال في الدارجة العراقية!، في الواقع كنت محظوظا ولم يتهشم رأسي بسقوط (الآكسل) قريبا منه ولو وقع عليه لانفجر دماغي في الحال!، كذلك لم تتكسر عظامي، في الحال هرع الحدادون والفيترجية والمارة في الشارع فور سماعهم نداءات أخي ميثم والعمال ورفعوا السيارة ببطىء شديد، خشية انزلاقها وسقوطها مرة أخرى، سحلوني من تحتها وتفحصوا جسمي، وعانقني أخي ميثم والعمال ونفضت بدلة العمل من التراب، ثم غسلت يدي وتركت الورشة والعمال يكملون التصليح، وهرعت إلى البيت وقصصت ماحدث على أمي التي ذهبت إلى السوق القريب واشترت ديكا ذبحه إبن الجيران نذرا وفداء لولدها!

في منتصف شهر تموز 1990 وبينما كنت منطرحا تحت إحدى السيارات لغرض التصليح، وإذا برتل عسكري مكون من حاملات دبابات ومدرعات يسير على الشارع العام متجها نحو مدينة الناصرية!، تبعته أرتال عديدة في الأيام التالية، ثم سيارات مدنية حديثة ومظللة قادمة من جهة العاصمة، فوجئت والعمال في ورشتي والورشات المجاورة من التحركات العسكرية المريبة، وسألت نفسي : وضعت الحرب ضد إيران أوزارها قبل أقل من سنتين، ترى إلى أين تتجه الأرتال العسكرية هذه المرة؟!، وهل ثمة حرب جديدة لإشغال الشعب العراقي عن ممارسات السلطة الفاشية أم ماذا؟!

بعد حوالي أسبوعين أعلن خبر غزو الكويت في 2 آب 1990 من إذاعة بغداد بينما كنت أعمل في الورشة، وبات واضحا أن العراق مقبل بإرادة الطاغية صدام ومخططات الدول العظمى، على حرب جديدة في المنطقة مايعني سحب جنود الاحتياط!، فإزددت غما على غم وقلت في نفسي الانتحار ولا الذهاب مرة ثالثة لخدمة الاحتياط!، لكن إلى أين المفر والعراق سجن كبير محاط بالأسلاك الشائكة؟!، بعد أيام طلبوا مواليدي 1957 إلى (خدمة العلم!) ، تركت الورشة والتحقت بالجيش وكان موقع وحدتي الجديدة ليس بعيدا عن ناحية صفوان!

بلد يغزو بلدا في القرن العشرين ويبطش بالسكان ويجعلهم شذر مذر!، الجنود العراقيون القادمون من بلد الحصار والجوع والطغيان والحروب، يغتصبون النساء ويسرقون كل ماوقعت عليه أيديهم في البيوت والمحال التجارية والمؤسسات والوزارات والقصر الأميري!، وفي الفترة التي اعقبت الغزو وصلت الغنائم إلى الناصرية - بما فيها السيارات الآمريكية الحديثة -وبقية المحافظات، وانتعشت الأسواق بالبضائع الجديدة مما لم يألفها العراقيون من قبل لتعدد مناشئها الغربية!، وتم افتتاح سوق قرب نهير شطيط ومعارض السيارات لبيع وشراء المواد والحاجيات الكويتية المسروقة!، من مواد غذائية وأجهزة كهربائية وألبسة بأنواعها وسيارات أميركية الصنع فاخرة وقطع غيار وغيرها، ضحكت قبل فترة كثيرا على تعليق ناشط كويتي في إحدى الفضائيات وهو يقول (يبه أنتم موجنود مال غزو دشيتو علينا بالكويت انتم فيترجية!)، وفي أول أيام الغزو جاء أحد ابناء المدينة بمبدل السرعة (كير) مسروق من الكويت، ووضعه في الورشة لغرض بيعه!، فإعتذرت بلطف بأن هذا النوع أمريكي ولايباع هنا، ويبدو انه استغل احترامي له فترجاني كثيرا وقال (أريد أبيعه بأي ثمن!) لكن بقي (الكير) في الورشة ولم يشتره أحد، مااضطره إلى نقله بسيارته بعد بضعة أيام!!

وشهدت الناصرية في تلك الفترة إرتفاع أسعار العقارات، بعدما هج الكثير من الكويتيين وبينهم من أصول عراقية (البدون)، واشتروا البيوت والدكاكين وبنوا العمارات السكنية، وكانوا يخطرون في شوارع المدينة وهم يقودون أحدث أنواع السيارات وتزوجوا أصغر الفتيات!

بعد مرور بضعة أشهر على الغزو وكنت هاربا من الجيش، جاء أحد الكويتيين (البدون) إلى الورشة وطلب مني تصليح سيارته نوع (شوفروليت) موديل 1990 ولم أعتذر!، رغم صعوبة تصليح السيارات الأمريكية الحديثة، لكن ذلك أخذ وقتا طويلا واستسمحته باستخدام السيارة فوافق، وكانت هذه أول مرة في حياتي أقود فيها سيارة كشخه!، أخذت العائلة في نزهة ذات يوم فاحترقت كهربائياتها ودفعت من جيبي ثمن تصليحها لدى ورشة كهربائيات قريبة من ورشتي! ، واصطحبت أمي ذات مساء إلى شارع فرع الحزب الفاشي، وكان الآلاف من أبناء الناصرية بإنتظار وجبة جديدة من أسرى الحرب الذين أطلقت سراحهم إيران، مبادلة مع أسراها لدى العراق، كانت أمي التي بكت طويلا في المقعد الخلفي تحلم بقدوم أخي حسين (فقد في سنة 1982 في معركة طاهري وكان عمره 18 سنة) بمعجزة لم تتحقق حتى اليوم!، كانت أمي تزور إحدى ضاربات الودع (الكشافات) باستمرار وتشكو لها أحوالها بفقد إبنها، ولمعرفة إن كان مايزال على قيد الحياة أم لا فتقول لها بعد كل زيارة تنتهي باستغلال مشاعر أمي ماديا إن حسين قادم لامحالة مع إحدى وجبات الأسرى!، كان الأسرى ينظرون إلى الناس من وراء زجاج الحافلات التي أقلتهم مذهولين، بينهم من فقد إحدى ساقيه فنزل على عكازتين، ومن فقد سمعه بإنفجار لغم (مايزال العراق يزيل الملايين منها ويحصد ثمرات الحرب المرة!) أو بصره أو كليهما، ومن لم يميز أفراد عائلته أو يميزوه، بعد سنوات طويلة وآلام فراق مبرحة، لكن حسين لم يترجل من إحدى الحافلات وفقدنا الأمل بعودته من جديد، وانطلقت أمي كالعادة بالنواعي إلى أن وصلنا إلى البيت!

قصة الهروب أني وبعدما عدت بأول إجازة شهرية لمدة أسبوع، قررت بعدها أن لاأعود إلى وحدتي مهما كلف الأمر!، فلا أريد أن أموت في حرب عبثية سيما وأن نذر هجوم دول التحالف ضد العراق بدأت تلوح في الأفق، بعدما رفض صدام جملة من قرارات مجلس الأمن الدولي الصادرة (صدر 53 قرارا حول العراق منذ سنة 1990 حتى سنة 2000) في مقدمتها القرار المرقم 660 والصادر بتأريخ 2/آب/ 1990 ، الذي أدان الغزو في اليوم الأول من وقوعه، ودعا الحكومة العراقية إلى سحب جيشها إلى ماقبل 2/ آب، وقرار فرض الحصار الاقتصادي رقم 661 في 6 منه، لتضييق الخناق لاعلى النظام الفاشي بل على الشعب العراقي، هربت من الخدمة واستأنفت العمل في الورشة لكي نبقى على قيد الحياة عائلتي وأنا، حتى حل اليوم الموعود في 3 آذار وكانت الإنتفاضة الخالدة، أعتبرها مع ثورة العشرين (1920) علامتين مضيئتين في تأريخ العراق المعاصر، وفصلت ذلك في توثيقي لفعالياتها منذ الأيام الأولى على وجودنا في مخيم رفحاء لاجئين 1991، وكان أول توثيق ونشر على الشبكة الدولية (الإنترنت) في العام 2004.

[email protected]
WWW.TARIKHERBI.COM

المزيد من الفصول
حي الأرامل والأيتام!
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=332539
الطريق إلى المسطر
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=329607
شارع الحبوبي
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=328591
رحيل المعلم الأول
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=165282



#طارق_حربي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- برزاني على خطى صدام وكيمياوي!
- حي الأرامل والأيتام!
- لوكان المالكي مخلصا ونزيها ؟!
- الشطرة تهتف ضد حكومة الفساد : شلون انتخبك وانت تبوك الكمية؟!
- غزوة البطاقة التموينية!
- وظفوا بلير مستشارا لدى الحكومة العراقية!
- هذا هو العراق (2)
- هذا هو العراق
- الطريق إلى المسطر
- شارع الحبوبي
- مجلس لملوم ذي قار يقاطع المنتوجات الهولندية!
- لماذا نكبة تكريت برقبة المالكي؟!
- غزوة جرافات أمانة العاصمة القندهارية لشارع المتنبي ببغداد!
- ملصق عن الحجاب في جامعة بابل وعار حفلات التكليف في العراق
- ردا على علي الدباغ وطارق حرب : آووا السوريين مثلما آووا العر ...
- سميسم والمالكي : -لقاء حبايب- انهى ازمة سحب الثقة ؟!
- قصر نظر المالكي في علاقات العراق الدولية!
- استطلاع رأي.. البرلماني العراقي في مواجهة التحديات / أجراه ع ...
- الناصرية : افتتاح معرض الفساد الدائم!
- استنساخ المالكي : شطحة أم تخدير !؟


المزيد.....




- حفل -ميت غالا- 2024.. إليكم أغرب الإطلالات على السجادة الحمر ...
- خارجية الصين تدعو إسرائيل إلى وقف الهجوم على رفح: نشعر بقلق ...
- أول تعليق من خارجية مصر بعد سيطرة إسرائيل على الجانب الفلسطي ...
- -سأعمل كل ما بوسعي للدفاع عن الوطن بكل إخلاص-.. مراسم تنصيب ...
- ذروة النشاط الشمسي تنتج شفقا غير مسبوق على الكوكب الأحمر
- مينسك تعرب عن قلقها إزاء خطاب الغرب العدائي
- وسائل إعلام: زوارق مسيرة أوكرانية تسلّح بصواريخ -جو – جو- (ف ...
- الأمن الروسي: إسقاط ما يقرب من 500 طائرة مسيرة أوكرانية في د ...
- أنطونوف: روسيا تضطر للرد على سياسات الغرب الوقحة بإجراء مناو ...
- قتلى وجرحى خلال هجوم طعن جنوب غرب الصين


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - طارق حربي - رمان ياقلعاوي!