أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد الحداد - قراءة في طبائع الاستبداد ج 1















المزيد.....


قراءة في طبائع الاستبداد ج 1


محمد الحداد

الحوار المتمدن-العدد: 3227 - 2010 / 12 / 26 - 21:29
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    



مقدمة لا بد منها :
تلبية لرغبة أخي د. أحمد صبحي منصور والتي جاءت في تعليق له، كالتالي :
كما أدعو الاستاذ محمد الحداد لأن يقدم لنا سلسلة من المقالات عن حياة الكواكبي وكتابه الأشهر طبائع الاستبداد، وهو أول كتاب باللغة العربية في الليبرالية الديمقراطية، وحقيق بالأستاذ محمد الحداد أن يقرأه لنا في صورة عصرية ليرى هل هناك اختلاف بين طغاة الأمس وطغاة اليوم . انتهى الاقتباس
فتحقيقا لرغبة الدكتور أولاً، وبسبب أن الاستبداد مستمر في أكثر من مكان، خاصة بمنظومة الدول العربية والشرق أوسطية ثانيا، أجدني ملزماً أن أقوم بقراءة كتاب الكواكبي ( طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد ) قراءة ليبرالية ديمقراطية تؤمن بضرورة أن تجد الحرية الشخصية والعدل والسلام المجتمعي والفردي تطبيقاً في حياة المجتمع والانسان حتى يعيش حياة حرة كريمة، وكي تنهض الامم من سباتها الذي طال أمده .
وما دام الاستبداد عائق كبير أمام تحقيق الانسان لذاته، وتحقيق المجتمعات والأمم لأحلامها، لذا وجب تشريح الاستبداد ومعرقة كيفية نشوئه، حتى نتعلم كيفية القضاء عليه، والحيلولة دون ظهوره مرة أخرى .
سأترككم مع هذه الرحلة دون تعليق مني في جزئها الأول لأنها ستتعرض عن نشأته وما مر به من حياته، ومن ثم مقتله بالسم، ومؤلفاته .
من هو الكواكبي ؟
هو عبد الرحمن بن أحمد الكواكبي .
علامة سوري رائد من رواد التعليم ومن رواد الحركة الاصلاحية العربية، كاتب ومؤلف ومحامي وفقيه شهير .
ولد في سنة 1855 ميلادية (1271 هجرية ) في مدينة حلب السورية، والده هو احمد بهائي بن محمد بن مسعود الكواكبي، وأحد أجداده من أبيه إسماعيل الصفوي مؤسس الأسرة الصفوية الشيعية في تبريز، والتي حكمت إيران قرابة قرن ونصف من الزمان .

تزوج والده السيد أحمد بهائي من سيدة حلبية أنجبت نسل الأسرة الكواكبية، كان علم والده واسعاً مما جعل منه حجة في علم الميراث، وأميناً لفتوى الولاية مدة من الزمن، وعضواً بمجلس إدارة الولاية وقاضياً لها، ومستودع سر الناس ومحرر عقودهم وصكوك معاملاتهم .
و والدته السيدة عفيفة بنت مسعود النقيب، وهي ابنة مفتي انطاكية في سوريا .
بعدما توفيت والدته عفيفــة آل النقيب وعمره وقتها ست سنوات، كفلته خالته صفية و اصطحبته إلى بيتها في انطاكية، حيث بقي هناك ثلاث سنوات، عاد بعدها إلى حلب ليتعلم فيها على يـد الشيخ طاهر الكلزي، وبعد أن تعلم القراءة والكتابة، وأتم قراءة القرآن وحفظه، عـــاد إلى خالته، كي ترعــى تنمية علومه، فاستعانت بعمها نجيب النقيب، الذي أصبح فيما بعــــد أستاذاً للخديوي عباس حلمي الثاني الذي كان على عرش مصر حين لجأ إليها الكواكبي .‏
عاد إلى حلب التي كانت تزدهر بالعلوم والفقهاء والعلماء، فدرس الشريعة والأدب وعلوم الطبيعة والرياضة في المدرسة الكواكبية التي تتبع نهج الشريعة في علومها، وكان يشرف عليها ويدرّس فيها والده مع نفر من كبار العلماء في حلب .
كما انه لم يكتفِ بالمعلومات المدرسية، فقد اتسعت آفاقه أيضا بالاطلاع على كنوز المكتبة الكواكبية التي تحتوي مخطوطات قديمة وحديثة، ومطبوعات أول عهد الطباعة في العالم، فاستطاع أن يطلع على علوم السياسة والمجتمع والتاريخ والفلسفة وغيرها من العلوم .

حياته وعمله :
بدأ الكواكبي حياته بالكتابة إلى الصحافة، وعين محرراً في جريدة الفرات التي كانت تصدر في حلب باللغتين العربية والتركية .
عرف الكواكبي بمقالاته التي تفضح فساد الولاة، ويرجح حفيده القاضي سعد زغلول الكواكبي أن جده عمل في صحيفة الفرات الرسمية سنتين تقريبا، براتب شهري قدره 800 قرش سوري .‏
وقد شعر أن العمل في صحيفة رسمية يعرقل طموحه في تنوير العامة وتزويدها بالأخبار الصحيحة، فالصحف الرسمية لم تكن سوى مطبل للسلطة وما زالت .
لذلك رأى أن ينشئ صحيفة خاصة، فأنشأ صحيفة الشهباء مع السيد هاشم العطار سنة 1877 م، وأخذت مقالاته النارية العميقة توقظ ضمائر مواطنيه، وتفضح الاستبداد آنذاك، لم تستمر هذه الصحيفة طويلا، فعطلت ثلاث مرات قبل أن تغلق بشكل نهائي بعد صدور العدد السادس عشر، إذ لم تستطع السلطة تحمل جرأته في النقد، فالحكومة كما يقول الكواكبي نفسه تخاف من القلم خوفها من النار، فأغلقها الوالي العثماني قبر صلي كامل باشا .
بسبب حبه للصحافة والكتابة تابع جهاده الصحفي ضد الاستبداد فأصدر سنة1879 وباسم صديق آخر جريدة الاعتدال، وسار فيها على نهج الشهباء، لكنها لم تستمر طويلاً أيضاً، فأغلقتها الحكومة لجرأة صاحبها في انتقاد سياستها .
بعد أن تعطّلت صحيفتاه الشهباء و الاعتدال، تابع الكتابة في صحف عربية تصدر في بلدان عربية وغربية كالنحلة بنسختيها العربية والإنكليزية، و الجنان و ثمرات الفنون و الجوائب و القاهرة و المؤيد .

انكبّ على دراسة الحقوق حتى برع فيها، وعيّن عضوا في لجنتي المالية والمعارف العمومية في حلب، والأشغال العامة، ثم عضوا فخريا في لجنة امتحان المحامين للمدينة .‏
في سنة 1879 عُين الكواكبي عضواً فخرياً في لجنة المعارف، ولجنة المالية في ولاية حلب، كما عُين عضواً في لجنة الأشغال العامة، ثم أخذت أعماله ومسئولياته تمتد إلى العديد من اللجان والمناصب في مجموعة كبيرة من القطاعات، منها تعيينه عضواً في لجنة المقاولات، ورئاسة قلم المحضرين في الولاية، وعضوية اللجنة المختصة بامتحان المحامين .
ثم أصبح مديراً فخرياً للمطبعة الرسمية بحلب، ثم الرئيس الفخري للجنة الأشغال العامة ثم دخل إلى ساحة القضاء عضواً بمحكمة التجارة بالولاية بأمر من وزارة العدلية العثمانية، عًين رئيساً للغرفة التجارية ورئيساً للمصرف الزراعي، ثم عُين رئيساً لكتاب المحكمة الشرعية بالولاية، وفي سنة 1896 أصبح رئيساً لكل من غرفة التجارة ولجنة البيع في الأراضي الأميرية.

بعد أن أحس أن السلطة تقف في وجه طموحاته، وتعرقل مشاريعه، بل وصل الأمر بها إلى عزله وقطع رزقه، انصرف إلى العمل بعيدا عنها، فاتخذ مكتبا للمحاماة في حي الفرافرة، احد احياء مدينة حلب، قريبا من بيته ، كان يستقبل فيه الجميع من سائر الفئات ويساعدهم ويحصل حقوق المتظلمين عند المراجع العليا ويسعى إلى مساعدتهم، وقد كان يؤدي عمله في معظم الأحيان دون أي مقابل مادي، حتى اشتهر في جميع انحاء حلب بلقب أبي الضعفاء ‏.
إلى جانب هذا العمل الخاص نجد الكواكبي قد شغل مناصب عامة كثيرة، دون أن تفلح الدولة في جعله تابعا لها، أو تغيير منهجه في نصرة الحق وخدمة المصالح العامة، لذلك سيواجه المتاعب في كل أعماله، وسيحاربه كل المستفيدين من الفساد والتسيّب، فحين عين رئيسا لبلدية حلب في زمن الوالي الذي كان مقدرا لمواهبه عثمان باشا 1893 قام بمشاريع عمرانية، كما حاول الحفاظ على سوق المدينة الأثري، فأقام أعمدة حديدية تحول دون دخول الجمال إلى السوق التي كانت تصدم المارة وتملؤه أوساخا، و درس مشروع سد الفرات، وتجفيف مستنقعات الروج، وكلّف بعض المهندسين باستثمار حمامات الشيخ عيسى بعد تجميلها وترميمها، وقد كانت المكافأة التي تلقاه الكواكبي على إصلاحاته هي العزل، فقد ضجّ التجار الذين منعت دوابهم من دخول السوق، ولم يكتفِ الوالي بعزلـه، بل غُرّم قيمة الأعمدة الحديدية، وفروق رواتب موظفي البلدية التي زادها لهم قطعا لدابر الرشوة .

ثم تسلّم رئاسة المصرف الزراعي، ورئاسة غرفة التجارة في حلب، فأسس شركة للتبغ بالتعاون مع تجار حلب، كي يخفف الضغط على الفلاحين، بالإضافة إلى قيامه بإصلاحات أخرى تضرر منها أصحاب السلطة، الذين كانوا يشاركون المهربين في تهريب التبغ، فأحرقوا مواسم الفلاحين من هذا المحصول، فاضطر الكواكبي إلى حلّ الشركة ودفع قيمة الأسهم المستحقة من جيبه الخاص .

في عام 1894 تسلم وكالة المحكمة الشرعية بحلب، فاستطاع أن ينظّم ديوان المحكمة، ويحارب شهود الزور الذين يجلسون أمام المحكمة على المصطبة متظاهرين بالتدين، كانوا يدعون بشهود المصطبة، فحاربه هؤلاء وغيرهم من الفاسدين حتى عزل .

بعد ذلك عين رئيسا للجنة بيع حق الانتفاع من الأراضي الأميرية، التي أصدر السلطان أمرا بتملكها هو وورثته، فبدأ الكواكبي يوزعها على الفقراء ويحجبها عن المتسلطين من رجال الدولة، لذلك عملوا على الإسراع بإقالته .

رحل بعدها إلى مصر واستقر هناك وكتب في كثير من الصحف المصرية والعربية .
ساح في سواحل أفريقيا الشرقية وسواحل آسيا الغربية وبعض بلاد العرب والهند حتى سواحل الصين، وكان في كل بلد ينزلها يدرس حالتها الاجتماعية والاقتصادية في مختلف المجالات .

معاناة الكواكبي مع السلطة العثمانية :

عرف الكواكبي بمقالاته، سواء في حلب أم في خارجها، التي تفضح فساد الولاة، لذلك ناصبه هؤلاء العداء، ولم يوفروا أية فرصة لإيذائه، فقد استغلت السلطة محاولة اغتيال أو بالأحرى تهديد والي حلب جميل باشا من قبل شاب أرمني يتدرب على المحاماة في مكتب الكواكبي، فألقت القبض عليه بتهمة التحريض على قتل الوالي، لكنه خرج من هذه التهمة بريئا، رغم ذلك لم يتخلص من مضايقات والي حلب، فقد اتهمه الوالي عارف باشا بالتآمر مع الأرمن لإثارة المشاكل في حلب، وقد استغل حادثة تعرض القنصل الإيطالي للإصابة بحجر قرب بيت الكواكبي، ليثبت هذه التهمة، فقبض عليه وصودرت أملاكه، وحكم عليه بالإعدام في محكمة حلب، وكان رئيسها من أعوان الوالي، فقدم الكواكبي استئنافاً لإعادة محاكمته في بيروت، نظرا للخلاف بينه وبين الوالي، حيث بُرّيء وعُزل الوالي، بعد أن عانى الكواكبي من السجن مدة عام تقريبا في حلب وبيروت .

لم تكتفِ السلطة بمصادرة حريته الصحفية بمنعه من إصدار صحيفة، ومصادرة حريته الشخصية بالسجن والاستيلاء على أملاكه، بل وصل الأمر بالاستبداد أن اغتصبت منه نقابة الأشراف، و إعطائها لأبي الهدى الصيادي الذي زوّر انتسابه لآل البيت، مع أنه من المعروف أن نقابة الأشراف تتوارثها أسرة الكواكبي في حلب والأستانة وبغداد، باعتبارهم من آل البيت من جهتي الأم والأب منذ أيام أحمد الكواكبي في منتصف القرن الحادي عشر الهجري، وقد كانت نقابة الأشراف مغتصبة من ابن عمه الأكبر منه سناً حسن الكواكبي من قبل الصيادي صديق السلطان عبد الحميد ونديمه الأثير .

بعد وفاة ابن عمه استحق عبد الرحمن الكواكبي نقابة الأشراف، وكان يعدّ نفسه وأهل حلب أيضاً النقيب الحقيقي وإن لم يصدر أمر سلطاني بذلك، لأن النقابة تكون في الأكبر سناً من أفراد الأسرة المؤهل علمياً واجتماعياً .

اعترض على تزوير نسب الصيادي لآل البيت، بل نجده يحرج أبا الهدى الصيادي أمام جمع من الناس أتوا لتهنئته بمناسبة خروجه من السجن، حين قال له، الحمد لله على السلامة يا بن العم، فردّ عليه أمام الناس جميعاً، وعليك السلام، لكن ابن العم هذه من أين أتيت بها؟ قاطعا عليه طريق الاعتراف بنسبه إلى آل البيت، مبطلاً ادعاءه أمام الناس جميعاً، ومن المعروف أن النسب إلى آل البيت يحتاج إلى تصديق ممن يعدّون أنفسهم يمثلونه، وقد كان عبد الرحمن يمثلهم خير تمثيل، لهذا كان إحراجه للصيادي كبيراً، سيردّه له أذى مضاعفاً .

لم تكن ثورة الكواكبي على الصيادي بسبب اغتصابه نقابة الأشراف فقط، وإنما كانت بسبب أعماله وظلمه للرعايا، فقد استغل تأثيره الكبير على السلطان عبد الحميد في اضطهادهم، ولهذا من الطبيعي أن يكون الصيادي أحد الذين كادوا له وأوصلوه إلى منصة الإعدام، وهذا ما أشار إليه الكواكبي في مرافعته ببيروت .

ضيق الاستبداد الخناق على الكواكبي، حتى كان يقترض ليعيش بعد أن صودرت أملاكه، ومنع من مزاولة أي عمل، رغم ذلك لم تستطع السلطة شراءه بالمناصب، فرأت أن تتخلص منه، بعد أن أصبح شخصية مؤثرة في حلب، بل امتد تأثيره إلى سائر البلاد العربية، بسبب مقالاته التي كان يرسلها إلى الصحف العربية، لذلك أرسلت له شخصا ملثما لاغتياله، وفعلا طعنه أثناء عودته إلى بيته ليلاً، بعد هذه الحادثة التي نجا منها بأعجوبة، رأى أن المقام في ديار الاستبداد باتت مستحيلة، فقرر الهرب إلى مصر سنة 1900 ، حيث ستصلها يد الاستبداد وتفلح في قتله، بأن تدس له السم في فنجان قهوة في مقهى يلدز سنة 1902 ، ولا فرق أن تكون هذه اليد هي يد السلطان عبد الحميد أو يد أبي الهدى الصيادي، ومما يؤكد هذه الجريمة الإسراع بدفنه على نفقة الخديوي عباس دون أن تفحص أمعاءه، خاصة أنه صرّح لصديقه في القاهرة عبد القادر الدباغ قبيل وفاته قائلاً: لقد سموني يا عبد القادر .

لعل الأذى الأكبر الذي تعرض لـه الكواكبي من قبل الاستبداد هو سرقة مؤلفاته وأوراقه، إذ يقال أن السلطان عبد الحميد أوعز إلى من يدّعي صداقة الكواكبي عبد القادر القباني صاحب جريدة ثمرات الفنون في بيروت بالرحيل إلى مصر وسرقة مؤلفات الكواكبي المخطوطة، وقد فعل ذلك من أجل أن يفوز بمنصب رفيع في الدولة، فتمّ الاستيلاء عليها وتسليمها إلى القاتل، ليقضي عليها كما قضى على مبدعها، لذلك افتقدنا كثيرا من المخطوطات التي كتبت في المرحلة الأخيرة من حياته قبل خروجه من حلب وبعده، وكان من الممكن أن تضاف إلى مؤلفيه المطبوعين، أم القرى وطبائع الاستبداد .
وقد ذكرها لنا حفيده سعد زغلول الكواكبي في كتابه عبد الرحمن الكواكبي : السيرة الذاتية، وهي :
1. العظمة لله .
2. صحائف قريش .
3. الأنساب .
4. أمراض المسلمين والأدوية الشافية لها .
5. أحسن ما كان في أسباب العمران .
6. ماذا أصابنا وكيف السلامة .
7. تجارة الرقيق وأحكامه في الإسلام .
ويلاحظ من دلالة عناوينها أنها كانت استمرارا لما كان قد طرحه من أفكار في كتابيه السابقين، وإذا كانت هناك بعض الإضافات فلا شك أنها نتيجة رحلاته التي قام بها في السنتين الأخيرتين قبل استشهاده، ونتيجة نضج معاناته، ورغبته في مناقشة القضايا الإشكالية التي قد تشوّه الدين الإسلامي كقضية الرق .

وهكذا لم يكتف الاستبداد باغتيال الكواكبي وإنما سارع إلى اغتيال كلمته، التي كانت لظى على الاستبداد، يخافها كما كان يخاف الكواكبي، ويرى فيها تجسيداً لروحه، لذلك لا معنى لقتل الجسد وبقاء روحه الثائرة، لكن هذه الروح، بفضل الله تعالى، باقية بيننا رغم كل هذا القهر، وجدناها حية متألقة ثائرة في وجه الاستبداد في كتابيه أم القرى وطبائع الاستبداد، وفي بعض مقالاته التي استطاع الباحث جان دايه العثور عليها في جريدة الشهباء واعتدال والعرب، وهي مازالت حية بفضل عناية الباحثين في كل مكان في العالم بما بقي من إنتاجه، لأن عظمة أي إنتاج فكري لا تقاس بكميته، وإنما بفعاليته التي تتجاوز الشرط الزماني والمكاني .

وبذلك نجد أن الكلمة الصادقة التي هي نبض المعاناة اليومية للكواكبي، بقيت حية لا تموت، رغم ما تعرضت له من محاولة اغتيال وقهر على يد الاستبداد، فقد بدت لنا أقوى من المستبد قادرة على مواجهته والقضاء عليه في أي زمان وأي مكان.

رحلات الكواكبي :

ذاق الكواكبي صنوف المعاناة على يد الاستبداد العثماني وأعوانه، حتى لم يبق له مصدر رزق، وصار يستدين من أجل متطلبات حياته اليومية، لذلك حين عرض عليه السلطان منصب قضاء راشيا، كي يبعده عن بلده حلب ويضعف تأثيره، تظاهر بقبوله، وسافر إلى الأستانة سراً، ليقوم بتحريات سرية عن أعمال السلطان وزبانيته، ويرى أنواع استبداده في عقر داره، لكن سرعان ما اكتشف أمره، ودعي للإقامة في قصر خاص بالضيافة، وقد التقى أثناء زيارته تلك بجمال الدين الأفغاني سنة 1895، والذي كان قد جاء إلى الأستانة سنة 1892، وبقي هناك حتى وفاته أو بالأحرى قتله سنة 1897 في منـزل للضيافة تحت الإقامة الجبرية، وقد أحس الكواكبي بعد لقائه بالمصير المشابه الذي ينتظره، لذلك سارع بالعودة إلى حلب سرا .

لقد كان ظاهراً للعيان رغبة السلطان في التخلص منه، خاصة بعد أن أدرك أن المناصب في حلب لم ولن تغيره، فرأى الكواكبي حين عرض عليه السلطان منصب القضاء في راشيا وسيلة جديدة لإبعاده، خاصة أن هذا المنصب قد جاء بعد محاولة الاغتيال التي تعرض لها والتضييق على حريته في الأستانة، لذلك قرر الهرب إلى مصر سراً سنة 1900، بعد أن رهن البيت الذي كان مسجلاً باسم زوجته، ليؤمن تكاليف سفره.

ولو تأملنا أسباب اختيار الكواكبي مصر موطناً له، للاحظنا أنها تنحصر في الحرية، جوهر الوجود الذي عاش من أجله الكواكبي ومات في سبيل تحقيقه، وهذا ما تخيل وجوده في مصر زمن الخديوي عباس، فقد كانت ملاذاً للكتاب، الذين هاجر إليها أغلبهم من بلاد الشام، رغبة في الحرية، والتي يلمسها المرء خاصة في الجرائد المصرية التي كانت تتمتع بحرية نقد السلطان عبد الحميد، وإلى جانب الحرية في التعبير، كانت هناك حرية في استخدام اللغة العربية في الكتابة التي كانت شبه ممنوعة في شرقي السلطنة، لذلك أسس المهاجرون إلى مصر صحفاً ومجلات، واستطاعوا أن يسهموا في إغناء الحياة الأدبية والفكرية في مصر، وقد شكّلوا صوتا واضحا في الصحافة عرف فيها، واشتهر باسم الشوام .

عاش الكواكبي في القاهرة حوالي سنتين حيث ذاع صيته، وتابع نشر مقالاته في الصحف المصرية، بل نجده قد أصدر فيها صحيفة العرب التي لم تلبث أن توقفت، دون أن نعرف السبب، ربما قد يكون بسبب تقارب الخديوي عباس والسلطان عبد الحميد، وقد كان أحد أهم شروط هذا التقارب، ألا يساند الخديوي المناوئين للسلطة العثمانية .

كذلك استطاع أن ينشر فيها كتابيه أم القرى وطبائع الاستبداد الذين كتبهما في حلب ولم يستطع نشرهما إلا بعد هربه منها، ويقول نديم الكواكبي (عبد المسيح الأنطاكي) إن الكواكبي ظل مختفيا في القاهرة حتى طبع كتاب أم القرى إذ أرسل منه نسختين إلى الخديوي في الإسكندرية، ونسخة إلى الشيخ محمد عبده والثالثة إلى الشيخ علي يوسف، وقد سرّ الخديوي بالكتاب فطلب إلى الشيخين أن يسعيا للتعرف على صاحب الكتاب الذي لم يذكر اسمه عليه، ومنذ ذلك الوقت نشأت صداقة بين الخديوي والكواكبي التي يبدو أنها لم تعمّر طويلا، بسبب التقارب بين الخديوي والسلطان عبد الحميد، ورفض الكواكبي طلب الخديوي للسفر معه إلى الأستانة للتصالح مع السلطان.

أثناء إقامته في القاهرة، قام برحلتين زار فيهما بلاداً عربية وأخرى إسلامية، ليتفهم أحوال المسلمين وليدرس عن كثب مشروع رابطة أم القرى الذي تحدث عنه بشكل نظري في كتابه أم القرى، فزار السودان والجزيرة العربية واليمن، والتقى القبائل العربية، ليعرف مدى مقدرتها على القتال، وليحرضها على الثورة ضد الأتراك، لكن اللافت للنظر اهتمامه بالشؤون الاقتصادية والجيولوجية لبلاد العرب، حيث ذكر ابنه كاظم الذي رافقه في رحلته الثانية، أنه كان يجمع نماذج من صخورها، ويجلبها معه إلى مصر لدراستها من قبل المتخصصين لمعرفة الثروات المعدنية التي تحتويها الجزيرة، وقد كان من بينها على ما يذكر ابنه زيت النفط الذي دلّه عليه الأعراب في الجزيرة .

إذاً لا تبدو الغاية من رحلاته دراسة أحوال الأمة العربية والإسلامية من الناحية السياسية والعسكرية فقط، بل دراسة أحوال البلاد الاجتماعية والاقتصادية، كي يؤسس لدولة عصرية، ترتكز على إمكاناتها الاقتصادية الذاتية، لذلك سعى إلى معرفة ما تملكه من ثروات باطنية بالإضافة إلى ما تملكه من استعداد حربي، فهو يدرك أن حرية الدول لا تكون بجلاء الغريب عنها، وإنما بامتلاك القدرة الاقتصادية التي تستطيع حماية الحرية، وتأسيس بنيان الدولة على أسس متينة، تمنحها استقلالاً حقيقياً.

لقد امتلك الكواكبي وعياً سابقاً لعصره، فسعى إلى الحرية بأفضل معانيها، جنّد في سبيلها كل ما يملكه من مواهب أدبية وفكرية، وضحى من أجلها بكل ما يملك، حتى دفع حياته ثمنا لها.

مؤلفاته :
الف الكواكبي العديد من الكتب، وترك لنا تراثاً ادبياً كبيراً.
من كتبه :
1. طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد .
2. ام القرى .
3. العظمة لله .
4. صحائف قريش .
5. الأنساب .
6. أمراض المسلمين والأدوية الشافية لها .
7. أحسن ما كان في أسباب العمران .
8. ماذا أصابنا وكيف السلامة .
9. تجارة الرقيق وأحكامه في الإسلام .
10. فقد مخطوطين مع جملة اوراقه ومذكراته ليلة وفاته .
11. له الكثير من المخطوطات والكتب والمذكرات التي طبعت .
ومازالت سيرته وكتبه ومؤلفات مرجعا هاما لكثير من الباحثين .

وفاته :
توفي في القاهرة متأثرا بسم دس له في فنجان القهوة عام 1320 هجرية الموافق 1902 ميلادية حيث دفن فيها.
رثاه كبار رجال الفكر والشعر والادب في سوريا ومصر ونقش على قبره بيتان لحافظ إبراهيم:
هنا رجل الدنيا هنا مهبط التقى*** هنا خير مظلوم هنا خير كاتـب
قفوا وأقرأوا ام الكتب وسلموا*** عليه فهذا القبر قبر الكواكبي

انتهى الجزء الأول .
اعتمدت في كتابة هذه المقدمة على ما كتب عن الكواكبي في مواقع كثيرة على النت، وعلى كتاب حفيده القاضي سعد زغلول الكواكبي المعنون: عبد الرحمن الكواكبي السيرة الذاتية .

محمد الحداد
26 . 12 . 2010



#محمد_الحداد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بحث مقارن ج 14
- قصيدة مجهولة النسب
- بحث مقارن ج 13
- بحث مقارن ج 12
- بحث مقارن ج 11
- بحث مقارن ج 10
- بحث مقارن ج 9
- بحث مقارن ج 8
- بحث مقارن ج 7
- بحث مقارن ج 6
- بحث مقارن ج 5
- بحث مقارن ج 4
- بحث مقارن ج 3
- بحث مقارن ج 2
- بحث مقارن
- أعوانُ الظَلَمَة
- دستور الجمهورية العراقية
- احتلال الكويت
- فاطِمَة وَفَدَك
- لم أجب على السؤال !!


المزيد.....




- مصر.. ساويرس يرد على مهاجمة سعد الدين الشاذلي وخلافه مع السا ...
- تصريحات لواء بالجيش المصري تثير اهتمام الإسرائيليين
- سيدني.. اتهامات للشرطة بازدواجية المعايير في تعاملها مع حادث ...
- ليبيا وإثيوبيا تبحثان استئناف تعاونهما بعد انقطاع استمر 20 ع ...
- بحضور كيم جونغ أون.. احتفالات بيوم الجيش في كوريا الشمالية ع ...
- بلينكن يأمل بإحراز تقدم مع الصين وبكين تتحدث عن خلافات بين ا ...
- هاريس وكيم كارداشيان -تناقشان- إصلاح العدالة الجنائية
- ما هي شروط حماس للتخلي عن السلاح؟
- عراقيل إسرائيلية تؤخر انطلاق -أسطول الحرية- إلى غزة
- فرنسا تلوح بمعاقبة المستوطنين المتورطين في أعمال عنف بالضفة ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد الحداد - قراءة في طبائع الاستبداد ج 1