أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هشام آدم - الحزب الأسود















المزيد.....

الحزب الأسود


هشام آدم

الحوار المتمدن-العدد: 2971 - 2010 / 4 / 10 - 16:57
المحور: الادب والفن
    


[مقاطع من رواية جديدة]

لا يهم؛ فقد أكمل للتو عدّ تجاربه العاطفية الفاشلة التي تجاوزت سبع عشرة تجربة أنفق عليها زهاء الثلاثين عاماً من عمره. خمّن أنه قد يكون نوعاً من الأميبا المتطوّرة، وقرر أن يعيش ما تبقى من حياته حصوراً دون أنثى تحفزهُ على التحليل والمراوغة. لسببٍ ما ربط ضجره الكوني بالنساء، وبدأ الإيمان بعدم جدواهن في حياته يتسلل إلى قلبه شيئاً فشيئاً كتسلل المختلس، وبطريقة نرجسية قرر أن يُكافأ نفسه وأن يُعوضها عمّا لقيته بسبب بحثه الدءوب عن أنثى يُفرغ فيها حاجاته العتيقة. لم يفكر كثيراً في صياغة مناسبة لمبررات قراره ذلك، كل ما توصل إليه في النهاية أنه ليس بحاجة إلى أنثى، وأنه على الأرجح سوف يكمل حياته منفرداً مستمتعاً بكل لحظاتها. وكوميض النبوة تكشفت له أفكار نيرة حول حياته الخاصة، واقتنع بأنه ليس في حاجة إلى آخر يشاركه! "هل نحن بحاجة إلى مشاركة فعلاً؟" كانت تلك خلاصة التجارب وخاتمتها القيّمة والحكمة التي امتثل لها أخيراً

منذ اليوم سوف يُنفق راتبه الشهري في ترفه الخاص، وسيُغدق على نفسه النُعماء كما لم يسبق له من قبل. ورغم إحساسه المتعاظم بالأسى والأسف على اللحظات الجميلة التي أضاعها من حياته دون أن يستمتع بها كما يجب؛ إلا أنه قرر أن يعوّض ما فاته، وألا يدخر جهداً في سبيل ذلك. دوّن بحماس مُتقد قائمة من الكماليات التي توحي بالبذخ، وتمنح النفس ذلك الشعور العزيز بالرفاهية والدلال:
 نافضة غبار يدوية من ريش الطاووس
 فانوس إضاءة ليلي ملوّن
 ممسحة أقدام من القش المضغوط
 نافورة مياه جبسية مُصغرة
 مجسم بلاستيكي عملاق للكرة الأرضية
 شموع مُعطرة للجو
 لوحات تشكيلية للحائط
 جوارب منزلية من فراء الأرانب
 عين سحرية لباب الشقة
 طقم من تماثيل الفيلة الأفريقية
 خزانة للكتب

كتب هذه الأخيرة وهو ينظر إلى تلال الكتب الناهضة في زاويةٍ ما من غرفته، وشعر برضاً شديد لهذا الاختيار الموفق. اضطرمت داخله حماسة مُحببة إلى نفسه، فوضع القائمة جانباً وتمدد على ظهره وهو يتمطى في حبور طفولي غامر. راح يُنقب في زوايا غرفته عن أشياء يُمكن إضافتها، ثم نهض فجأةً بذات الحماس، وأمسك القائمة من جديد، وأضاف إليها بمكر مُصطنع:
 مغطس مياه هوائي!

كانت حياته قد أوصلته أخيراً إلى قناعة كاملة بأن النساء كالأطفال يقضينَ حوائجهن بالبكاء. تلك كانت إحدى مشكلاته الكبرى التي حالت دون توقفه المُبكر عن خوض علاقات عاطفية مُنتهية بالفشل. كان كلّما قرر التوقف؛ تأخذه غريزته إلى أحضان أنثى جديدة تصب الشهوة في أوردته المُتيبّسة والمُتعطشة إلى الجنس دائماً.

واحدة فقط هي التي كانت تتقافز من صندوق ذاكرته كرؤى الأنبياء، يشعر عندها بأنه لم يعش من حياته سوى ما قضاه بين أحضانها الدافئة. كل الأسماء التي عكرت مياه تاريخه لم تستطع أن تشوش صفاء صورتها المنعكسة، وأخفقت كل محاولاته الجادة في نسيانها. وكاللذة التي يسبقها الخوف، كانت ذكراها المُنعشة تكدر عليه صفو مزاجه المخملي، كان ذلك قبل أن يرن جرس الهاتف وينقل إليه قريبٌ مشئوم خبر وفاة والدته إثر نوبة قلبية. أحزنه الخبر لأنه كان يعني أن يؤجل أحلامه المخملية وما يرتبط بها من سعادة، وتذكر وجوه أفراد عائلته الممتدة في بانوراما ذهنية سريعة، وتخيّل عبء تلقيه العزاء من هؤلاء البؤساء. لعن في سرّه كل وجهٍ على حدا، قبل أن يُخرج من ثلاجته الصغيرة قارورة الخمر، ويبدأ رحلته الميتافيزيقية اليومية.

* * *

في منزل العائلة الكبير الذي كمنازل النمل، بغرفه الكثيرة والمتداخلة، وقف أمام جثمان أمّه المسجى على عنقريب الجرتق المصنوع من خشب السروج، وقبل أن يُكشف عن وجهها تأمل منظر جسدها المترهل كشحنة إسفنج وهو يتساءل عن مصيرها، وعمّا إذا كان ذلك المصير يستحق المشقة التي بذلها في طريقه من العاصمة إلى ريف العيكورة أم لا! للموت رائحة مزعجة وغريبة أشبه برائحة القطن المبلول، يعرف تلك الرائحة جيّداً، ولازالت عالقةً بمراكزه الشمّية منذ حادثة غرق قديمة شارك فيها على مضض بغسل الضحايا، وللموت هيبة لم يستشعرها جيّداً، خيّل إليه أن الأمر أشبه بمسألة وقتية عابرة، تنتهي بافتقادنا للموتى، ذلك الافتقاد الذي لا يرتبط بالموت نفسه، وإنما بعجزنا عن التواصل مع الآخرين.

ما إن رُفع الغطاء الدموري عن وجهها حتى اعترته رغبة عارمة في الضحك، كانت تلك هي المرة الأولى التي يرى فيها أمه ساكنة! لا يتذكر أن رآها صامتة كما هي الآن، وفمها لا يتحرك كما هو عادته منذ أن أدرك حقيقة العلاقة بينه وبين هذه السيّدة النائمة على عنقريب الجرتق. كان يستغرب دائماً قدرتها المُعجزة في الكلام المستمر والنميمة، وفي أحيانٍ كثيرة حين يعجز عن التأمل والقراءة كان يجلس إليها ويأخذ عنها أخبار أهالي العيكورة بالتفصيل: نفوق الأبقار، آفات الزراعة، الزيجات الحديثة، فضائح القرية، أسعار البضائع، أنباء السوق وأهله، قائمة الفتيات المقترحات للزواج، أحاديث النساء المملة التي كان لا يستسيغها إلا من أُمه، لم يكن يفعل ذلك بدافع الفضول أو بدافع الاطلاع على أحوال القرية؛ وإنما فقط لقضاء الوقت، وكان لابد أن ينتهي الحديث بذكر الشريشاب الأجلاف الهاربين من بطش الدفتردار في زمن موغل في القدم، ليطمئن بذلك على استقامة خرفها على عوده.

أطال النظر في وجهها فخيّل إليه أنها تبتسم أو تكاد، وكان كالذي يختبر قدرة الموت على تكميم الأفواه، وفرض قانون الصمت على أمه الثرثارة، وتصور الصراع الذي قد تعانيه الآن مع الموت حول هذه النقطة بالتحديد، وقدّر أنها سوف تنتصر عليه في نهاية المطاف، وأراد أن يشهد لحظة الانتصار قبل دفنها، غير أن الأيادي امتدت لترخي الغطاء الدموري مرة أخرى على وجهها، ورفعوا أيديهم بحركة ميكانيكية موحّدة ونادى أحدهم: "الفاتحة".

حل السكون فجأة على الغرفة التي سكنت رائحة الموت أوردتها الغليظة المعلّقة على السقف مِرقاً من خشب السنط المُعمِّر، ما منحه فرصة جيّدة لتذكر بعض تفاصيل القرية التي سقطت من ذاكرته منذ تسعة أعوام، وهاجمته صورة النسوة القابعات في الغرفة المجاورة تأتيه منهن أصوات غمغمات كحمحمة الخيول. "إنها ورطة حقيقية!" قالها وهو يستثقل ما ينتظره بعد الانتهاء من مراسم الدفن المملة والتي لا يناله منها إلا غبار المقابر التي تحمل تبر الأجساد الهالكة. كان واجبه الأكثر إلزاميةً: تقبّل العزاء من نساء القرية المجاملات، وتعزية أخوته وحملهن على التأسي، وهو ما لا يطيق عليه صبراً، ولا يجيد تقنياته.

ما إن خرج الرجال من الغرفة حاملين النعش متجاوزين بابها الحديدي السميك، حتى انطلق عويل النائحات متزامناً مع صوت العبارة الجنائزية المعهودة: "وحدوه .. لا إله إلا هو"، فتبسم في سرّه وقال: "يالمكر النساء!" بطريقة ما أحيت له إحدى الأصوات النسائية النائحة الحادة ذكرى أكيج دينق بائعة الخمر التقليدية والتي تسكن في مكان ما على شاطئ النيل الأزرق، وتذكر تلك الليالي التي كان يقضيها بصُحبتها مُعاقراً للخمر الجيدة التي تصنعها بإتقان وتشتهر بها في المنطقة "لا يقتل الوهم إلا مزيد من الوهم!" قالها، وهو يعقد العزم على زيارتها في مسائه ذلك.

* * *

في المقبرة؛ كانت الشمس في كبد السماء، ترسل وهجها مباشرة على رؤوس الرجال الذين وضعوا الجنازة أرضاً، وراحوا يجتهدون في حفر القبر بكل همّه، فيما همس إليه أحدهم بأنه لا توجد حاجة إلى أن يرهق نفسه في الحفر؛ لاسيما وأنه في حالة نفسية لا تسمح له بذلك، هذا الكلام أشعره ببعض السعادة والارتياح، ولكنه كذلك ألزمه بأن يُظهر بعض مظاهر الحزن التي اجتهد في اصطناعها. أزعجه كثيراً حماسة الرجال وتناوبهم على الحفر وهم يرددون بين الفينة والأخرى: "صلي على النبي .. صلي على النبي"، وكأن ذلك يعني إلزامية أن يترك أحدهم الرفاش للآخر، وخمّن أن ذلك يعيق انسيابية عملية الحفر وسرعته، ولكنه أضمر ذلك في صدره، ولم يصرح به لأحد.

كان الغبار المتناثر من عملية الحفر تختلط في خبث غير مسبوق مع العرق المتصبب من جبينه، فشعر بأنه عاد كائناً طينياً من جديد. أحس بالانزعاج الشديد لذلك، وأسترق النظر إلى جثمان أمه المسجى على الأرض علّه يشهد لحظة انتصارها على الموت، ولكنها كانت ما تزال راقدة بلا حراك، فشعر بالحزن لهزيمتها، وكان مقتنعاً بأن حزنه ذلك أصدق من حزن الآخرين الذي لم يمنعهم من الجد في حفر القبر، ورأى في ذلك تناقضاً صارخاً زاد من إحساسه بالاستياء.

لاحظ على الفور أنه مركز اهتمام بالغ من الحضور، وأن الجميع يسعون إلى تلبية احتياجاته بالسرعة المطلوبة، وأشعره ذلك بالتميّز. كان يعلم أن أقرب الناس للميّت أكثرهم حظوة عند المُعزين، ولذلك فإنه لم يشاء أن يستغل هذه الحظوة استغلالاً سيئاً، واكتفى ببعض التصرّفات التي توحي بأنه مستغرق في الحزن. في البيت؛ وقبل الجلوس في الصالة المُخصصة لاستقبال التعازي طالب حامد ود الشريف الاختلاء به لبعض الوقت، وبطريقة جادة أخرج بعض الأوراق من جيبه وبدأ يعرضها عليه، كانت الأوراق عبارة عن: تقارير طبية، ونتائج فحوصات معملية، وشهادة وفاة معتمدة من المستشفى. لم يبد أي اهتمام بكل تلك التفاصيل؛ لاسيما وأنه يعلم تماماً أن أمه الآن ترقد في قبرها بارتياح، وأن هذه التقارير والأوراق عديمة القيمة إزاء المُحصلة النهائية، والحقيقة الأكيدة، ولكنه اكتشف في نهاية الأمر أن ذلك كان بدافع إبداء الحرص وإخلاء المسئولية لا أكثر.

حامد ود الشريف زوج شقيقته الكبرى، رجل مشهور عنه الحرص الشديد، ويُذكر أنه الوحيد في العيكورة بين أقرانه من يحتفظ بشهادة ميلاده، إضافة إلى الشهادات المدرسية منذ المرحلة الابتدائية وحتى الثانوية التي اجتازها بصعوبة بالغة، كما أنه ما زال محتفظاً بتذاكر سفره إلى أديس أبابا لحضور حفل الفنان محمد وردي عام 1989م، إضافة إلى بطاقة صعود الطائرة، بل وتذاكر الحفل نفسه. ورث عشق جمع الأشياء والاحتفاظ بها عن والده الشريف جار الله بَلال، ولا أحد يعلم المعيار الذي يقيّم به الأشياء التي تستحق الاحتفاظ من تلك التي لا تستحق.

يذكر تلك الليلة التي جاء يخطب فيها شقيقته الكبرى، وفيما راح يتحدث عن نفسه وعن عائلته وجذورها العَركية، انشغل هو بتعداد أوجه الشبه بينه وبين شقيقته؛ إذ كان قصيراً مُفرطاً في القِصر، بديناً وبلا رقبة إلى الحد الذي يُشبه معه دمى الماتريوشكا الروسية، له ثآليل بارزة ومتفرقة في وجهه ورقبته، وقواطع أسنانه الأمامية متفرقة عن بعضها وتتطاير شذرات اللعاب من فمه أثناء الكلام، وحاجباه العريضان يكادان يلتقيان لولا عناية الطبيعة، وعيناه ليستا متساويتا الحجم تماماً وعندما انتبه إلى كلامه: "هل تزوّجني أختك؟" أجابه على الفور: "بالتأكيد؛ فأنتما متشابهان تقريباً".

لم يجد مُبرراً لوجوم بعض الوجوه التي لا يعرفها، والتي لم تكن –حتماً- تعرف أمه، واعتبر ذلك نوعاً من الزيف الاجتماعي الذي يطغى على المناسبات من هذا النوع، وفيما كان البعض يتهامسون وبعض الفتيان يوزعون كؤوس الشاي على المعزين، انهمك في متابعة جعران وقح يسير بلا مبالاة بمحاذاة الجدار دافعاً أماماً كرة من الروث دون أن ترهبه هيبة اللحظة الحزائنية المخيمة على المكان، أعجبته استقلالية هذا الجعران وانصرافه إلى أمور أهم بكثير من الحزن على الموتى، وربما شعر بشيء من الحسد تجاهه. كل ما أراده هو أن تنتهي مراسم العزاء ليذهب إلى أكيج دينق ويحتسي خمرها الجيدة، ويُضاجعها إن وجد إلى ذلك سبيلاً ويعود.

أفاق، كما أفاق الجميع، على صوت بوق حافلة تحمل أطناناً من البشر، توقفت في الباحة المقابلة للمنزل، فأشعره ذلك بمزيد من الإرهاق والتعاسة. ترجل الراكبون نساءً ورجالاً، ومضت النساء إلى القسم الآخر من المنزل المخصص للنساء وهن يطلقن عويلهن المزعج، بينما تقدم الرجال وهم يسرعون الخطى، ليتوقفوا أمام الصالة مباشرة، وزعقوا بصوت مُوحد: "الفاتحة".

* * *

نظر إلى من حوله، وتفرس في الوجوه التي كانت بعضها حزينة وبعضها الآخر ذات ملامح حيادية، بينما كان ثمة أشخاص يتبادلون أحاديث ضاحكة، ووجد رجلاً مطأطأ الرأس مخفياً وجهه بطرف عمامته، فاقتبس منه الفكرة؛ حيث وجدها ذكية للغاية. كان بإمكانه أن يغفو قليلاً بينما يعتقد الآخرون أنه يُمارسه حزنه على أمه في خصوصية بعيداً عن أعين المتطفلين الذين يهمهم متابعة حالته النفسية إما ليستلهموا منها ما يُبقيهم حزانى، أو لمجرد الفضول. ما كاد يغمض عينية قليلاً حتى أحس بدغدغة ناعمة على كتفه، فرفع رأسه في استياء ليجد طفلاً يهمس في أذنه: "هنالك سيدة بالخارج تريد أن تعزيك."

استأذن في لباقة مصطنعة من حامد ود الشريف، ولم يفهم لماذا فعل ذلك، ولكنه وجد أنه من الجيّد أن يستأذن منه كتعبير عن امتنانه لملازمته اللصيقة له منذ وصوله من العاصمة. قام متثاقلاً وهو يستشعر الضجر من كل ما يجري من حوله، وعند الباب الفاصل بين صالة عزاء الرجال وصالة عزاء النساء كانت عديلة عبد الرحيم بابو تقف متوشحة عباءتها القاتمة وهي تنوح بنبرات متقطعة ومنتظمة، وما أن رأته حتى توقفت عن البكاء ورفعت كفيها بخشوع وهمّة وهي تقول: "الفاتحة".

أدركَ على الفور أنها لم تجتهد في قراءة الفاتحة كاملة، فالوقت الذي استغرقته لم يكن يكفي لقراءة آيتين متتاليتين، ولكنه شعر بالارتياح لذلك، لأنها أزاحت عنه عبء التكرار الذي بدأ يمله ويزهد فيه. وبحركة درامية ألقت عديلة بابو بجسدها الممتلئ عليه، وراحت تبكي في هستيريا ألهبت حماسة النساء الأخريات اللواتي رحن يبكين تبعاً لذلك. لم يجد بداً من أن يربت على كتفيها في محاولة لمواساتها، وشغله عن ذلك لاحقاً مرور وقية عبد الباسط من أمامهما، ولم يبد عليها أي تغيير طارئ. كانت مثلما تركها قبل تسعة أعوام: بطولها الفارع المشدود، وأردافها وثدييها المغريين، ونظراتها المثيرة ذات المغزى الجنسي، وراح يتذكر الليالي الحمراء التي قضاها معها بين حقول القصب، ورأيه المتطرف أن لاسمها المتخلف علاقة مباشرة بعدم حصول المتعة الجنسية الكاملة معها.

ساعدته تلك الذكرى الممتعة على تخطي اللحظات العسيرة التي كان من المفترض أن يقضيها في مواساة عمته الباكية على صدره، وأدهشه التفاني الذي تظهره النساء في البكاء. هو يعلم أن عمته وأمه لم يكونا على وفاق دائم، بل يكاد يتذكر عدد المرات التي دعت كل واحدة فيهما على الأخرى بالموت والثبور، حتى أن أمه خصصت وتراً للدعاء عليها بأن تموت حرقاً، وتركت لله حرية أن يختار الكيفية والمكان الذي يجب أن تحرق فيه عمته، بعيداً عن بيتها وعن ناظريها. في لحظة ما أحس أن بقاء عمته على صدره قد استغرق وقتاً أكثر مما يجب، فدفعها عنه برفق وهو يقول: "ما حدث؛ حدث وانتهى!" وتدافعت النسوة لتعزيته مستغلين وجوده بينهن، ما جعله يزداد سخطاً وحنقاً، فزجرهن دفعة واحدة: "كفاكن بكاءً! ماتت أمي وانتهى الأمر، وقد ألحق بها إن لم يخرج الغداء حالياً" حاول تدارك الأمر عندما وجد بكتيريا الدهشة تتكاثر في أعين النساء اللواتي توقفن فجأة عن البكاء والعويل: "أعني؛ يتوجب علينا أن ننظر إلى الجانب الجيّد من الأمر، فقد ارتاحت من مرضها أخيراً ومن تعاسة هذه الدنيا".

* * *

ثلاثة عجول ذبحت على الغداء تكفل بهن حامد ود الشريف، ونصبت الموائد أرضاً، وبدأ الجميع يأكل في صمت مطبق. كانت تلك اللحظة الوحيدة التي شعر فيها بالسعادة المطلقة، فمنذ وصوله إلى القرية لم يتناول طعاماً، بينما امتلأت معدته بالشاي الذي لم يتوقف عن فتيان القرية عن توزيعه على المعزين طوال ساعات العزاء الطويلة والمملة. لاحظ حرص ود الشريف على الجلوس إلى جواره على مائدة الغداء، ولم يستطع أن يمنعه من ذلك، ولاحظ أيضاً أنه كان يقتطع أجزاءً من ضلع العجل المطبوخ ووركه ويضعها أمامه في نكران ذات لم يشهد مثله من قبل، ولكن أكثر الملاحظات التي توقف عندها كانت الحماسة الشرهة التي يأكل بها الجميع، والتي لم تكن منسجمة مع مناسبة حزينة كهذه، ولكنه أضمر ذلك ولم يطلع عليه أحداً.

من يتأمل ود الشريف وهو يتناول طعامه، يعرف سر بدانته المفرطة، فهو بالكاد يمضغ الطعام ليستقر في معدته كما اقتطعه بيديه، يشعر المرء أنه لا يمتلك أسناناً داخل فمه؛ بل مطحنة! فقطعة اللحم التي يجتهد الآخرون في تمزيقها يبتلعها هو كما يبتلع أحدنا قطعة الجيلاتين! يعتبر الأكل مهمة مقدسة يجب أن تؤدى بكثير من الاهتمام؛ لذا فإنه ينهمك في الأكل إلى حد الانفصال عن الواقع فلا يعود يشعر بوجود أحد حوله، تلك أشبه بحالات التسامي التي تعتري المتصوفة، بيد أنه يُخلف وراءه دماراً واسعاً وفوضى تشعرك بالرثاء. عندما يشعر أنه لم يعد قادراً على البلع يتوقف برهة ليرتشف قليلاً من الماء، وقتها فقط يرمق من حوله بنظرات سريعة غير آبهة.



#هشام_آدم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الموت ليلة البدرنار
- رحيق البابايا
- رؤية حول إضراب أطباء السودان
- محاولة لتبسيط العالمانية
- الرسالة السرية في «جوابات حراجي القط»
- فن الثورة
- أكمة الإعلام المصري وما ورائها
- رسالة مفتوحة إلى الإعلامية منى الشاذلي
- رسالة عاجلة إلى الشعب المصري
- الإنسان: المطلق والمقيّد
- نحو المطالبة بإعادة العصمة للمرأة
- نحو إنصاف الرواية
- سايكولوجيا المظاهرات
- أزمة المثقف العربي
- جدلية المرأة والرجل (تاريخ العبودية)
- نقد الانتلجنسيا السودانية
- الله والشيطان في الريس عمر حرب
- الميتافور الدلالي في اللغة الإبداعية
- الروح


المزيد.....




- الحبس 18 شهرا للمشرفة على الأسلحة في فيلم أليك بالدوين -راست ...
- من هي إيتيل عدنان التي يحتفل بها محرك البحث غوغل؟
- شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً ...
- حضور فلسطيني وسوداني في مهرجان أسوان لسينما المرأة
- مهرجان كان: اختيار الفيلم المصري -رفعت عيني للسماء- ضمن مساب ...
- -الوعد الصادق:-بين -المسرحية- والفيلم الأميركي الرديء
- لماذا يحب كثير من الألمان ثقافة الجسد الحر؟
- بينهم فنانة وابنة مليونير شهير.. تعرف على ضحايا هجوم سيدني ا ...
- تركيز أقل على أوروبا وانفتاح على أفريقيا.. رهان متحف -متروبو ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هشام آدم - الحزب الأسود