أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - هشام آدم - إضاءات على الإسلام















المزيد.....



إضاءات على الإسلام


هشام آدم

الحوار المتمدن-العدد: 3242 - 2011 / 1 / 10 - 18:27
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


إن الإسلام من المنظور النقدي الأكاديمي الصرف لم يُقدم على الإطلاق نظرة ذات طابع ثوري في الحياة الاجتماعية، فهنالك فارق كبير بين الأفكار الثورية والأفكار التجديدية، فالأفكار ذات الطابع الثوري تسعى غالباً إلى التغيير الجذري في أنماط السلوك والتفكير وليس فقط محاولات التجديد وإحياء الأفكار القديمة الموجودة أو بعث تلك الأفكار المندثرة، أو التنظير حول الأفكار المستخدمة وإضفاء الطابع عليها. إن الأفكار التي جاء بها الإسلام لم تكن سوى مزيج مختار من قوانين وتشريعات مستقاة مما كان موجوداً سواء في ديانات أو حضارات أخرى، حتى على مستوى العبادات والشعائر: الصلاة وما يسبقها من وضوء وطهارة مما يتصل بالمسيحية الشرقية، والصوم الذي بدأ بصوم يوم عاشوراء المخصص لليهود، والزكاة والتي كانت على غرار الضرائب التي كانت معروفة لدى العرب من قبل ولم تكن جديدة عليهم، وكذلك الحج. وهو على هذا –أي الإسىم- يفقد صفة الديانة، إذ ينبغي للأفكار الثورية أن تقدم نظرة مخالفة ومغايرة لما هو موجود حتى يُمكن وصفها على أنها ديانة. ولهذا فإن التاريخ الديني يفرق بين زمرة الأنبياء الذين جاءوا بتعاليم وشرائع وطقوس جديدة وبين زمرة الرسل الذين جاءوا من أجل إحياء وتجديد التعاليم القديمة، وعلى هذا أيضاً فيمكننا اعتبار محمد مصلحاً لا نبياً، وبإمكاننا مناقشة أمر إدعائه بأنه مُرسل من إله ما، لاحقاً.

وإن نحن نظرنا إلى الإسلام بشكل عام فإننا نجد تأثره الواضح بالآراء الهلينستية في مُجمل ما يُقدمه وما يطرحه من أفكار، وإن نحن نظرنا إلى قوانينه وأنظمته الفقهية فإننا نجد الأثر الواضح بالقوانين الرومانية، وإن نحن نظرنا إلى النظام السياسي في الإسلام فإننا نجد الأثر الفارسي الذي تمت إعادة صياغته في عهود الخلافة العباسية، وإن نحن نظرنا إلى التصوف في الإسلام فإننا لن نخطئ في اكتشاف التأثر المباشر بالفلسفات الهندية والأفلاطونية. وحتى على مستوى الفنون والعلوم التي يزعم البعض بأنها إسلامية خالصة، فإننا نجد أثر اللمسات الحضارية والثقافية لتلك الدول التي غزاها المسلمون، فما يُسمى بفن العمارة الإسلامي مثلاً لم يكن –في حقيقته- سوى ثقافة معمارية سائدة في بعض الدول التي غزاها المسلمون، وكذلك كل ما يُنسب إلى الإسلام من إنجازات فكرية ومعرفية وحتى علمية، إذ لم يكن الإسلام موحياً وملهماً لهذه العلوم، إلا من جانب كون بعض العلماء كانوا من زمرة المنتسبين إلى الإسلام، وهذا لا يجعلنا نربط هذا العلم أو هذا المنجز العلمي بالإسلام؛ وإلا لصح لنا نسبة عدد كبير من العلوم إلى ديانات أخر كاليهودية أو المسيحية، فهل بإمكاننا –مثلاً- القول بأن الفيزياء أو علم الأجنة والوراثة وعلم النفس علوماً يهودية لأن مؤسسيها وأشهر المسهمين بها هم من اليهود؟ هل ألهمت اليهودية –كديانة- في صياغة هذه العلوم؟ إنه ليس سوى نسق إسلامي يرغب في الاستيلاء على المنجزات ونسبتها إلى نفسه، تماماً كما في التشريعات والشعائر التي استقاها حرفياً من الأديان والثقافات الأخرى سابقة الوجود، وتفنن في صياغتها حتى تتناسب مع العقلية العربية البدوية.

وإن كان لنا أن نعترف بميزة للإسلام فإننا بلاشك يجب أن نقر للإسلام بقدرته الفائقة على مزج هذه العناصر المختلفة وإعادة صياغتها في قالب يبدو للوهلة الأولى نسقاً (ذا مصدر ومنبع واحد) مترابطاً ومتماسكاً، وهو ما لم يكن الفضل فيه عائداً إلى محمد وحده على أية حال (مع معرفتنا باتصاله بعناصر يهودية ومسيحية وغيرها خلال حياته ودعوته) بل إلى أتباعه من بعده سواء في حقبة الخلفاء الأربعة أو في المماليك الإسلامية الخلافية المتعاقبة، ولقد عرف التاريخ الإسلامي عدداً من الشخصيات التي ساهمت بشكل فاعل وجذري في إضفاء ملامح وسمات جديدة، كان لها الدور في صقل المنهج الإسلامي، فالإسلام كمنظومة اجتماعية وسياسية واقتصادية لم يكتمل –كما يُخيّل إلى الكثيرين- قبيل وفاة محمد، بل امتد هذا العمل الترميمي والتهذيبي إلى ما هو أبعد من ذلك زمانياً، بل ويمكننا القول إن العمل في ذلك مازال مستمراً حتى اللحظة، وسيظل كذلك، وليس كما في الأديان المعروفة ذات التشريعات الواضحة والمحددة، فالإسلام –كديانة لم يكن له تشريعه المستقل منذ البداية- ظل وسيظل مستفيداً من كل ما يُنتجه التاريخ البشري من إسهامات حضارية وفكرية وفلسفية، وسوف تظل عمليات دمج ومزج هذه الإسهامات البشرية في القالب التشريعي الإسلامي مستمرة، لأن ذلك –ببساطة- هو إحدى تبعات الزعم بأن الإسلام هو الديانة والرسالة الأخيرة والخاتمة، فكان لابد لهذه الديانة أن تحتوي كل الأفكار والآراء الجديدة بعد إعادة صياغتها بما يتوافق مع النسق الإسلامي أولاً، ومن ثم إعادة تصديرها كمنتج إسلامي نهائي، وهو ما يُثير –على الدوام- الجدل تلو الآخر مع كل فتوى جديدة، ومع كل قضية معاصرة يقف الفقه الإسلامي أمامه.

إن تأثر محمد الواضح والقوي منذ صغره بأراء وأفكار العناصر التي اتصل بها كان له كبير الأثر في حياته الشخصية، ولابد أنه تأثر بهذه الأفكار لدرجة أصبحت فيها هذه الأفكار عقيدة له، واعتبرها وحياً من قوى فوقية ما، وهو ما ساعد على ترسيخ فكرة الوحي والنبوة في ذهنه، بل وفي عقله الباطن مع مرور السنوات، لاسيما إذا عرفنا أن هذه الأفكار كانت تعمل في ذهنه لسنوات طويلة جداً، وبصورة أخص عندما كان يعتزل الناس ويخلو بنفسه، فكان لابد لهذا الجو النفسي أن يزيد من قدرة هذه الأفكار على التغلغل داخله، حتى تصبح عقيدة راسخة لديه، وتصبح فكرة أنه مُرسل من القوى العليا فكرة غالبة، عصية على الطعن، رغم أننا نعلم أنه في بداياته كان متشككاً إلى الدرجة التي حملته على محاولة الانتحار برمي نفسه من شاهق كما أوردت كتب السيرة، دون أن ننسى الدور الذي لعبه كل من زوجته خديجة وقريبها الراهب ورقة بن نوفل في تثبيت أفكاره التي كان متشككاً بها أول الأمر، ودون أن نكلف أنفسنا عناء البحث والتنقيب في المراحل الباثولوجية التي تولدت عبرها مشاعر الإحساس بالنبوة والوحي لديه، فمازلنا نتذكر ما أورده الدكتور هارناك عن الأشخاص الذين يُصابون باعتقادات تصوّر إليهم أنهم أنبياء أو ملائكة أو بشر ذوي مسحة إلهية أو طبائع خارقة أو حتى مُصلحين من نوع خاص وفريد، ويذكر هارناك أن هؤلاء الأشخاص يكون لديهم إحساس متعاظم بالأنا (جنون العظمة) وهو ما بدا واضحاً على محمد في اعتقاده بأنه سيّد ولدي آدم (رغم أن حظه من المعجزات لم يكن كسابقيه لاسيما يسوع الذي امتاز بصفات ألوهية كما أورد الأنجيل واعترف به القرآن)، وكذلك زعمه بأنه أفصح العرب جميعاً، وأنه أفضل العرب حسباً ونسباً، رغم أن الناظر لتاريخه وشجرة عائلته يعلم علم اليقين أنه كان من أدنى فروع بني هاشم وأنه كان مجرد راعي أغنام غير ذي ذكر، وكذلك حديثه عن نفسه بقوله {{وإنك لعلى خلق عظيم}} وهو مشابه إلى حد كبير لقوله: "أدبني ربي فأحسن تأديبي" فنسب التربية إلى هذه القوى العليا، وهو بالتالي صاحب خصال لا تتوافر جميعاً في بشر واحد، وبلغ به الحد إلى زعم أن الإله نفسه يُصلي عليه عندما قال: {{إن الله وملائكته يصلون على النبي}} ولا نعلم كيف يُمكن أن تكون صلاة الإله على أحد مخلوقاته، وحتى لا يتأول علينا البعض ممن يحتقنون حرفة التأويل المختلق، فإن صفة صلاة الإله وملائكته على النبي لن تكون بشكل أو طريقة مختلفة عمّا هي متعارف عليها بين أتباع الإسلام، إذ تأتي الآية في سياق التوصية بالاقتداء، فإذا كان الإله وملائكته يصلون على النبي فلا أقل من أن يفعل الأتباع الشيء ذاته، دون أن نعتقد بانفصال في جنس السلوك في هذا الأمر {{إن الله وملائكته يصلون على النبي (إذن) يا أيها الذين آمنو صلوا عليه وسلموا تسليما}} فلا فارق بين صلاة الإله وملائكته وبين صلاة الأتباع، ولا أدل على جنون العظمة من افتراضه بأنه خاتم النبيين، وأن رسالته هي خاتمة الرسالات السماوية. وكذلك نجد نزعة تعاظم الأنا في قوله في القرآن {{إنا رفعنا لك ذكرك}} وهو ما يُوحي بالقيمة التي كان يبحث عنها محمد من خلال دعوته، دون أن نفترض أنها القيمة الوحيدة التي كانت تشغله، ولكنها قيمة كانت لازمة وضرورية، ولهذا وجدنا أنه يقرن نفسه بالإله في الشهادة والتي هي شرط لدخول الإسلام (أشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)، وكذلك في قوله لأتباعه: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده" وهي لازمة لأنها تضمن له خضوع وإذعان الأتباع، لأن غضبه مرتبط بغضب الإله بالضرورة كما في قوله {{وأطيعوا الله ورسوله}} وكذلك في قوله: {{ومن يشاقق الله ورسوله}} فيأتي اسمه مقروناً دائماً باسم الإله.

كذلك يذهب هارناك إلى القول بأن هؤلاء الأشخاص تكون لديهم تصورات يقينية عن مزاعهمهم، تلك التي تتعلق بارتباطهم بالعوالم الفوقية، عبر هلاوس سمعية وبصرية، وهو ما يجعلهم يبدون أكثر وثوقية وأكثر عزماً من غيرهم، وهو ما يظهر واضحاً وجلياً في عزم محمد الذي بلّغ به رسالته في بادئ الأمر دون كلل أو ملل. وقد أشار هارناك كذلك إلى تفاوت درجات اليقين والوثوقية لدى هؤلاء الأشخاص بناءً على حدة أو خفوت تلك الهلاوس أو حتى رسوخ تلك الأفكار في اللاوعي، الأمر الذي يفسر لنا تقاعس عدد من مدعيي النبوة عن رسالتهم التي اعتقدوا أنهم مكلفون بتبليغها من قبل قوى خفية تأمرهم بذلك مباشرة أو عبر وسيط روحي. وحيث أن كل من يأتي ب وإنا –وإن كُنا نرى ذلك مرضاً- فإننا لا نحاول القول بأنه يحمل طابعاً عدائياً أو نفعياً بصورة مباشرة، فغالبية هؤلاء المرضى يعتقدون أن ما يحملونه من أفكار وآراء هي –دون شك- السبيل الوحيد للتخلص من كافة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، وحتى أولئك الذين لم يحملوا أفكاراً تنويرية تفيد المجتمع بصورة عملية وفاعلية، فإنهم إنما كانوا يريدون إقناع الناس بأن خير وسيلة للتخلص من مشكلات الدنيا هو في انتظار الحياة الماورائية، حيث تسترد الحقوق والمظالم، وحيث بإمكان الإنسان أن ينعم بالسعادة الأبدية، دون أن ننسى سعي الإنسان القديم لهذه الأبدية حتى قبل نشوء الأديان الحديثة نسبياً. ويجدر بنا هنا ملاحظة أن زمرة مُدعي النبوة هؤلاء إنما يأتون مؤيدين لمن قبلهم (حتى وإن اختلفوا عنهم في بعض التفاصيل والجزئيات) وكذلك فإنهم يفتحون الباب للقادم ورائهم، وهذا شأنهم على الدوام. فاليهود كانوا بانتظار مُخلص يأتيهم بُشروا به في التوراة، فجاء يسوع، وهو لم يكن مخلصاً نهائياً (وهو يعلم ذلك) فبشر بمن وراءه، فجاء محمد، وهو أيضاً لم يكن مخلصاً نهائياً (وهو يعلم ذلك) فبشر بمن ورائه فكان المهدي المنتظر وها نحن نرى ونسمع كل يوم عن رجل يدعي أنه المهدي المنتظر هنا وهناك، وسوف يظل الأمر كذلك في هذه السلسلة غير المنتهية لأن أصحاب الإدعاء يعلمون أن أفكارهم سوف يأتي عليها الدهر وتبلى، وسيأتي آخر ليُجدد فيما جددوا فيه من قبل.

لابد لنا هنا من القول بأن هؤلاء الأشخاص –حسب هارناك- يتمتعون بنسبة عالية من الذكاء والقدرة على قراءة الواقع وتحليله، وبالتالي استشراف المستقبل أو التكهن به، وهو ما كان يُميز كذلك عدداً كبيراً من الشخصيات التاريخية التي لم تلتصق بها صفة النبوة، وما تشريعات حمورابي أو تعاليم خالد بن سنان وغيرهما (قبل محمد) ونوسترداموس وحافظ الإيراني والعديد من أصحاب النبوءات (بعد محمد) إلا امتداد لهذا النسق السايكوباتي في معالجة الواقع والتنظير حوله واستشراف المستقبل. ولمّا كان غرض هؤلاء محموداً، وهو بناء المجتمع وإصلاح عيوبه، فإنهم لم يكونوا على الدوام حاملين لدوافع المصادمة مع الواقع، رغم أنهم في الحقيقة يحملون بذور المصادمة عبر دعوتهم إلى التجديد والإصلاح، فما كان لمحمد مثلاً إلا أن يعترف بمن قبله من أدعياء، ليس فقط ليكسب ود الأتباع أو حتى لا يُثير حنقهم، وإنما لعلمه وقناعته بتاريخية الحلول التي حملها المصلحون السابقون. وحيث أن هؤلاء الشخوص –غالباً- ما يكون تفكيرهم منصباً حول هذه القضية، أي قضية إصلاح المجتمع، فإن جزءاً مقدراً من هذه الأفكار يغور في لاوعيهم، لتسهم في بناء شخصيتهم وحياتهم فيما وراء الوعي على شكل أحلام وخيالات يعتقدون –فيما بعد- أنها كلمات تلقى عليهم من قبل القوى العليا، ولهذا فإننا نجد أن أبراهام (إبراهيم) يعتمد على ما يراه في منامه على اعتبار أنه وحي، وكذلك ما حلُ بيوزرسيف أو جوزيف (يوسف) وهو ما رأيناه في حياة محمد كذلك في كثير من المواقف: قصة الإسراء والمعراج مثالاً.

لسنا نتكلم هنا عن نبل المقاصد أو صفاء السرائر، فإن يكن محمد لم يسجد لصنم طوال حياته (حادثة الغرانيق تنفي ذلك) فإن العرب عرفت عدداً كبيراً من الذين رفضوا الاعتراف بالوثنية، وكانت جماعة الأحناف تملء شعاب قريش وعدداً كبيراً من القبائل العربية المجاورة وحتى البعيدة، وربما كان هنالك في بقعة ما من الأرض أشخاص أو جماعات رفضة فكرة الوثنية ولم يذكرهم التاريخ. ويكفي أن نعرف أن قبيلة كقبيلة بني حطيط (جنوب الجزيرة العربية) لم تعرف الوثنية على الإطلاق، ولم يكن لديها صنم على الإطلاق. وإن كان محمد لم يتعاط الخمر في حياته كما يُقال (هنالك أنباء عن معاقرته للنبيذ) فإن عدداً مقدراً من العرب –كذلك- حرّموا الخمر على أنفسهم حتى قبل مجيء محمد، بل وإن العرب عرفت الكريم والشجاع والبار؛ فليست المسألة هنا مسألة أخلاقية بقدر ما هي مسألة عقائدية قامت على أساسها هيكلة كاملة لمجتمع ظن أنه يتبع تعاليم إله قادم من وراء العالم الحاضر، ونعلم جيداً مدى خطورة مثل هذا الاعتقاد، لاسيما إن كان هذا الأمر يتعدى حدود إصلاح المجتمع إلى آفاق عولمة الفكرة. وإن كان لأحد هؤلاء أن يدعي بأن عولمة الفكرة مشيئة إلهية، فإن المحصلة ستكون العنف والمصادمة والتي سوف يراها الأتباع عنفاً مقدساً الغرض منع إنفاذ المشيئة الإلهية، وهو ما رأيناه في الحروب الصليبية، وكذلك في غزوات محمد وأتباعه من بعده.

إن الدعوة المسيحية جاءت باعتبار يسوع المخلص الوحيد والأخير للبشر، وبأنه كفر عن خطايا الناس عبر موته على الصليب، وبذلك لم تكن هنالك حاجة إلى أنبياء أو رسل يأتون من بعده (حسب العقيدة المسيحية) إلا أن يكونوا مُجددين للدعوة المسيحية أو خداماً للرب ووعاظاً في الكنائس، وهو ما ينفي مزاعم محمد بأنه امتداد لسلسلة الأنبياء، إذ تنص النصوص المسيحية على اعتبار أن المسيح هو الطريق الوحيدة الموصلة إلى الله، وأنه لا يمكن لأي إنسان أن يصل إلى الله إلا عبر الإيمان بيسوع وقبوله مخلصاً له، فأين النصين أصدق: الإسلامي أم المسيحي؛ ولماذا، وما هو الدليل؟

وإذا نظرنا إلى الإسلام من الناحية التاريخية، لوجدنا أن عوامل نجاح رسالة محمد لم تكن متعلقة على الإطلاق بدأبه على إبلاغ الرسالة، أو بقدرته على إقناع الناس بصدق نبوته، أو بالحجج التي قدمها على صحة مزاعمه، فلقد أثبت التاريخ أن دعوة محمد لاقت فشلاً ذريعاً طوال سنواته التي أمضاها في مكة، مسقط رأسه حيث أهله وعشيرته، كما أن دعوته لاقت فشلاً ربما أشد وأنكى عندما حاول نقلها إلى الطائف (بلد خؤلته)، كما أن الدعوة الإسلامية لم تنجح بنقلها إلى الحبشة على الرغم من الآثار التي تنقل لنا إسلام الملك النجاشي وحاشيته (الحاشية لابد أن تكون على دين الملك) ولكن لم يكن لذلك أثره البالغ في جعل الإسلام قوة حقيقية يُمكن الاعتداد بها في شبه الجزيرة العربية أو في المنطقة برمتها ولو بعد حين، إذ كان للقوة المسيحية في الحبشة أن تقضي على المد الإسلامي؛ لاسيما إن نحن استحضرنا تاريخ العداء بين بلاد الحبشة والجزيرة العربية، ولكن نجاح الإسلام وانتشاره كان متوافقاً مع توافر ظروف موضوعية للغاية، فالمنافسة القبلية المستشرية بين الأوس والخزرج ونمط العلاقات الإنتاجية والتبادلية بين هاتين القبلتين من جهة وبين يهود المدينة من جهة أخرى كان له أثره الكبير في ثبوت الدعوة الإسلامية في المدينة، دون أن ننسى القاعدة الدينية التي كانت متوفرة لدى القبائل العربية في المدينة من خلال اتصالهم باليهود، فلم تكن تعاليم محمد أو قصصه التي كان يسردها غريبة عليهم، إذ كانوا قد سمعوا بها من قبل عند اليهود.

إنه وإن كان لنا أن نقول بأن محمداً –باعترافه- لم يأت بجديد، وإنما جاء ليتمم مكارم الأخلاق، وجاء ليعيد دين إبراهيم الحنيف الذي حُرف عبر التاريخ، فإننا نتساءل عن كونه نبياً لا مُصلحاُ، فهل هو نبي أم مُصلح؟ فإن كان نبياً فما هي التعاليم التي جاء بها مما لم تكن موجودة سابقاً؟ هذا دون أن ننسى أن الرسول إنما يأتي متماشياً مع ما توافق عليه الناس من تشريع من قبله، بينما النبي يأتي بتعاليم جديدة ورسالته جديدة وهو مطالب بنشر هذه الرسالة ودعوة الناس إلى اتباع هذه التعاليم الجديدة، فما هي هذه التعاليم الجديدة التي جاء بها محمد إن كانت جُل تعاليمه مُستقاة من التوراة والإنجيل وتعاليم من سبقه أدعياء النبوة، بل وحتى مما تعارف عليه قومه الأعراب؟

إن الإسلام –كديانة- ذو نزعة عنيفة وعدوانية، وذلك يظهر بوضوح وجلاء في النصوص المدنية؛ لاسيما السور الأخيرة التي كانت خاتمة القرآن والتي كانت تدعو بشكل واضح وصريح إلى معادات وقتال الآخرين بطريقة إقصائية غير مسبوقة. ويُخطئ البعض عندما يُحاولون دحض هذه الفكرة عن الإسلام بالاستشهاد بمجتمعات إسلامية متسامحة ومُسالمة، (أو حتى تيارات إسلامية متسامحة) دون أن يُدركوا أهمية العنصر الحضاري والثقافي في خلق هذه النزعة التسامحية والمُسالمة، والتي –بالتأكيد- لم يكن للإسلام أي يد فيها، إذ كانت تلك النزعة مبذورة في المكونات الحضارية والثقافية لبعض الشعوب التي دانت بالإسلام، والتي لم تكن بحاجة إلى آيات أو تعاليم توصي بالتسامح لأن نزعة التسامح كانت موجودة لديها بالفعل، حتى قبل مجيء الإسلام. فطبيعة الإسلام الهمجية نابعة من طبيعة العرب البدو أنفسهم، ولهذا سادت تعاليم الغزو والسبي وحتى الحدود العنيفة كقطع اليد والرجم وغيرها من العقوبات العنيفة التي لم يكن لها لتوجد في بيئة يتسم أهلها بسمات أقل جلافة من الطبيعة البدوية المنتشرة في شبه الجزيرة العربية وحتى في بلاد الشام وفلسطين حيث مهد الديانات الأساسية الأولى، ولهذا استطاع العرب تقبل مثل هذه التعاليم لأنها كانت جزءاً من مكونات ثقافتهم وشخصيتهم الجمعية المشتركة. ولكن في مجتمعي كالمجتمع النوبي –مثلاً- لا يُمكننا توقع نشوء تيار سلفي متطرف رغم الصدام العسكري الذي بدأ به المسلمون للدخول في بلاد النوبة؛ إذ أن المجتمعات النوبية مجتمعات مسالمة ومتسامحة بطبيعتها، ولا تميل إلى العنف. فعندما يدعو مسلم نوبي إلى التسامح فمن فرط السذاجة أن ننسب هذا التسامح إلى الديانة نفسها، ونتناسى الأثر الثقافي والحضاري الذي كان وراء هذه الدعوة.

إن من أهم القضايا التي تصادف الباحثين في مجال نقد الأديان، ولاسيما الإسلام، هي قضية صلاحية التعاليم الإسلامية لكل زمان ومكان. فما مدى صحة وصدق هذا الإدعاء، بل ومن أين تم استخلاص هذه الفكرة أصلاً إذا لم تكن وردت في أي من النصوص الدينية بشكل واضح؟ ثم ما معنى هذه الجملة وما هي حدودها الحقيقية؟

عندما نقول: إن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، فإننا نتكلم عن شيئين: ثابت ومتغيّر. فالثابت هنا هو الإسلام (بنصوصه)، والمتغيّر هنا هما الزمان والمكان. فإن صحّ ذلك، لوجدنا صعوبة في مطابقة الثابت على المتغيّر، وعلى هذا فإن أول قاعدة يجب أن نتبعها لتطبيق مبدأ الصلاحية الزمانية والمكانية، هو الاعتقاد بلا ثبات الدين وتغيّره وفقاً للزمان والمكان المتغيّرين، وفي هذه الحالة فإننا سوف لن نتكلم عن دين واحد بل عن أديان، فهل هذا الأمر صحيح؟

عندما أحاول سن قانون في فضاء تاريخي وجغرافي معين، ثم أدعي أن هذا القانون صالح لكل زمان ومكان، فإن هذا يعني –بلاشك- أن نص هذا القانون (وليس روحه فقط) قابل التطبيق والتمثيل في كل زمان ومكان إلزاماً أو طواعية، لأنني –كمُسن للقانون- أعلم سلفاً أن هذا القانون أنجع الحلول لظاهرة معينة. وافتراضي بأنني أملك الحل لكل المشكلات قد يكون نابعاً من مصدر غيبي يعلم يقيناً أن هذا الحل -حتى وإن لم يره الآخرون كذلك- هو دون شك أنجع الحلول لهذه المشكلة في كل زمان وفي كل مكان. فعندما أقول مثلاً: "لا تضاجعوا زوجاتكم بعد أكل البصل" في مجتمع جغرافياً وتاريخياً يُدمن على أكل البصل وتعاني جُل نساءه من العُقم أو استشراء ظاهرة الخيانة الزوجية، فإن هذه الحكمة تستشرف ما للبصل من رائحة كريهة، تجعل المرأة تنفر من الزوج أو في أحسن الحالات تمارس معه الجنس على مضض، وبالتالي فإن العملية الجنسية لا تؤدي على الشكل الأمثل وهو ما يجعل المرأة تشعر بفاقد جنسي قد ترغب في اكتسابه من مضاجعة آخرين ربما لا يأكلون البصل. وعندها تكون الحكمة حلاً جذرياً لمشكلة الخيانة الزوجية. وعندما أدعي بأن هذه الحكمة صالحة لكل زمان ومكان، فإنني افترض أن عدم أكل البصل قبل الممارسة الجنسية بين الزوجين سبيل للحصول على ممارسة جنسية ناجحة، ولكن إذا كانت هنالك جماعة بشرية ترى في رائحة البصل سبباً في استجلاب الرغبة الجنسية أو تقويتها، فكيف بإمكاني أن أواصل في إدعائي بأن حكمتي صالحة لكل زمان ومكان؟ إذ لربما كان لعدم أكل البصل قبل الممارسة الجنسية في المجتمع (x) نفس التأثير الذي يتركه أكل البصل قبل الممارسة الجنسية في المجتمع (y) وعندها ستكون حكمتي هذه سبباً في خلق مشكلة اجتماعية وأخلاقية جديدة لم تكن موجودة في المجتمع. وإذا حاول أحد فقهاء المجتمع (x) تقنين حكمتي (لأنها مقدسة) لتتوافق مع عادات وثقافة المجتمع، فإنه لابد أن يفعل ذلك بإحدى طريقتين:

أولاً: بتحريف نص الحكمة.
ثانياً: بتحريف روح الحكمة.

وفي كلا الحالتين لن يعود لإدعائي بصلاحية حكمتي لكل زمان ومكان أي معنىً أو وجود. إلا أن يتم إجبار المجتمع المنكوب (x) بالعمل بنصيحتي قسراً. فتحريم أكل لحم الخنزير مثلاً، ربما يجد السند المقبول له في الجزيرة العربية التي لم تعتد على أكل لحوم الخنزير مثلاً، ولكن من واجب الأمريكي المُسلم أن يمتنع فوراً عن أكل الخنزير حتى دون معرفة سبب مقنع لهذا التحريم، لأنه يعلم تماماً أنه لا ضير من أكل لحم الخنزير على الإطلاق لا من الناحية الصحية ولا من غيرها من النواحي، طالما أنه تناول هذا النوع من الأطعمة لسنوات طويلة من حياته، دون أدنى مشكلة تذكر إلا فيما يتعلق بالأضرار التي قد تتوافر كذلك في اللحوم الأخرى بنفس المقدار، وعندها لن يعود لقوله {{كلوا من طيبات ما رزقناكم}} أي معنى يذكر بالنسبة له، إذا كان لحم الخنزير من أطعمته المفضلة.

وإذا كان المجتمع العربي معتاداً على تغطية جسد المرأة لأسباب متعلقة بثقافة المجتمع وتراكماته المعرفية والأخلاقية، وطبيعة العلاقة بين المرأة والرجل في هذا المجتمع، فإن فرض الحجاب الإسلامي على المرأة الأمريكية المُسلمة –مثلاُ- ضرب من السذاجة، واعتراف ضمني بعدم توافق المبادئ الدينية مع ثقافة المجتمعات كلها، وتعلقه بالمكونات الثقافية للبيئة التي نشأ فيها، وتصبح الحقيقة المؤكدة هي أن التشريعات الدينية تشريعات نصية ثابتة لا يمكن تطبيقها على متغيّر زماني أو مكاني، وهو ما حاول أتباع محمد فعله فأثار المشكلات والشروخ في عدد كبير من المجتمعات التي ظهر فيه الإسلام، ونتج عن ذلك تيار يدعو إلى إعادة النظر في هذه التشريعات والنصوص الثابتة، وما كان لذلك أن يحدث لولا محاولات تطبيق التشريعات الإسلامية في أمكنة مغايرة لتلك التي ظهر فيها الإسلام أول مرة، فعرفنا الفقه الإسلامي والمذاهب الإسلامية، وهو مما لم يُشرع له محمد، وأصبح النص الواحد ذو دلالات متغيرة حسب المكان والزمان، واعتبر علماء الإسلام ذلك ميزة في التشريع الإسلامي، دون أن يعوا أن اختلاف الدلالات يعني –بالضرورة- اختلاف النص، لأن النص اللغوي في حقيقته ليس سوى قالب لغوي لفحوى أو معنى واحد؛ فإن نحن اختلفنا في تفكيك القالب اللغوي فإننا –بلاشك- سوف نختلف في تأويل المعنى داخله، وعندها سوف يكون لدينا تأويلان لنص واحد، وهذا –وإن كان يُساعد في توسيع التشريع- إلا أنه يدل على ضعف الصياغة في التشريع، لأنه ليس هنالك مُبرر يجعلنا نأخذ بالتأويل الأول ولا نأخذ بالتأويل الثاني، إلا أن تكون مقتضيات المصلحة الشخصية، أو ضرورات الثقافة المحلية لكل مجتمع، وهذا يعني أن طبيعة المجتمع نفسها هي من تفرض التشريع، وليس شيء آخر.

تصبح المشكلة مع التشريعات الدينية في إدعاء قداستها وبالتالي ثبوتها القطعي، فإن قلنا أن التشريع الديني يأمر بقطع يد السارق نصاً ثبوتياً قاطعاً، فإن أتباع هذا التشريع لن يكون أمامهم سوى تطبيق هذا التشريع سواء أكان في المجتمع الذي وُلد فيه التشريع أو في أي مكان آخر انتقل إليه التشريع لاحقاٌ. وإن نحن عرفنا أن رجلاً كعمر بن الخطاب قد قام بإلغاء حد السرقة في عام المجاعة كما هو معلوم ومشهور، فإننا نصبح أمام أحد أمرين، أحلاهما مُر:

الأول: أن عمر بن الخطاب قد تدخل بتحريف وتعطيل التشريع الإلهي الذي قال عنه محمد أنه {{لا مبدل لكلمات الله}} وبالتالي القول بأنه عبّر صراحة عن عدم رضاه بالتشريع الإله في جزئية منه، أو أنه نصب نفسه مُشرعاً في إزاء المُشرع المحمّدي المُتخيّل.
الثاني: أن عمر بن الخطاب كان أكثر فطنة وحكمة من الإله بحيث لم يُجر التشريع بحرفياته كما هو مثبوت في النص، بل أعمل فيه اجتهاداً، وبالتالي القول بأنه ساهم في إنشاء ديانة جديدة ذات خصائص أكثر مرونة من الديانة الإسلامية ذات النصوض الثابتة والجامدة، لأن النص القرآني لم يُقدم أي استثناء في قطع اليد وكأنه لم يضع في اعتباره تلك الحقبة التي قد يُصاب فيها الناس بالمجاعة والعوز.

وحيث أن كثير من الناس لا يتوقفون عند ما قام به عمر بن الخطاب، ويرون (عندما يُضطرون إلى الكلام عن هذا الأمر) أن عمر بن الخطاب فهم روح النص ومقاصد التشريع العليا، وأنه عمل بمقتضى هذه المقاصد، فإنه يحق لنا التساؤل حول إمكانية تعطيل التشريعات المحمّدية في الحالات المشابهة. فهل يجوز تعطيل حد الزنا –مثلاٌ- إذا استشرى عزوف الشباب عن الزواج لأسباب اقتصادية؟ أو إذا استشرى الزنا وأصبح عرفاٌ اجتماعياٌ سائداٌ أو نشاطاٌ اقتصادياٌ مقبولاٌ ومسموحاٌ به؟ وهل يجوز تعطيل حد القذف إذا كثرت الفتن؟ وهل يجوز تعطيل حد الحرابة إذا خشي من ضرر أكبر من ضرر إقامة الحد؟ وهنالك العديد من التساؤلات التي من الممكن أن تتولد من خلال قضية مثل هذه.

تصبح ورطة التشريعات الإسلامية مزدوجة إن نحن قلنا بثبوته وإن نحن قلنا بمرونته. فقولنا بثبوت النص يعني استحالة تطبيقه في كل زمان ومكان، وهو كما يحدث في حالة السلفيين والأصوليين، وقولنا بمرونة النص يعني التدخل البشري المباشر بالتعطيل (كتعطيل حد السرقة عند الحاجة كما فعل عمر بن الخطاب) والتفعيل (كتشريع عقوبة لشرب الخمر كما فعل عمر بن الخطاب أيضاً) وهذا يعني إقرار منا بعد إدراك المُشرع لحركة المجتمعات البشرية وتغيّرها الدائم. وإلا فلماذا لم تقدم الشريعة الإسلامية استثناءً لحد السرقة في حالات الضرورة القصوى والحاجة والفاقة الجماعية؟ علماً بأن السرقة في أيام المجاعة تكون أكثر بشاعة منها في الأوقات الاعتيادية، لأننا إن نظرنا إلى الأمر من زاوية السارق فإننا قد نجد له العذر، ولكن إن نظرنا إلى الأمر من زاوية المسروق فإن العذر قد يتبدد، فالأفضل أن أتعرض للسرقة في أيام الرخاء على أن أتعرض للسرقة في أيام المجاعة والشدة.

إن التشريع الإسلامي لم يُحرم السبي مثلاً، ويذهب عدد من الفقهاء إلى القول بأن السبي حرام في الإسلام، رغم عدم ورود نص صريح بهذا التحريم، معتمدين على حجة غريبة وواهية، مفادها أن هذا التحريم كان تدريجياً، بحيث يصل المجتمع إلى تحريم السبي من تلقاء نفسه. وهذا الأمر يوافق مذهبنا القائل بأن المجتمعات البشرية هي من تشرع لنفسها بنفسها، وهي بذلك ليست بحاجة لتشريعات سماوية أو غيبية، ولكن ماذا سيكون موقف هؤلاء الفقهاء إن عادت المجتمعات البشرية إلى قانون السبي والرق مرة اخرى لأي ظرف طارئ، هل سيظل تحريم السبي التدريجي فاعلاً أم سوف يُعطل مرة أخرى؟ هل يصح القول بأن النص التشريعي يأمر بالشيء وضده في آن معاً حسب المتغيّر التاريخي؟ إذا كانت الإجابة بنعم، فهذا أدعى للقول بأن المجتمع هو من يُشرع لنفسه، وفي هذه الحالة، فإن البشرية ليست بحاجة إلى الأديان لوضع تشريعات تنظيمية لها، طالما كانت حركة المجتمع هي من تحدد هذه التشريعات وتفعلها وتعطلها بناءً على ذلك.

إن نظرة متفحصة على مصدر التشريع الإسلامي الأول (القرآن) يُظهر لنا تناقضاً صارخاً في الخطاب الديني، إذ تحتوي السور المكية على آيات تدعو إلى التسامح والصلح، بينما تدعو الآيات المدنية إلى القتال والجهاد والعنف، وحجة أن الجهاد لم يُشرع إلا للدفاع عن النفس لهي حجة باطلة لأن هنالك العديد من الآيات التي توصي بالجهاد الهجومي وليس الدفاعي، وليس فقط النص القرآني، بل وكذلك التاريخ الإسلامي نفسه مليء بالشواهد التي تدل على نزعة الهجوم في كثير من الغزوات. وعلى سبيل المثال فإن غزوة بدر لم تكن إلا بدافع الهجوم والانقضاض على قافلة قريش، وكان القريشيون في هذه الغزوة هم المدافعون عن قافلتهم وعن أموال تجارتهم التي أراد محمد وأتباعه السطو عليها، وما خطاب محمد لأتباعه قبيل الغزوة إلا تأكيد على ذلك. فإذا قال قائل إنه يتوجب علينا أن نقرأ الآيات القرآنية في سياقها التاريخي، وألا نحاول تعميمها، فإن ذلك يدعونا إلى التساؤل: هل هذا يعني أنه تم إسقاط تشريع الجهاد الآن؟ لقد رأينا كيف ان محمداً حث أتباعه على الجهاد، وحرص على ذلك حيث نجده يقول: {{يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال}} وقال كذلك: "من مات ولم يغز ولم يُحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق" أفيمكننا الآن أن نعتبر آيات الجهاد من الآيات المُعطلة، وأنه لا يُمكن قراءتها إلا في سياقها الزماني؟

حسناً، فلنقرأها إذن في سياقها الزماني، فهل كان ما يفعله محمد وأتباعه من غزو ونهب أمراً أخلاقياً حتى نبرر له؟ ربما سيقول قائل: إن الغزو والسبي كان مما تعارفت عليه الأعراب حتى قبل مجيء محمد، وأن ذلك ليس بدعة ابتدعها محمد، والعمل الذي يقره المجتمع في زمن ما، لا يُمكن أن نقيّمه نحن بمعايير زماننا. وهذا الكلام ربما يكون أسوأ تبرير يُمكن أن يُقال، وإلا فإننا سوف نلوم على لوط أنه كان يعيب على قومه فعلهم الشاذ، فطالما كان اللواط معمولاً به في مجتمع قوم لوط، فلماذا دعا لوط قومه إلى تغيير هذه العادة التي كان متعارفاً عليها في ذلك المجتمع، والتي نراها نحن شذوذاً في زماننا؟ بل وما القيمة الأخلاقية التي يحملها الدين إن كان سوف يُبقي على السلوكيات الموجودة في المجتمع؟ وإنني لأعجب من أولئك الذين يفتخرون بأن الإسلام منع وأد البنات رغم أنها كانت عادة معروفة لدى العرب، فلماذا يُحرم الإسلام وأد البنات ولا يُحرم الرق والسبي؟ الحقيقة أنه لم يكن بمقدور محمد أن يُلغي نظام السبي والرق ليس فقط لأنه نظام متأصل في المجتمع العربي وتقوم عليه عمائد اقتصاده، بل ولأن هذا النظام كان يصب في مصلحته ومصلحة دعوته؛ إذ لولا غزواته لما كُتب للإسلام الانتشار في الجزيرة العربية ناهيك عن بقية البلدان والأمصار الأخرى، كما أنه لم تكن لمحمد وسيلة أخرى يجني بها الأموال الضرورية لإقامة دولة سوى وسيلة سلب أموال القوافل أو الإغارة على القبائل والقوافل، ولما كانت القبائل العربية لا تغير على القبائل الأخرى إلا بدافع فرض السلطة على المراعي والمسطحات المائية أو الانتقام لشرف القبيلة، فإنهم كانوا يُطلقون على أولئك الذين يغيرون على القوافل والقبائل (دون هذه الأسباب) اسم (صعاليك) فإننا نرى أن محمداً وأتباعه لم يكونوا سوى زمرة من الصعاليك في ذلك الوقت، وإن من الصعاليك لمن كان يُغير على القوافل لينهب أموالها ويوزعها على فقراء القبائل الأخرى، فلا يستأثر بها لنفسه.

إن من أكثر خصائص الدين الإسلامي غرابة هي نزعة الإقصاء التي يتمتع بها، إذ يرى أتباعه أنهم أصاحب الديانة الوحيدة الصحيحة، وأن كل من خلاهم كافرون وضالون، ولا يُمكن اعتبار هذه النزعة نزعة فردية، فهنالك نصوص تعزز هذا الشعور وتنميه {{ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون}} وكذلك {{كنتم خير أمة أخرجت للناس}} وهي ذات النزعة التي يعيبونها على اليهود الذين يعتبرون أنفسهم شعب الله المختار، ولا أرى الفارق بين الاثنين كبيراً، وإن كنا سوف نتكلم بالعقلية الدينية قليلاً، فإننا سوف نجد أن لنزعة اليهود العنصرية ما يُبررها من مواقف نقلها محمد من الكتب السابقة، فهم شعب تلقوا المعجزة تلو المعجزة، إذ نزلت عليهم مائدة من السماء، وفجر الإله لهم الارض أنهاراً، وأماتهم ثم أحياهم مرة أخرى، وأرسل إليهم عدداً كبيراً من الرسل، فكل ذلك مما يدل على محبة الإله لهم فعلاً، فماذا فعل هذا الإله لهذه الأمة ليصبحوا خير أمة، ونحن نرى مدى تخلفهم على سائر الأمم الأخرى؟ ألا نرى في بلاد الإسلام مظاهر التخلف والجهل والمرض والفقر والتسلط والقهر السياسي؟ ما هي معجزات هذه الأمة التي يُمكن أن يُفاخروا بها أمةً أو شعباً كاليهود؟ ما هي إنجازات هذه الأمة أمام إنجازات اليهود الاقتصادية والسياسية والعلمية؟




#هشام_آدم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سقطات الأنبياء 2
- جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي
- القرآن والإنجيل
- جدلية النص الديني والتأويل - 3
- جدلية النص الديني والتأويل - 2
- جدلية النص الديني والتأويل
- أرض الميّت - 6
- أرض الميّت - 5
- أرض الميّت - 4
- أرض الميّت - 3
- أرض الميّت - 2
- أرض الميّت
- بتروفوبيا - 7
- بتروفوبيا - 6
- بتروفوبيا - 5
- بتروفوبيا - 4
- بتروفوبيا - 3
- بتروفوبيا - 2
- بتروفوبيا - 1
- رواية أرتكاتا


المزيد.....




- “يا بااابااا تليفون” .. تردد قناة طيور الجنة 2024 لمتابعة أج ...
- فوق السلطة – حاخام أميركي: لا يحتاج اليهود إلى وطن يهودي
- المسيح -يسوع- يسهر مع نجوى كرم وفرقة صوفية تستنجد بعلي جمعة ...
- عدنان البرش.. وفاة الطبيب الفلسطيني الأشهر في سجن إسرائيلي
- عصام العطار.. أحد أبرز قادة الحركة الإسلامية في سوريا
- “يابابا سناني واوا” استقبل حالا تردد قناة طيور الجنة بيبي ال ...
- قائد الثورة الاسلامية: العمل القرآني من أكثر الأعمال الإسلام ...
- “ماما جابت بيبي” التردد الجديد لقناة طيور الجنة 2024 على الن ...
- شاهد.. يهود الحريديم يحرقون علم -إسرائيل- أمام مقر التجنيد ف ...
- لماذا يعارض -الإخوان- جهود وقف الحرب السودانية؟


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - هشام آدم - إضاءات على الإسلام