أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هشام آدم - بتروفوبيا - 2















المزيد.....


بتروفوبيا - 2


هشام آدم

الحوار المتمدن-العدد: 2999 - 2010 / 5 / 8 - 16:18
المحور: الادب والفن
    


[الفصل الأول: الرسائل]


الرسالة الأولى: ( من روبن سينجر إلى إيميلي سميث )

عزيزتي إيميلي ...
عندما تجدين هذه الرسالة التي وضعتها لك فوق جهاز تسخين الماء (أول شيء تستخدمينه صباحاً لتحضير القهوة) سأكون قد وصلت إلى مطار لوس أنجلوس "لاكس". لقد قررت السفر بعدما سئمت سخريات الأصدقاء من حولي ونعتهم لي بالفاشل، وسئمت كوني شخصاً عابراً في هذه الحياة. كثيراً ما أشعر بنفسي كاللحمية الزائدة في جسم هذا الكون المتعاظم، والمتحرّك بعفوية القوانين الطبيعية الدقيقة، زائدٌ بحيث لا يتغيّر الكون بوجودي، ولا يتأثر بغيابي. ربما كنتُ نقطة ماء مالحة في فيضان نهر المسيسبي العذب، أو حرباء متخفية في غابة تعج بالكائنات التي تواجه مصيرها بشجاعة. لا يهم، ولكنني شيء لا يُذكر! أعلم أنّك الوحيدة التي لا ترى فيّ ما يراه الآخرون، أو ترى فيّ ما لا يرونه، ولكنني سئمت فعلاً، ولم يعد بمقدوري تحمّل المزيد. فكّرت كثيراً في وضع حلّ جذري لمعاناتي النفسية التي لطالما حرصت على أن أبقيكِ خارج إطارها المؤلم.

كنتُ كل يوم أكره نفسي أكثر؛ هل تعرفين هذا الشعور؟ أن يكره الإنسان نفسه؟ إنه شعور مؤلم وجارح جداً، يُشبه تماماً أن يطعن الإنسان نفسه بمدية حادة يصنعها بنفسه لهذا الغرض. أو كمن ينام بملء إرادته بين أحضان وحش قد يفترسه في أية لحظة. يُصبح الجلد –عندها- خرقة بالية كتلك التي يتدثر بها المتسولون في الشوارع. فكّرت في الانتحار، ولكنني خشيت الألم الذي سوف يسببه لك ذلك؛ وما أكثر الذين قرروا التخلّص من حياتهم فجأة دون أن يضعوا الآخرين في حسبانهم. ولكي أكون صادقاً معك: فإنني خشيت الموت نفسه. تخيّلته وحشاً بشعاً، بأنياب طويلة وقاسية يفترس –دون رحمة- قطعة شكولاته كانت يجب أن تكون في فم طفل جميل ووادع! ربما لم تكن حياتي حياةً لي فقط، وربما كنت محباً للحياة، ولكنني لم أعرف كيف أستمتع بها. وكيف يُمكنني التمتّع بما لا أملكه؟ هكذا أعتبر نفسي غريباً في الديار التي من المفترض بها أن تكون وطني! نعم أنتمي لها، ولكنني لا أستشعرها، وكنتُ أتساءل دائماً: "هل النجاح والفشل هما اللذان يُحددان الانتماء أو الإحساس به؟"

تذكرين روبرت وول الذي وجدته عائلته في مغطس الحمّام، وهو غارق في دمائه بعد أن قطّع أوردة ساعده الأيسر؟ كل الذين عرفوه حزنوا عليه كثيراً؛ فقد كان طيّباً وخدوماً، ورغم ذلك كان البعض يتهامسون سراً في جنازته ويؤكدون شذوذه الجنسي، وقال البعض الآخر: "إنه أصيب بالإيدز الذي نقلته إليه فتاة من سان فرانسيسكو عاشرها بعد أن رآها في صالة للرقص العاري"؛ وتعجبّت كثيراً لهذا التناقض. هل تعلمين أننا أُناس مختلفون عند الآخرين؟ نحن على الرغم من كل عفويتنا، وبساطتنا، وما نعرفه عن أنفسنا، وما نتعامل به مع الآخرين، وما نعرفه، وما نجهله مما يُشكلنا ويخلق ذواتنا الخاصة، فإننا -في نظر الآخرين- أناس آخرون غير هذه الذوات التي نعرفها تماماً.

ذلك الرجل أديسون ميلر -الذي طالما اعتبرته كريماً- وجدتُ صديقاً يصفه لي بالشُح والبخل، وفريدا فوينتوس السيدة المكسيكية التي تسكن في نهاية الشارع، كنتُ أراها دائماً تُطعم القطط الجائعة، وتقيم لهم كل أسبوع وليمة فاخرة من الساردين والماكريل؛ لم أصدق عندما قبضت عليها الشرطة، لأنها قتلت زوجها بضربة فأس على مؤخرة رأسه! لم يسأل أحد عن سبب انتحار وول؛ ربما تساءلت أمّه، ولكنه لم يكن سؤالاً محرّضاً على الإجابة بقدر ما كان سؤال إشفاق لا أكثر؛ فعرفتُ أن انتحاري قد لا يعني أحداً. أنا أحب الحياة، ولكنني لا أحب حياتي بالتحديد؛ وهاأنذا أسعى إلى تغييرها. لقد تخيّلت نفسي وأنا مكانه، غارقاً في بحر دمائي في مغطس الحمّام، أو متدلياً من غصن شجرة، أو طافياً على سطح نهر، والناس من حولي يبكون بدموع التماسيح، ويطلقون عليّ الشائعات؛ قلت في نفسي:"إذا كان وول –الفتى الطيّب- لم يسلم من الشائعات بعد موته، فماذا سيقول الناس عنّي؟"

غمّتني –كذلك- تلك الخيالات التي عبرت ذهني للحظات، وجعلتني أتراجع عن فكرة الانتحار، ورأيت أنّ قرار السفر أنسب بكثير، وأخفّ وطأة. سوف تحزنين بقدر حزني الذي فاجأني عندما خطرت لي الفكرة لأول مرّة، ولكن لم يكن ثمّة حلّ آخر أكثر إيجابية. أجل! تماماً: هذا يعني أنني فكّرت في هذا الأمر من قبل، والواقع أنني كنت قبل سنوات منشغلاً بالبحث عن حلول لهذا الوضع، غير أني لم أشأ أن أطلعكِ عليه لأنني كنتُ أعلم رأيك مسبقاً، وحاولت أن أقنع نفسي كثيراً بأن الأمر قد يُحل بمعجزة قبل أن أنجح في السفر. تذكرين عندما قبلت العمل مراسلاً في إحدى المصارف مقابل ثمانية وثلاثين دولاراً؟ كانت بالكاد تكفي لسداد ديوني المتراكمة، أو قضاء سهرة لطيفة معك في ملهى هايد الليلي. سئمت كوني متطفّلاً عليك إيميلي، لقد قالها أحدهم في وجهي صراحة عندما تعاركنا ذات يوم ونحن ثملان: "ما أنت إلاّ متطفل على النساء!". أتعلمين إلى أيّ حدّ قد يكون ذلك مؤلماً بالنسبة إليّ؟ عندها هاتفني شخص ما، مما وراء الإدراك قائلاً: "أعلى هذه الحال تريد أن يجدك يسوع عندما يأتي؛ عاطلاً ومتطفلاً على النساء؟!" فتعاظم إحساسي بالضآلة. أعرف أنّك لا تفكرين بهذه الطريقة، ولكن لن تستطيعي أن تشعري بما يختلج داخلي وأنا أرى تلك النظرات الساخرة في أعينهم كلما هممنا بالدخول إلى شقتك؛ كنت أحس بنظراتهم حتى دون أن أتوجّه بنظري إليهم.

هل تعلمين إلى أيّ مدىً قد يبدو الأمر محرجاً وأنا أكاد أسكن معك بشكل دائم، دون أن أدفع عنك فواتير الكهرباء والهاتف أو حتى دون أن أساهم في دفع نفقات المعيشة؛ ولو من باب المجاملة الكاذبة؟ كيف لا أعتبر نفسي عبئاً عليك في كلّ مرّة أراك تتشاجرين فيها مع عامل الصيانة بسبب تعطّل فتحات التهوية مرتين في الأسبوع على الأقل؟ كيف لا أعتبر نفسي متطفلاً وأنا أراك تعودين يومياً من عملك لتذهبي مجدداً للتسوّق وشراء مستلزمات البيت، إضافة إلى مستلزماتي الخاصة: السجائر، والشراب، ومعجون وفرشاة الأسنان، وحتى الملابس الداخلية؟ ثم لا تنسين أن تضعي لي نقوداً تحت وسادتي قبل أن تغادري إلى عملك صباحاً. لقد سئمت من حياتي هذه إيميلي؛ قد يبدو الأمر اعتيادياً لصديقين حميمين يملكان الرغبة الجادة في أن يعيشا سوياً، ولكن الأمر –فعلياً- ليس كذلك. إن ما نؤمن به وما نعتقده ليس بالضرورة هو الصحيح، وليس كل صحيح قابل للتحقق والتطبيق.

في جانب ما من وعينا المغيّب تسكن تلك الكلمات الجارحة إيميلي. هل تذكرين عندما تشاجرنا تلك الليلة؛ لأنك شاركتِ في حفلة التخرّج، عندما تطوعتِ للجلوس على كرسي التقبيل، وتدافع الجميع لتقبيلك مقابل دولار واحد، ورشّة من قنينة الشمبانيا؟ ذلك اليوم عندما انتقدتُ تصرّفك، واعتبرته مساساً بكرامتي، صرختِ في وجهي وأنت تنعتينني بالعالة؛ أعلم تماماً أنكِ ستدافعين عن نفسك، وتقولين: إنكِ كنتِ ثملة ولا تعنين ما قلتِه، وأنا أيضاً ربما لا أعني ما أقوله الآن؛ غير أني لستُ ثملاً إيميلي! كثيراً ما كنت أتسكّع في طرقات المدينة المهولة والمخيفة مساءً كي أوفّر حصتي من العشاء. إنه تفكير مجنون، أعلم ذلك، وأذكر أنك كنت تلومينني على عشائي في الخارج، وتركي إياكِ تتناولين العشاء بمفردك؛ لقد كانت كذبة تلك التي كنت أوهمك بها؛ كنت فقط أريد التخلّص من ذلك الإحساس القاتل بالطفيلية في كل مرّة أتهرب فيها من وجبة العشاء مساءً. كم تمنيت أن أكون ذلك الشخص الذي تفخرين به أمام صديقاتك وزملائك في العمل؛ أولئك الذين كانوا يأتون لزيارتك بين الحين والآخر، أن أكون شخصاً مرموقاً ومحترماً أمام الجميع. إنه شعور جميل ذلك الذي لم أشعره قط: أن تكون شاباً تفتخر به صديقته أمام الجميع، ويحسدها عليه صديقاتها.

الآن أتذكر ذلك اليوم الذي كنتِ تتحدثين فيه عن إحدى زميلاتك في العمل وعن صديقها الذي تسكن معه في ذات الشقة: كيف أنّهما يقضيان أعياد الميلاد المجيدة في باريس كل عام. تحدثتِ عن إعجابها المفرط بكرمه ورجولته وفخرها به؛ تمنيت عندها للحظات لو كنت مثله بالنسبة إليك. هذه الأشياء تزعج الرجال كثيراً. كل رجل يريد أن يشعر أمام فتاته بأنه الأكثر كمالاً في كل شيء، حتى وإن كان ذلك مخالفاً للحقيقة؛ يكفيه فقط أن يشعر بذلك، ولا أسوأ لدينا من الإحساس بالعوز. توصلت أخيراً إلى نتيجة مرضية: إنّ الرجولة أكثر صعوبة من ركوب الأمواج للهواة المبتدئين! هو أمر سخيف بل هو أكثر سخافة من مراقبة ليلة حميمة بين زوجين من شقٍ في الجدار، ورغم ذلك لم أتمنَّ أن أكون أنثى؛ ليس لشيء ولكنني فقط أحسست بأنني سأكون أنثى فاشلة كذلك.

سأخبرك بشيء آخر قد يصدمكِ أيضاً: هل تعلمين أنني كنت خجلاً من ذلك الوشم الذي وشمته على ذراعي وأسفل ظهري؟ كان ذلك في فترة ما من مراهقتي، عندما كان الوشم يعبّر عن إحدى مغازي الرجولة والفحولة وسبيلاً للتميّز؛ لذا فإنني اخترت وشم التنين الخرافي المهول. تقول الأسطورة إنه كان رمزاً للفحولة والخصوبة في الثقافات الصينية القديمة. أشعر –كذلك- بالخجل حيال الأقراط التي وضعتها في أذني عندما قدمت إلى لوس أنجلوس أول مرّة. نعم! إنني أشعر بالخجل حيالها. لطالما أعجبك ذلك، ولكنني لا أشعر بالارتياح إليها الآن، وكثيراً ما أشعر بالخجل لهذه الأشياء التي تدلّ على حقبة صبيانية خلت، ورغم ذلك فإنني لم أحاول نزع الوشم قط، كما أنني لم أنزع الأقراط عن أذني بعد.

وفي هذا الصدد: فإن إحدى الأشياء الكثيرة -التي تجعلني معجباً بك- أنك لم تشوّهي جسدك الجميل بمثل هذه التفاهات، لا الأقراط التي في اللسان، ولا تلك التي في السرّة، ولا أوشام في أيّ مكان، ولا حتى تتفننين في حلاقة شعر العانة؛ كل شيء فيك طبيعي وجميل. هل نحن فعلاً أحرار فيما يخص جسدنا إيميلي؟ هذه نقطة شائكة بالفعل، ربما الآن فقط خطر لي هذا السؤال. جسدي هو هويتي، ونافذة تطل على الآخرين، لنا أن نتصور أيّ هيئة يجب أن تكون عليه هذه النافذة، وما الذي قد توحي به. دعينا من هذا الآن فهو أمر قد نناقشه في فرصة أخرى. عندما كنت أتسكّع في شوارع لوس أنجلوس -شوارعها السرّية طبعاً، وليست تلك المأهولة بالأقدام الواثقة والمترفة- كنت أشعر أنني كيس نايلون فارغ تحرّكه الرياح عبر الطرقات، وفوق فتحات المجاري، وغرف التفتيش المنتشرة كبقع جدري على ظهر فتىً أوربي. أرى ناطحات السحاب الشاهقة فأحس بضآلتي أكثر.

أشعر بأني أكاد أختفي من هذا العالم المليء بالحركة، وكأنني لست جزءاً أصيلاً منه. أرى السيارات الفارهة، والسيدات اللواتي يقدن البوميرينين بسلسلة وطوق مذهّبين؛ فأتمنى أن لو كنت مكانه. نعم! لا ضير أن أكون كلباً في يد سيدة ثرية؛ فالكلاب تحيا حياة مريحة. هل تعلمين كم يبلغ سعر هذا البوميرينين؟ إنه -في أسوأ الأحوال- يتجاوز الخمسة عشر ألف دولار؛ هل تصدقين ذلك؟ لك أن تتخيلي ما قد يفعله مبلغ كهذا لأمثالنا. كنت –وما أزال أتساءل-: "كم يدفع هؤلاء السفهاء لإطعام هذه الكلاب سنوياً؟ وهل سيأتي ذلك اليوم الذي يُطالب فيه هؤلاء الدولة بأن تتكفّل بهم، كما تتكفّل بأطفالهم؟" أمريكا بلد لا تحترم غير النساء والكلاب عزيزتي!

العجيب أنّه في الشارع الموازي للشارع الذي تسير فيه تلك المرأة برفقة كلبها المدلل، كان أحدهم يتدلى داخل حاوية النفايات -كالقطط الضالة- بحثاً عن رغيف فرنسي متعفّن، أو بقايا تفاحة، أو بيتزا مأكولة، أو علبة سردين عجز الآخرون عن فتحها، أو رموها لأنها منتهية الصلاحية، وآخر وضع بعض الكراتين المستخدمة وفتحها ونام عليها، وتغطى بكومة من الأكياس والغرائر الرثة والبالية. لا أريد أن أتكلّم عن المفارقات العجيبة في هذه البلاد؛ فمفارقاتي أنا وحدي تكفي وتزيد، كما أنني لست شيوعياً؛ تعلمين أنني لا أهتم بمثل هذه الأمور، بل وأتجنّبها تماماً، كما أنني لا أحب السياسة والساسة بشكل عام. لا يُمكنك أن تتصوّري رأسمالية بلا استغلال للملكية العامة، أو اشتراكية بلا انتهاك للملكية الخاصة.

هل تستغربين من أمنياتي المتناقضة كأحلام المراهقين: أعني كيف لا أتمنى أن أكون أنثى في حين أتمنى أن أكون كلباً؟ الكلاب تعيش في البيوت وكأنها فرد أصيل من العائلة، لا أحد يطالبها بالعمل والكسب أو حتى تسديد نفقات المعيشة، تعيش لتأكل وتشرب وتنام، وكل ما عليها فعله هو أن تنبح ليلاً في وجوه الغرباء، أو الركض لالتقاط الكرات. إنه لمن المحزن أن يحسد إنسان كلباً على معيشته، مفارقة؛ أليست كذلك؟ يوفّر البعض لحيواناته الأليفة كل ما تحتاج إليه وما لا تحتاج إليه، حتى أنّ بعضهم يحرص على فحصها طبياً، ومراجعة الطبيب البيطري كل ثلاثة أشهر. هل تذكرين ماذا حلّ بي عندما أصبت بحمى الأنفلونزا ذلك اليوم؟ كنّا -أنا و مايكل براون- نضع ماء الصنبور في الثلاجة لساعة ونصف الساعة ثم نسكبه في أوعية بلاستيكية صغيرة نستخدمها ككمّادات، فقط لأننا كنّا عاجزين عن الحصول على ثمن المضادات الحيّوية، أو ثمن مكعّبات الثلج. لم أكن وقتها قد انتقلت للعيش معك بعد، وكنتُ أقيم مع صديقنا مايكل براون البوهيمي البائس. أذكر أن ذلك كان في شتاء عام 1993، ولعلك تتذكرين ذلك الشاب ذا الشعر الأحمر المدعو فرانك ج. فاكتو الذي أصيب بتلف في بنكرياسه؛ فلم تقبل المستشفيات علاجه، بحجة أن اسمه مسجّل في قائمة المتهرّبين من الضرائب، رغم أنه كان ما يزال يبحث عن عمل؛ ومات –على ما أذكر- بعد ذلك بأسبوع واحد.

عزيزتي، أنتِ أجمل الأشياء في حياتي لولا إحساسي المتعاظم بالدونية. أنتِ الوحيدة التي كنت أشعر إلى جوارها بإنسانيتي، لولا تلك اللحظات التي أصاب فيها بالحرج والخجل أمامك. ما أبشع أن يحس أحدنا بمثل ذلك أمام من يُحب! تعرفين عني كل شيء حتى تلك النكسات العظمى في حياتي. ما لا تعرفينه أنني كنت أتردد في الفترة السابقة على طبيب نفسي جراء ما عانيته في الآونة الأخيرة. أخبرني الطبيب أن ما أعانيه ليس مردّه فشلي الأكاديمي أو المهني فقط، بل أوعز ذلك لأشياء أسرية قديمة؛ هذا أمر آخر. لا أخفيك –عزيزتي- أنني صعقت عندما سمعت ذلك، ولكنه كان على حق. هل تعلمين كيف تمكنت من زيارة الطبيب؟ وفّرت مما كنت تضعينه لي من نقود تحت الوسادة كل صباح؛ واستغرق ذلك ستة أشهر.

لم تكن أسرتي أسرة مثالية، ولم تكن علاقتي بها علاقة طبيعية قط. لم يحدث أن أخبرتك شيئاً عنهم من قبل. من الأفضل ألا تعرفي شيئاً عن هذا الأمر؛ فهو أمر مزعج وعديم الجدوى؛ المهم أنه وصف لي كتاباً لـ"أنطوان دو سانت" وأوصاني بقراءته، ونصحني بروايات لكاتب كولمبي يدعى "ماركيز"، قال: إنّه مفيد لحالات الاكتئاب. سخرت منه في بادئ الأمر؛ إذ أني –كما تعرفين– لست مهتماً بقراءة الروايات وما يتعلق بالأدب. ولكنه أصرّ على أنّ علاجي يكمن في القراءة؛ وأضاف أنّ طريقة البيبليوثيرابي مفيدة جداً في حالتي. ربما لاحظتِ اهتمامي بشراء الروايات في الأيام الأخيرة. يبدو أن البيبليوثيرابي لم يُجدِ معي نفعاً. على أية حال؛ ستجدينها في صندوق صغير داخل خزانة الملابس، ولو أنني أعلم أنّك –مثلي- لا تحبين قراءة تلك السخافات. يمكنك منحها لصديقتنا كارولين باركر؛ فهي تحب الروايات، أو يُمكنك بيعها إن أردت ذلك.

لقد بحثت عن عمل لفترة طويلة، وأنتِ تعلمين أنني لم أكن متقاعساً في ذلك؛ فقد عملت في محطات البنزين، وجالب أوراق في النوادي الليلية، ومراسلاً في المصارف، وبيّاع تذاكر في مواقف السيارات العمومية، وموصّل طلبات في مطاعم الوجبات السريعة، وحارس مستودعات ليلي، ومطلق شائعات في البورصة، وسمسار خردوات؛ كما أنني أمضيت وقتاً مقدراً من عمري متسكّعاً في الشوارع! لم أعد قادراً على الاستمرار في حياة عبثية بلا هدف أو معنى إلى الأبد؛ فكان لابد لي من إيجاد حلّ جذري وسريع.

تفجّرت فكرة السفر لديّ أول الأمر عندما أشار عليّ الحكيم مايكل براون -صديقنا المشترك- بذلك، وإمكانية أن يوفّر لي فيزا لدخول تلك البلاد. لم آخذ كلامه على محمل الجد في البداية، ولكن تخمّرت الفكرة لديّ تماماً عندما بدأ يحدثني عن تلك البلاد، والثروة التي يمكن أن أحصل عليها. ثمة أشياء كثيرة دعتني إلى أن أعيد التفكير في كلامه أكثر من كوني راغباً في الثراء؛ ربما عجزي عن مواصلة الحياة في مطحنة بشرية كبلادنا هذه، أو ربما لأنني لم أكن أريد سماع لقب "فاشل" مجدداً، أريد أن أكون في مكان لا يعرفني فيه أحد. عندما يخفق أحدنا في العد إلى الألف فإنه يضطر إلى إعادة العد من الرقم صفر مجدداً؛ وهذا ما نويت أن أفعله. تأخر قراري هذا لأني كنت أفكر فيما سوف تقولينه عنّي، وما سوف يخبرك به الآخرون؛ سيقولون: "إنه ضجر من معاشرتك كل ليلة، وإنه ربما كان على سرير امرأة أخرى غيرك الآن." سيقولون: "إنه ملّ معاقرة الأحاديث التافهة مع فتاة ثرثارة، وفضّل أن يرافق إحدى راقصات الإستربتيز؛ هنّ أكثر ثراءً وجاذبية على أيّة حال" كل هذا وأكثر أتوقع أن يُقال لك عني أو أن يدور في خلدك، ولكن إياك أن تصغي إليهم إيميلي. قولي لهم إنني سافرت في رحلة استشفائية؛ فهكذا أعتبرها.

ذلك اليوم الذي أخبرتك فيه بأنني سأتغيّب عن المنزل لأيام، ذهبت إلى مونتانا حيث مزرعة الأسرة الوضيعة التي تبعد ميلاً عن بحيرة فورت بيك، ولا تتجاوز مساحاتها الفدانين. عرضتها للبيع بكل ما تحتويه: جرارين متهالكين من طراز ماسي فورجسن، وآلة لتشذيب الحشائش، وإسطبل خيول خاو إلاّ من الفئران والظرابين، وطلمبة بدائية لضخ المياه وأربعة خنازير هزيلة. لم تكن الأسرة راضية عن بيع المزرعة، ولكن أحداً لم يستطع إقناعي بأهميتها المادية لنا؛ إذ لم تكن تُفيد في شيء، كانت مجرّد إرث أسري قديم، والبرهان الوحيد على برجوازية قديمة بائدة، وحوزتنا أراض وممتلكات؛ فبعتها على الفور، ووفرت ثمنها لشراء التذاكر وبعض المستلزمات الضرورية للسفر، وتركت ما تبقى للعائلة، بينما أصرّوا على الاحتفاظ بالخنازير. لم يكن أمامي إلاّ أن أفعل ذلك عزيزتي؛ وإلاّ فكيف كان لي أن أقرر السفر دون أن أمتلك ثمن الفيزا والتذاكر وبعض النثريات؟

أسرتي الآن تعلم أنني سافرت خارج البلاد، ولكنها لا تعلم إلى أيّ البلاد سوف تكون وجهتي. وقفت فينيسيا -أختي الكبرى- لتحول بيني وبين ذلك، ولكنني لم أستمع إلى كلامها الذي كان يصب في خانة النصح الأسري الممل. كانت تتكلّم عن وحدة العائلة، والتكافل، وضرورة التواصل، وبعض القيم الآسنة والمندثرة أصلاً من قاموس الأسرة التي كان يعولها أب نزلق متسلّط، شديد الرعونة، وحُكم عليها بالفناء برحيله الغامض. الكلام عن أسرتي –كما أخبرتك- يطول شرحه؛ فثمة عداءات قديمة لم أخبرك بها، وربما سأفعل ذات يوم؛ ولكن لكِ أن تعلمي أنه لا يوجد فرد من أفراد هذه الأسرة يدفعني حرصي عليه إلى أن أعدل عن قرار السفر؛ كنتُ فقط أفكر فيكِ عندما قررت ذلك.

أمر آخر يتقافز في ذهني الآن كخفاش أعمى، ولا أدري هل ينبغي لي أن أفشيه أم أحتفظ به وأكتفي بذلك؟ تكرهين مثل هذه الأمور أليس كذلك؟ أعرف أنّك لا تحبين المفاجآت، ولا تحبين الأحاديث المبتورة أو المجزأة؛ لذا سأخبرك: في إحدى ليالي الشتاء، عندما أخبرتك برغبتي في البقاء خارج المنزل لفترة طويلة، ظللت أتسكّع –كالعادة- في الشوارع والطرقات. جلست على إحدى الأرائك الخشبية في منتزه جريفيث. كان المنتزه يعج بالناس والأطفال والمهرجين وبائعي البالونات والفشار وموظفي الأمن، وكنت كشبح هامد وسط كل ذلك، كأنّ أحداً لم يكن يراني. كنت أراقب الناس من حولي وهم يهرولون أو عائدين من ملعب التنس، وأراقب المارين على دراجاتهم الهوائية أو الصبية وهم يمتطون ألواحهم الخشبية، والفتيات المتزلجات على الرولر سكيت، والأمهات الراكضات وراء أطفالهن المشاغبين مفرطي النشاط، وبعض الزنوج البؤساء بملابس وإكسسوارات غريبة، وهم يحملون جهاز تسجيل تنطلق منه إحدى أغنيات بوب مارلي الإيقاعية، ورجال ونساء جالسون على الأرائك الخشبية منهمكين في القراءة.

قلت في نفسي: "هؤلاء لا يشتكون من أيّ همّ"، شعرت بالوحدة والضجر، ورأيت أغصان الأكاسيا تمتد كأذرع قاتل مأجور لتخنقني، ولكنني لم أرغب في النهوض من مكاني. فكرّت كثيراً أين يمكنني أن أذهب. لم أكن أنوي العودة تلك الليلة، ولكنني لم أجد مكاناً آخراً ألجأ إليه. كان مايكل براون يواعد فتاة سوداء في شقته، ولم يستطع أن يستقبلني تلك الليلة، فقررت العودة إليك مرة أخرى. لم أعرف الشخص بالتحديد، ولكنه كان يرتدي معطفاً أبيض اللون، مطرّز عليه رسمة تنين كتلك التي تظهر في بعض أفلام جاكي شان، عرفت أنّك تواعدين شخصاً آخر؛ فقفلت عائداً. نمت في حديقة منزل مايكل براون الخلفية. لن تتصوري كيف كان البرد قارساً تلك الليلة.

انتابني شعور بأن الضيق والغضب كانا يساعدان على احتباس البرودة داخل عظامي؛ مما جعل أسناني تصطك لاإرادياً ودون توقف كآلة ناسخة. أيقنت منذ تلك اللحظة أنّني رجل تافه، ولا أستحق أن أكون صديقك أبداً. لا أحنق عليك الآن، فأنت حرة فيما تفعلينه. كان مايكل يحكي لي قصصاً كثيرة عن أولئك الذين ذهبوا للعمل في بلاد العرب "خليج البترول" كما كان يسمّيه، وتذكرت على الفور تلك القصص والأساطير التي كنّا نقرأها صغاراً عن: كنوز الشرق، وبحور الأحجار الكريمة التي غرق فيها الرحالة والمستكشفون القدامى. لا ألقي عليك اللوم أبداً، فلطالما كنتِ كريمة معي؛ فقط أحاول أن أفرّغ حمولتي قبل السفر، فلا أريد أن أسافر وأنا ما أزال أحمل في قلبي نكاتاً سوداء على أحد.

صلّي من أجلي، ومن أجل أن أُوفق فيما أنا ذاهب إليه؛ رغم أنني لا أتوقع أن يفارق الحظ العاثر طريقي حتى في بلاد الشرق، لقد ترددت كثيراً؛ لأنني أعلم أنّ تلك البلاد ليست آمنة أبداً، لاسيما بعد حرب الخليج الثانية، كما أنني أعلم مدى بغضك لهؤلاء العرب، وذكرياتك المأساوية معها، ولكن لن يكون بقائي أوفر حظاً من موتي برصاص غادر أو قنبلة موقوتة أو لغم أرضي. لا أنكر أنني خائف إلى الحد الذي لا يمكنني وصفه، ولكن أعرف أنّ الموت سيكون خيراً لي من حياة كالتي أعيشها هذه. وخير لي أن أموت على أن أنتحر. لقد تمكنت –بفضل مايكل براون- من إيجاد فيزا أكون بموجبها تحت كفالة أحدهم. لن أعمل لديه، بالطبع؛ فهو يتاجر بهذه التأشيرات، ويتخذها مصدراً للرزق، ولكنني سوف أبحث عن عمل بمجرّد وصولي هناك، وربما ساعدني هذا الشخص على ذلك.

لقد قررت السفر، وعندما تجدين هذه الرسالة صباحاً سأكون في مطار لوس أنجلوس متجهاً إلى فرانكفورت لنمضي فيها ليلة كاملة، ومن ثم نتوجه إلى بلاد الشرق "بلاد علاء الدين والسندباد العربي." لا أصدق أنني سأفعل ذلك، ولكن اعتبريها مغامرة من ذلك النوع المجنون. لابد أنني سأحكي لأحفادي الكثير عن هذه الرحلة التاريخية المشوّقة، وسأحرص على أن أوثق هذه الرحلة بالصور؛ لذا فقد أخذت معي كاميرا تصوير رقمية من طراز أولمبيك. بالتأكيد سوف أتصل عليك هاتفياً بمجرّد وصولي، وربما نلتقي ذات يوم على الماسنجر، وعندها يمكنك رؤيتي وأنا أتحدث بلكنة مختلفة عن المعتاد، وسأريك أين أسكن وكيف أعيش. لا تحاولي أن تبعثي لي رسائل عبر بريدي الإلكتروني فهو غير مفعّل الآن. ربما أضطر لفتح حساب جديد، وعندما أفعل سوف أزوّدك به.

قبلاتي إليك عزيزتي وأمنياتي لك بحياة سعيدة خالية من المضجرات. لا تنسي أن تصلّي من أجلي رجاءً.

ملاحظة:
لأنني أعلم كم سأفتقدكِ، فقد أخذت صورتك التي تمتطين فيها دراجتك الهوائية عند نهر سانتا كلار في صيف 1990، أرجو ألا تغضبي لذلك، فقط أحسست أنني سأحتاج إليها معي.


مخلصك إلى الأبد
روبن سينجر
الأربعاء: 22 يوليو/تموز 2000



#هشام_آدم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بتروفوبيا - 1
- رواية أرتكاتا
- شركاء التوليب
- الحزب الأسود
- الموت ليلة البدرنار
- رحيق البابايا
- رؤية حول إضراب أطباء السودان
- محاولة لتبسيط العالمانية
- الرسالة السرية في «جوابات حراجي القط»
- فن الثورة
- أكمة الإعلام المصري وما ورائها
- رسالة مفتوحة إلى الإعلامية منى الشاذلي
- رسالة عاجلة إلى الشعب المصري
- الإنسان: المطلق والمقيّد
- نحو المطالبة بإعادة العصمة للمرأة
- نحو إنصاف الرواية
- سايكولوجيا المظاهرات
- أزمة المثقف العربي
- جدلية المرأة والرجل (تاريخ العبودية)
- نقد الانتلجنسيا السودانية


المزيد.....




- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- ناجٍ من الهجوم على حفل نوفا في 7 أكتوبر يكشف أمام الكنيست: 5 ...
- افتتاح أسبوع السينما الروسية في بكين
- -لحظة التجلي-.. مخرج -تاج- يتحدث عن أسرار المشهد الأخير المؤ ...
- تونس تحتضن فعاليات منتدى Terra Rusistica لمعلمي اللغة والآدا ...
- فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024
- الحبس 18 شهرا للمشرفة على الأسلحة في فيلم أليك بالدوين -راست ...
- من هي إيتيل عدنان التي يحتفل بها محرك البحث غوغل؟
- شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً ...
- حضور فلسطيني وسوداني في مهرجان أسوان لسينما المرأة


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هشام آدم - بتروفوبيا - 2