أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - خليل كلفت - كتاب: النظام القديم والثورة الفرنسية















المزيد.....


كتاب: النظام القديم والثورة الفرنسية


خليل كلفت

الحوار المتمدن-العدد: 3500 - 2011 / 9 / 28 - 00:14
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


كتاب: النظام القديم والثورة الفرنسية L’Ancien Régime et La Révolution
(عرض للكتاب بمناسبة حفل توقيع بمعرض الكتاب فى 16 أغسطس 2011)
تأليف: أليكسى دو توكڤيل Alexis De Tocqueville
ترجمة وعرض: خليل كلفت (مترجم الكتاب)
الناشر: المركز القومى للترجمة (المشروع القومى للترجمة): الطبعة الأولى 2010
*****
هذا الكتاب مُترجَم ومنشور قبيل الثورة الشعبية السياسية فى مصر منذ 25 يناير 2011. ولهذا تخلو مقدمتى للكتاب من أىّ إشارة إلى ثورتنا التى جعلت الكتاب مع ذلك كتابا يأتى فى وقته، حيث تثور فى سياق ثورتنا أسئلة ملحة عن الثورة ومفهومها وسياقاتها والنتائج الكبرى للثورات بوجه عام. وهو منشور بعد انقلاب 1952 الشهير بثورة يوليو بقرابة ستين سنة وكان توكڤيل يؤلف كتابه هذا بعد ثورة 1789 الفرنسية الكبرى، بقرابة ستين سنة كذلك. ولم يكن من الممكن أن يتنبأ أحد بهذه الثورة أو تلك حيث يستحيل التنبؤ بالثورات بوجه عام مهما قال قائل أو آخر إن حالة اجتماعية سياسية ما تتجه بأمة أو دولة إلى ثورة لا يعرف موعدها أحد. وكما كان على توكڤيل أن يدرس ويحلل ثورة بلاده بعد ستين سنة علينا أن ندرس ونحلل ثورتنا الآن. والفرق هو أنه كان يقوم بتشريح جثة مهما قال إن تلك الثورة كانت ما تزال مستمرة على حين أن علينا أن نقوم هنا والآن بدراسة ثورتنا فى خضم تطوراتها لكى نسير بها إلى الأمام فى مواجهة أخطار كبرى تتهددها وربما كان الخطر الأكبر يتمثل فى سياقها التاريخى ذاته وفى طبيعتها وفى نتائج الثورات فى العالم الثالث بوجه عام. وأعتقد أن كتاب توكڤيل يقدِّم لنا عونا كبيرا فى هذا المجال رغم أن السياق التاريخى لثورته تختلف جذريا عن السياق التاريخى لثورتنا.
على أن علينا أن نركز هنا على الكتاب نفسه. ويحدد توكڤيل منذ الجملة الأولى فى مقدمته لكتابه طبيعة هذا الكتاب قائلا: "الكتاب الذى أقدمه الآن ليس أبدًا تاريخا للثورة الفرنسية، فذلك التاريخ مكتوب بصورة أروع من أنْ أفكر فى إعادة كتابته؛ إنه بالأحرى دراسة عن هذه الثورة". والحقيقة أن الكتاب دراسة للنظام القديم وليس دراسة للثورة، وكان توكڤيل يخطط للجزء الثانى للكتاب الذى كان عليه أن يدرس الثورة وتطوراتها ونتائجها، غير أن المنية وافته قبل إنجاز هذا المشروع تماما كما توجَّس فى سياق مقدمته قائلا: "وقد تمّ إعداد مسوَّدات لقسم من هذا الكتاب الثانى، غير أنه لا يزال غير جاهز للنشر. فهل سأوفَّق إلى إتمامه؟ ومَنْ ذا الذى يَسَعُه أنْ يعرف ؟ إن أقدار الأفراد تظل أكثر إبهاما بكثير من أقدار الشعوب".
ويتألف الكتاب من ثلاثة أقسام: يتناول القسم الأول طبيعة الثورة، ويدرس القسم الثانى بفصوله الاثنى عشر الوقائع "المادية" لهذا "النظام القديم"، على حين يبحث القسم الثالث مسألة لماذا حدثت الثورة فى فرنسا دون غيرها من بلدان أوروپا الغربية.
ويطرح توكڤيل أسئلة ملحَّة متكررة متواصلة تناولها فى القسم الأول من الكتاب بفصوله القصيرة الخمسة، وهذه الأسئلة هى: "ماذا كان الموضوع الحقيقى للثورة؟ وما هى طبيعتها الخاصة فى نهاية المطاف؟ ولماذا على وجه التحديد تم القيام بها؟ وماذا حققتْ؟". وهو يفنِّد الأحكام المتناقضة عن الثورة مُبَيِّنًا أن موضوعها لم يكن تدمير السلطة الدينية المسيحية ولا إضعاف السلطة السياسية وأنها كانت ثورة سياسية وإنما اتخذتْ مظهر الثورات الدينية بحكم طابعها الفكرىّ العالمىّ وتبشيرها بمبادئ تنسجم مع روح العصر، أما ما حققتْه الثورة الفرنسية بالفعل فقد تمثل فى كونها تكملة لعمل طويل سابق عليها وبدونها كان يمكن أنْ يتحقق هذا العمل ذاته بصورة تراكمية تدريجية طويلة لاحقة لما كان النظام القديم قد أنجزه بالفعل: "ومهما كانت الثورة جذرية فإنها مع ذلك جدَّدَتْ أقلّ كثيرا مما يُفترض عادة: [......]. وما يصحّ قوله عنها هو أنها دمَّرتْ بالكامل أو بسبيلها إلى أنْ تدمِّر (ذلك أنها ما زالت مستمرة) كل ما كان يتفرَّع، فى النظام القديم، عن المؤسسات الأريستقراطية والإقطاعية، كل ما كان يرتبط بها بطريقة ما، كل ما كان يحمل منها، بأية درجة كانت، أدنى سمة. وهى لم تحتفظ من العالم القديم إلا بكل ما كان دائما غريبا على هذه المؤسسات أو استطاع أنْ يوجد بدونها. والحقيقة أن الثورة لا يمكن وصفها أبدا بأنها حدث عرضىّ. وصحيح أن الثورة أخذتْ العالم على غِرَّة ومع ذلك فإنها لم تكن سوى تكملة لعمل أطول، النهاية المفاجئة والعنيفة لعمل ظلت تمارسه قبل ذلك على مدى عشرة أجيال من البشر. ولو لم تقع الثورة ما كان لذلك أنْ يمنع انهيار النظام الاجتماعى الهَرِم، هنا أسرع، وهنا أبطأ؛ كل ما فى الأمر أنه كان سيواصل الانهيار قطعة قطعة بدلا من التداعى دفعة واحدة. والحقيقة أن الثورة حققت على نحو مباغت، عن طريق محاولة مفاجئة ومؤلمة، وبدون انتقال، وبدون تحفُّظ، وبدون احتياط، ماكان سيتحقق قليلا قليلا من تلقاء نفسه فى الأمد الطويل. وكان ذلك هو العمل الذى حققتْه".
ويدرس القسم الثانى من الأقسام الثلاثة لهذا الكتاب، وهو القسم الأكبر بفصوله الاثنى عشر وهو بالذات المخصَّص لدراسة الوقائع "المادية" لهذا "النظام القديم"، وسيجد القارئ فى تلك الفصول شرحا معمَّقا لطبيعة "النظام القديم" الذى تمثلتْ الرسالة التاريخية للثورة فى تحريره من القيود والأغلال المَلَكِيَّة والإقطاعية والقروسطية لكىْ يندفع كمجتمع رأسمالىّ، بلا نعوت أخرى، كما يُقال، إلى الأمام. ويركز هذا القسم الثانى والرئيسىّ من كتاب توكڤيل على المجتمع الفرنسىّ الأقدم فى سبيل استكشاف الاختلاف بين الأحداث فى فرنسا والتطور العام لأوروپا، ويبحث أصول الثورة الفرنسية خاصة فى أوروپا، وتشتمل الفصول الاثنى عشر للقسم الثانى على 6 فصول (2-7) تركِّز على تحليل المركزة الإدارية باعتبارها السمة المميِّزة للنظام القديم، و 4 فصول (8-11) تركِّز على نتائج هذه الظاهرة على حالة المجتمع، على حين يبحث الفصل الأول الحقوق الإقطاعية فى فرنسا فى ذلك الزمن، ويبحث الفصل الأخير (12) تدهور حالة الفلاحين خلال القرن الثامن عشر كاشفا مدى التَّوْق إلى الخروج من هذا البؤس إلى العدالة والمساواة والحرية. والحقيقة أن النظام القديم، عند توكڤيل، لا يعنى حالة اجتماعية بل أزمة حالة اجتماعية، ليس المجتمع الإقطاعىّ أو الأريستقراطىّ القديم بل فترة متأخرة لهذا المجتمع عندما صار ممزَّقا بالمبادئ المتناقضة، وانفصال النظام المدنىّ عن النظام السياسىّ، واللامساواة المدنية (بقايا الإقطاع أو ما أعادت الأريستقراطية اختراعه)، والمساواة السياسية (تَساوِى الجميع فى الخضوع للملك). وعلى هذا الأساس كانت فرنسا هى التى اندلعتْ فيها الثورة لأنها كانت قد بدأتْ فيها بالفعل، مختفية وراء اسم "النظام القديم"، أىْ أن "النظام القديم" كان يمثل الثورة الأولى قبل الثورة، ويطبق توكڤيل تسمية "النظام القديم" على فترة الحكم المطلق أىْ المركزة الإدارية، ويعنى هذا أن الصيغة الثورية كان لها واقع تاريخىّ على مدى فترة قصيرة نسبيا فقط، تمتدّ من عهد لويس الثالث عشر (ملك فرنسا: 1610-1643) إلى عهد لويس السادس عشر (ملك فرنسا: 1774-1791)، أىْ على مدى أكثر من قرن.
الثورة الاجتماعية إذن هى العمليات التراكمية الطويلة التى يتحقق من خلالها الانتقال من نظام اجتماعىّ إلى نظام اجتماعىّ آخر وقد تحتاج فى فترة من فترات تطوُّرها إلى ثورة سياسية عنيفة بطبعها فى مواجهة المقاومة الداخلية (الحروب الأهلية) والخارجية (الحروب الدفاعية والهجومية)، ويجب أنْ يكون واضحا أن الحديث عن عنف الثورات لا ينبغى أن يحجب عنا حقيقة أن ثورات التطورات التدريجية لا تجهل العنف فهى بدورها وربما بصورة أكبر ثورات دامية من خلال أشكال وأنواع من الحروب الداخلية والخارجية قد تجلبها تطورات بنيوية وظرفية، داخلية وخارجية، عسكرية واقتصادية، قانونية وپوليسية، ويكفى التوقف قليلا عند بعض التراكمات البدائية لنرى مدى وحشيتها داخل وخارج الحدود بل إن الحرب تكاد تكون شكلا نموذجيا كشرط من الشروط الموضوعية للانتقال مثلا من العبودية إلى الإقطاع وهل يمكن فصل الغزوات الشمالية البربرية للإمپراطورية الرومانية كشرط حاسم من الشروط الموضوعية لانتقال أوروپا من العبودية إلى الإقطاع جنبا إلى جنب مع عناصر للمجتمع الإقطاعىّ الجديد كانت قد نمتْ فى قلب المجتمع العبودىّ وخلال عمليات تفسُّخه؟ وهل كانت الفتوحات المتواصلة فى شرقنا بعيدة عن الانتقال من النظم القديمة إلى الإقطاع (مثلا فى مصر)؟ وناهيك بالتراكم البدائىّ للرأسمالية فى إنجلترا أو روسيا السوڤييتية! والعنف ضرورىّ بنفس القدر للنظام الاجتماعىّ الراسخ المستقرّ: أليست حوليات تاريخ العالم مكتوبة بالدم والحديد والنار وفقا لقول شهير؟!
وهنا تبرز مسألة بالغة الأهمية يدَّخرها توكڤيل للقسم الثالث بفصوله الثمانية: لماذا إذن سارت فرنسا فى طريق الثورة العنيفة؟ ولماذا حدثت الثورة فى فرنسا دون غيرها من بلدان أوروپا الغربية التى كانت تشترك معها فى نفس مسيرة الحضارة الرأسمالية الحديثة، من جهة، والتى كانت شعوب بلدان منها (ألمانيا بالذات) تعانى معوقات الامتيازات والحقوق الإقطاعية والمَلَكِيَّة وبقايا القرون الوسطى بصورة أشدّ وطأة بما لا يُقاس؟
ولعلّ من الجلىّ أن التقاطع بين مجموعة من الشروط الموضوعية والذاتية هو الذى رشَّحَ فرنسا لذلك الحدث الكبير، لاندلاع ثورة 1789 منها: ضعف الإقطاع، ضعف القنانة، إفقار وتدهوُر النبلاء، تطوُّر المِلْكِيَّة العقارية الفلاحية، نموّ الصناعة والزراعة والعلاقات السلعية النقدية، تبلوُر طبقة برچوازية من رجال المال والأعمال، تبلوُر طبقة عمالية واسعة، الثورة الفكرية والأدبية وبروز الفلاسفة والمفكرين والأدباء كقيادة سياسية للشعب، ازدياد الشعور بوطأة الامتيازات والحقوق الإقطاعية والنفور الشديد منها ومن الإقطاع الدينىّ بحكم هذه التطورات التقدمية ذاتها، التهاب كراهية اللامساواة والرغبة فى الحرية، الاندفاع الثورىّ الناتج عن كل هذا، ونستطيع أنْ نقرأ توكڤيل مباشرة وهو يبسط تقاطع واندماج هذه الشروط:
"وإذا أخذنا فى الاعتبار أنه إنما حدث بيننا نحن [الفرنسيِّين] أن النظام الإقطاعىّ كان قد فقد كل ما كان يمكن أنْ يحميه أو يخدمه، دون أنْ يغيِّر ما كان يزعج أو يضايق فيه، سنكون أقل دهشة إزاء واقع أن الثورة – التى كان عليها أن تُلغى بعنف هذا التكوين العتيق لأوروپا – انفجرتْ فى فرنسا وليس فى أىّ مكان آخر.
"وإذا نحن التفتنا إلى واقع أن النبلاء، بعد أنْ فقدوا حقوقهم السياسية القديمة، وكفُّوا، أكثر مما شهد أىّ بلد آخر فى أوروپا الإقطاعية، عن أنْ يديروا ويقودوا السكان، كانوا مع ذلك لم يحافظوا فقط على (بل زادوا كثيرا من) امتيازاتهم المالية ومغانمهم التى تمتَّع بها أعضاء هذه الطبقة بصفة فردية؛ وإذا التفتنا إلى واقع أنهم مع تحوّلهم إلى طبقة ثانوية ظلوا يشكلون طبقة ثرية ومغلقة: بصورة أقل فأقل أريستقراطية، كما سبق أنْ قلتُ فى موضع آخر، وبصورة أكثر فأكثر طبقة مغلقة، فإنه لن يدهشنا بعد ذلك واقع أن امتيازاتهم تبدو غير قابلة للتفسير وبغيضة بالنسبة للفرنسيِّين، وواقع أنه فى مواجهة هذه الامتيازات تأجَّج الميْل الديمقراطىّ فى قلوبهم إلى حد أنه ما يزال يشتعل فيها.
"وأخيرا، إذا أخذنا فى الاعتبار واقع أن هؤلاء النبلاء، منفصلين عن الطبقات المتوسطة، التى كانوا قد طردوها من بينهم، ومن الشعب الذى كانوا قد خسروا قلبه، صاروا معزولين تماما عن بيئة الأمة، فكانوا فى الظاهر طليعة جيش، وفى الواقع هيئة من الضباط بلا جنود، فإننا نفهم كيف أنه، بعد أنْ كانوا متماسكين على مدى ألف عام، صار من الممكن الإطاحة بهم خلال ليلة واحدة".
ويشير إلى الميْليْن الكبيريْن اللذين كانا يدفعان الرِّياح بقوة لتملأ أشرعة الثورة فى ذلك المكان (فرنسا) وفى ذلك الزمان (1789): الرغبة فى المساواة والرغبة فى الحرية، ويقول:
"وقُرْبَ نهاية النظام القديم، كان هذان الميْلان خالصيْن بنفس القدر وكانا يبدوان مُفْعَمَيْن بنفس القدر. وفى بداية الثورة، تلاقيا؛ واختلطا عندئذ وامتزجا للحظة، وأجَّج كل منهما الآخر بالاحتكاك، وأخيرا ألْهَبا فى آنٍ واحد معا كل قلب فرنسا. ولاشك فى أن عام 1789 كان زمن انعدام الخبرة، ولكنْ زمن السخاء، والحماس، والرجولة، والعظمة: زمن الذكرى الخالدة، التى سوف تستدير إليها بإعجاب وباحترام أنظار البشر، عندما سيكون قد اختفى منذ وقت طويل أولئك الذين شهدوها ونحن أنفسنا. عندئذ كان الفرنسيون فخورين بقضيتهم وبأنفسهم بما يكفى لاعتقادهم بأنه كان بمستطاعهم أنْ يكونوا متساوين ومتمتعين بالحرية. ووسط المؤسسات الديمقراطية، أقاموا مؤسسات حرة فى كل مكان. ولم يقوموا فقط بهدم هذا التشريع البالى الذى كان يقسِّم البشر إلى فئات مغلقة، وإلى طوائف، وإلى طبقات، والذى كان يجعل حقوقهم أكثر لامساواة أيضا من أوضاعهم، بل قاموا أيضا بضربة واحدة بتدمير كل القوانين الأخرى، الأعمال الأحدث للسلطة الملكية، التى جرَّدتْ الأمة من التمتُّع الحرّ بحياتها، ووضعتْ الحكومة إلى جانب كل فرنسىّ، لتكون معلِّمه، والوصىّ عليه و،عند الضرورة، مُضْطَهِدَهُ. ومع الحكومة المطلقة، سقطتْ المركزة".
وهناك مسألة دقيقة يطرحها توكڤيل ويعيد طرحها المرة تلو المرة: المفارقة المتمثلة فى التناقض بين ما أراد الفرنسيون أنْ يحققوه عندما قاموا بثورة 1789 وما حققوه بالفعل، بين الهدف المنشود والمحصلة. وبكلمات توكڤيل: "قام الفرنسيون، فى 1789، بأكبر محاولة كرَّس لها شعب نفسه فى يوم من الأيام، ليُحْدثوا، إنْ جاز القول، انقطاعا فى خط مصيرهم، وليحفروا هوة يفصلون بها بين ما كانوه إلى ذلك الحين وما أرادوا أنْ يكونوه منذ ذلك الحين فصاعدًا. وبهذا الهدف، اتخذوا كافة أنواع الاحتياطات لئلا ينقلوا شيئا من الماضى إلى وضعهم الجديد: لقد فرضوا على أنفسهم قيودا من كل نوع لكىْ يعيدوا تشكيل أنفسهم بصورة تختلف عما كان عليه أجدادهم؛ وباختصار فإنهم لم ينسوا شيئا من شأنه محو سماتهم المميزة السابقة"، ويعلِّق على هذا بقوله: "وقد اعتقدتُ دائما أنهم كانوا أقل نجاحا بكثير فى هذا المشروع الفريد مما كان يُفترض فى الخارج ومما افترضوه هم أنفسهم فى بداية الأمر. وكنت مقتنعا بأنهم، دون أنْ يدروا، احتفظوا من النظام القديم بأغلب ميوله، وعاداته، وحتى بالأفكار التى قادوا بها الثورة التى دمرته، كما كنت مقتنعا بأنهم، دون رغبة منهم استخدموا هذه الأنقاض لتشييد صرح المجتمع الجديد".
ومن الجلىّ أن طرح المسألة بهذه الطريقة يكشف عن تناقض عميق للغاية ومنطقىّ للغاية بين الحلم الذى يُلْهِب الشعوب إبان الثورات وفى فترات الإعداد لها وفى فترات أولى تالية لانتصارها، من ناحية، والإدراك الواعى للمحتوى الحقيقى لهذه الثورات، من الناحية الأخرى. وكانت ثورة 1789، كما رأينا، رأسمالية من حيث محتواها، وبالتالى رأسمالية من حيث قيادتها وأهدافها ورسالتها التاريخية وأداة كبرى لتحقيق النظام الاجتماعىّ الاقتصادىّ الرأسمالىّ، والمجتمع الرأسمالىّ، والاستغلال الرأسمالىّ، والاستبداد الرأسمالىّ، فلا عجب إذن فى أنْ يعانى الفرنسيون فى نهاية المطاف استغلاله وقهره بعيدا عن الحرية والمساواة والإخاء التى كانت شعارات تعبئة البشر الذين كانوا وقود الثورة، ولا عجب إذن فى أنْ يصطدم الحلم القائم على الأوهام بالواقع العينىّ الوحشىّ الذى يتحقق بتراكم "طبيعىّ" فى غاية "البراءة"! ولا يعنى هذا أبدا التقليل مما حققتْه الثورة بالفعل، فقد كانت من الأدوات التاريخية الكبرى لرفع الشعب الفرنسىّ إلى مستوى الحضارة الرأسمالية، فهذه الحضارة مرحلة كبرى للصيرورة التاريخية المتصاعدة إلى الأمام مهما بلغتْ وحشيتها ضدّ "مواطنينها" وضد "الآخرين" جميعا، فهى لا تملك بحكم طبيعتها إلا أنْ تكون وحشية، وهل يملك البشر طريقا آخر إلى تحقيق إنسانيتهم الكاملة سوى طريق الآلام والوحشية؟
و توكڤيل، الذى يرثى بكل هذا الحنين زمن الثورة وأحلام وسخاء وتضحيات مَنْ قاموا بها، لا تساوره هو نفسه أىّ أوهام فهو يعلم جيدا (بل هو المكتشف لواقع) أن الفرنسيِّين إنما قاموا بتشييد صرح مجتمعهم الجديد باستخدام أنقاض "الثورة الأولى" أىْ "النظام القديم"، وإذا كانت ثورة 1789 ما تزال مستمرة فى زمنه، كما يقول، فإن تلك "الثورة الأولى" (أىْ "النظام القديم") هى التى كانت مستمرة إذن.
وينقلنا هذا إلى مقارنة لا مناص منها بين السياق التاريخى للثورة السياسية الفرنسية (1789، 1830، 1848) والسياق التاريخى لثورتنا السياسية المصرية. كانت الثورة أو الثورات السياسية فى البلدان التى صارت بلدانا رأسمالية متقدمة تجرى فى السياق التاريخى للثورة الاجتماعية التى تتمثل فى العمليات التراكمية الطويلة التى يتحقق من خلالها الانتقال من نظام اجتماعىّ إلى نظام اجتماعىّ آخر: التحول من الإقطاع إلى الرأسمالية فى حالة فرنسا وغيرها من البلدان المتقدمة. ويمكن أن نرصد بوجه خاص ثلاث نتائج كبرى للثورة السياسية فى سياق الثورة الاجتماعية، رغم كل خصوصية ورغم كل تنوُّع: النتيجة الأولى إزالة العراقيل والمعوقات والحواجز أمام التحول الرأسمالى؛ أىْ فتح أىّ أبواب مغلقة أمام تطور ورسوخ الحضارة الرأسمالية، وهذه نتيجة تقدمية وثورية تاريخية كبرى؛ والنتيجة الثانية قيام ديكتاتورية من أعلى: عهد الإرهاب وغزو الشعوب الأخرى والإمپراطورية والاستبداد والفساد والاستغلال وانقشاع أوهام المساواة والحرية والإخاء وباختصار قيام شكل أو آخر من أشكال ديكتاتورية البرچوازية. وهناك مَنْ يُدينون الثورات بصورة مطلقة كالفيلسوفة السياسية حنة أرندت لأنها لا تحقق الحرية ولا تمحو الفقر والعنصرية فيما يمجِّد ماركس الثورة الاجتماعية ويُدين العبوديات الاستغلالية المتعاقبة الناشئة عنها كما يدين الاستبداد الناشئ عن ثوراتها السياسية، وإذا كانت حنة أرندت تستثنى الثورة الأمريكية من هذا المصير المعادى للحرية كنتيجة للثورات فالحقيقة أن الديمقراطية الأمريكية تمثل ديكتاتورية برچوازية لا جدال فيها ولا تمثل الحرية؛ والنتيجة الثالثة هى الديمقراطية من أسفل التى نشأت وترسخت فى فرنسا خلال القرن التاسع عشر.
أما السياق التاريخى لثورتنا السياسية المصرية فإنه بعيد تماما، شأنه شأن السياق التاريخى لثورات العالم الثالث أو انقلاباته التى أيدها الشعب، عن سياق الثورة الاجتماعية. ذلك أن مصر وأغلب بلدان المستعمرات وأشباه المستعمرات السابقة قد أدخلتها الإمپريالية منذ البداية فى القفص الحديدى للثورة السكانية بدون ثورة صناعية، فلم تتحول إلى بلدان رأسمالية بل صارت حظائر أو أفنية أو زرائب خلفية للرأسمالية العالمية، وصار سياقها التاريخى هو سياق التبعية الاستعمارية، بعيدةً تماما عن الاستقلال الحقيقى رغم الاستقلال الشكلى من وجهة نظر القانون الدولى. فالثورة المصرية، وكذلك باقى الثورات العربية، تجرى إذن فى سياق التبعية الاستعمارية، ويدور الصراع إذن بين هذه الثورة الشعبية السياسية من جهة وهذه التبعية الاستعمارية بملحقاتها المحلية من جهة أخرى، أىْ بين هذه الثورة بكل قواها الحية الديمقراطية والعلمانية والمدنية وبطبقاتها الشعبية المقهورة وبين الثورة المضادة المتمثلة فى مؤسسات الدولة بلا استثناء والإسلام السياسى والطبقات المالكة والرأسمالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والرجعية العربية بقيادة المملكة العربية السعودية وقوى الإسلام السياسى الإخوانى والسلفى والصوفى محليا وعربيا وعالميا. وعلى هذه الثورة بالتالى أن تخوض معركة طويلة معقدة ربما لم تتهيأ لها وربما واتتها الفرصة للنمو فى سياقها. وإذا كان الدور التقدمى المتمثل فى فتح الأبواب أمام تطورات تاريخية من استقلال حقيقى ولحاق بالحضارة الرأسمالية غير وارد فى سياق ثورتنا لأن سياق الثورة الاجتماعية غائب عندنا فلا مناص من أن تتجه الآمال نحو الديمقراطية من أسفل التى أخذت تنمو بسرعة والتى تستطيع أن تناضل فى سياق معركة كر وفر فى سبيل حقوق وحريات الشعب، والتى تستطيع وحدها أن تنقذ البلاد من المصير المشئوم للعالم الثالث عن طريق التنمية، ولا مناص كذلك من أن تتجه المخاوف نحو الديكتاتورية واستعادة النظام السابق بدون مبارك ورجاله المباشرين، وبين الآمال والمخاوف يقع الظل. وأعتقد أن مفتاح تطور الثورة يتمثل فى العمل بلا هوادة على تطوير الديمقراطية من أسفل ولن يتحقق هذا إلا من خلال النضال بكل الوسائل التى تقدمها الشرعية الثورية ضد الثورة المضادة بكل قطاعاتها ومؤسساتها.



#خليل_كلفت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الثورة المصرية الراهنة وأسئلة طبيعتها وآفاقها
- الديمقراطية .. ذلك المجهول!
- خواطر متفرقة من بعيد عن الثورة العربية
- الحزب الحاكم القادم فى مصر
- الحرب الأهلية فى ليبيا ... تحفر قبر نظام القذافى
- لا للتعديلات الدستورية الجديدة (بيان) بيان بقلم: خليل كلفت
- يا شعب مصر ... إلى الأمام ولا تراجع ... التراجع كارثة
- لا للتعديلات الدستورية فى مصر
- مفهوم النحو (مقدمة عن العلم وموضوعه ( مقدمة بقلم: خليل كلفت ...
- المادة الثانية من الدستور المصرى الدائم (دستور 1971) والعلاق ...
- بين الثورة السياسية والثورة الاجتماعية مقدمة خليل كلفت لترجم ...
- ماذا يعنى حل مجلسى الشعب والشورى؟ [فى مصر]
- الشعب المصرى يريد إسقاط النظام
- ثورة تونس نحو الاستقلال الحقيقي والتنمية الحقيقية


المزيد.....




- وزير خارجية الأردن لـCNN: نتنياهو -أكثر المستفيدين- من التصع ...
- تقدم روسي بمحور دونيتسك.. وإقرار أمريكي بانهيار قوات كييف
- السلطات الأوكرانية: إصابة مواقع في ميناء -الجنوبي- قرب أوديس ...
- زاخاروفا: إستونيا تتجه إلى-نظام شمولي-
- الإعلام الحربي في حزب الله اللبناني ينشر ملخص عملياته خلال ا ...
- الدرك المغربي يطلق النار على كلب لإنقاذ فتاة قاصر مختطفة
- تنديد فلسطيني بالفيتو الأمريكي
- أردوغان ينتقد الفيتو الأمريكي
- كوريا الشمالية تختبر صاروخا جديدا للدفاع الجوي
- تظاهرات بمحيط سفارة إسرائيل في عمان


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - خليل كلفت - كتاب: النظام القديم والثورة الفرنسية