أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طلعت رضوان - العالمانية والاستقرارالاجتماعى















المزيد.....



العالمانية والاستقرارالاجتماعى


طلعت رضوان

الحوار المتمدن-العدد: 3575 - 2011 / 12 / 13 - 15:15
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


العالمانية تُكتب بالألف فى أرجح التعريفات العلمية ، لأنها تعنى الإهتمام بشئون العالم الدنيوى الذى يضع البشرقوانينه . ويرى كثيرون إمكان نسبة العلمانية (بدون ألف) للعلم بمراعاة ((زاوية المضمون وليس من زاوية الالتباس اللغوى)) وتأكيدهم على أنّ الربط بين المصطلح ومعنى العالم أدق ، لأنّ الترجمة الصحيحة هى (الزمانية) لأنها ((ترتبط فى اللغات الأجنبية (الأوروبية) بالأمور الزمنية ، أى بما يحدث فى هذا العالم وعلى هذه الأرض)) (د. فؤاد زكريا – العلمانية ضرورة فكرية – مجلة قضايا فكرية – أكتوبر 1985 . وأنظرأيضًا د. مراد وهبة فى كتابيه (جرثومة التخلف) مكتبة الأسرة عام 98 ص 105 ، (ملاك الحقيقة المطلقة ) مكتبة الأسرة – عام 99 ص 23. وأنظر كتاب الأسس الفلسفية للعلمانية للمفكراللبنانى عادل ضاهر- دارالساقى بيروت- عام 98 ص 37) .
يتضح من التعريف السابق أنّ العلم (بمعنى بناء قاعدة علمية للعلوم الطبيعية وتطبيقاتها التكنولوجية) يدخل ضمن منظومة المجتمعات العالمانية. أى أنّ الإهتمام بالعلوم الطبيعية يأتى كنتيجة لتطبيق مبادىء العالمانية. ووسيلة لتحقيق المزيد من سعادة البشر ورفاهيتهم . ويرى د. صادق جلال العظم أنّ العلمانية تفيد- بحدها الأدنى- إلى فكرة الحياد الإيجابى للدولة بأجهزتها وأدواتها وممثليها ومؤسساتها إزاء الأديان والمذاهب والطوائف الموجودة فى مجتمع ما والمؤلفة لشعبه. وبخاصة فى المجتمعات التى تحوى أقليات دينية كبيرة ومؤثرة وفاعلة كما هوالحال بالنسبة لمسلمى الهند ومسيحيى مصر)) (العلمانية والمجتمع المدنى- مركزالدراسات والمعلومات القانونية لحقوق الإنسان- عام 1988- ص 8)
هل العالمانية تعنى أنها ضد الدين ؟
يتعمّد أعداء التقدم ومواكبة روح العصرالحديث ، وملاحقة متغيراته اللاهثة ، تشويه المعنى العلمى لمفهوم العالمانية . وهم لايملكون إلاّ الصياغات الإنشائية التى تفتقد إلى الدليل المادى . من أمثلة ذلك القول الشائع فى كتاباتهم أنّ المجتمع العالمانى هو مجتمع ملحد ، لايعترف بالأديان ، وبالتالى فهو مجتمع مادى ، يفتقد فيه الإنسان إلى البعد الروحى .. إلخ .
لعلّ نظرة متأملة وموضوعية إلى المجتمعات العالمانية فى أوروبا واليابان والهند وأمريكا تؤكد على أنّ أعداء التقدم والحرية يتعمدون تشويه الحقائق وتزويرالوقائع . فإذا أخذنا مسألة (البعد الروحى) وناقشناها ، فسوف نجد أنّ هذا البعد (الروحى) مكون أساسى من مكونات البشر، بغض النظرعن معتقداتهم الدينية . وسواء أكانوا يعتقدون بديانات سماوية أوأرضية (كالبوذية إلخ) بل إنّ هذا البعد الروحى نجده أحد مكونات الإنسان حتى لو كان غيرمؤمن بأى دين (سماوى أو أرضى) .
وعلى سبيل المثال فإنّ أعضاء أحزاب الخضرالتى تهتم بالتصدى لأعداء البيئة ، الذين يلوثون الطبيعة . ويتسببون فى أضرارجسيمة بصحة الإنسان . هؤلاء الأعضاء ليس لهم أى دورفعال إلاّ فى ظل المجتمعات المؤمنة بمبادىء العالمانية . لأنهم أحرارفى مجتمع يعترف بحرية الإنسان فى التعبيرعن قناعاته الفكرية والسياسية والاقتصادية . وحدث كثيرًا أنّ أعضاء أحزاب الخضرفى أوروبا تحدوا حكوماتهم . ونظموا المظاهرات المنددة بدفن النفايات النووية ، سواء على أراضيهم أو على أراضى شعوب أخرى . ووصل الأمرلدرجة أنّ أعضاء منظمة البيئة فى فرنسا (منذ عدة أعوام) ربطوا أنفسهم بأحزمة ناسفة . وهدّدوا حكومتهم بالانتحارإذا مرّت سفينة كانت تحمل نفايات نووية . وبالفعل تراجعت الحكومة الفرنسية . وانتصرأعضاء حماية البيئة . فإذا لم يكن النبع الحقيقى لهذا الموقف الحضارى هو (البعد الروحى) فبأية صفة ينظرإليه أعداء التقدم وأعداء الحرية وأعداء الحداثة وأعداء العالمانية التى سمحت آلياتها بممارسة حق انتقاد السلطة الحاكمة ؟
والمتطوعون الذين يذهبون إلى مناطق المجاعات والكوارث الطبيعية ، ويُقدّمون المساعدات لضحايا الطبيعة ويُعرّضون أنفسهم لإنتقال الأمراض المعدية إليهم . وللإصابات الخطيرة وللموت . هؤلاء المتطوعون (نساء ورجال) هم أبناء ثقافة العالمانية . ومنظمات حقوق الإنسان لم تنشأ إلاّ فى ظل المجتمعات العالمانية. وإدانة الحروب وإحتلال أراضى الغيربالقوة المسلحة (مثل إدانة الحرب ضد الشعب الفيتنامى . وإدانة الاعتداءات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطينى والشعب اللبنانى . وإدانة الغزوالعراقى لأراضى الشعب الكويتى. ثم إدانة الغزوالأمريكى لأراضى الشعب العراقى إلخ) وضرورة محاكمة المسئولين عن هذه الحروب من رؤساء الدول . وهى المحاكمات التى طالب بها وشارك فيها فلاسفة كبارأمثال الفيلسوف الإنجليزى برتراند رسل والفيلسوف الفرنسى جان بول سارتر وغيرهما . وشارك الكاتب المسرحى جورج برنارد شو(1856 – 1950) فى المظاهرات المندّدة بإحتلال الإنجليزلمصر وطالب مع غيره من الكتاب الأوروبيين بضرورة خروج الإنجليزمن مصر. كما أنّ المظاهرات القوية والمنظمة ضد العولمة وضد الرأسمالية المتوحشة ، قامت بها شعوب آمنت بمبادىء العالمانية والعلوم الإنسانية (من فن وفلسفة وأدب إلخ) وهى العلوم التى تهذب النفوس وتعلى من القيم الروحية. وأبدعها مفكرون مؤمنون بمبادىء العالمانية .
بل إنّ العالم الكبيرألبرت أينشتين (موسوى الديانة) رفض عرضًا من بن جوريون بأنْ يصبح رئيسًا لإسرائيل . ورفض العالم الكبيرسيجموند فرويد (موسوى الديانة) الدعاية لقيام دولة إسرائيل وعارض فكرة إقامة الدولة الإسرائيلية . والسبب عدم اقتناعه بإنشاء وطن لليهود على أرض شعب آخر. وفى عام 2003 رفض الكاتب المسرحى الأمريكى آرثرميلر (موسوى الديانة) جائزة القدس التى منحتها له الحكومة الإسرائيلية ، تعبيرًا عن استيائه من سياسات شارون ضد الفلسطينيين (مجلة الأهرام العربى 30/12/ 2003 ص 28) كما أنّ 37 أستاذًا من جامعة بن جوريون فى بئرسبع (صحراء النقب) بجنوب إسرائيل وقعوا على مذكرة احتجاج على منح رئيس الوزراء الإسرائيلى شارون شهادة دكتوراه فخرية من الجامعة. وجاء فى المذكرة التى نشرتها الصحف الإسرائيلية ((إننا نحتج على هذا القرار، لأننا نعتقد أنّ مثل هذا التكريم يجب ألاّ يتناول شخصًا تعتبرخياراته الأساسية موضع جدال)) (أهرام 22/11/2001 ص 8) فهل هناك مرجعية أخرى غير(الضميرالإنسانى الحى) وغير (البعد الروحى) التى دفعت أصحابها إلى إتخاذ هذه المواقف الإنسانية ؟ ومع ملاحظة أنهم من معتنقى الديانة الموسوية . وبماذا نصف تصريح وزيرة العدل الألمانية التى قالت ((إنّ سياسة الرئيس الأمريكى جورج بوش أشبه بأساليب الزعيم النازى أدولف هتلر)) ؟ (أهرام 21/9/2002 ص5) وبماذا نصف تصريح الكاتب المسرحى البريطانى الكبير (هارولد بنتر) عقب شفائه من السرطان الذى قال فيه إنه لن ييأس أبدًا من السعى لتقديم بل كلينتون الرئيس الأمريكى السابق وتونى بلير رئيس الوزراء البريطانى لمحكمة مجرمى الحرب . وأضاف أنه شاهد بعينيه الفظائع التى ارتكبتها القوات الأمريكية والإنجليزية فى حرب البلقان (صحيفة القاهرة 8/10/2002 الصفحة الأولى) ألا ينبع هذا الموقف من (البعد الروحى) ؟
وقد حكى لى صديقى الراحل الأديب وعالم المصريات (لويس بقطر) الذى عاش فى السويد أكثر من عشرين عامًا ، أنّ جارته السويدية كانت أمًا لثلاثة أطفال ، ومع ذلك ذهبتْ إلى الصومال وتبنّتْ طفليْن . وقال ((كنتُ أراها وهى تضعهما على المرجيحة فى جنينة بيتها وتداعبهما وتطعمهما بيدها، كما لو كانا قد خرجا من رحمها)) فهل هناك قيمة روحية أكثر مما فعلته هذه الإنسانة التى ليست لديها أية مرجعية دينية . وتعيش فى مجتمع مؤمن بمبادىء العالمانية ؟
وإذا ما تذكّرنا ما كتبه علماء علم المصريات عن الحضارة المصرية ، وكيف كان جدودنا المصريون القدماء ، من فرط إهتمامهم بقيمة (العدالة) أبدع خيالهم إلهة للعدل (ماعت) وذلك قبل الأديان السماوية ، وقبل ظهورمصطلح العالمانية بآلاف السنين ؟ أما بوذا (563 – 483 ق.م) الذى لم يدع النبوة ، فمن بين تعاليمه أنّ ((الشخص الخيّرهو وحده الذى يمكن أنْ يكون حكيمًا. والشخص الحكيم هو وحده الذى يمكن أنْ يكون خيّرًا)) وأنّ الوصول إلى السعادة تتمثل فى مجاهدة النفس حتى تبتعد تمامًا عن ((الكذب والنميمة واغتياب الآخر والابتعاد عن أى حديث قد يجلب الكراهية أوالغيرة أوالعداء أوالفرقة بين الآخرين . وتجنب القتل والإيذاء . والتعفف عن السرقة والغش والنشاط الجنسى غيرالأخلاقى . ودعم السلام والسعادة للآخرين. واحترام الكائنات الحية جميعًا)) ولعلّ هذا (البعد الروحى) فى تعاليم البوذية، هو ما جعل العالم الكبير (جون كولر) مؤلف كتاب (الفكرالشرقى القديم) أنْ يكتب ((تركت التعاليم الدينية الفلسفية الخاصة بالبوذية أثرها فى جانب كبيرمن الحضارة الآسيوية . فقد تغلغلت البوذية على نحويفوق أى دين آخر، فى الثقافات التى ارتبطت بها ، فى سريلانكا ، بورما ، كمبوديا ، تايلاند ، لاوس ، حيث سيطرتْ البوذية . وفى التبت والصين وكوريا واليابان وفيتنام ، حيث كانت البوذية مؤثرة . فنجد معالم ثقافة بوذية بالغة الوضوح . وفى مقدمة هذه الخصائص الثقافية التأكيد على : الكرامة الإنسانية ، التسامح ، روح الشفقة واللاعنف)) وفى دراسته عن الكونفوشية كتب ((أكدت المدرسة الكونفوشية أنّ الأخلاق والخيرفوق القوانين والعقاب كوسائل لتطويرالسعادة الإنسانية)) (سلسلة عالم المعرفة الكويتية – عدد 199- أكثرمن صفحة).
فى ضوء الأمثلة السابقة تتضح الحقيقة التى يتعمد أعداء التقدم والحرية حجبها بل وتشويهها. فإذا كان الدين (أى دين) يحض على عمل الخيرومقاومة الشر، بل ويُعلى من شأن الكرامة الإنسانية ، وتعميق مبدأ المحبة بين سائرالبشرإلخ فإنّ هذه المعانى النبيلة نجدها متأصلة لدى كافة شعوب العالم بغض النظرعن معتقداتهم الدينية أواللادينية ، وأنها مكون أصيل فى النفس البشرية. وأنّ المهم هو المناخ الثقافى والاجتماعى الذى يعمل على تفعيل قيم الحب والجمال. وفى نفس الوقت يعمل على مقاومة قيم الكراهية والقبح تمهيدًا لاستئصالهما من النفس البشرية. ولذلك كان من بين تعاليم (بوذا) أنّ على الإنسان أنْ يبتعد عن المهن التى من شأنها أنْ ((تؤذى الآخرين ، مثل الاتجارفى الأسلحة والخموروالمخدرات والسموم والقتل والدعارة)) أما كونفوشيوس فقد لخّص فلسفته فى قاعدته الذهبية الشهيرة ((عامل الآخرين بما تحب أنْ يعاملوك به . ولاتفعل بالآخرين ما لا تريد أنْ يفعلوه بك)).
من العالمانية إلى الليبرالية والديموقراطية :
نظرًا لأنّ العالمانية تعنى الإهتمام بما يحدث على أرض الواقع ، وليس بما يجاوزهذا الواقع، أى أنها تؤصل المناهج والأساليب الملائمة لحياة البشر،فكان من الطبيعى أنْ يولد من رحمها أداة تنفيذها أى الليبرالية بشقيها الفكرى والسياسى . فالليبرالية حسب التعريف العلمى تنقسم إلى فرعيْن أساسييْن، هما أشبه بذراعىْ الإنسان : فرع الليبرالية السياسية التى تعنى وضع إطارلمنظومة اجتماعية تحدد شكل الحكم. ونظام الحكم الليبرالى يعتمد بدوره على مجموعة من الآليات (= وسائل) منها مجلس نيابى منتخب انتخابًا حرًا مباشرًا ، وحكومة مسئولة أمام البرلمان ، ورقابة صارمة على المال العام، وحق تكوين الأحزاب (وبمجرد إخطارجهة الإدارة كما كان الوضع قبل يوليو52 فى المرحلة الليبرالية المصرية المغضوب عليها من ناصريين وإسلاميين) وحق تكوين جمعيات المجتمع المدنى، وليس لجهة الإدارة إلاّ حق الرقابة المالية فقط إلخ أما الفرع الثانى فهو الليبرالية الفكرية التى تعنى إطلاق حرية الفكروالتعبيرعنه دون أية قيود أوقوانين أومعوقات تكبل حركتها وتمنع وصول هذا الفكرإلى أبناء الأمة. وهذه الحرية تتطلب وجود إعلام حرله حق انتقاد مؤسسة الحكم وكشف كل صور الفساد ، وحرية البحث العلمى دون أى سقف يُحدد ما يجب ومالايجب فى العلم ، ومناخ ثقافى يسعى لترسيخ دعائم الدولة العصرية ، وتكريس أهم حقيْن : حق الاختلاف وحق الخطأ. وهما الحقان اللذان بفضلهما نالتْ بعض الشعوب حلم التحضر. خاصة أنّ حق الخطأ يدخل ضمن قانون النسبية : بمعنى أنّ صواب اليوم قد يكون خطأ الغد والعكس صحيح. وهى حقيقة أكّدتها تجارب التاريخ. وقد يسأل القارىء : وماذا عن الديموقراطية ؟ فإنّ إجابة وقائع التاريخ تقول : إذا كانت الليبرالية ابنة العالمانية ، فإنّ الديموقراطية (الفردية والسياسية) حفيدة الثانية وابنة الأولى .
الآثارالمترتبة على غياب العالمانية :
لكى نشيرإلى مجتمع ما بأنه يُطبق ويحترم مبادىء العالمانية ، فإنّ أول وأهم مؤشرهوالنظرإلى اللغة السائدة فى المجتمع موضوع البحث. هل هى لغة ثقافية / فلسفية / علمية / عقلانية / واقعية/ إنسانية ؟ أم هى لغة دينية ؟ إذا كانت اللغة السائدة هى حسب التصنيف الأول ، فأنت فى مجتمع عالمانى. وإذا كانت حسب التصنيف الثانى ، فأنت فى مجتمع ثقافته السائدة تتاجربالدين ، وبالتالى فهى ثقافة ضد التقدم وضد حرية الإنسان وضد حقوقه الطبيعية .
فى المجتمع الأول (العالمانى) فإنّ أول حرف فى أبجديته هوفصل كل المؤسسات الدينية عن المؤسسات السياسية. وهذا الفصل لايعنى ولايقترب من الدين الشخصى ، أى أنه لايعنى فصل الدين عن المجتمع ، ويؤكد ذلك أنه فى ظل العالمانية ، فإنّ حرية العبادة مكفولة لكل إنسان ، وله حق أنْ يعبد مايشاء. ولعلّ الترجمة الحقيقية لإيمان الأنظمة العالمانية بهذا المبدأ (حرية العقيدة) أنّ المجتمعات العالمانية فى أوروبا وغيرها تسمح بإنشاء دورالعبادة على أراضيها لكل المهاجرين من كل الجنسيات ومن شتى الديانات ، فنجد مساجد المسلمين وكنائس المسيحيين ومعابد اليهود والبوذيين وغيرهم من الديانات الأرضية الأخرى . ووصل الأمرلدرجة أنّ مفتى جمهورية البوسنة والهرسك ورئيس العلماء فيها الشيخ د. مصطفى سيريتش أعلن أنّ السويد تساهم فى ترميم مساجد ومعالم إسلامية تاريخية فى مناطق مختلفة فى البوسنة بغرض إحياء هذا التراث الحضارى الفريد فى أوروبا لإعتبارات ثقافية وإنسانية)) (صحيفة القاهرة 25 /10 / 2005 ص 4 ) وفى أوروبا فإنّ كل جماعة دينية تمارس شعائرها فى حرية وسلام. وهذه الحرية تضع لها العالمانية شرطيْن : الأول هو أنه كما تمارس طقوس ديانتك بحرية وسلام ، أترك المختلف معك يمارس طقوس ديانته بنفس الحرية والسلام . وترجمة هذا الشرط هو : أنّ بناء دورالعبادة وممارسة الطقوس التعبدية تخضع لقانون واحد يُطبّق على أصحاب كل الديانات. لافرق بين دين ودين . أما الشرط الثانى فهو : إذا كانت مبادىء العالمانية تسمح بحرية العقيدة لكل إنسان ، فهى (بمقياس العدل) تسمح بحق كل إنسان أنْ يختلف مع غيره فى الدين أوالمذهب. ومن حقه أنْ يؤمن بدين ما أولايؤمن بأى دين. وعند الاختلاف يكون الحوار حضاريًا ، أى بالحجة والبرهان ، وليس بالسيف والرشاش .
فإذا طبّقنا هذا المؤشرالذى يفصل بين مجتمع ومجتمع على مجتمعنا المصرى ، خصوصًا بعد أنْ سيطرالضباط على الحكم فى شهرأبيب / يوليو52 نجد أنّ اللغة السائدة هى اللغة الدينية . وأنّ هذه اللغة تسبّبت فى كوارث اجتماعية ، كان المصريون هم ضحاياها. بل إنها (اللغة الدينية) أساءتْ إلى الدين. وفيما يلى بعض الأمثلة على خطورة توظيف الدين لأغراض السياسة :
رغم أنّ الفقهاء (ومنذ 14 قرنًا) لم يتفقوا فى الكثيرمن الأمورالتى يرون أنها ضمن التشريعات الدينية (أنظرعلى سبيل المثال : المستشار محمد سعيد العشماوى – الإسلام السياسى – سيناء للنشر عام 1987 ص 218 وما بعدها) رغم ذلك فإنّ طغيان اللغة الدينية ، جعل رجال (ونساء) الدين يتدخلون فى كل شئون البشر. بل وينسفون كل الخصوصيات الشخصية المقدسة والمستقرة منذ آلاف السنين ، فيُقحمون أنفسهم ويتدخلون فى تحديد العلاقة بين الزوج وزوجته ويُحدّدون لهما ماذا يفعلان داخل الحمام وفى غرفة النوم . وقد ترتب على هذا أنّ المتاجرين بشئون التقديس (حسب تعبير الراحل الجليل خليل عبدالكريم) بدأوا يتراشقون ويتناقضون ويعارضون بعضهم البعض. وكل فريق يستخدم الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. ووصل الأمرلدرجة أنّ بعض الأزهرييين اعترضوا على فتوى شيخ الأزهر(د. سيد طنطاوى) باعتبارالمغتصبة الرافضة اجهاض نفسها زانية (صحيفة الوطنى اليوم – 8 يناير 2008) ولخص د. كمال مغيث الموقف قائلا ((اليوم نلاحظ أنّ هناك خلافًا كبيرًا من الناحية الفقهية ، ليس بين الجماعات الإسلامية فحسب ، بل بينهم وبين الأزهرودارالإفتاء المصرية. وتعددت قضايا ذلك الخلاف. فهناك الخلاف حول الحجاب. والخلاف الشديد حول الختان الذى أثيرفى مصربمناسبة مؤتمرالسكان (عام 1994) إذْ رأى شيخ الأزهرأنّ الختان فريضة إسلامية يستحق تاركها القتال ، بينما رأى المفتى أنّ الختان أمره (متروك) إلى الأطباء والمتخصصين. كما قام الخلاف بين الأزهرالذى رأى شيخه أنّ فوائد البنوك ربا يحرم على المسلمين اقترافه (بينما) رأى المفتى أنّ البنوك ليست حرامًا)) (الحركة الإسلامية فى مصرفى العصر الحديث – مركز الدراسات والمعلومات القانونية لحقوق الإنسان – عام 1997 – ص 158).
ويُركّز الباحث أ. نبيل عبدالفتاح على التوظيف السياسى للدين ، فرصد عدة مظاهر منها :
1 – الدفاع عن أطروحات وأهداف النظام السياسى وبيان عدم مناهضتها لشرع الله ومن أمثلته :
هجوم شيخ الأزهرجاد الحق على سياسة الاصلاح الزراعى واعتبارها مخالفة لشرع الله ودفاعه
عن القوانين الجديدة لتنظيم العلاقة بين المالك والمستأجرللأراضى الزراعية.
2 – الدفاع عن السياسات الخارجية للنظام الساداتى . ثم فى عهد الرئيس مبارك ، سواء فى تحولاته
نحوالدول العربية المحافظة مثل السعودية ودول الخليج إلخ أوإزاء التسوية السياسية للصراع
العربى الإسرائيلى وتوقيع اتفاقات السلام . وفتاوى الأزهرالمؤيدة لهذه الاتفاقات . ومواقفه إزاء
التدخل العسكرى السوفيتى فى أفغانستان ودعم (المجاهدين) الأفغان .
ووصل الخلاف لدرجة ((بروزإتجاهات فى الخطاب والممارسة من جانب بعض أساتذة الأزهر ودعاة وزارة الأوقاف إلى النزوع فى خطابهم نحوالراديكالية والتشدد مقتربين من إتجاهات جماعات الإسلام السياسى عمومًا. ومن أبرزملامح هذا الإتجاه جماعة جبهة (علماء) الأزهروبياناتها الذائعة التى تنتقد فيها شيخ الأزهرد. محمد سيد طنطاوى وسلوكه وإتجاهاته وفتاويه منذ أنْ كان مفتيًا للجمهورية المصرية)) أى أنّ الخلاف الفقهى يسود بين أبناء المؤسسة الدينية الرسمية ، ليس بين رؤساء مؤسسة (شئون التقديس) ومرؤوسيهم فقط ، وإنما بين الرؤساء أنفسهم. وفى هذا الشأن ذكرأ. نبيل عبدالفتاح أنّ الخلافات تبدو حادة فى أحيان عديدة. كما حدث فى الخلافات بين شيخ الأزهرد. سيد طنطاوى عندما كان مفتيًا للجمهورية وبين شيخ الأزهرالمرحوم جاد الحق)) (أ. نبيل عبدالفتاح من مقدمته لكتاب نحو اصلاح علوم الدين – تأليف علاء قاعود – مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان – عام 2000 من ص 16 – 22 ) .
وتكون النتيجة أنه تحت سعارهذا المناخ الذى تطغى فيه اللغة الدينية على أية لغة ، ويتم فيه توظيف الدين لأغراض السياسة ، ولتحقيق مكاسب مادية ، يكون رأس المواطن أشبه بالكرة فى أقدام العاملين بمؤسسة شئون التقديس. فالاصلاح الزراعى حلال لأنّ السلطة السياسية (عهد عبدالناصر) أرادت ذلك. ثم هوحرام عندما تغيرموقف الحكم. حتى الحروب والمعاهدات الدولية تخضع لمرجعية الحرام والحلال وليس للتحليل السياسى. وفى كل هذه المواقف فإنّ كل فريق يستشهد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية. ولأنّ لغة التشدد هى الأكثرطغيانًا ، فإنّ المواطنين انساقوا وراء الخطاب الدينى الأكثرتشددًا وبلعوا الطعم ولم ينتبهوا إلى (السم فى العسل = الربح الحلال وشعارعوائد متغيرة) وانتشرتْ عبارة ردّدها المودعون : هل نأخذ العوائد الحلال المرتفعة وندخل الجنة ؟ أم نودع فى البنوك الربوية وندخل النار؟ وهكذا حقق أصحاب مشروعات النهب المنظم مخططهم وسرقوا أموال المصريين وهرّبوها إلى خارج مصر. ولم يكن معهم إلاّ سلاح اللغة الدينية التى ألحّ الإعلام عليها وروّج لها العاملون بشئون التقديس ، خاصة من لهم شهرة إعلامية ونجومية تليفزيونية . وكان المودعون فى هذه الشركات من جميع فئات المجتمع ، بما فيهم كباركبارالمتعلمين. وإنْ كان كبار الكبارتمكنوا من الحصول على أصول مبالغهم ، فإنّ صغارالمودعين هم الضحايا وهم الأشلاء لهذه المذبحة بفضل سلاح اللغة الدينية ، التى لايعلولها صوت إلاّ فى غياب منظومة عالمانية الدولة. ورغم أنّ أصحاب تجارة توظيف الأموال إدعوا أنهم يُطبقون الشريعة ويرفضون نظام بنوك الدولة (الربوية) المدنى ، فإنّ حقيقة ما حدث عكس ذلك. وهو المعنى الذى أكده المستشار العشماوى الذى كتب أنّ ما يُسمى ب (المصارف الإسلامية) ((لاتستثمرأموالها فى الانتاج كما فعل بنك مصرعند إنشائه ، حيث أقام دعائم الاقتصاد المصرى ، لكنها تودع أموالها فى مصارف أجنبية ببلاد أوروبا وأمريكا. وتأخذ عليها فوائد قد تصل إلى 14 % سنويًا توزع منها على المودعين لديها ما بين 8 ، 10 % سنويًا زاعمة أنّ ما تقدمه لهم هوأرباح وليس فائدة ، أى أنها تلجأ إلى تغييرالاسم فقط ، مع بقاء الفعل كفعل غيرها من المصارف فى كل بلاد العالم)) (المصدر السابق ص 66).
اللغة الدينية وهدم الولاء الوطنى :
مع غياب العالمانية ، يعلو صوت اللغة الدينية ، ولأنها هى اللغة السائدة ، تكون النتيجة أنْ تقتنع بها الأغلبية الساحقة من الشعب. ودليلى على ذلك أنّ كثيرين مازالوا يُردّدون مقولات جمال الدين الإيرانى الشهير بالأفغانى الذى كان يهدم أى ولاء للوطن ، رغم مرورأكثرمن مائة عام على نشره لهذه الأفكارالتى روّج فيها لمقولة (الرابطة الدينية) التى ((هى أحكم رابطة اجتمع فيها التركى بالعربى .. إلخ وقامت لهم مقام الرابطة الجنسية)) (العروة الوثقى 24/8/1884) وبرّرجواز إحتلال دولة ما لدولة أخرى فكتب "لهذا نرى المغربى لاينفرمن سلطة التركى. والفارسى يقبل سيادة العربى والهندى يذعن لرياسة الأفغانى ، لااشمئزازعند أحد منهم ولاانقباض" (العروة الوثقى 28 / 8 / 1884) وكتب أنه ((لاجنسية للمسلمين إلاّ فى دينهم)) وكرّرها أكثرمن مرة (العروة الوثقى 26/7، 14/8/1884) والأخطرهو تحريض الأفغانى للشعوب على نبذ الولاء الوطنى فكتب ((يجب على المسلمين أنْ يرفضوا كل ولاء وطنى وكل انتماء وكل إخلاص للوطن الأصلى لينضووا تحت لواء الدين الإسلامى)) وبعد الأفغانى جاء الأصولى حسن البنا الذى قال ((نحن نعتبرحدود الوطنية بالعقيدة وليس بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية. فكل بقعة فيها مسلم ، وطن عندنا له حرمته وقداسته والإخلاص له والجهاد فى سبيل خيره.. والإخوان المسلمون لايؤمنون بالقومية ولا بأشباهها ولايقولون فرعونية وعربية وفينيقية وسورية ولاشيئًا من هذه الألقاب التى يتنابزبها الناس)) (نقلا عن د. هالة مصطفى – الإسلام السياسى – من حركة الإصلاح إلى جماعات العنف – مركزالدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام عام 92 ص 93) وهو نفس المعنى الذى ردّده سيد قطب وكل الجماعات الإسلامية مثل التكفيروالهجرة والجهاد إلخ ولذلك لم تكن مفاجأة أنْ يُصرّح محمد مهدى عاكف (مرشد) الإخوان المسلمين أنّ (( الحكم العثمانى لمصرلم يكن إحتلالا. ولو أنّ خليفة من ماليزيا حكم مصرلايكون محتلا)) (صحيفة الكرامة 4 / 10 / 2005).
هذه الأفكارالأصولية التى تهدم مشاعرالانتماء الوطنى ، كانت تجد مقاومة من الليبراليين المصريين أمثال أحمد لطفى السيد الذى كتب ((الإسلام ليس لمسلم بوطن . فوحدة الاعتقاد الدينى ليست كافية لإقامة وحدة التضامن الوطنى)) (الجريدة 10/3/1907) وكتب عميد الثقافة المصرية (طه حسين) : ((من المحقق أنّ تطورالحياة الإنسانية قد قضى منذ عهد بعيد بأنّ وحدة الدين ووحدة اللغة لاتصلحان للوحدة السياسية ولاقوامًا لتكوين الدولة)) (السياسة 31/12/ 1923).
وبعد انقلاب أبيب / يوليو52 ومع انعدام الحرية وقمع صوت العقل ، طغتْ اللغة الدينية والسياسية. وبدلا من نزع الألغام التى تحصد أرواح المصريين فى منطقة العلمين ، تم زرع الألغام على أرض الشعب اليمنى. وعبدالناصرفى تبريره لقتل المصريين فى اليمن استخدم اللغة الدينية فقال ((إنّ جبال اليمن تحمل قبسًا من نفس الشعلة المقدسة التى يحج إليها المسلمون فى عرفات)) (نقلا عن كتاب الناصرية والإسلام – مجموعة كتاب – مركزإعلام الوطن العربى – صاعد – عام 91 ص 22) وبذلك تم توريط المصريين وقتلهم فى حروب لاعلاقة لوطنهم الأم (مصر) بها. مرة باسم العروبة (اليمن وغيرها) ومرة باسم الإسلام (أفغانستان وغيرها) بل إنّ النقابات تبنتْ توجهات الأصوليين لدرجة أنّ نقابة الأطباء (المصرية) رفضت أنْ تقيم تأبينًا للطبيب (برزى النحال) المصرى لمجرد أنه مسيحى الذى قتله الأصوليون يوم 3/6/92 واستمرت النقابة فى نشرالاعلانات مدفوعة الأجرفى الصحف تحت شعار(وابوسناه) (أهرام 31/12/93 كمثال واحد بالطبع) وترتب على ذلك أنْ ذهب مصريون مسحورون باللغة الدينية ليموتوا فى معركة لاتخص وطنهم الأم (مصر) كما مات غيرهم فى أفغانستان . وهكذا صدّق المصريون أكذوبة أنّ أمريكا (المسيحية) تقتل شعب الصرب (المسيحى) وتدمربنيته الأساسية لمدة ستة شهورمن أجل سواد عيون شعب البوسنة (المسلم) فى حين أنّ أمريكا كانت تخطط لإنشاء قاعدة أمريكية جوية فى البوسنة بحجة تحويلها إلى مركزعمليات لمكافحة الإرهاب (أهرام 14/7/ 2004) ولم يسأل أحد ما هى مصلحة إسرائيل فى الدفاع عن شعب البوسنة (المسلم) عندما زوّدت طائرات الحلفاء فى حملة البلقان بأنظمة توجيه كمبيوترية (د. هشام الحديدى – أهرام 4/6/2001) .
العالمانية وقانون التغير:
فى الوقت الذى يرفض فيه الأصوليون عالمانية الدولة ، على أساس أنّ مرجعية الحكم يجب أنْ تكون للدين ، فإنهم يتجاهلون وقائع التاريخ الإسلامى الذى أثبت فى أكثرمن واقعة أنّ المتغير الأساسى والاجتماعى جعل خليفة فى قامة عمربن الخطاب يرفض أنْ يكون النص الدينى مرجعًا له، نظرًا لما طرأ على المجتمع من متغيرات مثل موقفه من (المؤتلفة قلوبهم) الذين تناولتهم الآية الكريمة رقم 60 من سورة التوبة ، وهم الذين لم يدخلوا الإسلام ((وكان القرآن يدعو إلى تحييدهم وتآلف قلوبهم بإعطائهم أسهمًا من الصدقات. وأنّ الآية المذكورة لم تُنسخ بآية أخرى من القرآن . وسارالنبى محمد على حكمها)) وفى عهد أبوبكرأرادوا الحصول على حصتهم من أسهم الصدقات فأحالهم إلى عمربن الخطاب الذى رفض تطبيق النص القرآنى وقال معللا موقفه ((إنّ رسول الله كان يعطيكم هذا المال ليقربكم من الإسلام ويزيل به شركم وفسادكم عن المسلمين. واليوم قد أعزالله دينه وأعلا شوكته ولم يبق من حاجة إليكم وإلى تأليفكم. إنْ ثبتم فى الإسلام ثبتم. وإلاّ فليس بيننا وبينكم إلاّ السيف)) ولم يعطهم شيئًا (المستشارالعشماوى – المصدرالسابق ص 48 – وكتاب الخلافة وسلطة الأمة – تقريرشرعى عام 1923) وعمربن الخطاب أوقف حد السرقة فى عام المجاعة ولم يقطع يد السارق كما نص القرآن العظيم. وأيضًا منع زواج المتعة الذى كان ساريًا تنفيذًا لنص الآية الكريمة رقم 24 من سورة النساء. وعمربن الخطاب أوقف العمل بنص قرآنى يُنظم توزيع الأراضى (نتيجة الفتوحات) على الفاتحين رغم أنّ النص القرآنى لم يُنسخ. فى هذه المواقف رفض عمرأنْ يكون النص الدينى هومرجعيته. وإنما أخضع تصرفاته للواقع المتغير. بل إنّ الأصوليين يتجاهلون ما حدث من النبى محمد (ص) عندما تعرّض لجماعة خالفته فى الرأى. وكان يحاول إقناعهم بنصوص من القرآن العظيم. وهنا تدخل على بن أبى طالب وقال للرسول قولته الشهيرة البليغة والبالغة الدلالة ((لاتحاجهم بالقرآن فإنّ القرآن حمال أوجه)) أى أنّ على كرم الله وجهه ينصح النبى محمد (ص) بأنْ تكون مرجعيته فى الحديث مع هؤلاء المخالفين مرجعية أخرى غير القرآن. وأكثرمن ذلك فإنّ النبى محمد (ص) من منطلق نظرته الواقعية الثاقبة ، نصح (بُريدة) أحد قادته فى احدى الغزوات قائلا ((إذا حاصرتَ أهل حصن فأرادوك أنْ تنزل على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله. ولكن أنزلهم على حكمك. فإنك لاتدرى أتصيب حكم الله فيهم أم لا . فحكم الناس فى الناس هو حكمهم هم لاحكم الله. وحرب الناس للناس هى حربهم هم لاحرب من الله)) (المصدر السابق ص 117 ، 160) .
إنّ الأصوليين يرفضون قانون التغيرالذى فرض عالمانية الدولة. حتى الدولة التى تدّعى تطبيق الشريعة الإسلامية. فالقرآن العظيم به آيات تنظم أحكام الرق ، ومع ذلك فإنّ غالبية الدول الإسلامية لاتطبق نظام الرق. وفى هذا المجال كتب المستشارالعشماوى ((أنّ المشرع المصرى ألغى الرق فى 4/8/1877 ولايمكن أنْ يدّعى عاقل أنه كان فى تحريرالإنسان من الرق والعبودية كافرًا لأنه أوقف العمل بأحكام شرعية)) (المصدر السابق ص 49) وإذا كان الأصوليون الإسلاميون فسّروا كوارث الطبيعة على بعض الشعوب الفقيرة بأنها غضب من الله ، فإنهم بهذا ينزعون صفة الرحمة عنه سبحانه وتعالى. ونفس الشىء وجدناه عند الأصوليين اليهود ، عندما فسّروا كوارث الطبيعة التى تعرّضت لها بعض الولايات الأمريكية بأنها غضب من إله العبريين بسبب تخلى أمريكا عن إسرائيل. ووصل الأمربالمبشرالأمريكى (بات روبرتسون) أنْ صرّح بأنّ الجلطة الدماغية التى تعرّض لها شارون غضب إلهى بسبب قراره الانسحاب من غزة (أهرام 7 يناير 2006 ص 4) .
إنّ قانون التغيرالذى تتجاهله الأصولية الدينية وعاه العلامة الفارسى الشهرستانى (1086 – 1153) ومؤلف العديد من الكتب أشهرها (الملل والنحل) الذى أشارإلى أنّ الحوادث والوقائع والتصرفات يصعب حصرها. وأضاف ((ونعلم قطعًا أنه لم يرد فى كل حادثة نص. ولا يُتصور ذلك أيضًا. والنصوص إذا كانت متناهية. فالوقائع غير متناهية . وما لا يتناهى ، لايضبطه ما يتناهى)) .
العالمانية والاستقرارالاجتماعى :
إنّ العالمانية لاتعنى معاداة الدين أوضد القيم الروحية أوضد النبل الإنسانى أوضد الرحمة والشفقة. ولكنها ضد توظيف الدين لأغراض السياسة المتلونة والمتغيرة بطبيعتها والتى تحكمها الأغراض الشخصية والأهواء الذاتية. وتؤكد تجارب الشعوب المتقدمة أنّ العالمانية هى الرافعة الأساسية لضمان الاستقرارالاجتماعى ، حيث تكون السيادة لمبدأ المساواة التامة بين المواطنين ، وأنْ يكون حق (المواطنة) هوالمعيارالأساسى فى النظرة إلى حقوق وواجبات كل المواطنين . فى ظل علمنة الدولة سوف تتراجع الأصوات التى ترى أنّ المصريين (المسيحيين) ليس لهم حق الدفاع عن الوطن وعليهم أداء الجزية كما صرح كثيرون وكان أشهرتصريح علنى أدلى به أ. مصطفى مشهور(مرشد) الإخوان الراحل (أهرام ويكلى 3 – 9 إبريل 97) أما أ. محمد حبيب فقال ((حين تتسلم الجماعة مقاليد السلطة والحكم فى مصرفإنها سوف تبدل الدستورالسارى حاليًا بدستورإسلامى يُحرّم بموجبه كافة غيرالمسلمين من تقلد أى مناصب عليا ، سواء فى الدولة أوفى القوات المسلحة. وأنه من الضرورى أنْ نوضح أنّ هذه الحقوق إنما ستكون قاصرة على المسلمين وحدهم دون سواهم))(صحيفة الزمان 17/5/2005) فى حين أنّ مفهوم (المواطنة) فى المعيارالعالمانى لايتدخل فى الدين الشخصى للمواطن. أى أنّ حق (المواطنة) هوالمعيارالوحيد فى النظرة إلى حقوق وواجبات (كل) المواطنين بغض النظرعن معتقداتهم الدينية أوالفلسفية أوالمذهبية. وأنّ هذا المعيارهوالذى يحقق ويؤصل قيمة الولاء الوطنى . وبالتالى فإنّ العالمانية هى الخيارالمؤكد لكبح جماح أى تعصب ولنزع فتيل أية فتنة تشعلها اللغة الدينية لأى سبب ولأتفه سبب. والعالمانية هى وحدها التى تملك المقومات الفكرية للرد على تيارالأصولية الدينية الذى شوّه وزيّف الانتماء. فجعله للدين وهو شىء ذاتى ، حتى يتم استبعاد الوطن وهو (الموضوع) الذى يضم أبناء الوطن الواحد فى إطارحق المواطنة الذى إذا ترسّخ ، ترسّخ بالتالى (الموضوع) أى أننا مصريون رغم تعاقب المستعمرين وتعدد الأديان والمذاهب. وبهذا الإيمان بالوطن (مصر) يظل الدين فى إطاره (الذاتى) كقيمة روحية ، تبتعد وتترفع عن السياسة وألاعيبها .
*****



#طلعت_رضوان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل يؤمن الأصوليون الإسلاميون بالديموقراطية
- مأزق السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل
- الأدب واتعبيرعن التغيرات الاجتماعية
- لاتُصالح ودوائرالثأرالجهنمية
- كفيل مصرى لأى خليجى فى مصر
- رد بأن مقالى عن اللغة القبطية
- المشروع الفكرى للراحل الجليل بيومى قنديل
- سيناريو مُتخيّل عن استقالة شيخ الأزهر والمفتى
- قوى التقدم وقانون التغير الكيفى
- اذا كان المسيحيون مواطنين فلماذا الكتابة عن الجزية
- إرهاصات العالمانية فى مصر
- الحب والظلال للمبدعة إيزابيل اللندى
- الحرام بين النظرة الأحادية وتعدد المنظور
- الأدب التراثى وأنظمة الحكم وجهان لمنظومة واحدة
- جدل العلاقة بين البؤس الاجتماعى والميتافيزيقا
- دستور يحكم الثقافة ويحمى المثقفين
- عقاب الطغاة بين دولة القانون وقانون الغابة
- انعكاسات الحرب والدمار على أهل الهوى
- الفلسطينيون بين العرب والإسرائيليين
- محمد البوعزيزى : الإبداع على أجنحة الحرية


المزيد.....




- هجوم حاد على بايدن من منظمات يهودية أميركية
- “ضحك أطفالك” نزل تردد قناة طيور الجنة بيبي الجديد 2024 على ج ...
- قائد الثورة الإسلامية يدلى بصوته في الجولة الثانية للانتخابا ...
- المقاومة الإسلامية في العراق تقصف 6 أهداف حيوية إسرائيلية بص ...
- -أهداف حيوية وموقع عسكري-..-المقاومة الإسلامية بالعراق- تنفذ ...
- “بابا تليفون.. قوله ما هو هون” مع قناة طيور الجنة الجديد 202 ...
- المقاومة الإسلامية بالعراق تستهدف قاعدة -عوبدا- الجوية الاسر ...
- “وفري الفرحة والتسلية لأطفالك مع طيور الجنة” تردد قناة طيور ...
- “أهلا أهلا بالعيد” كم يوم باقي على عيد الاضحى 2024 .. أهم ال ...
- المفكر الفرنسي أوليفييه روا: علمانية فرنسا سيئة وأوروبا لم ت ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طلعت رضوان - العالمانية والاستقرارالاجتماعى