أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هشام آدم - بتروفوبيا - 3















المزيد.....

بتروفوبيا - 3


هشام آدم

الحوار المتمدن-العدد: 2999 - 2010 / 5 / 9 - 16:54
المحور: الادب والفن
    


[الفصل الأول: الرسائل]


الرسالة الثانية: (من روبن سينجر إلى إيميلي سميث)

عزيزتي إيميلي!
أكتب إليك الآن من مطار فرانكفورت (مدينة الخرسانة والنخيل)، كما يسميّها أهلُها. تصادف وصولي هنا احتفالات "صوت فرانكفورت" الذي يستمر لاثنتي عشرة ساعة فقط في مثل هذا الوقت من العام. الناس هنا طيّبون للغاية على عكس ما توقعت. لقد صادفت العديد من الألمانيين الذين زاروا بلادنا مؤخراً، وعرفت أنهم يعرفون عنّا أكثر مما نعرف عنهم نحن. إنهم شعب في غاية الترحاب والكرم. عرفت ذلك من خلال الترحيب والحفاوة التي عاملوني بها هنا؛ أخبروني أن فرانكفورت تسمى في بعض الأحيان بـ"مانهاتن" تيمناً بمانهاتن التي عندنا في نيويورك؛ لأنها تحفّ نهر الماين الوادع كعروس جميلة نائمة على سريرها بكل تعرّجات جسمها اللادن، كما أنني تعلّمت بعض الجمل الألمانية القصيرة التي ترددت على مسامعي ككلمات الترحيب مثل: Willkommen zu Frankfurt am Main التي تعني: "مرحباً بك في فرانكفورت" و: wie geht es dir التي تعني: "كيف حالك؟" و: Guten Morgen وهي التحية الصباحية التي تعني: "صباح الخير." إنها لغة صعبة وثقيلة على اللسان، ولكن تعلّم الأشياء الجديدة أمر مثير بالفعل. أحسست بالسعادة وأنا أساير هؤلاء الألمان في طريقة نطقهم للكلمات، وبدا لي الأمر في منتهى الصعوبة في البداية، ولكن وبالتعوّد وكثرة المران أصبح الأمر اعتيادياً؟ أعلم أنه سيكون أمراً وقتياً، وربما أنسى هذه الكلمات بعد حين، ولكن التجربة نفسها ممتعة.

الطقس بارد جداً هنا، ورغم ذلك فإن الشوارع لا تكفّ عن لفظ الأقدام العابرة عليها. الأرصفة تعجّ بالحركة والأصوات، وكأنهم اعتادوا على هذا الطقس. لا أحد يمشي على مهل، كلهم مسرعون؛ الأمر الذي جعلني أتساءل: "إلى أين يذهب كل هؤلاء في مثل هذا الجو؟" ثمّة شعور غريب يخالجني وأنا ألتفت من حولي لأرى أيادي المكنكة الجبّارة تطال كل ناحية من هذه المدينة. إنهم أناس عمليون للغاية، ورغم تجهّم وجوههم التي توحي بالجلافة، إلاّ أنهم شعب في غاية اللطف. الأمر المدهش كذلك، أنني اكتشفت شيئاً جديداً؛ فهم أنيقون جداً، حتى أطفالهم! وعلى ذكر الأطفال فلقد رأيت مشهداً مثيراً للضحك في الصالة الرئيسة للمطار، إذ كانت ثمّة طفلة تلعب على السلالم الكهربائية المتحرّكة صعوداً ونزولاً، عندما أشارت إليها أمّها بالنزول؛ لأن موعد إقلاع رحلتهما قد أزف. كانت الفتاة عندها تسير في السلّم الذي يتجه إلى الأعلى، ولكنها بإذعان الأطفال البريء حاولت النزول من ذات السلّم، فبدت وكأنها لا تتحرك من مكانها، كلّما نزلت درجة، كلّما صعد بها السلّم الكهربائية درجة أخرى. كان السلّم يأخذها إلى الأعلى وهي ما تزال مصرّة على النزول، وعندما لاحظتْ أنها لا تصل إلى الأسفل، أخذت تبكي! كان منظرها مضحكاً، وهي تبكي بكل براءات الأطفال التي عرفتها، ورأيتها وقرأت عنها. ظلّت كذلك؛ إلى أن مدّ رجل في الطرف الآخر من السلّم يده إليها وحملها إلى حيث السلم المتجه إلى الأسفل.

تعرفت على بعض الألمانيين، ولم يكونوا كما تخيّلتهم قط. أخذوني في جولة سريعة في المدينة. خرجنا من مبنى الركاب رقم (1) إلى محطة القطار الإقليمي الذي يربط أحياء المدينة بالمطار، ولم أنس أن ألتقط بعض الصور الفوتوغرافية لبعض الأماكن التي زرتها بالتأكيد: كنيسة القدّيس بولس، مبنى بنك كوميرز الشاهق والأكثر شهرة في المدينة، مباني الرومر التقليدية التي كانت تستخدم كمقر للمجلس البلدي المحلي بحسب إفادتهم، برج إيشنهايم، والأوبرا القديمة. في طريقنا مررنا بمنزل تقليدي، فسارع الجميع برفع قبعاتهم في احترام متكلّف عرفت فيما بعد أنه منزل الفيلسوف غوته. وتعجبت كيف أن هؤلاء الألمان يوقرون فلاسفتهم إلى هذا الحد.

هذه المدينة -يا عزيزتي- ككرش حوت نهم؛ مدينة تلتهم مبانيها وسكانها وحضارتها وتاريخها حتى! كل الأشياء موجودة في مكانها، يعملون على ترميم ما تقادم منها. ويهتمون بالمتاحف إلى حدّ بعيد؛ فقد أروني متحف سينكنبرغ للتاريخ الطبيعي، ومتحف شتيدل، وقطعة التورتة؛ أقصد متحف الفن الحديث قرب الكاتدرائية، يسمّونه بقطعة التورتة؛ لأنه على شكل قطعة التورتة فعلاً. كما أروني المتحف اليهودي في قصر روتشيلد، قلت لأحدهم باستغراب: "لم أتوقع أن يكون لليهود متحف أو أيّ أثر هنا في ألمانيا!" فالتفت إليّ مبتسماً وهو يقول: "لو كان هتلر حيّاً لكنتَ أصبحت من أعز أصدقائه، ولكن نحمد الرب أنه قد قضى نحبه لتتنفس ألمانيا الصعداء". كل تلك المتاحف تقع مجتمعة في منطقة واحدة تدعى (رصيف المتاحف). كما مررنا بشارع غاية في الجمال، تنتشر المطاعم والمحال التجارية على جانبيه، ولدى سؤالي أخبروني بأنه يدعى شارع الزايل.

إنها مدينة جميلة إيميلي. كم وددت أن تكوني برفقتي ونحن نتجول في شوارع فرانكفورت الجميلة والهادئة رغم اعتلاء مبانيها الزجاجية والأسمنتية لتذكرني في بعض اللحظات بتلك التي تنتصب في لوس أنجلوس بعنجهية غريبة. اللون البني بجميع تدرّجاته يطغى على المدينة؛ فهو لون الأبنية والمنازل والكنائس ومعظم المتاحف؛ ذكرتني بتلك المباني التي من العصور الوسطى. تعطيكِ هذه المدينة -للوهلة الأولى- يقيناً بأنها مصنوعة من المكعبات الصغيرة التي يلعب بها الأطفال؛ فالمباني منسقة في أشكال هندسية حادة جداً. أعطتني تلك المدينة انطباعاً أولياً بأنها تشبه الألمانيين الذين نعرفهم: أناس أجلاف، حادو الطباع، مكفهرون دائماً، لا يعرفون الضحك أو المزاح. لا أدري من أين تأتينا هذه التصنيفات غير الدقيقة عن شعوب العالم؟ ربما لن تصدقي ما أقوله عن الألمانيين، ولكن كوني على يقين من أن فكرتكِ عنهم ليست دقيقة أبداً.

لقد أخبرنا موظفو المطار بأن الرحلة التالية ستكون صباح الغد، ولم يكن بإمكاني المكوث داخل المطار كل تلك المدّة. رافقني منذ البداية شاب ألماني يدعى بوشيدو، أخذني -بعد جولتنا في المدينة- إلى ضاحية زاكسنهاوزن؛ حيث يقيم هو وأسرته الصغيرة. أخبرني بأنه سميّ بهذا الاسم على اسم مغن مشهور لديهم. تخيّلي أنهم يعرفون أغاني الراب أيضاً! ألم أقل لكِ إنك لن تصدقي ما رأيته وتعلّمته في هذه البلاد؟ قبل أنّ نذهب إلى هناك، سألني ما إذا كنت جائعاً. ولا أخفيك فقد كنت أتضوّر جوعاً، ولم ترق لي تلك الأطعمة التي يقدمونها على متن الرحلات الجويّة؛ تذكرني كثيراً بالوجبات الصحيّة التي تقدمها المستشفيات للمرضى. عندها أخذني إلى مطعم على نهر الماين، مقابل حديقة تدعى نيتزا التي تلفظ أسوارها أغصان أشجار السرو والصنوبر والموز.

الألمانيون ليسوا متعصبيّن للغتهم كالفرنسيين، بل -على العكس- قد تجدين مائة لسان في فرانكفورت وحدها، وهم -على عكس الفرنسيين- يحبون التحدّث إلى الآخرين بلغاتهم، كما أنهم يحبون التعرّف على الثقافات الأخرى، ويقبلون عليها بنهم غير مسبوق. عندها لم أستغرب كيف عرفوا كل تلك المعلومات عنّا وعن بلادنا. لقد راودتني أفكار غريبة جداً وأنا أتمشى في شوارع المدينة، وأرى سكانها وزوّارها وحيواناتها الأليفة؛ خيّل إليّ أن القطط والكلاب في الشوارع ألمانية، وعندها قلت لنفسي: "هل تختلف قطط ألمانيا عن قططنا كثيراً؟" ربما كانت الحيوانات تعرف لغة البلاد التي تعيش فيها بطريقة ما، حتى أنها تستقي طبائعها من طباع سكانها؛ أليس كذلك؟ هكذا خيّل إليّ. أعرف أنها ربما كانت فكرة مجنونة، ولكن الأمر يستحق البحث والاستقصاء.

مساءً، وقبيل غروب الشمس، طلب مني بوشيدو مراقبة مكعبات الأشعة المنعكسة على الماين آتية من مبنى السوق الكبير الذي على شكل تكعيبي تماماً. لقد هالني المنظر، وأحسست أن ذلك نوع من السحر المتقن. وهكذا فإن المباني التي على نهر الماين تمتاز بخصوصية معمارية غاية في الروعة. معظم تلك المباني تتخذ أسلوب الباوهاوس المستوحاة من فكرة (الحياة على النهر). إن ذكرياتي المصوّرة عن هذه المدينة الآسرة ليست دقيقة تماماً، أو هكذا أظنها؛ ربما لأنها المدينة الأجنبية الوحيدة التي أزورها. كما أنني لم أتوقع أن أجد معماراً راقياً في فرانكفورت إلى هذه الدرجة. فكرتي عن ألمانيا عموماً كانت فكرة بدائية مرتبطة بالحرب العالمية الثانية، وقصص أدولف هتلر التي نعرفها كما يعرفها الجميع. لم أجد له تمثالاً واحداً في الميادين العامة كما كنت أتوقع، وعندما سألت عن ذلك أخبروني وفي وجوههم ابتسامة عريضة: "لن تجد له إلاّ تمثالاً واحداً من الشمع بالحجم الطبيعي في متحف برلين." تعجبّت كيف لا يحتفي الألمان بقادتهم، ولكنني في الوقت ذاته استحسنت فكرتهم كثيراً؛ فما من بلد إلاّ ويمجّد رموز دكتاتوريته وأكثر شخصياته دموية على مرّ التاريخ: كراسوس وبومبيوس الكبير في روما القديمة، وموسوليني في إيطاليا، وماكسمليان رويسبير ونابليون بونابرت في فرنسا، وفيدل كاسترو في كوبا. ما من شعب يحتفي بدكتاتوريّه إلاّ وكان عاراً على تاريخ البشرية.

ثمّة أمر غريب في هذه المدينة أيضاً؛ فنادراً ما ترين زنجياً في الأرجاء، حتى الذين قد ترينهم مصادفة لا يكادون يشبهون زنوج أمريكا في شيء. تعرفين ماذا يرتدي الزنوج عندنا، وكيف هي مشيتهم، وكأنهم كناغر مصابة في سيقانها. الزنوج هنا أثرياء ونظيفون؛ فلا تجدين تلك الزمرة التي تقود درجات نارية مخيفة الصوت، أو أولئك الذين يعلّقون الإكسسوارات والسلاسل الثقيلة على رقابهم، ومن ثمّ فجدران الشوارع نظيفة، لا تجدين عليها تلك التعليقات السخيفة، والألفاظ النابئة. يبدو أنني لن أسامح لينكون على ما فعله بأمريكا عندما سمح لأولئك العبيد أن يصبحوا مواطنين أمريكيين. كان يجدر به أن يأمر بعودتهم من حيث جُلبوا: إلى أدغال أفريقيا ومجاهلها حيث ينتمون. أسوأ الزنوج؛ زنوج أمريكا للأسف!

أمضيت مع بوشيدو وأسرته أوقاتاً سعيدة للغاية. الأسرة مكوّنة من أربعة أفراد: دروسل، وزوجته أنجليكيا، وابنهما بوك، ثم يأتي بوشيدو أخيراً كأصغر الأبناء. وهذا البوشيدو الذي يبلغ من العمر ثلاثة وعشرين عاماً شديد الدماثة والظُرف، سمح لي بالمبيت في غرفته التي علّق على بابها -من الداخل- صورة كبيرة للمغنية مادونا، وأسفل الصورة توقيع يبدو أنه توقيعها. لم يداهمني الفضول هذه المرّة لأسأله من أين حصل على الصورة، أو ما إذا كان التوقيع توقع مادونا بالفعل. فقط اكتفيت بحسده افتراضياً. لاحظت أن الألمان -بشكل عام- شديدو الاعتزاز بشواربهم، أقول ذلك لأنني لم أصادف ألمانياً أمرداً فوق العشرين أو مهذب الشارب؛ يحبونه كثاً غزيراً. ونساؤهم أقل جمالاً.

دروسل رغم طيبته المفرطة، إلاّ أن منظره لا يوحي بذلك أبداً. له عرجة مخيفة كعرجة القراصنة، ونظرات غامضة. عندما استقبلنا للمرة الأولى كان يرتدي معطفاً طويلاً وقبعة صوفية داكنة اللون. ذكرني مظهره برجالات الماسونية الفرنسية القديمة شديدي الحذر. كان لا يجيد الإنكليزية؛ لذا فإنني لم أتحدث إليه كثيراً، بينما أظهر بوشيدو مهارة ملحوظة في التحدث بالإنكليزية. عرفت منه بعد ذلك أنه يدرس في إحدى الجامعات الأمريكية؛ لا أدري لم حسدته على ذلك. قلت لنفسي كيف يعقل أن ألمانياً يأتي من دياره للدراسة في جامعاتنا دون أن أتمكن من فعل الشيء ذاته. هل تعلمين أن هنالك من قد يدفع كل ما يملكه من أجل الدراسة في أمريكا؟ بينما شاب مثلي قد يتهاون في ذلك بكل سهولة! لم أتحدث معه عن دراسته غير أني عرفت منه أنه يدرس شيئاً متعلقاً بالجيولوجيا.

تتناوشني أحاسيس غريبة جداً وأنا في انتظار الإعلان عن موعد الرحلة التالية. ثمّة رهبة وخوف شديدان لا أجد لهما تفسيراً، وكثيراً ما أتمنى أن يعلن قائد الطائرة –عبر مكبّرات الصوت- اعتذاره عن قيام الرحلة. مضى الوقت سريعاً رغم كل الأحداث والمشاهد التي مرّت بي في هذه المدينة الوادعة. هل تصدقين لو قلت لك إنني أشتهيك الآن؟ أليست فكرة مجنونة؛ لاسيما في هذا التوقيت بالذات؟ إنها رغبة مجنونة بالفعل، ولكن ولّدتها لدي فتاة تشبهك كثيراً، رأيتها في المطار هنا، ربما لا تحمل ملامح وجهك، ولكنها تشبهك في مشيتها المثيرة، ولباسها القرمزي الذي ذكرني بلباسك الذي ترتدينه غالباً عندما تغادرين إلى العمل صباحاً. أذكر ذلك اليوم الذي استيقظتُ فيه لأجدك تستحمين، فداهمتكِ بالداخل ومارسنا الحب للحظات. أذكر أنك نعتني بالمجنون يومها. ولكنك كنتِ مستمتعة بما جرى؛ أليس كذلك؟

كنا أنا وبوشيدو مساءً نقف في شرفة غرفته المطلّة على شقة نافذتها مفتوحة، حدّقت داخلها، وتعجّبت من ذلك الأثاث الراقي الموجود فيها. لمح في عيني فضولاً فسّره بشكل خاطئ. ثم قال: "آه، إنها شقّة السيّدة تخاندا؛ سيدة ثلاثينية جميلة." عرفت منه أنها فنانة تشكيلية، تعمل في إحدى المعارض الفنية في المدينة. قال: "إنها بارعة فقط في رسم الرجال العراة، ولوحاتها تدرّس لشرح الخصائص التشريحية لجسم الإنسان في بعض المعاهد الفنية. كانت متزوّجة من رجل أعمال ثري، ولكنه توفي قبل عامين، ولا أحد يعلم من أين لها تلك الدقة في رسم تفاصيل الأجساد العارية، رغم أن زوجها كان بديناً." ضحكت عندها وقلت سراً: "هذه الدنيا مليئة بالأعاجيب!" لم ينس بوشيدو تقديم نبيذ التفاح وشراب السوشي اللذين تشتهر بهما فرانكفورت، ولا أنكر أنني استمتعت بمذاقهما إلى درجة كبيرة.

طائرتنا سوف تقلع بعد ساعة تقريباً، وأنا الآن في المطار، وتحديداً في الصالة المخصصة لانتظار الركاب. أترك فرانكفورت وأنا أتساءل: هل سيكتب لي العودة إلى هذا المدينة الجميلة يوماً ما؟ أعني: هل بإمكاني زيارتها معك في ظروف أفضل من هذه؟ لا أخفيك فقد تمنيتك معي في كل لحظة سعيدة قضيتها هنا، وأتمنى أن نأتي إلى هنا، ونقيم أسبوعاً أو أسبوعين. سوف تعجبك المدينة دون شك. كل من سألني عن وجهتي، تعجّب عندما عرف أنني ذاهب إلى الخليج. ظنوا أنني جندي أو ما شابه. وعندما تحققوا من كوني لست جندياً صدقوا أنني مجنون أو مجرّد أمريكي متهور لا يعرف أين تقوده رغباته المجنونة.

هؤلاء يظنون عنّا أننا شعب بلا هدف أو أنّ أهدافنا عديمة الجدوى ومثار سخرية. لم أغضب؛ لأن ذلك كان بعيداً عن الحقيقة، وأحسست للمرة الأولى بشيء من التميّز. لم يبارحني هذا الشعور منذ أن وصلت إلى مطار فرانكفورت ولم أعرف سبباً لذلك. لا أدري إيميلي، ولكن مشاعري متضاربة إزاء رحلتي إلى البلاد العربية هذه. وثمة صورة تخيّلية لا تبرح سينما ذاكرتي أبداً. أتخيّل العرب كأولئك الذين رأيتهم في فيلم (لورنس العرب)؛ ذلك الجاسوس البريطاني الذي وضع إسقاط الدولة العثمانية نصب عينيه، وعمل بكل جهده على الإيقاع بين العرب والأتراك. تلك الصورة الذهنية الكاريكاتورية للعرب لم تفارقني قط. وما زلت أتذكر منظر الصحراء في ذلك الفيلم فأحس بالعطش الشديد. مما يدعو للحيّرة فعلاً أنني كنت أتساءل قبل سنوات، وقبل أن يطرق السفر باب تفكيري حتى: لماذا لم يفكروا -في ديزني- في خلق شخصيات كرتونية مستوحاة من هؤلاء القوم. فتلك الملابس المضحكة والملامح البدائية كانت لتكون طفرة في عالم الرسوم المتحركة.

تخيّلت أنها قد تنافس شخصيات ديزني المشهورة: ميكي ماوس ودونالد دك والعم سكروتش وهكتور باربوسا وأنستيشيا وكوازيمودو، وهذه الشخصيات المشهورة؛ تعرفينها بالطبع. هذا يفشي لك هوسي غير المحدود بأفلام الكرتون؛ أليس كذلك؟ كان أصدقائي يضحكون مني عندما يجدونني مستلقياً على بطني وأنا أتابع أحد أفلام عالم ديزني المثير. هذا ليس وقت الحديث عن أفلام الكرتون على أيّ حال. كان الحكيم مايكل قد أخبرني أنّ الحياة في بلاد العرب صارت مختلفة. وأراني صوراً بعثها إليه أحد أصدقائه ممن يعملون هناك. ولكنه لم يستطع محو الصورة الأخرى التي أعرفها عن العرب. فكثيراً ما يُخيّل إليّ أنهم شياطين في ملابس آدمية، أو مصاصو دماء متخفون في هيئات بشرية، تماماً كأسطورة دراكولا الشهيرة التي لا تظهر على حقيقتها إلاّ في وقت محدد من الشهر. أشعر بخوف شديد وأنا مقدم على هذه الخطوة، ولا أدري لِم ينتابني شعور يقيني بأنّ هذه الرحلة سوف تشكل منعطفاً خطيراً في حياتي. ربما لن تكون كذلك فعلاً، بل هذا ما أتمناه. ثمة كرات مطاطية كثيرة تتقافز في دماغي ولا تهدأ أبداً. في كثير من الأحيان أحدّث نفسي بالعودة والمحاولة مجدداً في دياري، ولكنني كلما تذكرت تلك النظرات الشيطانية الماكرة، وتلك النعوت الجارحة أتراجع عن هذا القرار، وأصر على المضي قدماً فيما أنا مقدم عليه.

الحياة خارج أمريكا تبدو لي مستحيلة. هل هذا شعور وطني أم أنه مجرّد خوف؟ لا أدري. ولكنني أعلم تماماً أنني سوف أجد صعوبة بالغة في التأقلم مع الحياة الجديدة التي أنا مقدم عليها، وأنني سأمضي وقتاً طويلاً قبل أن أنسى أو أتناسى أمر الحياة في أمريكا والعودة إليها. ترى هل سأعود إليها قريباً؟ وكيف سيكون حالي عندما أعود؟ أعني: هل سأعود خاوي الوفاض أم أنني سأعود وقد تغيّرتُ كلياً؟ على العموم: سوف أواصل الكتابة إليك من هناك، وسوف أتصل بك هاتفياً بمجرّد وصولي على الفور، وحتماً سأزوّدك بعنواني البريدي عندما أستقر في عمل جيّد وملائم. كم أشتاق إلى رؤيتك الآن عزيزتي إيميلي! ترى كيف استقبلتِ خبر سفري المفاجئ هذا؟ هل أنتِ غاضبة مني. أرجوك سامحيني، فأنا لم يكن لديّ خيار آخر. ومن يدري ربما لن تروق لي الحياة هناك، فأعود مباشرة. رجاءً بلّغي تحياتي إلى جميع الأصدقاء.

قبلاتي الحارة لك عزيزتي.

مخلصك إلى الأبد
روبن سينجر
الخميس: 23 يوليو/تموز 2000



#هشام_آدم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بتروفوبيا - 2
- بتروفوبيا - 1
- رواية أرتكاتا
- شركاء التوليب
- الحزب الأسود
- الموت ليلة البدرنار
- رحيق البابايا
- رؤية حول إضراب أطباء السودان
- محاولة لتبسيط العالمانية
- الرسالة السرية في «جوابات حراجي القط»
- فن الثورة
- أكمة الإعلام المصري وما ورائها
- رسالة مفتوحة إلى الإعلامية منى الشاذلي
- رسالة عاجلة إلى الشعب المصري
- الإنسان: المطلق والمقيّد
- نحو المطالبة بإعادة العصمة للمرأة
- نحو إنصاف الرواية
- سايكولوجيا المظاهرات
- أزمة المثقف العربي
- جدلية المرأة والرجل (تاريخ العبودية)


المزيد.....




- ماذا قالت الممثلة الإباحية ستورمي دانيالز بشهادتها ضد ترامب؟ ...
- فيلم وندوة عن القضية الفلسطينية
- شجرة زيتون المهراس المعمر.. سفير جديد للأردن بانتظار الانضما ...
- -نبض الريشة-.. -رواق عالية للفنون- بسلطنة عمان يستضيف معرضا ...
- فيديو.. الممثل ستيفن سيغال في استقبال ضيوف حفل تنصيب بوتين
- من هي ستورمي دانيلز ممثلة الأفلام الإباحية التي ستدلي بشهادت ...
- تابِع مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 23 مترجمة على قناة الف ...
- قيامة عثمان 159 .. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 159 مترجمة تابع ...
- -روائع الموسيقى الروسية-.. حفل موسيقي روسي في مالي
- تكريم مكتب قناة RT العربية في الجزائر


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هشام آدم - بتروفوبيا - 3