أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعد محمد رحيم - ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 8 غودولييه.. جوناثان ري.. وآخرون















المزيد.....

ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 8 غودولييه.. جوناثان ري.. وآخرون


سعد محمد رحيم

الحوار المتمدن-العدد: 3306 - 2011 / 3 / 15 - 21:00
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


كان السقوط الدراماتيكي المروّع للتجارب الاشتراكية التي تبنت الإيديولوجية الماركسية مناسبة محفِّزة للعودة إلى منابع الماركسية وقراءة نصوصها، وتقويمها ونقدها، مجدداً، في ضوء التطبيق ( الممارسة ) وعقابيله ودروسه المريرة. وكانت الحصيلة تعريض افتراضات الماركسية ومفاهيمها ومقولاتها، كلها، لمراجعة صارمة مشككة، بدا معها وكأن كامل البنيان الإيديولوجي التقليدي للماركسية على وشك التقوّض والانهيار. ولم يعد سوء التطبيق، في نظر كثر من الماركسيين ومنتقديهم هو العلّة في ذلك السقوط. وليس أيضاً عدم استيعاب الماركسية بشكل جيد من قبل النخب الحزبية الحاكمة، وإنما هي ( أي العلّة ) كامنة في بعض أسس النظرية ذاتها. وحتى لمنظِّر إيديولوجي كبير في الحزب الشيوعي السوفيتي مثل الكساندر ياكوفليف؛ لم تكن مسؤولية ما جرى تقع على عاتق لينين وستالين وحدهما، بل وعلى عاتق ماركس نفسه، كذلك. هذا ما قاله ياكوفليف في العام 1991. ومنذ ذلك التاريخ تنوعت الأبحاث والدراسات التي حاولت تمحيص الماركسية ( نظرية وتطبيقاً ) ووضعها على طاولة التشريح النقدي. وانطوت تلكم المحاولات إما على سوء النية، كما عند بعضهم، أو على الحرص على مصير الماركسية، ومن ثم على قضية الثورة البروليتارية والاشتراكية كما عند بعضهم الآخر. فالتمسك الأعمى والعنيد بالمفاهيم والمقولات والرؤى النظرية وتخطئة الواقع العياني المتقلب والمعقد الذي يمكنه، في كثر من الأحايين، أن يذلّ أي تصور وأية رؤية أفضى إلى سلسلة من الإخفاقات المؤسفة. ولسنوات طويلة جُمِّدت الماركسية، وحُجب أفقها النظري، وخُنقت طاقتها على التجدد والتوليد خضوعاً لمقتضيات السلطة وشروط الصراع السياسي ( الداخلي والدولي ). وكما تقول سوزان فوسبر فإن من الواضح "أن الدول الجديدة تحتاج إلى إيديولوجيات تشرعنها، وأن هذه لن تكون إيديولوجيات نقدية. ومن المؤكد أن استخدام الماركسية بهذه الطريقة أضعف استخدامها اللاحق كأي شيء سوى عقيدة للدولة. وإن افتقار نظام الحكم افتقاراً مزمناً إلى الشرعية جعل تحويل هذه الشرعية إلى دوغما سلطوية ضرورة وظيفية".
وفيما بقي ماركس قرابة أربعة عقود يدرس كيفية نشوء النظام الرأسمالي ويراقب حركة تطوره ويحلل قوانينه وأزماته ويستقرئ مصيره في ضوء منهجه المادي التاريخي فإنه لم يضع نظرية متكاملة في الاشتراكية. وبتعبير سوزان فوسبر "فإن الماركسية قدّمت تحليلاً مفصلاً للرأسمالية ولكنها لم تقل شيئاً يُذكر، أو لم تقل شيئاً على الإطلاق عن بناء الاشتراكية". وإذ يجزم سامي دانيال بعدم وجود اقتصاد سياسي للاشتراكية يستشهد بقول أليك نوف؛ "لم يكن ماركس معنياً، بالحساب، والتقويم، والمعايير، والخيار، وصنع القرار العقلاني أو تنظيمه، في ظل الاشتراكية". ولذا فإن عمليات البناء أصبحت، في الغالب، أسيرة قانون ( التجربة والخطأ ) والاجتهادات والفرضيات التي عوملت معاملة النصوص والتعاليم الثابتة والنهائية. وصار أي اجتهاد آخر وأية رؤية جديدة بمثابة الهرطقة التي يجب محاربتها بلا هوادة. فجفت منابع الإبداع النظري والعملي، وتراكمت الأخطاء، وبات السقوط محتماً، ومسألة وقت ليس إلاّ.
تعاطى ألتوسير مع الماركسية بعدِّها علماً، لكن العلم الماركسي لم يخلُ من مسحة طوباوية، وبُعد حلمي ما كان له أن يصمد أمام الامتحانات القاسية للواقع ومُكر التاريخ.. كان ماركس علمياً، إلى حد بعيد، وهو يحلل ويفسِّر، لكنه لم يكن كذلك، تماماً، وهو يتنبأ. ويتجلى الإخلاص لماركس في أن لا نأخذ ماركس كله بعدِّ نصوصه من ألفها إلى يائها، مقدّسة. وأظنه أيضاً لم يرد ذلك.
يحدد موريس غودولييه بعضاً من أبرز مظاهر تلك المسحة الطوباوية فيقول؛ "وعلى الرغم من رغبة ماركس في جعل خطابه علمياً، لم يستطع التخلص من الإغراء الطوباوي، فهو في رأس المال، ونقد برنامج غوتا، يلمِّح لنا، هنا وهناك، في بعض عباراته، أن عصراً ذهبياً سيأتي، في مستقبل بعيد، حيث تختفي الطبقات الاجتماعية والدولة، وسيكف العمل عن أن يكون ضرورة، وحيث كل سيستلم أجره حسب حاجته. وباختصار، عصراً ستخطو فيه الإنسانية، أخيراً خطواتها الأولى في مملكة الحرية".
يحاول غودولييه كسر تلك الحلقة الميكانيكية التي تربط علاقات الإنتاج بتطور القوى المنتجة ليجد بين المتغيرين الأساسيين آصرة جدلية أكثر معقولية وانفتاحاً من تلك التي روّجت لها طويلاً الماركسية الأرثوذكسية.. يقول؛ "ليس تطور القوى المنتجة هو الذي يولّد أشكال الإنتاج الاجتماعية الجديدة. وإنما ظهور أشكال اجتماعية جديدة وتطورها هما اللذان يُحدثان تطوراً في القوى المنتجة الجديدة. وبشكل عام لا تتطور القوى المنتجة، مادية أو روحية، بذاتها وإنما في سياق تاريخي محدد، ولأسباب اجتماعية ، مهما كانت طبيعتها". ويشير علي شمسفاري إلى أن تراكماً هائلاً للرأسمال قد حدث في مرحلة الرأسمالية التجارية بين القرنين السادس عشر والثامن عشر وتطور النظام الرأسمالي تبعاً لذلك من غير "حصول أي انطلاقة تكنولوجية رئيسية، وهذه هي "مرحلة التطور المتزامن لعلاقات وقوى الإنتاج قامت فيها علاقات الإنتاج الرأسمالية عموماً بتكييف وتشكيل قوى الإنتاج القديمة... وليس تثوير تلك القوى. هكذا فإن العلاقة بين قوى الإنتاج وعلاقاته كانت أعقد بكثير من علاقات السببية التي تسير في اتجاه واحد". ويمضي شمسفاري في قراءته التاريخية إلى استنتاج أن الثورات ذات الطابع الثقافي والاجتماعي والسياسي ( عصور النهضة والإصلاح الديني والتنوير، والثورات؛ الإنكليزية والأميركية والفرنسية )، قد حدثت هي الأخرى قبل حصول التطورات الكبيرة في القوى المنتجة في القرن التاسع عشر، أي قبل الثورة الصناعية، حيث كانت علاقات الإنتاج الرأسمالية والبنية الفوقية موجودة.
ويختلف غودولييه مع ماركس في استنتاج الأخير بخصوص إمكانية، بل حتمية قيام الثورة في المجتمعات الصناعية الرأسمالية الأكثر تطوراً.. يقول غودولييه؛ "أنه إذا كانت فرنسا بلد الثورات البرجوازية ( التقليدي )، فذلك يرجع إلى أن الأسلوب الرأسمالي في الإنتاج والتجارة كان أقل تطوراً فيها من إنكلترا، وأن البرجوازية الفرنسية كانت مجبرة على التحالف السياسي، مؤقتاً، مع الفلاحين والحرفيين، وهذا ما جذّر نضالها. من هنا ظهر، بيع أملاك الدولة والكنيسة، العدد الكبير من الفلاحين المالكين والمنتجين المباشرين الذين سرعان ما التهمتهم، فيما بعد، عمليات التصنيع والتمدين". ويؤشر غودولييه نقاط قصور أخرى في تحليلات ماركس؛ "لن نجد لدى ماركس شيئاً عن تحليل تطور العائلة الفلاحية أو العائلة العمالية، لئلا نشير إلى غير هذا المظهر من تطور المجتمع الحديث.
ثمة حقل مهم آخر بقي مهملاً لدى ماركس هو دور الدولة البالغ الأهمية في عمليات الانتقال".
ليس من الإنصاف محاسبة ماركس على ما لم يقله. على ما لم تسنح له الفرصة للخوض فيها بسبب مقتضيات ( أمه الطبيعة ). وهذا لا يعني تجنب انتقاده في المسائل التي أهملها لأنه لم يدرك عمق تأثيرها في حينه. ولا ننسى أن من ينتقدون ماركس، اليوم، يستندون إلى معطيات مرحلة تاريخية واسعة ودروسها الكبيرة تمتد لأكثر من قرن من الزمان أعقبت وفاة ماركس، ويرونها بوضوح لم يُسنح لمن عايش تلك المرحلة في حينها.
ما كان بمقدور ماركس، ولا حتى أي عبقري عبر التاريخ، أن يتكهن مسبقاً بانعطافات الواقع التاريخي وانحرافاته ومفاجآته كلها. وهو، أيضاً، لم يدّعِ شيئاً من هذا القبيل لنفسه.
أدرك ماركس أن التاريخ يرتقي تصاعدياً من مرحلة إلى أخرى أكثر تطوراً. غير أن هذا الارتقاء لم يكن خطياً وإنما لولبياً، تتخلله لحظات توقف وارتداد. وهذه الرؤية كانت نتاج ثقة عالية بالإنسان وعقله وقدراته وإن اكتسى بشيء من العلموية، فيما بعد، عند كثر من الماركسيين الذين قالوا بموضوعية حركة التاريخ، وحتمية اتخاذه لاتجاهه ومساره الصاعد نحو الاشتراكية بإسقاط نظرية الارتقاء البيولوجي كما أسهب فيها داروين، على التطور الاجتما ـ اقتصادي.
هذا البعد التاريخاني في الفكر الماركسي تعرّض هو الآخر للتشريح والانتقاد.. يثير جوناثان ري من الوجهة القيمية جانباً ملتبساً من هذه النظرية التي يرى أنها "لا تميل لإظهار أن أنواعاً متطورة أخرى من التنظيم الاجتماعي هي، بالضرورة، أفضل ( من ناحية العدالة والأخلاق والرخاء ) من أنواع أخرى أقل تطوراً، وليس من المرجح أن تشير إلى أن الاشتراكية باعتبارها نهاية العملية التاريخية. ولذلك فإنها تفتقر إلى القدرة على تحريك النشاط السياسي الذي تتطلبه الحركات الماركسية من أية نظرية عن التاريخ".
إن الادّعاء بأن ماركس لم يتحرر من تأثير التقاليد الفكرية لعصر التنوير بمحمولاتها الطوباوية أمر مجافٍ للحقيقة، وكشوفاته النظرية تدلل على قطيعة معرفية أساسية نقلت أسلوب التناول للظواهر الاجتماعية ـ الاقتصادية، لاسيما في العهد الرأسمالي، بشكل حاسم، إلى منطقة نظرية تحليلية جديدة، ونزعت القناع عن إشكاليات لم يرها أحد قبله. كما أنه "لم تكن لدى ماركس نظرة مثالية، أحادية الجانب، عن تأثيرات تطور القوى المنتجة. وقطيعته، أي جرأته، تكمن في هذا التوسع التحليلي والنقدي المزدوج للأفكار التي بدت للوهلة الأولى لا تصلح إلاّ للمجتمعات الغربية والعصر الذي شهد ولادتها". والتاريخ، في المنظور الماركسي هو فعل الإنسان: نتاج نشاطات البشر في إنتاجهم لوسائل عيشهم وتلبية حاجاتهم وصراعاتهم وعلاقاتهم فيما بينهم، ومع الطبيعة. والديالكتيك الماركسي، بحسب جوناثان ري؛ "يرى أن كامل التاريخ الإنساني ينبغي أن يُفهم باعتباره حصيلة للأفعال الإنسانية، نعني القول؛ العمليات التي يسعى فيها الناس إلى أن يصوغوا العالم بالتوافق مع المستقبل كما يتخيلون ويرغبون فيه. وبالطبع فإن الأفعال الإنسانية في ميدان الممارسة، إنما تتحقق بـ ( توسط ) بعضها البعض، وبتوسط المؤسسات وبتوسط الطبيعة بحيث لا تحقق في الغالب الأهداف المتوخاة. ولكن الفكرة هي أن الحصيلة النهائية لكل هذه المشاريع هو خلق مجتمع يقترب من التطابق مع الرغبة الإنسانية المجردة بالحرية ـ وفي هذه الحالة تبدو الاشتراكية، تماماً كما تحتاجها الحركات الماركسية لأن تكون وكأنها مرتبطة داخلياً مع طبيعة التاريخ بما هو عليه". هنا يحاول جوناثان ري التوفيق بين فكرتي دور الفعل الإنساني في صناعة التاريخ والتاريخانية التي تتكلم عن قوانين موضوعية وحركة تقدمية صاعدة وحتمية للتاريخ. وذلك بجعل الفكرة الأولى جوهر الفكرة الثانية، أو أن الفكرة الثانية تعكس الفكرة الأولى في العمق. وإنهما تتطابقان في النهاية.
ما يراه أغلب منظِّري ما بعد الماركسية، اليوم، هو صورة للعالم غير تلك التي رآها ماركس، أو تلك التي تخيلها. وفي ضوء صورة الحاضر ومعاييره تجري إعادة صياغة لصورة الماضي نفسها، كما لو أن الماضي يفقد موقعه الموضوعي المستقل ليخضع لمعايير تقويم وبلورة غريبة عنها، مصدرها المستقبل. وهكذا تضطرب مفاهيم ومقولات وقوانين وفرضيات وميول بُنيت نظرياً على وفق طرق ورؤى وصياغات اعتقدناها متماسكة، وفوق الشبهات ونزوة التساؤلات، وإذا بها تتعرض للتساؤلات والشبهات والشكوك. في سبيل المثال، فكرة الطبقة، وهي مركزية كما نعرف جميعاً في منظومة الإيديولوجية الماركسية، كذلك ما يرتبط بها من مفاهيم ( الوعي الطبقي، الولاء الطبقي، الصراع الطبقي، الخ.. ).. هذه الفكرة لم تعد قارّة في نظر بعض المنظِّرين.. يقول أرنستو لاكلاو في معرض انتقاده لرؤية غرامشي للتاريخ والتي يجدها محدودة لأن قوتها الناطقة طبقة جوهرية في المجتمع.. يردف لاكلاو؛ "أما اليوم فنرى أن فكرة الطبقة بالذات تتعرض للمساءلة. وبخاصة أن الطبقة لا تمثل أي كتلة صوانية متناغمة.وإنها أصلاً نتاج مركّب هيمنة بالغ التعقيد". ويطرح ريجيس دوبريه على جان زيغلر ( الماركسي ) سؤالاً مفاده؛ "كيف تفسِّر، أنت الماركسي حقيقة أن الهوية القومية تبدو خلال كافة الأزمات التاريخية الحادة، أصلب من الانتماء الطبقي؟". ويستشهد بما حدث خلال الحرب العالمية الأولى ( 1914 ) من أنه بدل أن يكون العامل الألماني حليفاً للعامل الفرنسي فإن الوقائع أثبتت عكس ذلك. ويرد زيغلر بالإشارة إلى أن الشعوب مستلبة بالخرافات القديمة وأن العلّة هي في فقدان النضج. وبحسب وجهة نظره "أن الإنسان يبقى قومياً ما دام رجلاً لا يتمتع بالحرية الحقة، ولا يقدر على التحكم في علاقاته العاطفية والإنتاجية". ويعي زيغلر الإشكالية التي تنطوي عليها أطروحة ماركس بشأن البنية الفوقية.. يقول؛ "لقد أحال ماركس على ما أسماه البنية الفوقية الكلية القدرة، كلاً من الأمة والدين والدول، أي باختصار: كل ما هو هوية جمعية. وهنا وقع ضحية فرضية مغلوطة. فثمة كيان مستقل في حدّ ذاته لكافة هذه الرموز والمؤسسات المقوِّمة للهوية الجمعية. إنها حقائق مستقلة في حدّ ذاتها وتدوم، أكثر بكثير مما تدوم علاقات الإنتاج الجائرة التي تولِّد البنى الفوقية في المعنى الذي أراده ماركس. وهذا مؤكد. أي بعبارات أخرى: لقد قصّر ماركس عن الإدراك الفعلي لمسعى الهوية لدى الإنسان، وإحساسه بالانتماء القومي أو الديني". غير أن تهميش العامل الطبقي، أو نسخه، لصالح الهوية ( الثقافية ) في خطاب الثقافة ووسائط الإعلام البرجوازيتين تدخلان في ضمن مقتضيات إستراتيجية محكمة لديمومة النظام الرأسمالي.
وعوداً إلى غرامشي فلا يمكن فصل مسألة الهوية عن سياقها التاريخي، وعن تناقضات العلاقات الاجتماعية السائدة، ودور العامل الطبقي وظروف الصراع. وبهذا "تُمسك هذه العلاقات بمفتاح الهوية".. فالهيمنة الثقافية المتساوقة مع مصالح الطبقات المتحكمة بوسائل الإنتاج تمنع "تكوين تصورات الحقيقة التي قد توفر للمضطهدين ( بفتح الطاء ) تفسيراً تاريخياً لذاتها ويكون من متطلبات انعتاق الذات". وهذا الانعتاق بحاجة، بمنظور غرامشي، إلى أن تخلق الطبقة المضطهدة ( بفتح الطاء ) مثقفيها العضويين المعبرين عن أفكارها وطموحاتها، وتعميق وعيها بذاتها، أي بهويتها. "فالمثقفون هم عضويون عندما يرتبطون بنظام عضوي تاريخي محدد، وبممارسات إنتاجية قائمة وفاعلة في ثقافته الإنتاجية".
يعيدنا هذا إلى معضلة، أو إشكالية العلاقة بين القاعدة الاقتصادية والبنية ( الثقافية ) الفوقية، وطبيعة وظيفة المثقف كنتاج موضوعي لتلك العلاقة. وقد تحدث غرامشي عن علاقة التبادل القائمة بين المثقف والإنتاج. وكيف يصبح المثقفون وكلاء الرأسمالي المستأجرون لإسباغ الشرعية على النظام. "فموظفو الدولة من البيروقراطيين، والمدرسين، الذين يجب أن يُنظر إليهم على أنهم يموّلون من قبل الرأسمالي من ( فائض القيمة ) وذلك لتحقيق هدف صريح ألا وهو إضفاء الشرعية على استخلاص القيمة المضافة". أي تسويغ جوهر الاستغلال الرأسمالي.
ينطلق هربرت ماركوز في فصل من كتابه ( الإنسان ذو البعد الواحد ) بتصدير لمقولة رولان بارت وردت في كتاب ( الكتابة في درجة الصفر )؛ "إن كل كتابة سياسية في الوضع الراهن للتاريخ لا يمكن إلاّ أن تؤكد وتعزز عالماً بوليسياً، كما أن كل كتابة فكرية لا يمكن إلاّ أن تؤسس أدباً زائفاً لا يجرؤ على التصريح باسمه". وما يريد ماركوز التوصل إليه هو أن فكرة الواقعي عقلاني كما ذهب إلى ذلك هيجل. وأن النظام الرأسمالي يلبي الحاجات ، كما يشيع الخطاب الرأسمالي نفسه، قد خلق امتثالية جديدة وضميراً سعيداً، أي سلوكاً اجتماعياً متأثراً بالعقلانية التكنولوجية، فيما خلقت الرأسمالية سلطة للمجتمع على الإنسان، وهو مجتمع فعال ومنتج، يمتص المعارضة، كما يصرّح ماركوز، ويلعب مع التناقض لعباً، مبرهناً على تفوقه الثقافي.. إن النظام يحتوي الممانعة ويمتص طاقة السلب، عبر تعزيز الاستغلال الاقتصادي بالهيمنة الثقافية، على وفق رؤية غرامشي.
المصادر؛
1ـ ( ما بعد الماركسية: ندوة أبحاث فكرية ) إعداد: فالح عبد الجبار.. دار المدى ـ دمشق.. ط1/ 1998.
2ـ ( غرامشي؛ حياته وأعماله ) جون كاميت.. ترجمة؛ عفيف الرزاز.
3ـ ( الإنسان ذو البعد الواحد ) هربرت ماركوز.. ترجمة: جورج طرابيشي.. دار الاداب ـ بيروت.. ط3/ 1988.
4ـ ( كي لا نستسلم ) ريجيس دوبريه وجان زيغلر.. ترجمة؛ رينيه الحايك وبسام حجار.. المركز الثقافي العربي.. الدار البيضاء ـ بيروت/ ط1/ 1995.



#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ثورة الشباب العربي: الدخول في عصر ما بعد الحداثة
- موسم سقوط الثقافة السياسية الفاشية عربياً
- ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 7 كاسترياديس.. جون مولينو
- ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 6 ألتوسير.. ريجيس دوبريه
- ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 5 سارتر والماركسية
- ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 4 مدرسة فرانكفورت ونقد أسس ا ...
- ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 3 غرامشي.. لوكاش
- ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 2 من كاوتسكي ولينين إلى الست ...
- ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية: 1 مدخل
- مأزق النقد
- بين الرواية والفلم
- امرأتان وثلاثة رجال ( قصة قصيرة )
- في مديح القصة القصيرة
- كتب قديمة مستعملة
- الغموض في القصص
- مع محيي الدين زنكنة.. خواطر وذكريات
- القابض على الجمر.. يوميات قاسم عبد الأمير عجام
- أنْ نأسر المكان داخل النص: قراءة في -خرائط منتصف الليل- لعلي ...
- إدوارد سعيد: المنفى والهوية.. الأنا والآخر
- تمثلات النهضة: 4 معوقات النهضة في العراق، ونقد مشروعها


المزيد.....




- إعلام: وفد مصري إلى تل أبيب وإسرائيل تقبل هدنة مؤقتة وانسحاب ...
- -أنصار الله- تنفي استئناف المفاوضات مع السعودية وتتهم الولاي ...
- وزير الزراعة الأوكراني يستقيل على خلفية شبهات فساد
- ماكرون يهدد بعقوبات ضد المستوطنين -المذنبين بارتكاب عنف- في ...
- دراسة حديثة: العاصفة التي ضربت الإمارات وعمان كان سببها -على ...
- -عقيدة المحيط- الجديدة.. ماذا تخشى إسرائيل؟
- مصر: بدء التوقيت الصيفي بهدف -ترشيد الطاقة-.. والحكومة تقدم ...
- دبلوماسية الباندا.. الصين تنوي إرسال زوجين من الدببة إلى إسب ...
- انهيار أشرعة الطاحونة الحمراء في باريس من فوق أشهر صالة عروض ...
- الخارجية الأمريكية لا تعتبر تصريحات نتنياهو تدخلا في شؤونها ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعد محمد رحيم - ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 8 غودولييه.. جوناثان ري.. وآخرون