أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعد محمد رحيم - ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 9 وجهتا نظر عربيتان















المزيد.....


ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 9 وجهتا نظر عربيتان


سعد محمد رحيم

الحوار المتمدن-العدد: 3318 - 2011 / 3 / 27 - 19:51
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


في كتابه ( ماركسية ماركس؛ هل نجددها أم نبددها؟ ) يتساءل رفعت السعيد بدءاً عن "ماركسية ماركس، ماذا تعني؟ وهل تعني أن هناك ماركسية مغايرة؟". ثم يعود ليؤكد وجود ماركسيات عدة. ولأن الماركسية علم فإنها دائمة وحتمية التغير، ومع كل اكتشاف جديد لابد أن تتغير كما قال فردريك أنجلس. وقوانين الماركسية المستخلصة من كتابات مؤسسيه تتعلق بحسب السعيد "بما هو ذاتي... ومرحلي... وآني... وإقليمي". لذا فإن العلم الماركسي "يقدّم لنا أدوات عامة جداً ( عامة بالنسبة للزمان والمكان ) لفهم الحياة والمجتمعات والسعي لتغييرها". من هنا ينكر السعيد أن يكون هذا العلم، وهو يحتك بالواقع المتبدل زماناً ومكاناً، أزلياً ثابتاً, وتتأتى حتمية تغاير العلم الماركسي من انتسابه للعلوم الاجتماعية. فتتغاير التطبيقات مكاناً وزماناً. وقد نقلت الماركسية الفكر المادي وقوانينه العامة من مجال العلوم والفلسفة إلى مجال المجتمع وآليات وقوانين تطوره، فكانت المادية التاريخية خلاصة إجابة الماركسية "بأسلوب مادي وجدلي على دوافع وبواعث وممكنات ومستقبل التطورات والصراعات المجتمعية".
أما التاريخ فيصنعه الناس وليس الأفراد. ولكن كيف؟ يجيب السعيد من منظور منهجه المادي التاريخي بأن "الناس يصنعون حياتهم ومجتعاتهم عبر إنتاجهم لمتطلبات حياتهم، وعبر علاقاتهم الإنتاجية. وبهذا فإن عملية إنتاج متطلبات حياة الإنسان ( كمجتمع ) وشكل هذا الإنتاج، وأدواته، وطبيعة ملكية هذه الأدوات، والعلاقات الناشئة في إطار عملية الإنتاج هذه تقدّم لنا تشكيلة اقتصادية اجتماعية محددة". لكن من الخطأ إقحام المادة التاريخية بقوانينها العامة في تفصيلات حياتنا المجتمعية كافة.. هذا ما يؤكد عليه السعيد. فالمادية التاريخية في نظره "علم فلسفي يدرس المجتمع ونشأته وتطوره، وقوى الإنتاج وأدوات الإنتاج ونوع ملكيتها، والتناقضات الناشئة عن شكل الملكية هذا. والمسار الذي تتخذه هذه التناقضات. لكنه يدرسها بشكل عام جداً، أي بشكل فلسفي".
ما يقصده السعيد بالعام والفلسفي هو أن "العلم الماركسي غير تفصيلي... وغير ملزم حتماً في كل حالة من حالات وجود هذه التشكيلة". ولذا فإن تصور ماركس عن مسار التطور الاجتماعي لأوروبا القرنين ( 18 ـ 19 ) لا يكون صالحاً بالضرورة للتطبيق في المجتمعات الأخرى.
يلاحظ رفعت السعيد أن المادية التاريخية علم مركب، معقد، لا ينبغي تبسيطه، وانبثق نتيجة ملاحظة دقيقة لظواهر المجتمع وتحولاته. وهذه الملاحظة، على عكس ما يحصل في نطاق العلوم الطبيعية لا تستطيع الإمساك بيسر بالانتظام التكراري لتلكم الظواهر من أجل صياغة قانون نهائي، قار، كلي الصحة، منها. فالمجتمعات لا تتشابه في سياق تطورها التاريخي. ولكل مجتمع في أية مرحلة تاريخية قوانين تطوره الخاصة التي يجب استنباطها من خلال ما يسميه ( السعيد ) بـ ( النسق التكراري ) الذي يجب رصده. والمادية التاريخية التي هي ركن أساسي قي الفكر الماركسي لا يجوز الاستغناء عنه إلا بطلاق هذا الفكر. لكنها برأي السعيد "ليست هي ( فلسفة التاريخ ) أي أنها ليست أعمالاً عقلية في إطار علم التاريخ يحدد أساليب فهم الأدوات التاريخية وطرق استخدامها". فما هي إذن؟ يقول؛ "إنها علم مختلف ومستقل يستهدف دراسة وتحديد مفهوم علمي للتطور التاريخي للمجتمعات وبواعث ومسارات هذا التطور. ويبرز هذا الاختلاف جلياً في الفارق الواضح بين الدراسات التجريبية المجتمعية وبين الرؤية المبنية على أساس فهم علمي مسبق مستند إلى قانون عام".
وفي معرض إعادة قراءته للأطروحات الماركسية ينبه السعيد إلى أن المقولة الحاسمة في الماركسية والتي مؤداها أن ( الاقتصاد هو محرك التاريخ ) قد قادت إلى تجاهل كثر من الماركسيين لتأثير عوامل أخرى أدت أدوارها في تغيير مجرى التاريخ مثل ( الدين والعادات والتقاليد والموروث والتكوينات الاجتماعية والطائفية والعرقية.. الخ ). وبهذا يكون لكل مجتمع في إطاره التاريخي مجموعة عناصر فاعلة تحرّك التاريخ تختلف عنها في المجتمعات الأخرى، وخلال المراحل التاريخية المتعاقبة.
يتحفظ السعيد على المقولة الماركسية؛ ( حتمية انتصار الاشتراكية ) التي يجدها، أيضاً عامة، "تستند على فهم فلسفي عام يشير إلى السلم الحلزوني المتصاعد عبر التشكيلة الخماسية، فكما تحوّلت الشيوعية البدائية إلى عبودية و...... و...... فالرأسمالية تتحوّل حتماً إلى اشتراكية".. يعقّب السعيد على هذه الأطروحة المتواترة في الأدبيات الماركسية التقليدية بالقول؛ "حتماً، نعم. ولكن بشكل عام وفلسفي، وليس حتماً في كل آن، وفي كل مكان، وليس حتماً، أن تكون هذه المسيرة مطردة".
من ثم يعرّج إلى مقولة ثالثة هي ( أطراد صعود التركيبة الاجتماعية إلى أعلى". وهذه المقولة التي هي صحيحة بشكل عام منحت طمأنينة زائفة للماركسيين. فطالما أن المجتمع الإقطاعي لم يكن ليتراجع إلى المجتمع العبودي والرأسمالية ما كانت لها أن تتقهقر إلى النظام الإقطاعي فإذن لن تتراجع الاشتراكية نحو الرأسمالية. وفي قلب هذه القناعة كان يكمن مأزق التجربة الاشتراكية التي تراكمت أخطاؤها وقادت بطريقة دراماتيكية إلى انهيار التجربة في النهاية والعودة ثانية إلى الرأسمالية.
ولكن لماذا حصل هذا وكيف؟ يجيب السعيد؛ " لأننا أسأنا فهم عمومية القانون، ونسينا مسألة هامة، هي أن الانتقال من، وعبر التركيبات الأربع السابقة على الاشتراكية يجري في مساحة واحدة هي مساحة الملكية الفردية لوسائل الإنتاج، أي مساحة المجتمع الطبقي. أما الاشتراكية فهي تشكيلة مختلفة نوعياً. ولا شك أن هذا الاختلاف النوعي يفترض إعمال قانون خاص وليس ذات القانون العام". ولا بد من الإشارة إلى أن التركيبة الأولى بحسب المنظور الماركسي ( المشاعية البدائية ) لم تكن تجري في مساحة الملكية الفردية لوسائل الإنتاج، ولم يكن مجتمعها طبقياً، بحسب التفسير الماركسي.
أما الوهم الآخر الذي طبع الخطاب الماركسي فهو مقولة "أن الصراع الطبقي يختفي باختفاء المجتمع الطبقي". وحين تفاقم التمايز والتمييز في المجتمع المكنّى بالاشتراكي اندفعت حتى جماهير البروليتاريا إلى "هدم النموذج الذي كان يسمّي نفسه اشتراكياً".
ويستمر السعيد في تأشير جملة أخطاء أخرى رافقت التجربة الاشتراكية منها "الخلط بين ما هو فلسفي ونظري وبين ما هو سياسي ومصلحي فطوِّعت النظرية لصالح سياسة الدولة، وطُرحت أفكار من قبيل "إمكانية تخطي المراحل... وما أطلق عليه النمو غير الرأسمالي، أو دولة الديمقراطية الجديدة تملقاً لأنظمة حكم صديقة سياسياً، مثلما حصل في أفريقيا؛ قفزات في الفراغ ونتائج سيئة "بسبب تضخيم دور العنصر الذاتي، وتجاهل العنصر الموضوعي ودوره".
أملت متطلبات السلطة التحايل على النص وتأويله أو تجاهل جوانب منه، أو القول به وفعل العكس، وذلك كله على وفق ما يلائم السلوك السياسي والمصالح الآنية الضيقة. من هنا يرى السعيد أن ماركس تبدى "إزاء ماركسية ثورة أكتوبر غريب الأهل واليد واللسان". وإذا كان ماركس تنبأ بالاضمحلال التدريجي للدولة مع مرحلة البناء الاشتراكي. وإذا كان لينين قد تحدث عن فترة انتقال سياسية حيث تغدو الدولة هي الديكتاتورية الثورية ( ديكتاتورية البروليتاريا ) فإن ما فاجأ الجميع هو أن البيروقراطية المنفصلة عن الشعب هي التي تحكّمت بمقاليد السلطة، وأُختزل الشعب في البروليتاريا والبروليتاريا في الحزب والحزب في المؤتمر والمؤتمر في اللجنة المركزية واللجنة المركزية في المكتب السياسي والأخير في الأمين العام. وأصبحت الدولة تستمد شرعيتها من جوهر أعلى، كما قال هيجل. وهذه المرة كان الجوهر الأعلى هو الحزب وقيادته!.
وفي معرض إجابته على سؤال يلقيه عن ماهية الماركسية، يقول السعيد أن الماركسية هي "رؤية للعالم ومنهج لتفكير يعالج كيفية تغيير هذا العالم". ويقر بأن الماركسية هي بلا حدود، وبلا ضفاف.
والماركسية، اليوم، بعد فشل التجارب الاشتراكية باتت تتغير على يد الماركسيين أنفسهم. وفي مقابل من راحوا ينكثون عنهم آثار الماركسية، هناك من يحاول أن يقوِّمها نقدياً ويعيد صياغتها، ليس نظرياً وحسب وإنما في الممارسة والإستراتيجية، أي تعديل جملة السياسات التي وسمت الحركات الاشتراكية الماركسية. ومن ضمن هذه التعديلات نبذ العنف الثوري وفكرة الحزب الواحد، و"رفض ديكتاتورية البروليتاريا، وإلى القبول بحكم ( اشتراكي ) ديمقراطي يقوم على التعددية الحزبية وتداول السلطة". وفي أثناء نجاحهم في أية انتخابات يجب أن يقدّم الاشتراكيون "برامج جزئية.. خطة واحدة أو اثنتين إلى الأمام، حتى يمكن التراجع عنهما إذا ما أتى الآخرون، دون كسر أو شرخ جدران المعبد" على حد تعبير رفعت السعيد.
هكذا في عالم يتحوّل تقنياً وسياسياً، في مقابل مواجهته مشكلات مستعصية، بعضها قديم وبعضها جديد، يفرض سؤال محرج نفسه على الماركسيين؛ "هل انتهت الماركسية؟". فبقدر ما ينخرط اليسار الماركسي في الحياة الديمقراطية البرلمانية على النمط الليبرالي الغربي بقدر ما يبتعد عن جوهر الماركسية.
إذن، ما الذي تبقى للماركسيين أن يفعلوه الآن؟.
يومئ السعيد، في كتابه، إلى مجموعة من القضايا الملحّة التي تتطلب إجابات ماركسية لأنها تدخل في صميم اهتماماتها ودورها التاريخي. منها: معركة العدل ضد الظلم الاجتماعي، وإعادة اللحمة بين النظرية والتطبيق. ويعود أخيراً ويطرح السؤال مجدداً؛ "ما هي الماركسية؟". فالماركسية باعتقاده "ليست نصوصاً... إن التأمل في عشرات النصوص الواردة لدى ماركس وأنجلس ولينين يمكن ( نظرياً ) أن يكشف لنا عن قدر من التحيّز أو الانحياز، أو حتى الخطأ في الفكر والتطبيق". ومن بين ركام هائل من النصوص والشروح والتعليقات والتعقيبات التي كتبت منذ أكثر من قرن ونصف تحت يافطة الماركسية يقلّص سعيد هذه الماركسية إلى "عدد محدد من القوانين العامة، التي تحدد حركة الكون والمجتمعات. وهي مجرد أدوات للتفكير، منهج للرؤية، بوصلة للاهتداء بها في فهم حركة الأحداث... وليس أكثر".
وهذه القوانين العامة يجب أن تلتحم بواقع وزمان معينين، وجغرافيا محددة، وتراكم تاريخي محدد، لتتحوّل إلى أداة حركة وفعل ثوري.
وما هو القانون العام؟؛ "هو ثمرة فكرية مستندة إلى حقائق ثابتة تمت البرهنة على صحتها، واختبارها اختباراً متتالياً بما يؤكد هذه الصحة". ويضع السعيد القانون العام في مقابل الافتراض الذي هو "صيغة منطقية قد تبدو مقنعة ظاهرياً لكنه لم تتم البرهنة على صحتها الدائمة". وكان من أخطاء الماركسيين عدّ افتراضات كثيرة وردت في كتابات ماركس وأنجلس ولينين قوانين عامة وهذا ما أوقعهم في أخطاء وأوهام قاتلة.
وفي النهاية لا يحدد السعيد هذه القوانين العامة بل يدعونا ( أو يدعو الماركسيين المصريين، فخطابه موجّه لهم أولاً ) بدراسة المعضلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتربوية والبيئية المصرية، واقتراح الحلول الوافية لها.
ومن حقنا، الآن، أن نتساءل: ما هي الماركسية، حقاً، التي يدعو إليها رفعت السعيد؟. ما هي منطلقاتها وأسسها النظرية، ومنهجها الفكري؟.ألا تتحوّل الماركسية من خلال أطروحته إلى كيس فضفاض يمكن أن نضع فيه أي شيء نراه عملياً وصائباً؟ وإذن، لماذا نطلق على مثل هذا الجهد الفكري والعملي تسمية الماركسية؟ لماذا لا نقول ( العلمية ) أو ( البراغماتية ) أو ( الموضوعية ) مثلاً؟ إذ ما الذي سيميّز الماركسية عندئذ عن غير الماركسية؟.
إن رفعت السعيد، في كتابه الآنف الذكر، يراجع وينتقد ويشخص الأخطاء والأمراض في النظرية والممارسة الماركسيتين. وأرى أن الماركسية لا تخرج سليمة، أبداً، من بين يديه. فالقارئ سيتساءل بعد هذه السياحة كلها: ما الذي بقي من ماركس والماركسية في نهاية مطافه النقدي ـ التقويضي؟.
ينشغل باحث عربي آخر ( عراقي ) هو الدكتور فالح عبد الجبار في الإشكاليات ذاتها التي شغل رفعت السعيد. غير أنه يوسّع نطاق بحثه النظري، من منظور مغاير، مثير للجدل والاهتمام، متحرشاً بما كانت أقانيم مقدّسة في الإيديولوجية الماركسية السائدة. فهو يسعى بدءاً إلى إعادة رسم صورة الماركسية نظرياً عبر إنكار التقسيم الثلاثي اللينيني التقليدي لها: ( المادية الجدلية، المادية التاريخية، الاشتراكية العلمية ). فمن وجهة نظره ليست هناك مادية جدلية أو مادية تاريخية، في نصوص ماركس، بالشكل الذي أطّره لينين ومن ثم ستالين. فيرى أن هذا التقسيم الثلاثي التبسيطي للنظرية بتحويله إلى "مذهب أو منظومة، كان أحد منابع تقويض الماركسية، وثلم حدِّها النقدي". فالماركسية بعد هذا التخريج اللافت تصبح "نظرية تحليل النظام الرأسمالي ونقده، ونظرية البحث عن الإمكانات التاريخية لنقد الرأسمالية وتجاوزها". وبهذا، فإن هذه المهمة ( الوظيفة ) تكون هي أساس استمرار الماركسية بعد ماركس.
تطورت الرأسمالية بعد وفاة ماركس ( 1883 ) واختطت مسارات مبتكرة لها لم تكن بالحسبان، ووقعت على آليات فعالة لديمومتها. وكانت قادرة دوماً على تجاوز أزماتها. من جهة ثانية تطورت مناهج دراسة الظواهر الاجتماعية إلى حدود مذهلة، وفي حقول العلوم الإنسانية المختلفة بالتناظر مع التطور التقني والاجتماعي. وعلى حد تعبير فالح عبد الجبار "ما بقي ثابتاً هو ضرورة نقد الرأسمالية، المستمر، الدائم، المتغير ( تبعاً للظروف ) والبحث عن إمكانات تجاوزها انطلاقاً من تطورها هي بالذات، لا من تمنيات مصلح، أو طوباوي".
يشير د. عبد الجبار إلى أن ماركس فهم الرأسمالية كتشكيلة كونية، قائمة على أربعة مرتكزات هي: رأس المال، الدولة، السوق العالمي، التجارة الدولية. وعلى إثر هذا التقسيم وضع ماركس خططه بخصوص مشروعه النظري عن الرأسمالية. وقد أنجز القسم الأعظم من الجزء الأول الخاص بالرأسمال، لكنه بسبب ( أمنا الطبيعة ) لم تتح له الفرصة فرحل عن عالمنا قبل إتمام مشروعه النظري على الرغم من وجود تلميحات وشذرات وإشارات تخص الموضوعات الثلاثة اللاحقة.. يستنتج الدكتور عبد الجبار "إن كل مقولات ماركس عن التشكيلة، عن البنية الفوقية والبنية التحتية، عن القوانين الاجتماعية بوصفها ( ميولاً؛ Tendenzien, tendencies ) عن البنية الاجتماعية، وكل ملاحظاته الوجيزة عن الدولة والسوق والتجارة الدولية، تنتمي إلى هذا الحقل التاريخي المحدد ( العهد الرأسمالي ) ولا تنتمي لغيره. غير أن المدرسة السوفيتية ـ الستالينية، مطّته قسراً ليشمل التاريخ كله وليشمل كل التشكيلات، وليشمل كل الظواهر، وهو مط وشمول لا تجده إلاّ عند البابوات المعصومين، أو في النظم الدينية، الغيبية".
يرفض الدكتور عبد الجبار عدّ الماركسية علماً "كلي القدرة وكلي الصحة، خصوصاً في المجال النظري الاجتماعي، كل ما لدينا هو فرضيات". ملتقياً في هذه الملاحظة مع رفعت السعيد. فهل حقاً يمكن اختزال الماركسية برمتها بفرضيات محضة، أي حزمة من مقولات منطقية لم تثبت صحتها تماماً؟!.
يقترح الدكتور عبد الجبار صيغة مغايرة للتقسيم اللينيني الثلاثي التبسيطي، لدراسة فكر ماركس والماركسية، تعتمد تقسيماً سباعياً هي؛ "1ـ الماركسية والتاريخ. 2ـ الماركسية ونظرية المعرفة. 3ـ الماركسية والمجتمع ( البنية الاجتماعية ). 4ـ الماركسية والدولة. 5ـ الماركسية والاقتصاد. 6ـ الماركسية والقومية. 7ـ الماركسية والعولمة". وهذا التقسيم يغطي التشكيلة الرأسمالية، لا غيرها من التشكيلات السابقة لها. "فماركس هو منظّر تناقضات الرأسمالية وإمكان تجاوزها".
يغدو البدء بعبارة ( الماركسية والتاريخ ) بدلاً من ( المادية التاريخية ) مقصوداً، فالدكتور عبد الجبار، كما يؤكد هو، إنما يتحرى عن نظرة ماركس الحقيقية إلى التاريخ.
كرّست الستالينية لوحة المراحل الخمس للتطور التاريخي: ( المشاعية البدائية، العبودية، الإقطاع، الرأسمالية، الاشتراكية ) وقد عنى هذا أن التاريخ البشري يتطور ( ارتقائياً ) بعملية عالمية واحدة لتصل إلى المرحلة الرأسمالية، ومن ثم الاشتراكية. وهذا التقسيم الميكانيكي الذي يقول بوجود قوانين واحدة تتحكم بعملية التحوّل من نمط إنتاج إلى آخر قوامها مفاهيم: البنية الفوقية والبنية التحتية، وتصادم قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج يفضي إلى ولادة تشكيلة اقتصادية ـ اجتماعية جديدة من رحم التشكيلة القديمة. وبذا يكون التاريخ غائياً، وتكون ثمة مسيرة حتمية لا مناص منها تقودنا إلى فردوس الاشتراكية.
تعرضت هذه الأطروحة لانتقادات شديدة حتى من قبل الماركسيين. فكل نمط إنتاجي نشأ في دائرة مختلفة، وهذا التناثر "لأنماط الإنتاج ( وهي بالأساس أنماط تقسيم عمل ) لا يضع رابطة سببية، أو تعاقباً سببياً بين نشوء العبودية والإقطاع، فالرأسمالية". ويخلص الدكتور عبد الجبار إلى القول بضرورة نبذ فكرة اللوحة الخماسية لننجّي ماركس "من مغبة تعميمات لا شأن له بها". فقد "أرادت نظرة ماركس الفلسفية إلى التاريخ أن تؤكد على فكرة التطور والتناقض، وعلى الطابع المادي للتطور الذي لم يكن مدروساً من قبل". وإذن، فتطور المجتمعات عبر التاريخ وانتقالها من نمط إنتاج معين إلى آخر خضع لظروف وشروط متباينة. وأنماط انتقال وتطور بعضها ارتقائي تدريجي، وبعضها خطي، وبعضها دوري، وبعضها قطعي، وهكذا.. يجعلنا الدكتور عبد الجبار نستنتج؛ "أن هذا التنوع في أنماط التطور يعني تعذر وضع وصفة واحدة للتاريخ، لمساره، وأشكال تجليه".
ينفي الدكتور عبد الجبار وجود مادية ديالكتيكية، ويدحض حاجة الماركسية "إلى نظرية معرفة خاصة، جامعة، مانعة" لماذا؟ "لأنه أولاً لا توجد نظرية جامعة، مانعة، بل توجد فرضيات متوسعة وبحث متصل. ولأنه ثانياً تجري هذه البحوث في ميادين اختصاص لا قبل لفرد أو حركة أن تلمّ بها". ويأخذ على الماركسيين انعزالهم عن تيارات العصر الفكرية الكبرى منها: ( البنيوية، علم النفس، ما بعد البنيوية، التفكيكية ) وكذلك عن مدارس ماركسية مثل مدرسة فرانكفورت، أو مدرسة تشومسكي السندكالية.
وبحسب الدكتور عبد الجبار، أيضاً، فإن كثراً من توقعات ماركس لم تتحقق، منها ما يخص حالة الإفقار المطلق، مع حصول اتجاهات جديدة في تطور البنية الاجتماعية، أي أن الطبقة العاملة أخذت بالتقلص مع حلول الآلات محل الجهد العضلي، ومن ثم الجهد الفكري.
أما أكثر ما يقوله الدكتور عبد الجبار إثارة للانتباه فهو الذي يتعلق بقوانين حركة النظام الرأسمالي وتطوره.. يقول؛ "إن ( القوانين ) التي رصدها ماركس عملت لفترة، وهي، كما قال ماركس ( ميول ) وليست قوانين، فالقوانين ثابتة لا تتغير، والميول تتعدل وتتطور".
إن قدرة الرأسمالية على تخطي أزماتها، والتدخل في الوقت المناسب، للحيلولة دون انهيار النظام ليست نهائية. وهي، لا شك، ستصل "إلى نقطة يتعذر بعدها تجاوز عقباتها هي، فتدق عندئذ ساعة النهاية. هذه هي رؤية ماركس".
ولكن، متى سيحل قيام الساعة بالنسبة للرأسمالية؟ يستشهد الدكتور عبد الجبار برؤية المؤرخ الماركسي بيتر جوان؛ "نحن لا نعرف! لا ندري إن كنا في أواسط عمر التشكيلة الرأسمالية أم في أواخرها! وإن القول بمرحلة أخيرة ( عليا ) تخمين وحدس قد لا يصمدان أمام الواقع".
نجحت الرأسمالية في جعل الاقتصاد العالمي كله في نطاقها أو في نطاق تأثيرها. والأزمة الحادثة في أي جزء تعمم على الأجزاء الباقية بهذه الدرجة أو تلك. وصار بمستطاع النظام الشروع بجهد تدخلي تنظيمي، ولكن ( يتساءل الدكتور عبد الجبار )؛ "ماذا سيحصل، ومن سيضخ لمن، إذا اندلعت الأزمة في أكثر من موقع، وفي آن واحد؟!".
نستنتج من هذا كله أن تحليلات ماركس لآليات عمل النظام وحركته وأزماته كانت صائبة إلى حد بعيد، وأن رؤاه لمستقبل الرأسمالية حتى وإن لم تكن محددة، زمانياً، بدقة، ما زالت تؤخذ بجدية. ومع استفحال الأزمة الاقتصادية ـ المالية في العام 2008 وما بعده في أغلب المراكز الرأسمالية الكبرى لفتت ظاهرة العودة إلى ماركس الانتباه فازداد الإقبال على شراء كتبه أضعافاً مضاعفة. وفي ألمانيا وحدها باتت ثلاثون جامعة تقدّم دورات دراسية حول نظريات ماركس ومحاضرات حول كتابه ( رأس المال ).. يقول الدكتور عبد الجبار؛
"إن موت الماركسية المعلن سيثبت زيفه في أول أزمة واسعة، آتية. والغريب، كما تقول إحدى الصحف الليبرالية البريطانية، أن ( أتباع ) ماركس، يهجرونه، أما المنظّمون الرأسماليون فيعيدون اكتشافه! ويعلنون بدهشة: إن توقعات ماركس حول سيطرة الاقتصاد على السياسة صائبة، وتتحقق الآن أمام ناظرينا، وإن الأزمات المصاحبة للنمو، جزء من التكوين البنيوي للرأسمالية".
غير أن الرأسمالية مرحلة أساسية في سياق تطور المجتمعات البشرية، مرحلة لابد من المرور بها وعيشها حتى تنضج تماماً شروط الانتقال إلى ما وراءها، إلى الاشتراكية.. هذا ما كان يقوله من سمّوا بالتحريفيين الماركسيين أمثال كاوتسكي وبليخانوف. هذا ما تساءل بصده بقوة عبد الله العروي في كتابه ( العرب والفكر التاريخي )؛ إنْ كان من الضروري المرور بالمرحلة الليبرالية قبل ولوج العهد الاشتراكي؟. وهذا ما أشار إليه رفعت السعيد في كتابه ( ماركسية ماركس... ) وهو يلوم نفسه والماركسيين العرب الآخرين لأنهم صدّقوا ما ذهب إليه لينين وستالين من اتهام لكاوتسكي بالانحراف عن خط ماركس. ولم يفكروا أبداً في قراءة كاوتسكي.. كاوتسكي الذي قال في وقت مبكر جداً من عمر الثورة البلشفية؛ "إذا ما نجحت الثورة الروسية فذلك دليل على فساد الماركسية. وهذا ما سيؤكده الدكتور فالح عبد الجبار بالقول؛
"إن الديمقراطية الرأسمالية، هي الممهد التاريخي الحضاري، نحو أي أفق ما بعد رأسمالي يمكن تخيله، ولا يشفع لنا إن العالم يتقدّم إلى ما بعدها".
المصادر؛
1ـ ( ماركسية ماركس: هل نجددها أم نبددها؟ ) د. رفعت السعيد.. الأهالي/ دمشق ط1/ 1998.
2ـ ( ما بعد ماركس ) د. فالح عبد الجبار.. دار الفارابي/ بيروت.. ط1/ 2010.



#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 8 غودولييه.. جوناثان ري.. وآ ...
- ثورة الشباب العربي: الدخول في عصر ما بعد الحداثة
- موسم سقوط الثقافة السياسية الفاشية عربياً
- ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 7 كاسترياديس.. جون مولينو
- ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 6 ألتوسير.. ريجيس دوبريه
- ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 5 سارتر والماركسية
- ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 4 مدرسة فرانكفورت ونقد أسس ا ...
- ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 3 غرامشي.. لوكاش
- ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 2 من كاوتسكي ولينين إلى الست ...
- ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية: 1 مدخل
- مأزق النقد
- بين الرواية والفلم
- امرأتان وثلاثة رجال ( قصة قصيرة )
- في مديح القصة القصيرة
- كتب قديمة مستعملة
- الغموض في القصص
- مع محيي الدين زنكنة.. خواطر وذكريات
- القابض على الجمر.. يوميات قاسم عبد الأمير عجام
- أنْ نأسر المكان داخل النص: قراءة في -خرائط منتصف الليل- لعلي ...
- إدوارد سعيد: المنفى والهوية.. الأنا والآخر


المزيد.....




- وزير دفاع أمريكا يوجه - تحذيرا- لإيران بعد الهجوم على إسرائي ...
- الجيش الإسرائيلي ينشر لقطات لعملية إزالة حطام صاروخ إيراني - ...
- -لا أستطيع التنفس-.. كاميرا شرطية تظهر وفاة أمريكي خلال اعتق ...
- أنقرة تؤكد تأجيل زيارة أردوغان إلى الولايات المتحدة
- شرطة برلين تزيل بالقوة مخيم اعتصام مؤيد للفلسطينيين قرب البر ...
- قيادي حوثي ردا على واشنطن: فلتوجه أمريكا سفنها وسفن إسرائيل ...
- وكالة أمن بحري: تضرر سفينة بعد تعرضها لهجومين قبالة سواحل ال ...
- أوروبا.. مشهدًا للتصعيد النووي؟
- الحوثيون يعلنون استهداف سفينة بريطانية في البحر الأحمر وإسقا ...
- آلهة الحرب


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعد محمد رحيم - ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 9 وجهتا نظر عربيتان