أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هشام آدم - بتروفوبيا - 6















المزيد.....


بتروفوبيا - 6


هشام آدم

الحوار المتمدن-العدد: 3007 - 2010 / 5 / 17 - 22:00
المحور: الادب والفن
    


[الفصل الأول: الرسائل]



الرسالة الخامسة: ( من روبن سينجر إلى إيميلي سميث)

عزيزتي إيميلي!
من هذه البلاد حيث تعود تواريخ الرسالات السماوية القديمة والأساطير، أهديك أجمل التحايا، وأتمنى أن تكوني الآن –ودائماً- بأفضل حال. أنا جيّد، وصحتي جيّدة، وكل شيء على ما يرام عزيزتي؛ فقط ينقصني أن أجلس إليكِ، وأن نتحدث معاً كما كنّا دائماً. كيف هم أصدقاؤنا إيميلي؟ إني أفتقدهم كثيراً. كيف هو مايكل براون، أما زال يُدخّن الماريجوانا ويهذي؟ وكارولين، أما زالت تبحث عن قصة مناسبة لتجعل منها رواية تخلّد اسمها؟ كيف هي كاثي وكريستوفر كينج؟ أما زال في شرهه في تناول الكحول؟ وكيف هو ويليم روبرت وولكر رودريجرس والجميع؟ إني أشتاق إليهم كثيراً. لقد أشعلتِ -برسالتك الأخيرة- ناراً حميمة. ناراً أعدت إلى قلبي سلامها ودفئها. هنا أصبحتُ أكثر خمولاً، أكاد لا أمارس الرياضة كما في سابق عهدي، ربما أمارس رياضة الهرولة على فترات متباعدة جداً. وبدأت أشعر بأنني أفقد لياقتي شيئاً فشيئاً. هل تدرين؛ لديّ إحساس متعاظم بالشيخوخة! وكأنني أعيش على سطح كوكب آخر.

الغربة شيء لا يمكن وصفه أبداً. عندما نقول (غربة)، فإننا نتحدث عن شيء غاية في المرارة. هل بوسع أحد وصف شعوره بالألم، والخوف بعيداً عن التعريفات الفسيولوجية العقيمة؟ ومهما يكن الوصف؛ فإنه لن يزيد على كونه وصفاً جزئياً لأمر كليّ. نعلم جيداً –يا حبيبتي- أنّ رغبة الإنسان في الكلام ومن ثمّ اختراع اللغة نجمت في أساسها عن رغبته في وصف ما يشعر به؛ ولكن: هل نجح فعلاً؟ أنا لا أعتقد ذلك. نرى ونسمع عن شعراء وفنانين تشكيليين، وموسيقيين استعاضوا عن اللغة بفنهم. إنه لغتهم الخاصة، عندما عجزت اللغات الأم عن الوصف. نحن ما نزال قاصرين عن الوصف. الغربة: كإحساس غريب خجول بالتعري أمام النساء في ليلة شديدة البرودة، هو افتقار المراهق إلى الجنس، وافتقار المتديّن إلى الشعور بالغفران، وافتقار اللون إلى ضوء يُعبّر عنه. نعبُر نحن من خلال ذلك الشعور إلى منطقة أخرى من أنفسنا، ونبدأ في اكتشافها، وكأننا نتحدث عن أشخاص آخرين لا نعرفهم؛ ولا نحبهم أحياناً! هل تصدقين ذلك؟ الغربة خليط من المشاعر المتضاربة والمتجانسة: وحدة، خوف، حنين، ولا تدرين أيّ هذه المشاعر أكثف حضوراً! ربما أقول ذلك لأن الحاسة الأخيرة المتبقية ليّ هي حاسة الشوق إليك. الغربة هي أن تشعر بالوحدة، وألا تستشعر السعادة فيما تفعله، وما تراه. الغربة أن تشتاق إلى شخص ولا تملك إلاّ أن تظل مشتاقاً إليه إلى الأبد، أن يعتصرك الشوق حتى لكأنه سيقتلك.

أبتسم الآن وأنا أتصوّرك تغمغمين سراً: "لقد أصبح روبن رومانسياً!" ولكنني أؤكد لكِ أنني لا أسعى إلى أن أكون كذلك. أجمل الحالات الرومانسية تلك التي تأتي عفوية دون تكلّف؛ أليس كذلك؟ لطالما شعرت بالسخرية إزاء أولئك الذين يغدقون على زوجاتهم وصديقاتهم الورود والكلمات المعسولة، وأولئك الذين يرتدون قبعاتهم وأقمصتهم الحمراء في الرابع عشر من فبراير/شباط من كل عام، حاملين باقات الورود الحمراء وهم يرددون بعض قصائد جون كيتس الرومانسية، أو يغنّون أغاني الحب التي كثيراً ما كانت تُشعرني بالنعاس؛ ولكنني الآن نادم على كل لحظة أضعتها من غير أن أحتفل بها معك في عيد تعارفنا الأول. هل تذكرين ذلك اليوم؟ لابد أنّك تذكرينه، ولكنني واثق بأنك لا تذكرينه بالتفاصيل التي أذكرها أنا. فلقد كنتِ ترتدين بنطال جينز من ماركة إدوين. كان ذلك في حفل ميلاد ليلي مامفورد السابع عشر، كانت قد بدأت تعد الأيام والدقائق منتظرة أن تحين اللحظة التي تبلغ فيها الثامنة عشر.

كنتِ أجمل الحاضرات في نظري، وأنت تقفين وبيدك كاميرا التصوير وتوثيقين للاحتفال. قلت في نفسي عندها: "إنها فتاة أحلامك يا روبن"، ودرتُ حولك، دون أن تشعري بذلك، وبدأت أراقبك في كل حركاتك وسكناتك. عندما جاءت لحظة تقطيع التورتة، تجاسرت وقسمت لك حصتك بيدي. لا أدري ما كنتِ تظنين بي تلك اللحظة، ولكنني لم أشعر في نظراتك بارتياح. ربما كنتِ تقولين في سرّك: "ما هذا الشاب الذي كقطعة الجلاتين!" كانت تلك أول مرة أراكِ فيها، وأنا أؤرخ لعلاقتي بك منذ تلك اللحظة، ولكن علاقتنا الحقيقية بدأت بعد ذلك بأسبوعين أو أكثر، عندما سقطت بعد نزولك من الأفعوانية الفولاذية في مدينة الملاهي، وحملتك إلى دورة المياه. كان عليّ أن أغسل لك وجهك الجميل بيدي، وألا أتركك حتى تستردي عافيتك. عندها قلت لك: "لا يحق لفتاة جميلة مثلك أن تركب الأفعوانية؛ إنه قطار مجنون". عندها رميتني بنظرات غريبة لم أستطع تفسيرها على وجه الدقة، ولكنها كانت المرة الوحيدة التي تقاطعت فيه نظراتنا من مكان قريب.

ما زلت أسكن الفندق، ولكنني وجدت عملاً أخيراً. اتصل بي أحدهم قبل بضعة أيام، وأخبرني بأنه ينبغي لي إعداد سيرة ذاتية لتقديمها إلى شركة تعمل في مجال تقنية المعلومات. فأرسلت له السيرة الذاتية في نفس اليوم. لقد تعجّب عندما عرف أنني كتبت في خانة المهارات الخاصة: إجادة التعامل بلغة الجافا؛ وكأنني ادعيت معرفتي بعلم الاحترار العالمي أو الكيمياء الحيوية. قال لي في رسالته الإلكترونية التالية: إنّ فرص العمل وافرة جداً بالنسبة إليّ مادام لدي معرفة بلغة الجافا؛ تخيّلي! ما كنتُ أدري بأن لغة الجافا مهمة إلى هذا الحد، وفي الوقت الذي تعلمنا فيه هذه اللغة في المدارس، فإنها هنا تدّرس في معاهد متخصصة. ويقال إنه لا يوجد الكثير من أبناء هذه الديار يتقنون لغة الجافا أو التعامل مع الكمبيوتر بشكل عام؛ هذا أشعرني ببعض الارتياح. ربما يعود في الفضل في ذلك إلى صديقنا مايكل براون.

قبل يومين فقط اتصل بي، وطلب مني أن نلتقي في الشركة التي سوف أعمل بها. قال إنه يجب عليّ الحضور لمعاينة شخصية. عرفت -فيما بعد- أن ذلك ما كان إلاّ مجرّد إجراء شكلي ليس إلاّ. في ذات اليوم قمت بتوقيع العقد مع الشركة، وأخبروني بأنني سوف أعمل مديراً لقسم نظم المعلومات. همس لي ذلك الصديق بأنني سوف أترقى في هذه الشركة بسرعة، وأنّ مجال الكمبيوتر في هذه البلاد مجال غني جداً، وأنّ أيّ شركة تتمنى توظيفي لديها. أما المفاجأة الحقيقية فهو الراتب الذي سوف أتقاضاه؛ أتعلمين كم يبلغ راتبي الشهري؟ نعم! (الرواتب هنا تصرف بصورة شهرية وليست أسبوعية) سوف أتقاضى ما يُعادل (3.800) دولار أمريكي؛ هل تصدقين ذلك؟ في البدء ينبغي لي أن أدفع قيمة الفيزا لكفيلي، وسوف يتيح لي هذا الراتب –فيما بعد- شراء سيارة بدلاً من التنقل بواسطة سيارات الأجرة؛ وعندها سوف أتمكن من معرفة المدينة بصورة أفضل. والحق أقول: إنني لم أكن أتوقع هذا العرض المالي قط، فهو مغر جداً، ولا أظن أنني كنت لأجد أفضل منه. بالتأكيد سوف تكون هنالك حوافز وبدلات إضافية على الراتب؛ ما معناه أنني سوف أصبح في وضع مالي جيّد في غضون أشهر قليلة.

مدير شركتنا رجل ودود جداً يُدعى عبد الله الجاسر، وهو يُجيد اللغة الإنكليزية بشكل ممتاز، حاصل على درجة ماجستير في إدارة الأعمال من إحدى الجامعات الأمريكية، ما يُفسر إجادته للإنكليزية بهذا الشكل. مرة أخرى تذكرت بوشيدو وانتابني نفس الشعور بالتقصير. خيّرني بين بقائي في الفندق أو السكن في إحدى المجمّعات السكنية الخاصة بالأمريكيين، ولكن طرأت في ذهني فكرة مجنونة بالفعل؛ قلت له إنني أفضل أن أجد شقة في عمارة سكنية قريبة من مقر العمل، فابتسم وهو يقول: "سيّد روبن، هنا لا يمكنك أن تقيم في عمارة سكنية وأنت أعزب؛ فالعمائر السكنية في معظمها مخصصة للمتزوجين." في بادئ الأمر لم أفهم مغزى كلامه، ولكنني عرفت منه أنه يُمنع على العزاب السكن جوار العائلات. هذه إحدى القوانين التي صعقت لها كثيراً. ورغم كلماته الواضحة، إلاّ أنه تأكد لي ذلك، عندما حاولت أن أبحث عن شقة في عمارة سكنية يقطنها متزوجون بعائلاتهم وأطفالهم. فرفض صاحب العقار أن يؤجر لي الشقة بعدما عرف أنني أعزب. حاولت أن أشرح له أنني رجل منطو على ذاته، ولن أتسبب في ازعاج أحد، إلاّ أنه كرر عليّ ما قاله عبد الله الجاسر؛ فضحكت في سرّي لهذا القانون الغريب، وانصرفت.

ما زلت أسكن في الفندق على كل حال، وربما أنتقل للعيش في إحدى المجمعات السكنية. يبدو أن الحياة هناك أجمل؛ هكذا أخبرني بوول غاردن. قال إن الحياة داخل المجمّعات السكنية مختلفة تماماً عن الحياة خارجها؛ حيث السينما وحمّامات السباحة، وصالات الديسكو، إضافة إلى الشراب الذي لا يتوفر خارج هذه المجمّعات. كما أنّ النساء داخل هذه المجمّعات لا يرتدين تلك العباءات السوداء الموحية بالكآبة. لقد أمضيت معه يوماً كاملاً في يوم إجازته، وكان يوماً رائعاً وجميلاً، غير أنني أردت فقط أن أعيش حياة العرب كما يعيشونها، أن أتخلص من أمريكيتي ولو شكلياً. ولكن يبدو أن هذا صعب حالياً. لديّ شعور قوي بأن قراري الذي اتخذته كان صائباً؛ فهاهي ملامح التغيّر بادية على مجمل حياتي القادمة ما يُعطيني دافعاً قوياً لاستثمار هذه الفرصة على الشكل الأكثر مناسبة. لا أصدق في كثير من الأحيان أنني نجحت أخيراً في الحصول على وظيفة مرموقة. لكِ أن تتخيّلي روبن سينجر مديراً لقسم ما؛ يالها من روعة! أن يكون الشخص مديراً؛ إنه لأمر رائع بالفعل. لقد تجاوز ذلك كل توقعاتي التي كنتُ أنشدها حتى في أكثر أحلامي روعة وخيالية. هل تعلمين أن الموظفين الذين سأكون مسؤولاً عنهم يزيد عددهم عن العشرين موظفاً؟ من بينهم بالطبع أبناء هذه البلاد؛ إن هذا ليدعوا للفخر فعلاً.

بالمناسبة: الشركة التي سوف أعمل بها تُدعى (الشركة العربية المتحدة لتقنية وتحليل المعلومات). وذلك اليوم الذي وقّعتُ فيه عقد عملي مع الشركة دعاني عبد الله الجاسر إلى تناول الشاي في منزله. يسكن في فيلا فخمة جداً، وإن أردتُ أن أصفها لك فلن أستطيع لأنني لم أر مثلها من قبل. الفيلا مكوّنة من ثلاثة أجزاء: المبنى الرئيسي حيث صالات الجلوس التي تحتوي على شاشة تلفزيون بلازما عملاقة 42 بوصة، مع مكبرات صوت خارجية على نظام المسرح المنزلي، وقاعة للاحتفالات مجهّزة بكاميرات وأضواء ومسرح متطوّر، وقاعة أخرى للاجتماعات الخاصة مجهّزة بكل ما يمكن أن تحتاج إليه تلك الاجتماعات من أجهزة عرض وأنظمة تعليق فائق التطوّر، بالإضافة إلى فناء واسع جداً يحتوي على مواقف للسيارات، ربما بإمكانها أن تحتمل أكثر من 15 سيارة في وقت واحد.

المبنى الآخر يحتوي على بركة سباحة كبيرة جداً للبالغين مجهّزة على أحدث طراز، إضافة إلى بركة سباحة أخرى للأطفال، وجميعها تعمل بنظام تقني متطور جداً؛ حيث تضاء مصابيح مقاومة للماء ليلاً من داخل كل بركة؛ لتعطي أرضية البركة وسطح الماء منظراً مدهشاً لا يمكن تخيّله أو وصفه. كما يوجد بالفناء ميدان لكرة السلة الأرضية، وصالة رياضية مزوّدة بأجهزة حديثة جداً. وعلى الزاوية الشمالية للمبنى توجد خيمة بمساحة تصل إلى 77م2؛ وهي تماماً كالخيام التي نراها ونسمع عنها في القصص العربية القديمة، ولكنها من الداخل مجهّزة بتقنيات وآليات حديثة، حيث يوجد بها نظام تنقية هواء متطوّر، وجهاز تكييف الهواء المائي. لقد أعجبتني جداً تلك الخيمة البدوية؛ فهي لا تحتوي على كراسي للجلوس، تخيّلي! ولكنها محاطة –بالكامل- بمجالس عربية تفصل بين كل ثلاثة منها بمتكأ مثالي جداً للاسترخاء. واللون الغالب في تلك الخيام هو اللون الأحمر. والأرضية مفروشة بسجاد ناعم ومثير. والسجاد لونه أحمر أيضاً. أما المبنى الرئيس، فهو يحتوي على غرف المعيشة والنوم وغرف الأطفال والمطبخ. ويفصل بين هذه المباني الثلاث بوابات كبيرة داخلية.

لاحظت أنهم يخلعون أحذيتهم عند دخولهم إلى الخيمة. مشهد الخيام البدوية والجلسة العربية ذكرني على الفور بتلك التي نراها عند اليابانيين؛ فهم –كما تعلمين- لا يستخدمون الكراسي عند جلوسهم، ولكنهم يجلسون على الأرض حفاة الأقدام، وكذلك الأمر تماماً في الجلسات العربية. قدّم لي عبد الله الجاسر شراباً وصفه لي بأنه قهوة عربية، كان مذاقه مراً؛ فشربته على مضض، ولم أرغب في الاستزادة منه. عرّفني في البدء إلى زوجته السيّدة عائشة عبد الرحمن، وإلى جيش أبنائه التسعة، عرّفني عليهم؛ ولكنني لم أحفظ من أسمائهم سوى: سارة ومحمد. الأسرة وادعة جداً، وهم بشكل عام مضيافون جداً وكرماء. والغريب أن الأطفال كانوا يتقنون اللغة الإنكليزية. زوجة عبد الله الجاسر، كانت -كولئك النسوة اللواتي أراهن كل يوم في الشوارع والأماكن العامة- متشحة بالسواد، وتُغطي جسدها بكامله بعباءة لا تشف. كان لا يظهر منها سوى عيناها فقط، ولكنهما كانتا جميلتين، ومكتحلتين بكحل أسود قاتم. كان الأمر عن قرب مختلفاً نوعاً ما، أحسستُ تجاهها بشيء غريب للوهلة الأولى؛ إذ ذكرني منظرها -وهي بتلك الهيئة- براهبات الكنائس. ذلك الشعور جعلني لا أبتدر بمد يدي لمصافحتها، ولكنني انحيت لها، فكانت عيناها المكتحلتين ترمقانني من وراء نقابهما كعينا شبح غارق في الأبدية.

كان الأبناء -الذين يدرسون في مدارس تتبع النظام الأمريكي في التدريس- يُتقنون اللغة الإنجليزية. هذا الأمر جعلني أشعر بالسعادة والفخر طبعاً. وكان يبدو على السيّدة عائشة أنها حامل في شهرها الرابع أو الخامس تقريباً. تعجّبت من مزاجية عبد الله الجاسر التناسلية، وأصبت بلوثة لأنني اكتشفت حب العرب للأطفال والإنجاب. قد تجدين أكثر من ستة أو سبعة أطفال في بيت عربي واحد. وأنا أستغرب من مقدرتهم الغريبة على احتمال كل ذلك! قال لي الجاسر عندما سألته: "كل طفل يأتي؛ يأتي رزقه معه". ولم أفهم سرّ هذه الجملة القدرية، ولكنني أومأت فيما يُشبه الاقتناع. عائلة الجاسر عائلة تقليدية جداً، غير أنها -بمعايير أبناء هذه البلاد- يعتبرون عائلة متحررة نوعاً ما، فالسيّدة عائشة عبد الرحمن كانت السيّدة الوحيدة التي أراها تُجالس الغرباء، رغم أنها لم تكن تتحدث قط؛ بل كانت تكتفي ببعض الضحكات المهذبة، والنحنحات المخنوقة من وراء لجامها التقليدي الأسود. ومن تحت عباءتها السوداء القصيرة كانت ترتدي جلباباً طويلاً مزخرفاً بألوان جميلة يغطي مجمل جسدها، وكانت ترتدي جوارب سوداء تغطي أقدامها فلم أر منها إلاّ عينيها الواسعتين كعيني بومة ناعسة!

كان عبد الله الجاسر في خطابه لأبنائه يتحدث إليهما باللغة الإنكليزية في الغالب، بينما كانت السيّدة عائشة تكتفي ببعض الإيماءات والحركات الآمرة من يديها اللتان لا تحركهما إلاّ نادراً، وكان الجاسر يقوم بترجمة بعض ما يُقال لزوجته، فتشاركنا الحديث بمقاطع لطيفة من الضحك الذي على شاكلة السعال المخنوق. ما أثار انتباهي أنها كانت تعرف بعض الكلمات الإنكليزية، قال لي عبد الله الجاسر إنها تلتقط بعض الكلمات التي تسمعها من أبنائها أو من خلال التلفزيون، ولكنني انتبهت لأمر آخر أدهشني كثيراً؛ فلقد كان الأبناء مطيعين إلى حدّ يجعلك تعتقدين بأن هذه الأسرة أسرة مثالية.

على الفور تذكرت تلك الحقبة المريرة التي كنتُ أعيشها في كنف والديّ في مونتانا. لا مجال للمقارنة؛ فهم في غاية التهذيب والامتثال: يكفي أن ينظر إليهما والدهما بعينيه فقط لكي يكفا عما يقومان به. تساءلت بيني وبين نفسي: "ترى ما سرّ هذا التهذيب الأسري الصارم؟ وكيف اكتسب الجاسر هيبة هوك سينجر دون أن يكون مثله؟" أشعرني الجميع بحميمية في العلاقة، وكأنني أعرفهم منذ فترة طويلة، وكنت أقرأ بعض الابتسامات اللطيفة في عيني السيّدة عائشة من وراء نقابها الحالك؛ بالإضافة إلى نظرات لم أستطع تفسيرها، فكثيراً ما كنتُ ألمح في عينيها نظرات استياء سريعة أو اشمئزاز عابرة؛ ولكنني لم أكلّف نفسي عناء فهم مغزى تلك النظرات؛ طالما أنها كانت من وجه غير مكتمل. لا بأس فهي لم تجلس معنا طويلاً ذلك اليوم. لقد أحسست أن هذه العائلة عائلة مثالية جداً، ولكن لم أشأ أن أصدّق انطباعي الأولي هذا إلى أن تتكشّف الأمور أمامي؛ لاسيما وأن بعض الأطفال كان يشذ ببعض السلوكيات التي تبدو أنها خارج إطارها التأدبي البيّن.

بعد احتساء الشاي جلست أنا والسيّد عبد الله الجاسر نتناقش في مواضيع عديدة، كنت أصغي إليه باهتمام بالغ، وكان سر إصغائي ذلك أنني كنتُ أريد أن أعرف كل شيء عن أول عربي تتاح لي الفرصة للجلوس معه. سألته عن أشياء كثيرة حول العادات والتقاليد، وتحدثنا عن السياسية لبعض الوقت، وبالتأكيد تعرفين أنني لا أحب الكلام في السياسة، وهذا ما فهمه مني السيّد عبد الله فوراً. كان يملك مكتبة ضخمة في فيلاه، واختلفت موضوعات الكتب بين الدينية والثقافية والسياسية والتاريخية والأدبية. كان هو نفسه يشرح لي عن محتويات مكتبته التي أسماها بالمتواضعة، وهو يقول: "تحتوي هذه المكتبة على كل المواد التي أرغب أن أعرف عنها (في الأدب والتاريخ والسياسة). سوف تجد أيضاً بعض الكتب باللغة الإنكليزية." كان يتحدث عن لغته بفخر بيّن، وقال لي إنه يجدر بي أن أتعلم اللغة العربية؛ لأنها سوف تساعدني كثيراً في معرفة ثقافة الشعوب العربية. وأهداني في نهاية الزيارة كتابين أحدهما رواية الخيميائي والآخر كتاب مترجم إلى الإنكليزية، اسمه (من نحن؟) شكرته عليهما، وغادرت على الفور.

وصلت إلى غرفتي في الفندق، وأول ما فعلته بعد أخذ حمام دافئ هو أنني فتحت كمبيوتري المحمول لأتفقد بريدي الإلكتروني. وكم كانت فرحتي غامرة عندما وجدت رسالتك الأخيرة. يا إلهي! كم أشتاق إليك يا إيميلي! لم أكن أعلم أن الشوق قد يكون مرادفاً للعجز! فعندما أحس بعجزي عن رؤيتك وقتما أشاء، أو محادثتك وقتما أشاء فإنني أحس بشوقي إليك مارداً يمزّق أضلاعي كأنه ينوي الخروج، والسفر إليك عبر كل هذه المساحات الشاسعة التي تفصل بيننا. لقد أدهشني خبر زواج ليلي مامفورد؛ فلقد توقعت في البدء أن تتزوج من ويليم روبرت. كلنا نعلم أنهما كانا يعيشان قصة حب رائعة، كانت مضرب الأمثال؛ أتذكرين؟ كنّا نسميهما بـ(روميو وجولييت لوس أنجلوس) لابد أن كثيراً من الأمور قد تغيّرت بعد رحيلي.

ربما خانها ولم تحدّث أحداً بذلك؟ ولكن .. لا، لا يمكن أن يحدث ذلك دون أن تعلمي أو أن نعلم جميعاً بذلك؛ فليلي ثرثارة وهي لا تكاد تخفي شيئاً عن أصدقائها؛ لاسيما المقربين منهم. لطالما كانت ليلي كتاباً مفتوحاً للجميع؛ إذن ما الذي حدث؟ أتدرين؟ يجدر بنا ألا نتساءل عن السبب الذي أدى إلى انفصالهما ما دامت قد تزوّجت واختارت شخصاً آخر؛ فأغلب الظن أن ويليم لم يستطع أن يوفر لها المعيشة المريحة التي كانت تبحث عنه، فكما تعلمين فهو ليس سوى شاعر مغمور معدم، ولن تبقى ليلي تقتات -بقيّة حياتها- على قصائده الغزلية. ربما هو الذي تركها لعلّة اكتشفه فيها؟ من يدري! فكل الأمور واردة الحدوث في هذا الزمن.

لم تقولي لي لماذا تنوين الرحيل من منزلك؟ لا تحاولي أن تقنعيني بأن أعطال فتحات التهوية المتكررة هي السبب؛ فهذا أمر غير منطقي أبداً. تعلمين أن هذا المنزل لا يمكن التخلي عنه بهذه السهولة، ليس فقط لأنه يحمل أجمل ذكرياتنا الخالية، ولكن لأن موقعه ومساحته وإيجاره لا يعوّض أبداً. كما أنني لا أجد مبرراً يجعلك تتركين المنزل؛ لاسيما وأنه قريب من مقر عملك. لن تجدي منزلاً بهذه المواصفات بسهولة. أرجو أن تفكري بالأمر جيداً ، وأن تبلغيني عندما تصلين إلى قرار نهائي.

أرجو أن تداومي على مراسلتي؛ فأنا لم يتبق لي هنا غير رسائلك، ومكالماتنا الهاتفية التي تمنحني القوة والدافع لأن أعيش وأن أواجه التحديات والصعاب التي أمر بها حالياً. لا شيء جديد في حياتي حالياً سوى خبر حصولي على الوظيفة؛ وهذا هو الإنجاز الأهم والجزء الأكثر صعوبة في كل ما أمر به. أشعر بوعكة صحية عابرة ربما كانت نتيجة تغيّر الجو، ولكن لا داعي للقلق؛ فسوف أعالجها ببعض المضادات الحيوية. لم أتسلّم صور حفل الزفاف بعد، وأنا في انتظار أن ترسليها لي مع رسالتك القادمة. حتى ذلك الحين –حبيبتي- أتمنى أن تكوني بخير؛ فهذا أقل ما تستحقينه. إن تأخرت عليك في رسائلي فلا تقلقي؛ لأنني أتوقع أن أكون مشغولاً الأيام المقبلة، فكما تعلمين: الوظيفة الجديدة تتطلب مني الكثير من الحرص والاهتمام وتكريس الجهد. سوف أحرص على الاتصال بك هاتفياً من وقت لآخر.

قبلاتي الحارة ...

مخلصك إلى الأبد
روبن سينجر
الثلاثاء: 15 سبتمبر/أيلول 2000



#هشام_آدم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بتروفوبيا - 5
- بتروفوبيا - 4
- بتروفوبيا - 3
- بتروفوبيا - 2
- بتروفوبيا - 1
- رواية أرتكاتا
- شركاء التوليب
- الحزب الأسود
- الموت ليلة البدرنار
- رحيق البابايا
- رؤية حول إضراب أطباء السودان
- محاولة لتبسيط العالمانية
- الرسالة السرية في «جوابات حراجي القط»
- فن الثورة
- أكمة الإعلام المصري وما ورائها
- رسالة مفتوحة إلى الإعلامية منى الشاذلي
- رسالة عاجلة إلى الشعب المصري
- الإنسان: المطلق والمقيّد
- نحو المطالبة بإعادة العصمة للمرأة
- نحو إنصاف الرواية


المزيد.....




- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هشام آدم - بتروفوبيا - 6