أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - هشام آدم - الرسم القرآني وإشكاليات الإملاء - 1















المزيد.....


الرسم القرآني وإشكاليات الإملاء - 1


هشام آدم

الحوار المتمدن-العدد: 3245 - 2011 / 1 / 13 - 16:44
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


اللغة العربية التي تكلم بها بدو الجزيرة العربية ونواحٍ من اليمن والبحرين والشمال العربي هي لغة مكتوبة، ولكن تاريخ الكتابة بالعربية هو ما لم يتم تناوله بالبحث والاستقصاء، ولهذا فإن مصادرنا عن منابع اللغة العربية تكاد تكون شحيحة إن نحن استثنينا بعض الكتب والمباحث التي تتناول تاريخ العربية. وليس في وسعنا الاعتماد على تلك المراجع التي تأخذ العربية من حيث هي لسان وليس من حيث هي كتابة حرف (أي مكتوبة)، ولكن من الواضح أنها كانت شبيهة تقريباً بالعربية المكتوبة اليوم (على الأقل في حقبة ما قبل الإسلام، وبالتحديد في حقبة إزدهار التجارة في مكة) مع اختفاء التنقيط بطبيعة الحالة، لأن ذلك يستدعي الاعتراف بقوامة اللغة المكتوبة للمراسلات والمكاتبات التجارية والعقود والمفاوضات التي تدخل قريش طرفاً فيها، ونعلم جميعاً أن العرب استخدمت الكتابة في توثيق العقود والمواثيق فيما بينها، ولاشك أنه تم الاتفاق على لغة (أو إملاء) معياري في الكتابة، كما كانت لغة قريش هي اللغة المعيارية في ذلك الوقت. هذا الأمر يقودنا إلى الحديث عن الفارق النوعي بين اللسان والحرف، أو بمعنى آخر: اللغة المكتوبة والمنطوقة، فهل كانت العرب تكتب سماعياً (أي وفقاً للنطق) أم كانت هنالك قواعد إملائية ربما لا تسري على اللفظ؟ ففي عصرنا الحالي هنالك عدة استخدامات للغة العربية وهي ما تسمى باللهجات، ولكن تظل الكتابة الإملائية موحدة وليست مقيسة على السماعي، فأهل الخليج مثلاً ينطقون حرف الكاف جيماً فيقولون (سَمَج) للمدلول الحرفي (سمك)، وأهل مصر ينطقون حرف القاف همزة فيقولون (ألم) للمدلول الحرفي (قلم) ونحن في السودان ننطق حرف الذال زاءًا، فنقول (لزيز) للمدلول الحرفي (لذيذ) لكننا جميعاً نتفق على اللغة الحرف رغم اختلافنا في اللغة اللسان. فإن كُنا في كتابتنا نعتمد على قواعد إملائية تم الاتفاق عليها، فهل كانت هنالك قواعد إملائية للعرب يعتمدون عليها في الكتابة؟ (كثير من أخطاء الإملاء سببها أخطاء النطق في الأصل)

الحقيقة أن الإجابة على هذا السؤال يبدو صعباً للغاية؛ لاسيما وأننا لا نجد في تاريخ اللغة ما يُمكن الاعتماد عليه من عمليات تقعيد للغة وإملائها. والراجح عندي أن العرب لم تهتم بذلك كثيراً لأنها لم تكن تعتمد على الكتابة كثيراً، فكانت العربية لغة منطوقة أكثر منها مكتوبة، ولكن يبدو أنه كان هنالك ما يُشبه الاتفاق على إملاء قياسي أو معياري يتم استخدامه في المكاتبات العامة؛ لاسيما عقود الصلح والحلف بين القبائل، وكذلك المكاتبات التجارية، ولو أنها كانت على نطاق أضيق قليلاً، يدل على ذلك بعض المخطوطات الموجودة في مكتبة الإسكندرية وفي المتحف البريطاني لنصوص مكتوبة باللغة العربية يرجع تاريخها إلى 213 و 220 ميلادية، في حين ظلت قواعد اللغة سماعية غير خاضعة لقانون نحوي خاص، ولكنها كانت في الغالب قواعد سليقية مكتسبة ومتوارثة دون معرفة قواعدية مدروسة ومؤسسة.

ونحن إذ نفرق بين اللغة اللسان واللغة الحرف نتذكر مقولة محمد (نبي الإسلام): "نزل القرآن على سبعة أحرف" ورغم إمكانية الطعن في صحة هذا الحديث من أساسه من حيث أنه ربما كان حديثاً مكذوباً عليه، كان الغرض منه التخفيف والتيسير على الأعاجم الداخلين في الإسلام في عهود ما يُسمى بالفتوحات الإسلامية، بحيث يتمكنون من قراءة القرآن دون صعوبة، فهنالك شعوب يستعصي عليها نطق بعض الحروف العربية (العين، الغين، القاف، الضاد، الظاء، الصاد، الحاء، الخاء) إلا أن هذا الحديث يكتسب مصداقيته لدى ما يُسمى بعلم القراءات. وفي حدود علمي فإن علم القراءات ذو اتصال باللغتين اللسانية والحرفية، ففي قوله {{قال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها}} يقرأها بعضهم {{مجريها}} لأنه ينطقها بهذا الشكل، وربما لا يهمنا هذا الأمر في كثير أو قليل، لأن هذه الاختلافات لا تكاد تؤثر عميقاً في المعنى؛ إذ هي في الأصل اختلافات في النطق وليس الكتابة، فنحن في السودان مثلاً ننطق القاف غيناً، ولكننا نكتبها قافاً كما هي.

مما تقدم نعرف أنه من الوارد الاختلاف على النطق، ولكننا –بكل تأكيد- نتفق جميعاً في الكتابة الحرفية والنصيّة؛ إذ أننا نلجأ جميعاً إلى قواعد إملائية تحدد لنا طريقة كتابة الأصوات والكلمات ليس حسب نطقها فقط بل وحسب إملائها القواعدي الصحيح، ولهذا فإننا لا نخطئ في كتابة (ليلى) فنكتبها بهذا الشكل (ليلا)، ولا نخطئ في كتابة (ثقة) فنكتبها (ثقت) ولا نخطئ في كتابة (لكن) فنكتبها (لاكن) ولا نخطئ في كتابة (هذا) فنكتبها (هاذا) ولا نخطئ في كتابة (الذي) فنكتبها (اللذي) ولا نخطئ في كتابة (هؤلاء) فنكتبها (هاؤلاء) رغم مخالفة ذلك للسماعية، لأن الإملاء له قواعد محددة وواضحة، ومتفق عليها.

وعلى هذا فإننا قد نعترف بإمكانية وقوع أخطاء إملائية في كتابة القرآن في العهد المحمدي، إذا اعتمدنا على معرفتنا الإملائية الحالية، لأن علم الإملاء تم تقعيده بعد كتابة القرآن بوقت طويل، ليس هذا وحسب، بل حتى المعرفة بالتشكيل والتنقيط كانت لاحقة على القرآن، ولكن ترى هل ظلت هنالك أخطاء إملائية في القرآن حتى بعد تقعيد علم الإملاء؟ أم تم تجاهل علم الإملاء في كتابة القرآن في العصور الحديثة؟ ولماذا؟

إن نحن استحضرنا معرفتنا بقواعد الإملاء "العربي" عند قراءة القرآن "العربي" فإننا نقف على كم هائل من الأخطاء الإملائية، وهو ما يُعبّر عنه في كثير من الأحيان باسم (الرسم القرآني) فما هو الرسم القرآني، وما هو الغرض منه، وهل تم بالفعل تقعيد علم إملائي خاص بالقرآن؟

فمن المعروف في علم الإملاء أنه يستحيل التقاء همزتين بنفس الحركة رسماً مثل ( أ أ ) إلا أن تكون الهمزة الأولى همزة استفهام كما في قولنا (أأنت من كسر الزجاج؟)، وأنه يتم الاستعاضة عن الهمزتين بحركة مد على الألف ( آ ) فنكتب: "آيات" ولا نكتب "أأيات" أو "ءايات"، ونكتب "آلاء" ولا نكتب "أألاء" أو "ءالاء" ونكتب "آمن" ولا نكتب "أأمن" أو "ءامن" ونكتب "آدم" ولا نكتب "أأدم" أو "ءادم" لكننا نجد في الرسم القرآني (مصحف المدينة) أمراً مختلفاً، فتكتب: (ءايات) و (ءالاء) و (ءامن) و (ءادم).

ونعلم كذلك أن أداة النداء (يا) منفصلة عن اسم المنادى، فنقول (يا آدم) ولكننا نجدها في القرآن موصولة حيث تتصل الياء بالألف وتوضع همزة بين الحرفين مع المد، وفي قولنا (يا معشر) نجدها في القرآن (يمعشر) مع وضع ألف صغيرة بين الياء والميم. وكذلك نجد القرآن يكتب "الملائكة" برسم مختلف (ملئكة) ولكن بوضع الهمزة أسفل النبرة لا فوقها. ونكتب "مثواكم" لأن أصل الكلمة هي (مثوى) فالواو حرف أصيل، والالف حرف ليّن يمكن إعادته إلى أصله، ولكنها تظل في القرآن على علّتها فترسم النبرة وتوضع ألف صغيرة عليها، وهو ما لم يعرفه الإملاء العربي عموماً، فالنبرة إما للحرف المنقوط كالنون والباء والتاء والثاء والياء وإما للهمزة، ولكن ليست هنالك نبرة للمد.

كذلك نقرأ في القرآن كلمات مثل (الحيوة) بوضع ألف صغيرة فوق الواو للدلالة على كلمة (الحياة) وكذلك (الكتب) بوضع ألف صغيرة بين حرفي التاء والباء للدلالة على كلمة (الكتاب) وكذلك نقرأ (السموت) بوضع ألفين صغيرتين على الميم وعلى الواو للدلالة على كلمة (السماوات) ونقرأ (الصلوة) للصلاة و (الزكوة) للزكاة و (النجوة) للنجاة و (الغدوة) للغداة و (الشهدة) للشهادة بوضع ألف صغيرة على الواو في كلٍ منهما، وكذلك نجد القرآن يكتب (أنباء) برسم مغاير في قوله {{يأتيهم أنبؤا}}[الأنعام: 5] ولكن بوضع مد بين الباء والواو المهموزة والتي لا نعلم من أين جاءت، وكذلك كلمة (نبأ) التي جاءت برسم غريب في قوله {{ولقد جاءك من نبإى المرسلين}}[الأنعام: 34] وكذلك كلمة (رأى) جاءت هكذا (رءا) كما في قوله {{فلما رءا القمر بازغاً}}[الأنعام: 77] وكذلك في قوله {{أنهم فيكم شركؤا}}[الأنعام: 94] وهو يقصد (شركاءُ)

وهنالك العديد من النماذج التي يُمكن ذكرها وإيرادها في مقام الرسم القرآني المخالف للرسم الإملائي المعروف. فلماذا هذا الاختلاف، وهل هو رسم مقدس لا يُمكن تغييره وتبديله، أم هو رسم مقصود؟ وإذا كان الرسم القرآني مقدساً فلماذا تم تنقيط المصحف وفقاً لقواعد التنقيط المكتشفة في عصور تقعيد اللغة والإملاء؟ ولماذا لم يتم تطبيق قواعد الإملاء وفقاً لذلك أيضاً؟

هنالك أسئلة كثيرة تطرح نفسها، والغرض من طرح مثل هذه الأسئلة هو معرفة إجابة لسؤال آخر: "هل يُمكن استخدام الرسم القرآني في الكتابة الاعتيادية؟" فإن نحن اعتبرنا الرسم القرآني هو الأساس على اعتبار القداسة مثلاً، فهذا يعني أننا نكتب بطريقة خاطئة، وعلى هذا فإنه يتوجب علينا الاقتداء بالرسم القرآني في كتابتنا، لأن تخصيص القرآن برسم وإملاء مغاير للإملاء المعروف يجعلنا نطرح مثل هذه الأسئلة وبالتالي عن إمكانية محاكمة أيّ من الرسم بالآخر. فهل يُمكننا مثلاً تخطئة الرسم القرآني في كلمة مثل (رحمة) التي يرسمها (رحمت) في بعض المواضع، علماً بأنه يرسمها (رحمة) في مواضع أخرى؟ وهل يمكننا تخطئة الرسم القرآني في كلمة (كلمة) التي يرسمها (كلمت) كما في قوله {{وتمت كلمت ربك}}[الأنعام: 115]؟ ثم إلى أيّ مدىً يبلغ إثمنا إن نحن حاولنا التشبه بالرسم القرآني في كتابتنا الاعتيادية؛ لاسيما وأننا نكتب (بسم الله) بهذه الطريقة كما في الرسم القرآني، وليس (باسم الله) كما هو أصح قواعدياً، وكذلك نكتب (رحمن) بهذه الطريقة كما في الرسم القرآني، وليس (الرحمان) كما هو أصح قواعدياً. وإذا كانت القاعدة الإملائية تقول بلزوم رسم الألف بعد واو الجماعة كما في قولنا (باءوا) فلماذا لم تكتب في المصاحف (باءو) بدون الألف؟ ولماذا لا يلتزم المصحف برسم نقطتي الياء في آخر الكلمة كما في (الذي) و (لعلي) و (عندي) و (اتبعوني) و (بريء)؟

كل ذلك يخلق لدينا تساؤلات مشروعة حول المعيار القواعدي في كتابة العربية، ويجعلنا نتشكك إما في خطأ ما نكتب، وإما في خطأ ما كُتب به القرآن. فإن كُنا نحن المخطئين فلماذا هناك قاعدتين للإملاء بدلاً من قاعدة واحدة للرسم العربي؟ ولماذا لم يكن الرسم القرآني هو الأساس والقاعدة الإملائية المعيارية؟ وإن كان الرسم القرآني مخطئاً، فلماذا لم يتم تعديل هذه الأخطاء حتى الآن؟

وعلى صعيد آخر فإن ثمة مقولة تأخذ نصيبها من الحقيقة لدى كثير من العلماء والمفكرين المسلمين مفادها أن تقعيد اللغة جاء وفقاً للقرآن من حيث أن لغته معيارية، وعلى هذا فإنهم يجعلون القرآن حجة على قواعد اللغة وليس العكس، وهذا الأمر وإن كان يبدو في ظاهره صحيحاً، إلا أنه غير ذلك على الإطلاق، فما كانت مثل هذه المقولات إلا محاولة لتبرير الأخطاء الواردة في القرآن والتي لم تكن تتماشى مع لسان العرب. ويجدر بنا أن نفهم أن اللغة العربية قبل الإسلام وقبل كتابة القرآن كانت لغة لها قواعدها الرصينة وأن فصاحة العرب ارتبطت أصلاً بمقدار الاتساق مع هذه القواعد التي لم تكن منصوصة، ولكنها كانت قواعد مفعلة، وما فعله علماء النحو لم يكن اختراعاً لقواعد اللغة بل اكتشافاً لها، وبين الاثنين فارق نوعي كبير وعميق. والحقيقة أننا في الغالب الأعم نكتشف العلوم ولا نخترعها، فعلم الفلك هو اكتشاف لحركة الكواكب وتأثيراتها على المناخ مثلاً، ولكن بالتأكيد فإنه وحتى قبل اكتشاف علم الفلك، فإن الكواكب كانت لها حركتها وتأثيراتها المناخية فعلاً، ولكن كل ما فعله العلماء هو أنهم انتبهوا إلى هذه الحركات الظاهرية، وسجّلوها وخرجوا منها بأساسيات كوّنت ما يُعرف بعلم الفلك، وكذلك الحال في بقية العلوم، ولا يُستثنى من ذلك اللسانيات، فنحن لم نخترع قواعد للغة ولكننا فقط اكتشفنا أن لكل لغة قواعد وتركيبات وحركة صوتية وإعرابية، وهذا بالفعل ما فعله علماء العربية عندما وضعوا قواعد للغة العربية ونحوها، فقواعد اللغة –على هذا- سابقة على القرآن ولا يُمكن أن تكون مستمدة منها بالضرورة، ولهذا فإننا نجد آية الله السيد محمد الباقر الحكيم يقول في كتابه (علوم القرآن): "وقد يُؤخذ القرآن باعتباره نصاً عربياً جارياً وفق اللغة العربية فيكون موضوعاً لعلم إعراب القرآن وعلم البلاغة القرآنية وهما علمان يشرحان مجيء النص القرآني وفق قواعد اللغة العربية في النحو والبلاغة" [ص:20]

وعلى هذا فإن حجج من يقولون بمرجعية القرآن في تقعيد اللغة تنحسر حتى تقترب من الكذب وعدم الدقة، ولكنها تكتسب مصداقتيها عندهم فقط من حيث هي حجة للخروج من مأزق الأخطاء اللغوية والنحوية والإملائية في القرآن، لأنهم يُؤمنون أن قواعد العربية وضعت بناءً على القرآن باعتباره أفصح كلام عربي مكتوب ومحفوظ، وبإمكاننا –استناداً إلى قواعد اللغة- إثبات خطأ ذلك، لنضع عندها القرآن وقواعد اللغة (الاثنان) في ميزان لا يُمكن المساومة عليه، فإما أن تكون قواعد اللغة صحيحة وبالتالي يكون الخطأ في القرآن، وإما أن يكون القرآن صحيحاً وبالتالي يكون الخطأ في قواعد اللغة، وكلا الأمرين طامة كبرى على أية حال.

إن الناظر إلى تاريخ ما يُسمى بعلوم القرآن يجد أنها جاءت كضرورة أوجدتها حالة التوسع ودخول الأعاجم في الإسلام، وبالتالي صعوبة تلقي القرآن والاستفادة منه بالسهولة التي كان العربي يتحصل عليها. وكانت تلك أولى الطعنات التي وجهت إلى ما يُسمى بالإعجاز اللغوي في القرآن، فقد ولّى ذلك العصر الذي كان فيه المسلمون يتفاخرون بما اعتقدوا أنه قرآن فصيح وأنه بليغ إلى الحد الإعجازي، وجاء العصر الذي اضطروا فيه إلى التخلي عن بلاغة النص القرآني في مقابل تفسيره وترجمته للأعاجم الذين لم يكونوا يملكون المقومات اللغوية التي تؤهلهم لاستنباط البلاغة والإعجاز اللغوية في القرآن، بل وأكثر من ذلك فإن شيوع اللحن في العربية عامة وفي القرآن بصورة أخص كانت هي السبب الأول في وضع أساسيات علم النحو، ولهذا فإن أبا الأسود الدؤلي وتلميذه: يحيى بن يعمر العدواني شرعا في وضع أساسيات علم الإعراب والنحو الذي يعرفه العرب ولا يعرفه الأعاجم، وفي ذلك يذكر الذاكرون قصةً مفادها أن الدؤلي سمع أحدهم يقرأ القرآن ويلحن فيه فقرأ {{إن الله بريء من المشركين ورسوله}} بجرم اللام في كلمة (رسوله) وهو ما يُغيّر معنى الجملة رأساً على عقبه، فكان ذلك دافعه للقيام بذلك. وكما قلنا فإن اللغة كانت لها قواعدها المفعلة، والتي خشي أبو الأسود الدؤلي من ضياعها وتعطيلها باختلاط الأعاجم مع العرب، فسارع في كشف هذه القواعد، ولكنه لم يخترع للغة قواعد جديدة بناءً على ما جاء في القرآن، فالقرآن نفسه جاء متفقاً مع ما كانت العرب تلفظ به ولهذا نقرأ {{قرآناً عربياً غير ذي عوج}} فهو إذن مكتوب بالعربية التي كانت معروفة القواعد أصلاً، ولكننا قد نختلف حول ما إذا كان فعلاً غير ذي عوج أم لا، فإننا لا نجد قوله {{أرءيتكم إن أتاكم عذاب الله}}[الأنعام: 40] من قواعد العربية في شيء إلا أن تكون من شواذها، ولا نعرف أن الشاذ قد يكون أفصح من غير الشاذ، كما أننا لا نرى الفصاحة في قوله {{من عمل منكم سوءاً يجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم}}[الأنعام: 54] لأن استخدام (أنه) يجعلنا نعيد الصفة على الذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا وأصلحوا، والمعنى الذي يريده كاتب القرآن لا يستقيم إلا باستخدام (فإنه) لأنه جواب القسم المحذوف والمقدّر، كما أننا نعلم أن (مفتاح) تجمع على (مفاتيح) وليس على (مفاتح) كما في القرآن، ولم يرد على لسان العرب أنهم جمعوا (مفتاح) على (مفاتح)، وكذلك في قوله {{فبهداهم اقتده}}[الأنعام: 90] كذلك من أعاجيب الصيغ اللغوية في القرآن قوله {{إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوّف بهما}}[البقرة: 158] فصياغة الجملة ركيكة بل ومربكة للغاية، فعبارة (لا جناح عليه) يستعملها العرب في الغالب للتخفيف والتيسير، وفي المفهوم الديني فإن هذه العبارة تعني (لا إثم عليه) فإن نحن استبدلنا هذه العبارة بمعناها فإننا سوف نكتشف الإرباك في الآية {{إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا إثم عليه أن يطوّف بهما}} فإذا كان الصفا والمروة شعيرة، فإن الحج لا يتم إلا بالسعي بينهما (وليس الطواف لأن الطواف شيء والسعي شيء آخر) وكان يجب أن يقول {{فمن حج البيت أو اعتمر فلابد أن يسعى بينهما}} وليس (لا جناح عليه) لأن هذه العبارة توحي لنا بأن السعي لن يكون لازماً لأن العبارة –كما قلنا- تستعمل للتخفيف والتيسير، وتصبح الآية وكأننا نقول (زيارة المريض واجبه، ولا جناح على من زار المريض) فهل زيارة المريض واجبة أم هي لا بأس بها؟ وبالمثل، فهل السعي بين الصفا والمروة واجبة، أم لا بأس بها؟ وهذا ما فطن إليه عبد الله بن مسعود، وخالف في قراءته قراءة المسلمين فكان يقرأها هكذا {{فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه ألا يطوّف بهما}} لأنه فهم معنى (لا جناح) على أنها للتخفيف والتيسير كما قلنا.

إننا لنتساءل -في هذا الموضع- حول سبب كتابة القرآن بالعربية إذا كانت الرسالة المحمدية في أصلها موجهة إلى كافة الناس؟ وقد يقول قائل إن اللغة العربية هي أقدر اللغات الحية على احتمال المحتوى والتعبير الدقيق عنه، ولطالما تغنى الناس بثراء اللغة العربية وغناها، ولكننا من معرفتنا عن اللغة العربية نعرف جيداً أن اللغة العربية ليست كذلك على الإطلاق، وإن تكون لغة ثرية فإنها ليست دقيقة، وهذا ما يجعلها غير صالحة لتكون لغة تشريع، كما أن بها عيباً يجعلها غير مناسبة لاحتمال مثل هذه الرسالة وهو: المرونة والمطاطية، فاللغة العربية دوناً عن كثير من لغات العالم الحيّة تتمتع بميزة المرونة واتساع المعاني المعجمية للألفاظ وهذا يجعل من الصعوبة بمكان تحديد معنى الآية بشكل دقيق وقاطع، فعندما نقرا قوله {{قلنا اهبطوا منها جميعاً}} فهل لفظ (اهبطوا) هنا مرادف للنزول من الأعلى إلى الأسفل؟ أم تعني الخروج، أم أنها تعني الدخول كما في قوله {{اهبطوا مصر فإن لكم ما سألتم}} أي ادخلوا مصر؟ وهل (فوق) تعني الأعلى أم تعني الأدنى، كما في قراءتنا {{إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها}} فهل المقصود فما أكبر منها، أم فما أصغر منها؟ فإن كان فهمنا لها (فما أصغر منها) فإن (فوق) في هذا الموضع تعني (أدنى) لأنها تعني (الأكبر في الصغر) وهو أمر غاية في الإرباك، وإن كانت (فما أكبر منها) فإن المعنى لا يستقيم لأن غرض السياق يقتضي الاستشهاد بالأصغر لا بالأكبر، وكأن أحدنا يقول: "أنا رجل متحضر، ولا أمانع في تزويج ابنتي من ميكانيكي أو حتى دكتور" فالمفروض أن تكون الوظيفة التالية على (ميكانيكي) أقل منها لا أكبر، حتى يستقيم المعنى. (مع احترامي الكامل لكل المهن والحِرف)

وهل (العدل) يعني شيئاً آخر غير العدل (العدالة والقسط)؛ لاسيما إذا قرأنا {{ثم الذين كفروا بربهم يعدلون}} ما هي الثيمة التي يحملها معنى العدول (=التغيير) في سياق كهذا؟ إن اللغة العربية لغة ليست دقيقة المعنى على الإطلاق، وتلك واحدة من أسباب اختلاف التفاسير والتأويل، وهو ما يُعاني منه المسلمون وعلماء المسلمين على وجه الاخص في تفسير القرآن لاستنباط الأحكام والتشريعات، وهي ليست كالفرنسية مثلاً التي لا تحتوي المترادفات التي تفتح أبواب التأويل على مصراعيها، ولهذا كانت الفرنسية اللغة المثالية لصياغة العقود والاتفاقيات الدولية لأنها واضحة المعنى ولا يُمكن أن يُفسّر فيها نص واحد بأكثر من معنى على الإطلاق.

وعلى هامش حديثنا عن الرسم (أو الإملاء) القرآني وإشكالياته، فإنه بخاطري أن ألفت نظر القارئ الكريم إلى نقطة أراها مهمة، وهي تتعلق بمسألة التدرّج في تأليف القرآن (أو نزوله) كما يقولون، فهذه كانت واحدة من دلائل بشرية النص القرآني؛ إذ لم يأت القرآن دفعة واحدة كما في بقية الكتب المقدسة الأخرى، وهذا ما فطن له أذكياء مكة ممن شككوا في نبوة محمد، وقد تعرض القرآن لهذه المسألة وذكرها ولكنه لم يذكر في مقابلها تبريراً مقنعاً، فنقرأ {{وقال الذين كفروا لولا نُزل عليه القرآن جُملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا}}[الفرقان: 32] ولم يكن هذا التساؤل الذكي من أهل مكة ناتجاً من فراغ، ولكن عن معرفة ودراية بما تكون عليه الكتب المقدسة والتي تتنزل على الأنبياء دفعة واحدة، محتوية كافة التشريعات والأحكام والوصايا التي يجب على النبي أن يأمر بها ويدعو إليها، بصرف النظر عن الواقع التاريخي والاجتماعي، وهذا أدعى إلى شمولية النص واحتمال التصديق بأنه نص فوقاني، ولكن قريشاً رأت أن محمداً يُصدر الآيات تلو الآيات في مناسبات مختلفة، مخالفاً بذلك ما تعارف الناس عليه، وما كان عليه الأنبياء من قبله، فكان ذلك سبباً في عدم تصديقهم بنبوته. والحقيقة فإن الإسلام والمؤرخين الإسلاميين وكُتاب السير، حاولوا تشويه الوجه الثقافي والحضاري للعرب في مرحلة ما قبل الإسلام، واعتبار أنهم كانوا يعيشون في جاهلية، وهذا النعت حقيقة لا ينطبق عليهم بالكُلية، وأرى أن ما تقدمت به قريش (بل وسائر الأعراب) من حجج وبراهين على عدم صدق نبوة محمد كانت معتمدة على معرفة ثقافية واسعة وذكية، ولم يأت القرآن بشيء يُثير الدهشة في نفوسهم، إلا أولئك الذين رأوا في الإسلام خلاصاً من حالة الفقر الدنيوية، ورخاءًا في الحياة الآخروية، وأولئك الذين رأوا في الإسلام مصلحة اقتصادية وسياسية فيما بعد. وقد برر محمد عدم نزول القرآن دفعة واحدة بقوله {{لنثبت به فؤادك}} ولا أرى في هذا التبرير وجاهة تذكر إلا إن نحن صدقنا بأن إله محمد لم يشأ أن يثبت فؤاد الأنبياء الذين سبقوه، فأنزل عليهم كُتبهم جُملة واحدة.

بعد هذه المقدمة التمهيدية، سوف أتكلم باستفاضة عن الرسم القرآني في الجزء الثاني من هذا المقال، وسوف أقدم نماذج لبعض الإشكاليات الإملائية الواردة في القرآن، وكذلك بعض الإشكاليات النحوية والصياغية، لنعرف لماذا رفض الأعراب (أصحاب اللغة السليمة) الاعتراف بنبوة محمد، ولماذا هاجمهم محمد في قرآنه ووصفهم بأنهم أشد كفراً ونفاقاً، وحاول تهميشهم، حتى عندما أسلموا خوفاً من سيوف أتباعه وإتقاء شر السبي الذي كان يتهدد نساءهم وأطفالهم لم يكن لإسلامهم قيمة تذكر كما مع بقية القبائل العربية {{لا تقولوا آمنا وقولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم}} فحيّدهم عن زمرة المؤمنين وجعلهم في خانة المسلمين اسمياً، ليظلوا كذلك مدى التاريخ تماماً كما فعل باليهود، ونعتهم بأبشع النعوت وأقذر الصفات حتى خلق فجوة وجدانية تجاههم مازالت آثارها موجودة حتى اليوم، فأصبحنا لا نعرف عن اليهودي إلا أنه بخيل وشحيح وناكر للجميل وناقض للمواثيق والعهود وحاسد وحاقد، وكل صفة ذميمة يُمكن أن يكون لليهود منها نصيب كبير.



#هشام_آدم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إضاءات على الإسلام
- سقطات الأنبياء 2
- جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي
- القرآن والإنجيل
- جدلية النص الديني والتأويل - 3
- جدلية النص الديني والتأويل - 2
- جدلية النص الديني والتأويل
- أرض الميّت - 6
- أرض الميّت - 5
- أرض الميّت - 4
- أرض الميّت - 3
- أرض الميّت - 2
- أرض الميّت
- بتروفوبيا - 7
- بتروفوبيا - 6
- بتروفوبيا - 5
- بتروفوبيا - 4
- بتروفوبيا - 3
- بتروفوبيا - 2
- بتروفوبيا - 1


المزيد.....




- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...
- لبنان: المقاومة الإسلامية تستهدف ثكنة ‏زبدين في مزارع شبعا ...
- تزامنًا مع اقتحامات باحات المسجد الأقصى.. آلاف اليهود يؤدون ...
- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...
- شاهد..المستوطنين يقتحمون الأقصى في ثالث أيام عيد -الفصح اليه ...
- الأردن يدين سماح شرطة الاحتلال الإسرائيلي للمستوطنين باقتحام ...
- طلاب يهود بجامعة كولومبيا: مظاهرات دعم فلسطين ليست معادية لل ...
- مصادر فلسطينية: أكثر من 900 مستعمر اقتحموا المسجد الأقصى في ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - هشام آدم - الرسم القرآني وإشكاليات الإملاء - 1