أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هشام آدم - بتروفوبيا - 4















المزيد.....

بتروفوبيا - 4


هشام آدم

الحوار المتمدن-العدد: 3001 - 2010 / 5 / 11 - 12:05
المحور: الادب والفن
    


[الفصل الأول: الرسائل]


الرسالة الثالثة: ( من روبن سينجر إلى إيميلي سميث)

عزيزتي إيميلي!
هذا أنا روبن سينجر، وهذا هو بريدي الإلكتروني الجديد. قبل كل شيء أحب أن أعتذر عن التأخر في الكتابة إليك. لقد مضى شهران على آخر مكالمة هاتفية إن لم تخني الذاكرة، ولكنني كنت منشغلاً -الفترة السابقة- بأمر استقراري وترتيب السّكنى والإقامة. لقد وصلت إلى خليج البترول أخيراً. كان ذلك في يوليو/تموز الماضي. لا أعرف من أين أبدأ بالتحديد، فكل شيء صادفني هنا كان جديراً بالسرد والتدوين، ولم تكفّ كاميرتي الديجيتال عن التقاط الصور؛ فمن المطار وحتى شوارع العاصمة والفندق الذي نزلت فيه مشاهد تستحق التوثيق. كنت أفضّل أن تكوني برفقتي لتري وتشاهدي ما رأيتهُ بأم عينيكِ؛ خوفَ ألا أنجح في نقل مشاهداتي كما هي. لقد هالني ما رأيته في مطار العاصمة هنا، وظننت للحظة أن الطائرة قد أقفلت عائدة، أو أنني قد ركبت الطائرة غير الصحيحة. ولكن شكوكي تبددت كلياً عندما وجدت اللوحة الترحيبية في صالة الاستقبال الرئيسية في المطار. راودني شعور غريب وأنا أقف في طابور الجوازات، كنت أحدّق إلى كل ما حولي من ناس وأشياء وأتخيّل أن الجميع يحدّقون إليّ كذلك، لذا فقد أخذت أتظاهر بإعداد جواز سفري وبعض الأوراق الخاصة. ورددتُ سراً: "يجب أن تتذكر أنك أفضل رجل في هذا العالم، فأنت أمريكي!"

كانت كل الأشياء غريبة بالنسبة إليّ حتى تلك الأشياء المعتادة وتساءلت: "هل أشكو من رهاب الأماكن الغريبة، أم أنّ هذا رهاب البلاد العربية؟!" ربما تعاظم شعوري بالفخر وأنا أحمل جواز سفري الأمريكي لبعض الوقت، رغم أنني في أحيان كثيرة كنت أتردد في إظهاره لغير مسئول الجوازات ذي الشكل الغريب القابع خلف كشكه. قلت: "هل يعقل أن يوجد مكان كهذا في الصحراء؟" نظرت من إحدى الواجهات الزجاجية المطلّة على الجانب الخارجي للمطار، فرأيت صحراء ممتدة، فشعرت بالغثيان.

فكرّت أنهم قد ينقلوننا على ظهور الجمال إلى وسط المدينة، وبدت لي هذه الفكرة مقبولة إلى حدّ ما؛ فقد تذكرت تلك الصور الفوتوغرافية التي أراني إياها الحكيم مايكل لأصدقاء زاروا مصر من قبل. كانوا يمتطون جمالاً عربية مرتدين أزياء مضحكة، وأوشحة غريبة على رؤوسهم. كان ذلك أمام الأهرامات على ما أذكر. ثم بدت الفكرة مستبعدة وسخيفة. فنحن الآن على أعتاب القرن العشرين ولا يعقل أن تكون الجمال وسيلة نقل مستخدمة في عصر سيارات الدفع الرباعي والصواريخ.

أولى المشاهد المستفزة والمضحكة التي واجهتني، عندما فرّقوا بين الركاب في صف الجوازات، كان ثمة شباكان مخصصان لحاملي جوازات دول الخليج، بينما تزاحم البقية –بمن فيهم أنا- على بقية الشبابيك المخصصة لحاملي الجوازات الأخرى. قلت في سرّي: "هؤلاء أكثر جلافة من الألمان!" في مطار فرانكفورت لم يكونوا يفرّقون بين شخص وآخر، بينما كان هنالك شباك واحد مخصص لذوي الاحتياجات الخاصة.

ما إن خرجت إلى الشارع ورأيت الأسفلت، والمظلات السيراميكية العملاقة، وسيارات الأجرة؛ حتى حمدت الرب سراً، وتوجهت فوراً إلى أقرب فندق. كان عليّ الاتصال بالكفيل للتنسيق معه حول بعض الأمور الهامة، ومن ثم الاتصال بسفارتنا هنا. تلقيت من السفارة إفادات وافية عما يتوجب عليّ فعله، كما أنّهم زوّدوني بأرقام هواتف يمكنني الاتصال بها عند الحاجة، إضافة إلى خريطة مصغرة للمدينة التي أقيم فيها: أهم شوارعها، ومعالمها الرئيسية، وأهم من كل ذلك أنها كانت تحتوي على بوصلة اتجاهات.

بعض الذين تحدثت إليهم في السفارة كانوا من العرب، ويبدو أنّهم قدّروا الارتباك الذي كنت أعاني منه. قال لي أحدهم: "يبدو أنها المرة الأولى التي تزور فيها بلداً عربياً! لا عليك؛ سوف ينجلي هذا الشعور تدريجياً، ولا ينبغي لك أن تقلق أبداً؛ فنحن هنا من أجل أن نشعرك بأنك لست وحيداً في هذه البلاد." لقد تعبت كثيراً في البداية؛ لاسيما في التعامل بالعملة المحلية؛ فقد كنت بالكاد أحفظ شكل الفئات الورقية، ولكنني تحسّنت الآن كثيراً. في الأسبوع الأول لي في هذه المدينة، كنت نادراً ما أخرج من غرفتي إلى بهو الفندق ناهيك عن الشارع. وسواء كان ذلك أمراً اعتيادياً أم لم يكن كذلك فإنني كنت أخشى النزول والاختلاط بالآخرين. ورغم فضولي المُلح لاستكشاف المدينة وشوارعها ومبانيها وأسواقها، إلاّ أنّ ذلك الفضول ظلّ حبيس رهابي البدائي حتى اكتسبت بعض الثقة بعد حين.

هاجسي الأوحد الآن أن أبحث عن عمل، ولكنني خالي الذهن تماماً مما قد يمكن أن أفعله هنا؛ فأنا لم أعمل في تنقيب البترول من قبل، كما أنني لا أجيد لغة هؤلاء القوم. أفكر كثيراً في هذا الأمر؛ فما الذي يمكنني أن أفعله هنا؟ وهل يمكنني فعلاً التأقلم مع هذه البلاد وأهلها، وعاداتهم وتقاليدهم الغريبة؟ إنها ليست نزهة سياحية، وربما يطول بي المقام هنا لسنوات؛ فهل أنا قادر فعلاً على ذلك؟ هنا كل شيء غريب ومثير للانتباه؛ فعندما أجد جماعة من العرب وهم جالسون في بهو الفندق، يتحدثون بلغتهم الغريبة أقول في سرّي: "إنهم يتكلمون كما يتكلّم قطيع الدجاج الرومي!" وأسأل نفسي: "هل سيأتي اليوم الذي سأفهم فيه ما يُقولونه فعلاً؟"

الناس هنا فضوليون أيضاً؛ فهم يتعجبون عند رؤيتهم لي. لا أدري ما الذي يثير فضولهم تجاههي، خمّنت أن يكون مظهري سبباً لذلك؛ فلقد لاحظتُ أنني الرجل الوحيد الذي يضع أقراطاً على أذنه، أو ربما كان لوني هو السبب، أو ربما هم لا يصدقون وجود أمريكي بينهم، أو ربما لم تكن تلك إلاّ مجرّد تخيّلات مريضة لا أساس لها من الصحّة، ثم إنني لم أكن أخلو من الفضول تجاه الآخرين بنفس المقدار. كنت أنزل لتناول الغداء في مطعم الفندق، ثم آخذ كمبيوتري المحمول، وجهاز الهاي فن، أضعه على أذني وأنا أستمع باستمتاع إلى أغنيات مايكل بولتون. أمضي الساعات وأنا أتصفح الإنترنت، وأبحث عن أي شيء يخص هذه البلاد. لا أنكر أن بقائي هنا كان بالنسبة إليّ هاجساً لن أتمكن من التخلّص منه بهذه السهولة.

قبل يومين تقريباً نزلت إلى بهو الفندق لأحتسي فنجاناً من القهوة (القهوة تذكرني بك بطريقة ما) ظللت أحدّق إلى صور الرؤساء المعلّقة على الجدران، وأتأمل في وجوه المارين. كدت أضحك عندما وجدت بعضاً ممن حسبتهم انقرضوا منذ فيلم (لورانس العرب): يرتدون جلابيب بيضاء طويلة، وفي ذات الوقت يرتدون أحذية إيطالية وجوارب سويسرية! كما أنهم يضعون أوشحة ويثبتونها فوق رؤوسهم بما يُشبه السيور السوداء، قلت في نفسي: "لِم تهتم بمتابعة الآخرين؟ فكّر في نفسك وفي لحظاتك الخاصة"، ولكن الحق أقول إنني لم أكن لأمنع نفسي من المشاهدة ومتابعة كل ما يمر أمام عيني؛ قلت: "ربما تكون تلك أقرب الطرق لمعرفة المزيد عن هؤلاء البدو."

عندما فُتحت بوابة الفندق الأوتوماتيكية الحابسة للحرارة والعازلة للرؤية رأيت سيارة من نوع جي.أم.سي سوبربان من الطراز الجديد المعدّل وبمواصفات عالية. فتح باب السيارة ونزل منها شخص متدثر بعباءة سوداء من رأسه إلى أخمص قدمه. كان يحاول إخفاء نفسه جيّداً وراء عباءته فتوجستُ خيفة، وقلت في نفسي: ربما كان يخفي قنابل يدوية أو مدفعاً رشاشاً أو حتى يرتدي حزاماً ناسفاً. ساورتني رغبة جامحة في أن أهرع إلى موظف الاستقبال وأخبره بمخاوفي تلك، ولكنني لم أفعل. فيما بعد اكتشفتُ أنها مجرّد امرأة بدوية في زيّها التقليدي. عرفت بعدها أنّ النساء هنا يرتدين هذه العباءة. لا أنكر أنني كنت أعلم بذلك من قبل؛ ولكن رؤية الشيء ليس كالسماع عنه! كلّف الأمر بضع دقائق حتى هدأ الأدرينالين في عروقي، وأخذت أمسح العرق المتصبب على وجهي.

فاقت دهشتي كل حدّ لرؤية النساء بهذه الهيئة الغريبة، وبصعوبة بالغة استعدت ما كنتُ أسمعه عن هذه البلاد؛ ألم نكن قليلي الاهتمام بهذه الشعوب؟ وللوهلة الأولى أشفقت عليهن، وشعرت تجاههن بحزن شديد. قلت: "لا بد أنهن مقهورات؛ وإلا فما الذي يدفع إنساناً إلى إخفاء نفسه بهذه الصورة؟" وأول ما تسلل إليّ من أسئلة كان حول إمكانية إصابتهن بهشاشة العظام! هل أبدو لك كأفريقي بدائي؟ هذا ما أشعر به هنا على الدوام، وربما تلاحظين كذلك أنني أصبحت فضولياً. في أمريكا لم أكن فضولياً، وربما نرى أنّ الفضول والتلصص أبشع جريمة قد يرتكبها إنسان حر؛ ولكنّ الأمور جديدة وغريبة عليّ كلياً، ولا أكاد أفهم ما يتوجّب عليّ فعله في أيّ موقف. أكثر التجارب صعوبة: تلك التي جاءت بمحض المصادفة، عندما أوقفني أحدهم بينما كنت في طريقي إلى المصعد. شعرت بأنه سوف يرش وجهي بمادة مخدّرة قبل أن أكتشف أنه يبحث عن شخص يزوّده بقدّاحة، ومن فرط غضبي وحنقي فقد كذبت عليه وأخبرته بأنني لا أدخّن.

ثمّة أمر آخر قد يُضحكك كثيراً، فلقد أصبحت أمارس العادة السرّية في الآونة الأخيرة، فالجنس هنا كتجارة المخدرات. تساءلت كثيراً: كيف يقضي الرجال أوقات فراغهم؟ ولكنني لم أكن لأهتدي إلى إجابة مناسبة. لم يكن أمامي إلاّ أن أتابع مشاهدة الأفلام الجنسية على القنوات الفضائية في غرفتي بالفندق، وحمدت الرب أن تلك الوسيلة كانت متاحة، وفي أحيان كثيرة، كنت أضطر إلى شحذ خيالي واستدعي ما كان يدور بيننا في تلك الأمسيات الجميلة. هل أبدو لك كمراهق؟ أنا نفسي احتقر ما أنا عليه. قمت بوضع صورتك في برواز جميل، أضعها على طاولة قرب سريري، أطيل النظر إلى وجهك الملائكي، وأتحدث إليك طوال الليل. أتساءل: "ما الذي تفعلينه الآن؟ كيف هي حياتك بدوني؟" وكثيراً ما كنت أفقد السيطرة؛ فأجدني أبكي، ثم لا أشعر بنفسي إلاّ وقد استغرقت في النوم.

الشيء الوحيد الحقيقي والجميل في حياتي هنا هو أنني أشتاقك بشدّة. كل ليلة أمسك صورتك المبروزة، وأحدّق إلى وجهك وأكاد أقبّله. وفي لحظات اليأس الليلية القاتلة أتمنى أن أعود مرّة أخرى إلى شوارع لوس أنجلس الملّونة والمزدحمة، وإلى ناطحات السحاب الشاهقة التي تحجب أشعة الشمس صباحاً وبعد الظهيرة. ولكنني سرعان ما أعدل عن التفكير في هذا الأمر عندما أتذكر كيف كانت حياتي هناك. قلت لنفسي إنّ الأمر يستحق المعاناة وكان يجب عليّ أن أتحلى بالصبر والجَلَد. سوف أسعى للحصول على عمل في أسرع وقت ممكن قبل أن ينفد ما معي من نقود. لقد تلقيت وعوداً كثيرة بالمساعدة من قبل أمريكيين تعرّفت عليهم هنا. هم يحكون لي الكثير عن هذه البلاد وعن عاداتها وثقافة أهلها البدو، ولكن الكلام شيء والمعايشة شيء آخر. أشار عليّ بعضهم بترك الفندق والعيش في مجمّع سكني؛ قالوا إنّ الجاليات الأمريكية والكندية وبعض الأوربيين يعيشون هناك، ولكنني ما زلت أفكر في الأمر.

الأمريكيون هنا مختلفون كذلك، لاسيما أولئك الذين أمضوا سنوات طويلة في هذه البلاد. تعرفت على أحدهم يُدعى بوول غاردن، يقول إنه أمضى تسع سنوات كاملة في هذه البلاد، ويبدو أنه سعيد بحياته. هو رجل متزوج ولديه ابنة في غاية الجمال. زوجته كرستين غاردن تعمل منسقة اجتماعات وزيارات في السفارة الأمريكية، وهي تقول إنّ الحياة هنا أفضل منها في أمريكا؛ فالحياة هنا سهلة، والمعيشة معقولة. الطقس هنا حار جداً، ولا غرو أن يكون كذلك؛ فهي بلاد صحراوية في الأصل؛ ورغم ذلك فإن الناس يبدون معتادين كثيراً هذه الأجواء الحارة. يذكرني هذا الجو بجو ريف تكساس الحار، ولابد أن هؤلاء البدو يشبهون رعاة البقر في تلك المناطق. يخيّل إليّ أن جلودهم كجلود التماسيح (خشنة وقاسية) ولكن للحق: فإنني لم أصافح أحداً منهم بعد، وربما يدفعني الفضول لأن أفعل، وعندها سأخبرك بما سـأكتشفه.

يتحدث البعض هنا، عن ربيعية الطقس، وأن هذا الشهر من العام، هو شهر دافئ نسبياً، ولكنني لا أشعر بذلك أبداً، الأمر الأكثر إثارة أننا على أعتاب شهر رمضان الذي يصوم فيه المسلمون، ويبدو أنّ الجميع مبتهجون لذلك، رغم ما يُقال عن إغلاق المطاعم طوال نهار هذا الشهر؛ لا تقلقي سوف أتدبّر أمري خلال هذه الفترة؛ وهي فرصة جيّدة أن أعرف الطقوس الدينية لهؤلاء المسلمين عن كثب. لا أملك أن أقدّم لك تقريراً صادقاً عن هؤلاء العرب: هل هم ودودون؟ أم حثالة فضولية همجية؟ وللحق فإنني لم أر ما يدل على ذلك بعد. لم أُمضِ في هذه البلاد سوى شهرين فقط، وهي ليست كافية لإطلاق أحكام كهذه.

ما شدّ انتباه -خلال مكوثي هنا- هو البساطة التي يعيش في كنفها هؤلاء القوم (البساطة أو البدائية)؛ فقبل عدّة أيام كنت أشاهد عبر زجاج باب الفندق تجمهراً لبعض المواطنين (قد لا يتجاوز عددهم تسعة أشخاص على أعلى تقدير)؛ بينما كانت سيارتا شرطة تقفان في المكان. عرفت بعدها أنّ الشرطة قد ألقت القبض على سيّارة يقودها مراهق متهوّر، ولم تمض أكثر من عشر دقائق حتى كان الجمهور منفضين عن المكان!!

في بلادنا قد تشترك سبع سيارات شرطة لإيقاف سائق متهور في الطريق العام، إضافةً إلى طائرة عمودية تراقب من الأعلى، بل وتصوّر هذه المطاردة على أشرطة فيديو يتم عرضها على القنوات التلفزيونية فيما بعد. سألت نفسي عندها: "هل نحن نبالغ في تقديرنا للأمور؟ أم أن هؤلاء العرب بسطاء وساذجون لهذه الدرجة؟" وجودي هنا يجعلني أطرح أسئلة كثيرة عن الفروق بين الشعوب والحضارات. لم كل هذا الاختلاف والبون الشاسع بين كل دولة وأخرى؟ ومن يفرض هذه العادات والتقاليد التي تميّز كل بلد عن الآخر؟ قد تجدين دولة لا يفصلها عن دولة أخرى غير خط وهمي، ورغم ذلك فإننا نجد اختلافاً كبيراً بين عادات هؤلاء وعادات هؤلاء. هذا الاختلاف يجعل وجودي هنا ممتعاً نوعاً ما؛ فالمتعة الحقيقية التي أجدها هي في البحث عن هذه الفروق والكشف عنها.

أحد أكثر المشاهد غرابة هنا ذلك الذي رأيته على الشاطئ (عند زيارتي لإحدى المدن الساحلية): رأيت سيدة تتمشى على الكورنيش برفقة صديقها أو زوجها (لم أعرف). كان الرجل يرتدي سروالاً قصيراً وقميصاً بلا أكمام، بينما كانت السيدة مغطاة بالكامل بعباءتها السوداء. ضحكت في سرّي وتساءلت: "هكذا تستمتع النساء هنا بجو البحر!" كان مشهداً مثيراً للضحك والسخرية بالفعل.

إيميلي! الدنيا كئيبة بدونك، والأيام تمرّ ثقيلة، وكأنها لا تمر أبداً، وأنا في كل مرّة أشتاق إليك أكثر من ذي قبل. أشعر بالندم في أوقات كثيرة، ولكنني لن أعود قبل أن أكمل هذه المغامرة حتى نهايتها. هل تصدقين أنني أتمنى وجودك معي هنا؟ أجل! أن نخرج معاً في شوارع هذه المدينة المكتظة بالغرائب والأعاجيب، أن نلتهم البوظة ونحن نتأبط ذراعي بعضنا، ونضحك كما كنا نضحك في شوارع لوس أنجلس.

كما لا أستطيع أن أنفي دوافعي البيولوجية الكامنة وراء هذا الشوق؛ إنها المرّة الأولى التي اختبر فيها شهوتي بهذه الطريقة. لم يكن الجنس هاجساً من قبل، ولكنه هنا رغبة جامحة وعارمة، رغبة تشعرني بأنني ما أزال مراهقاً في طور الاستمناء اليدوي؛ يا للعار! لا يعرف مقدار الشيء إلاّ من يفقده، وهنا في هذه البلاد، كل شيء معد خصيصاً للرجال. لا أكاد أرى أنثى بالجوار، إلاّ اللواتي أراهن على شاشة التلفزيون. لقد أصبحت رؤيتهن أمراً عزيزاً يسيل له اللعاب؛ هل تصدقين ذلك؟ ولا أدري كيف يقضي الرجال غير المتزوجين أوقات فراغهم، حيث لا نساء ولا شراب ولا نوادي ليلية ولا أيّ شكل من أشكال الترفيه المعروفة!

هنا يذهب المسلمون إلى دور العبادة لتأدية الصلوات. يذهبون خمس مرات في اليوم، إحداهن في الصباح الباكر قبل أن تشرق الشمس. في ديارنا تستيقظ العصافير على خيوط الصباح الأولى، والأذان هنا هو الذي يوقظ العصافير قبل أيّ شيء آخر. لم يتسن لي أن أراهم وهم يصلون داخل دور العبادة، ولكنني رأيت أشخاصاً يصلون في العراء: يصطفون في خط واحد خلف قائدهم الذي يسمّونه (إماماً). لا أدري! ولكن منظرهم وهم يؤدون تلك الحركات يُشعرك بشيء غريب: رهبة، خوف أو ربما كان ازدراء؛ لا أدري! ولكنه شعور غريب بالفعل. كنت قد قررت أن أصوّر مجموعة منهم أثناء الصلاة، ولكنني عدلت عن ذلك؛ فقد خشيت أن يمس ذلك شيئاً من قداستهم. لا نعرف كيف يفكر هؤلاء على أيّ حال.

لن أطيل عليك عزيزتي؛ فقط أحببت أن أخبرك أنني بخير، وأن أزوّدك ببريدي الإلكتروني الجديد الذي أنشأته للتو، وأول رسالة أبعثها كانت إليك. هذا هو بريدي الإلكتروني الجديد، وسوف تجدينني أبعث إليك كل يوم رسالة أزوّدكِ فيها بأخباري، وأخبار عملي هنا. وربما نتمكن من الالتقاء في الماسنجر ذات يوم، بعد أن أعرف التوقيت الزمني بين هنا وأمريكا.

اعتني بنفسك عزيزتي، فلقد شعرتُ ببعض الأسى في نبرة صوتك آخر مرّة، ولم تقنعني الحجج التي سقتها على أي حال. سأنتظر ردك بفروغ صبر حبيبتي

ملاحظة:
أبعث إليك صوراً التقطتها من فرانكفورت، وأخرى من هنا.

مخلصك إلى الأبد
روبن سينجر
الأحد: 13 سبتمبر/أيلول 2000



#هشام_آدم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بتروفوبيا - 3
- بتروفوبيا - 2
- بتروفوبيا - 1
- رواية أرتكاتا
- شركاء التوليب
- الحزب الأسود
- الموت ليلة البدرنار
- رحيق البابايا
- رؤية حول إضراب أطباء السودان
- محاولة لتبسيط العالمانية
- الرسالة السرية في «جوابات حراجي القط»
- فن الثورة
- أكمة الإعلام المصري وما ورائها
- رسالة مفتوحة إلى الإعلامية منى الشاذلي
- رسالة عاجلة إلى الشعب المصري
- الإنسان: المطلق والمقيّد
- نحو المطالبة بإعادة العصمة للمرأة
- نحو إنصاف الرواية
- سايكولوجيا المظاهرات
- أزمة المثقف العربي


المزيد.....




- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هشام آدم - بتروفوبيا - 4