أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يحيى علوان - يتيم















المزيد.....



يتيم


يحيى علوان

الحوار المتمدن-العدد: 3185 - 2010 / 11 / 14 - 20:11
المحور: الادب والفن
    



يتيم




( فصل من كتاب مُطارَدُ بين الله والحدود )

( 1 من 3 )




ـ مَنْ ذا يطرُقُ بابَ لَيلِتي .. يُشاكِسُ وحدَتي ؟
أنا الرازحُ ، المُعنَّى في غُربَتي ،
أُشعِلُ بخورَ الحنينِ ، أُسامِرُ وَحشتي ..
أُلَملِمُ شَواردي ، مثلَ هُدهُدٍ أَضاعَ الكلام .. لا يَكتَرِثُ لِخُسوفِ بدرٍ .
أَيُّ مُناكِدٍ أَتى يسلِبُني آثاميَ الجميلةَ ، يُبَعْثِر ُزهوراً نثَرتُها فوقَ فراشِ الصمتِ ..
حَيثُ نَصَبتُ شِباكي أستدرِجُ طيفاً شَقِيّاً ؟
أَتُراه جاءَ يُخرِجُني عن طَورِ سُكوني ، يُشتِّتهُ .. فَيشطرُني ، بيني وبينَ هَدأةِ المساء ؟
أَم تُراهُ تَعنّى كي يُعيدَ لِزهرِ الرازقي حدائقَ ماتَتْ ..؟
أَيدري ما هو وَجَعُ المكان ؟
وكيفَ به الذكرياتُ تَنْزَحِمُ ..؟
مَنْ يُرجِعُ الصدى بينَ " الحِجازِ "و" الصَّبا " ؟!
..........................

أَفرحةٌ نَسيتُها فوقَ التَختِ بمقهى "أبو فاضل" في الكريمات ، عندما خَطَفَتْ مُهجتي حلوةٌ ، مرَّتْ تعبر
جسرَ الأحرار ؟
أَمْ ساعي البريد يحملُ رسالةً لَمْ أَنَتظِرها ..؟
...........................
أهوَ قلبي يرتعشُ خوفاً من الظُلمةِ ، يَصرُخُ بوجه الزُقاقِ ... لَمْ يَجِدْ الأطفالُ عصافيرَ يصيدونها غير
مصباحِ الدرب ؟

سأُغمِضُ جُفونَ مواجعي وأَفتحُ ......
................................
................................

ـ أَأنتِ مرّةً أُخرى ؟! .. اللعنة !! أَلَـمْ تَقتُلَكِ الجَلطَـةُ ؟؟
+ نعمْ ، قَتَلَتني .. ولكنّني نَسيتُ مثلكَ أَنْ أموت ...
ـ أما مَلَلْتِ ، تُجهِضينَ طُيوفي ، تَستَحلِبينَ آلامي بِمَشارِطِ ساديَّتكِ ؟!
+ إلـى أينَ تهرَبُ منّي ؟! .. أنـا قَدَرُكَ ، أَنّـا وَلَّيتَ ! لنْ ينفَعَكَ تَتَلَفّعُ بجلطةِ دماغٍ عارضةٍ !
أنا حَتفُكَ ، حتى تُخرِجَ ما دَفَنْتَه في دهاليزي ، أَوْشَكَتْ تَخْتَنِقُ .....
كَفاكَ ، مثلَ ذئبٍ جريحٍ ، تَلعَقُ جِراحَ الأمس ....
كُفَّ عن السباحة في بحر الأحلام ، تُفتِّشُ عن ملامحكَ القديمة ، ضَيَّعْتَها بين الغضونِ وفضّةِ الرأس ...
إمتطِ صهوةَ الحرف وإقتَلعِ الوهمَ .. كيْ تَتَطَهَّـرَ !
.............................
ـ تبّاً لكِ من أَينَ جِئتِ ؟! مَنْ َأَزاحَ عنكِ الأنقاضَ وغُبارَ السنينِ ؟!
والله ، ما أرسلتُ في طلبكِ ، قَطْ ! مَنْ جـاءَ بكِ ، تَقتحمينَ عليَّ راهني ، تَسحَلينَ جُرابَ زمنٍ
رَحَلَ ، وتُجرجرينَ الماضي من أُذنيه ؟! أتُراكِ أتيتِ تُشعلينَ النارَ في هشيم ما مضى ؟!
أَهناكَ ما يكفي من النسيان ، كي أنسى ، وَلَوْ كَمَداً ... فلا أَبتَكِرُ البدايةَ من نهايةِ ما إنتهى فينا ؟ سَنُوَزِّعُ النسيانَ معَ "خُبزَ العباس "(1) .. ولنْ تعودَ ثمَّةَ حاجةٌ لنُعيدَ للأشياءِ "سيرتَها الأُولى "! ولا للأسماءِ ناسَها الجميلينَ رَحَلوا ... فقد تقاسمنا عمَلَهُمْ ، رُغمَ أَنهم لن يعودوا ... سَنشيخُ ، لكنهمْ سيبقونَ كما كانوا
ساعَةَ " الرحيل " !! لَنْ يعودوا .. لَنْ يعودا !! لَنْ يشيخوا .... ولَنْ يرتكبوا معاصيَ أو يتحمَّلوا أَوزارَ ،
غيرَ " وِزرِ " الرحيل ... فللرحيلِ مَقامٌ منْ أَنين !!

أُريدُ أَنْ أَنسى كي أُؤكِّدَ إنسانيتي ، وأُجَدِّدَ أَوتارَ قيثارَتي ... أَهزِمَ ما خَلَّفَه الغيابُ .. فلا نَفعَ في " تَوبَةٍ "
أو إِيابْ ..
لا وقتَ للخوفِ ، ولا وقتَ للرجوع ..
إلى أَينَ الرجوعُ يا أبنَ نصير ..؟!!
فما لدينا سوى كلماتٍ عَواقِرَ ، وحفنَةٍ من حَنينٍ .. لا تَقينا الذُلَّ ، ولا تَرُدُّ عنّا صَدَأَ خَناجِرِ مَنْ تقاسَموا
خِلافَةَ ليلٍ سيطول .. نحنُ القَناديلُ ... مِمَّنْ نَشتري زَيتَنا حتى نُضيءَ ؟!
سننسى ، أو نتناسى .. ونترُكُ للمشهدِ أبوابَنا مُشرَعَةً ، يُقَلِّبُنا ورقَةً ، ورقَة .. ونَنصِبُ للغيبِ شَرَكاً
، فنَعقِدُ القِرانَ بينَ المادةِ والروح ، ونقيمُ الأفراحَ لفَتحٍ " نظَرِيٍّ " جديد ، نَبيعه "واقعِيَّةً ".. !!
+ لنْ أَمِلَّ من القولِ أَنّني لا أَجيءُ ولا أذهبْ . أنتَ الذي تَستدعيني ، حينَ تشاء .. فآتي إليكَ منكَ وفيكَ !
أُنقِّبُ لَكَ في ما إختزَنْتَه أنت ودَفَنتَه في زوايا النسيان .. أنا نادِلتُكَ أُقدِّمُ لكَ ما تشتهي ، أنتَ ، من أَطباقِ المسرّات والأوهام وحتى الأوزارَ والمآسي ، إنْ دَعَتْ الحاجة ..!
أتيتُكَ أُريحكَ ، حتى تَنْزَعَ النصفَ الآخرَ من قِناعكَ ...
ـ مُبهمةٌ أنتِ في كرستالِ الوضوح ، شيزوفرينيا !! ما عادَ في ثنايا الراهنِ مُتّسَعٌ لغواياتِ الأمس وشَطَطٍ
ذَرَته ريحُ السنينِ تعدو .. النسيانُ بالنسيانِ والباديءُ أَظلَمْ ..!
أَنتِ وطني ، وبلاديَ منفايَ .. !!
لكِ أَبَديَّةُ لامُبالاتي !!
تَعِبتُ ، واللهِ ، من الرجوعِ لمهابِطِ الذكرى ، والهَرَبِ من قِمَمِ مهاوي النسيان ..
+ هيهات !! هيهات !! إطلِقْ سراحَ مَن سَجَنتَهُم بصندوقي ... دَعهم يتَنَزّهوا ويتنفّسوا رائحةَ الورق ..
ـ ما لَكِ ، كُلّما وَقَفْتُ أَجُرُّ أَنفاسي ، تُرجعينني غَصْبَاً إلى ما كانَ ؟!
فقد قِيلَ لي إِهمِلْ كُلَّ شيءٍ له علاقَةٌ بالماضي ، إرمِهِ بأكياسِ القُمامة ، رَكِّزْ على اللحظةِ الراهنةِ .. طارِدْها ،
هيَ الواقِعْ ... ولا شيءَ آخَرَ !!
قُلتُ كيفَ لي أَنْ أقطعَ جذوري ، وكيف يكون هناكَ حاضِرٌ من دون ماضٍ .. أَوّلياتٍ ، أو إستهلالاتٍ ؟!
فما الحاضِرُ إلاّ تَمَظهُرٍ لِما بدأَ يَتشكَّلُ سابقاً من لَبُناتِ كينونةٍ لَمْ تَكُنْ قد تَشيَّأَتْ بَعدُ ... ؟!!
أَيأتي الحاضرُ من العَدَمِ ؟!
قالوا .. يـاااااه ! لا نفعَ معكَ ولا رجاءَ لكَ .. فأنتَ لاتَصلُح إلاّ لعصورٍ وَلّتْ !! فوجودكَ في هذا العصرِ
خطأٌ في خطأ ..
+ إصعَدِ دكَّة الجُحودِ وإنظُرْ من عَلٍ كيفَ سيهيلونَ الكلامَ عليكَ قبراً ..
........................

عليكَ أَنْ تَتَطامَنَ معي ..! فلا غِنى لكَ ، ولا لغيركَ عنِّي ..!
إنْ كُنتَ لم تَذُقِ اليُتمَ صغيراً أو يافعاً ، سَتَذوقَه كهلاً ..!
ها أنتَ ذا يتيمُ الإسمِ واللسانِ والأرض ... مُتَوَّهٌ ، مُدَوَّخٌ .. في صحراءٍ ضاقَتْ بأرضِها ،
فتمدَّدَتْ مُسهَّدَةً ، أَعياها القيظُ ، بين إيرانَ وأَفغانستانَ وتُركمانيا ......
صحراءُ ليسَ فيها أَمـامٌ ولا وَراء ، حيثُ السماءُ عاريةٌ ، تَتَوكأُ على الرملِ ..
لِتَفُكَّ أَبجديَّةً ، قد تكونُ طُمِرَتْ معَ الكَمَـأ ، تحمي نفسها ، كما يحمي الخَؤونُ سِرَّه ..!
صحراءُ ، لا أَرصِفَةَ تبحثُ عن نفسكَ فيها ، عندما تَتَوهُ .. لا واجهاتِ محلاتٍ تَتَفَرَّجُ عليكَ وتَمُدَّ لكَ اللسانْ .. لا ساحاتٍ ولا محطّاتٍ تُيَمِّمُ وَجهَكَ شَطرَها ، إِنْ تَعِبَتْ من ضَجَرِكَ المقاهي ، أو إذا البيتُ إشتَعَلْ !
لَنْ تَسمعَ خشخَشَةَ أوراقِ الخريفِ تَتَكَسَّرُ تحتَ أقدامِ المارّة ..
سَتَتأبطُ همومكَ ... لَن ْ يبقى أمامكَ مَنْ ينتزعُ الشوكَ منْ جَسَدِكَ ، إلا يديكَ ..
فالآخرونَ لا يرونَ إلاّ ما يريدونَ ، وليسوا مَعنيينَ بهمومِ الآخر وأوجاعه ! ربما لأن لديهم كفاية منها ، أو لديهم
ما يُشغِلُهم عنها وعنكَ ..!
ستبحثُ عمّـا تؤثِّثُ به فراغَ وحشَتِكَ ، يروي ظمأً كامناً في ضفافِ المَعنى ..
لا سميرَ ، سوايَ ... ولا دليلَ غير صاحبِ الدراجةِ البخاريةِ ، ذي الرجل الخشبية !
هلْ نسيته ؟
ـ أَذكرُ أَنّي لا أَنساهما .. !
+ .. لا تُنكِرْ ، أنّه ذكَّرَكَ بإيهاب - القبطان - في " موبي دِكْ " .. ولأنكَ لا تعرِفُ إسمَه ستُسميه
لاحقاً بإيهاب .. سيستجيبُ هو ، وقد راقَتْه "الشفرة " ، لأنه تَمَرَّسَ في " العمل السِرِّيّ !"
ـ ها أنتِ تدخلينَ في تفاصيلَ لا تعني أَحداً .. الأقربونَ حكَيتُ لهم عن التفصيلات ..
+ أنا وَرّاقُ حياتكَ .. لابدَّ لي أَنْ أَذكُرَ كُلَّ شيء ، كي لايُنسى ! لا أَحدَ سيكتبُ عمّا مرَرَتَ به أَنت ويصفُ
الحالَ مثلما عشته .. دَعكَ من تواضِعٍ غير أَصيلٍ .. ساعةَ يبكي مُبتدأُ سِنِيِّكَ خَبَرَها المجرور .. !!

................................

في كراج " مَشْهَدَ " ، المُتَّجهِ شمال - غرب ، ستركبُ سيّارةً تَقِلَّكُمْ إلى قريةِ " السَلامَاتْ "، قيلَ لكَ أَنَّ فيها مَنْ يعرِفُكَ ، فلا حاجَةَ بكَ للبحثِ ، لأنه سيناديكَ بـ" أبو فَلاحْ " ، عندَ الضرورة ! وعليكَ أنْ تَتَّبعَ تعليماته .. ولا تُعاكسه شأنَ الآخرينَ من " القَلَمجِيَّة !"(2)
ستَتَكِّأُ على روحكَ ، تتََمَتْرَسُ خلفَ جدارِ الصمتِ ، وإغفاءةٍ مزعومةٍ ، كي تُغلَق شبابيكِكَ أمام أيةِ إمكانيةٍ للتورُّط في حديثٍ عابرٍ مع الركّاب فتفضح نفسَك ( ماذا يفعل غريبٌ لا يعرف اللغة الفارسية في آخر قرية على الحدود مع أفغانستان ؟!)
ستَظلُّ نظراتُكَ معلَّقةً بالغروب، الذي بقيَ زمناً يَدبغُ السماءَ بحُمرةٍ قانيةٍ ...
سَيَجفُّ ريقُكَ من الإرهاق ، وتَتَسارَع أنفاسُكَ خوفاً من إفتضاحِ أمركَ مرةً أُخرى .
خَرَسَ الصفيرُ في فمِ الريحِ ، والطريقُ تَغُذُّ العَدوَ إلى وراء ...
..........................
..........................
ستَنْزِلُ من السيارة بعصاكَ ، التي تَتّكأُ عليها كومةُ سنواتِ عُمرِكَ ... يرتجفُ قلبُكَ ، لا تدري إلى أينَ تتجه .. القريةُ صغيرةٌ ، بيوتٌ بسيطةٌ من طين ، وأَنتَ غريبٌ ، ليس لديكَ عنوانٌ أو إسمٌ تسأل عنه .. ماذا
تفعل .. ؟!
لا مفرَّ لكَ من هذا اللامكان ، إذن ...
مُشَتَّتٌ ، مُنهَدِمُ القوى كشَتيتِ سحابةِ دخانِ سجائركَ ترحلُ متكاسلةً من دفءِ شَفَتَيْك إلى حيث لا تدري ..
"أَغُايِّ أبو فَلاَه ! بَفَرمو!"(سيِّد، أبو فلاح ، تفضَّلْ) صوتٌ فيه بَحَّـةٌ ، يَصلُكَ قبلَ أن ترى مصدره ،
تتلفّتُ حولكَ فلا ترى أحداً ، ركّاب السيارة إبتَلَعَهم الغسَقُ والدروبُ الضيقةُ . ذابوا كحبّةِ ملح في ماء .
... خلف السيارة إشتعلَ عودُ ثقابٍ أعقَبَته حلقاتُ دخانٍ صغيرة ...
يصلُ إلى مسامِعِكَ شيءٌ يدقُّ الأرضَ فيرتدُّ مخنوقاً ..
رأسٌ كبيرٌ ، لايتناسب مع قامةٍ قصيرةٍ تقتربُ منكَ .. بَطيناً ، يَتكأُ على عكّازٍ خشبي ، ورِجْلٌ تتمرجحُ في الهواء بلا ساقٍ ، بشرةٌ داكنة ، حَمّصَتها الشمسُ وكَسَتها بطبقةٍ من التجاعيد ... مَدَّ يدَه يمسحُ غُبارَ الكآبةِ عن وجهٍ مَكدودٍ وعينينِ تفيضانِ مُكراً .. ما أنْ إنفرَجَتْ شفتاه ، حتى بَانَ صَفّانِ من الأسنان داكنةَ الصُفرةِ ، قُلْ قهوائية ! .. سيعرِضُ عليكَ ، مع غمزةٍ ، " لُفافَةً خاصة "! ، تعتَذِرُ ، لأنكَ ما جَرّبتَها طوالَ حياتِكَ .. فَيجيئكَ خاطرٌ عن تقديمِ مثقفٍ للمحاكمَةِ ، لأنه تعاطى "الحشيش!".. في حينِ كانَ يتعيَّنُ معاقبَةُ الآخرينَ ، لأنهم لمْ يتعاطوها ، بتهمَةِ إنعدام الحسِّ الوطني والقومي ، وفقدانِ الشعور بالمسؤولية إزاء ما يجري
" من الماءِ إلى الماء "!!

في ما يشبه "الشارع الرئيس!" حيثُ نَفَقَ الضوءُ ، يُشيرُ إليكَ فَتَتْبعه ، مُمتَعضاً ، لأنكَ لا تدري إلى إين ؟
ولأنكَ لا تعرفُ المكان ولا أي شيء .. لن يكون بمقدورك أن تُعِدَّ خطةً ذهنيةً لـ"الإنسحاب في حالة طارئة"
على ما يقول العسكر .. !
ستصلونَ في نهاية "الشارع" إلى ساحةٍ صغيرة .. جمَعٌ من الناس يدورُ حولها صامتاً كأنهم يَطحنونَ وحشةَ
زَمنهم ، ورَتابةَ حياتهم ..
في أقصى القريةِ من الطرف الآخر بضعةُ بيوتٍ طينيةٍ تَغرَقُ في الظلام والغُبار ، كأنها أَطلالٌ مَسبِيّةٌ ، من
دَوَارِسِ التأريخ ، مُشرَعَةٌ لحفيف ِ الريح و"لأشباح" المخدرات !
ستصلونَ إلى "دارٍ" عند مَربَعِ الرمالِ العائمةِ والصخورِ الرواسي ، حيث مَرتعُ الجنيّات..!
دَلَفَ "إيهاب" يدُقُّ الأرضَ بعكّازه ،كأنَّه يمتحنُ صلابَتَها ، صاحَ سائيدا (سعيدة) وبَربَرَ بكلامٍ لم تَفهَمه . خرَجَتْ من غرفةٍ ، بابُها في الممَرّ المظلم وتَطِلُّ بشبّاكٍ على باحة الدار ، إمرأةٌ ، حَسِبتَها إبنَتَه ، تحملُ سِراجاً ، فَضَحَ صدرُها ، الناهض بوجهكَ ، ما حاولَ إِزارُهـا سِترَهُ ، أَحسَستَ بحرارةِ أنفاسها .. هَرَبَتْ عيونكَ رهبةً ، لكنّكَ _ ودون وعـيٍ- إنغرزتَ في المكان مثلَ نخلةٍ عتيقةٍ .. إرتَبَكْتَ ، صيَّرَتكَ صَنَمَاً تحتَ وابلِ بهائها وسحرِها الفَتَّان ، لاسيّما ظلالُ إبتسامةٍ غامضةٍ ،كأنها أَحَسَّتْ بما يعتملُ بداخلِكَ من صراخٍ عَتِيٍّ ، يفوقُ ما يفعله هيامٌ مُلتّاعٌ ..!
إبتسمَتْ لَكَ ، وَرَشَّتْ وَجَلَكَ على الزَرعِ في باحة الدار ...
فَتَحتْ بصدرِكَ حُجراتٍ مُغبَرّةَ الأَقفال ، كُنتَ نسيتها ،
فأَرسَلَتْ إليها صعقةً من دفقِ فِتنَتِها ... فَتَّتَتْها ومَشَتْ .
كانتْ تَلِفُّ إِزارَها حول قِوامها بمهارةِ الطَهرانِيّات ، فَتُبْرِزُ من مفاتِنِ الجسدِ ، ثَنْيَاته ومُنحنياته أكثرَ ممّا "تَستُرْ " ، خاصةً ذلكَ الإمتلاءُ الحلوُ عندَ الصدرِ وضِيقُهُ نزولاً عند الخصرِ ، ثمَّ تلكَ الإستدارة الساحرة لِما تحته ، ممّا يشي بقوامٍ مُتقَنُ "الصَنْعَةِ !" .. مشيةٌ مِغناجٌ ، تُشَعلِلُ ما ظَنَنْتَ أَنَّّ سنواتِ الجَبَلِ أيبَسَته .. صَرَخَ بها إيهاب ،
وقبلَ أنْ تَتَوارى ، أطلَقَتْ ضحكةً صغيرةً تفوحُ غَنَجاً ..
تُتَأتِيءُ مع نفسِكَ أَيجوزُ لكَ ، أَيُها الرفيقُ ، أَنْ تَهدُرَ نفسَكَ من أَجلِ عارضٍ مُبهمٍ وحماقةٍ لا يدركها حتى الشَيطان ؟!

.. إشتهائها على سَتَبيتُ ! فاكهةٌ دانيةُ القُطوفِ في بستانٍ مُحرَّمٍ
ما العمَلْ ؟
ثَمَرَةٌ تَغُصُّ بها إنْ قَضَمتَها ..
تَطْعَنُ قَلبَكَ إِنْ لَـمْ ....
تموتُ إِنْ هِيَ إِلتَهَمَتكَ ...!

أنتَ أميرٌ ، بلا إمارةٍ ، مُفلِسٌ في حَيْرَةِ طواحينَ تَعبَثُ بالريحِ ، لهفةً لدون كيخوته ،
" لكنني سأمتطي الحرفَ ،كما تفعلُ الساحرات مع العِصِيِّ .. ،
وحيثُ لا مَدادَ ولا قِرطاس ، سأحفُرُ ذكراها ، عِقدَ ياسمينٍ لِوَجَعِ شراييني .." تقولُ لنفسِكَ .
.............................

ستتَزاوَجُ الأسئلةُ ، حتى تُقَطِّعَ نِياطَ ما تَبَقّى من مَنطِقٍ ...
لماذا لا تَمِلُّ من كرباج أَسئلتكَ ، أَيها المازوخيُّ ؟
فيأتيكَ صوتٌ من الضفّةِ الأخرى للصحوِ ، أَنْ " تَماسَكْ وتَصابَرْ على ما يعصفُ بكَ !" بيدَ أَنَّ شَطركَ الآخرَ يقولُ لكَ " لا بَطَلَ ولا شهيدَ أَنتَ ... واحدٌ في حَشْدِ الأسماءِ أَنتَ "... لكِنَّه يُقِرُّ بأَنه إعصارٌ دفينٌ ، يتوقُ دوماً لإجتياحِ كلِّ ما يعترضُ طريقه ، إذا ما قَدَحَتْ زنادَه فاتِنَةٌ كهذه ، تُعطِّلُ بقيةَ الحواس ، بعدَ يَباسٍ ظالِمٍ ، فتُضرِمُ القلبَ بشظى شوقٍ لافِحٍ ، جُنَّتْ بوصلةُ قِبلَتِه !
سَتُقرِّرُ أَنْ تُطبِقَ أَجفانَكَ على صورتها ، تحفَظُها إيقونةً ، تُلَمِّعُها ، كي تُسَلّيكَ ، في جَزْرِ أَيامِكَ ...
وستمضي إلى حَتفِ أَنفِكَ راضياً ، فَتُجَهِّزُ كَفَنَكَ رايةَ إستسلامٍ لهوىً حُلوٍ ، حُلوٍ ... عابرٍ .

* * *

ستَفَرِشُ لكَ سعيدة في الَمَمَرّ ، قريباً من الغرفة الوحيدة في "الدار" حيث ستُلقي بتَعَبِكَ ، هُمومكَ ومخاوفِكَ على فَرشَةٍ بسيطةٍ فوقَ حصيرٍ .. قريباً منك ستُركِنُ فانوساً نفطيّاً ، إبريقَ ماءٍ وطستاً، وصينيةَ أقداحٍ وإبريقَ شاي .. فِراشٌ يسيلُ من شدّةِ القيظِ و"الوَخمَةِ".. سَتَلوكُ فوقه طنينَ البعوضِ في سوادِ ظلمة ، عافَها القَمَرُ ..

مُنهَكاً من صُراخِ لَوعَةٍ تُعذِّبُكَ سَتروحُ تبتهلُ من أجلِ نَسمَةٍ تُرطِّبُ غُبارَ الوحشة الخانق ..
في الممَرِّ ، حيث ستنام ، أَحضرَتْ سعيدة عُدَّةَ عشاءٍ بسيطٍ ، أَكلتَ لُقمتينِ للمجاملةِ ، لا أكثَر .. فقد هربَتْ منكَ شهيَّةُ الأكل ، فيما واصَلَ إيهاب بشهيَّةٍ يُحسَدُ عليها .. وبقيتَ أنتَ وكمائنكَ لأقتناصِ نظرةٍ خَفِيَّةٍ نحو سعيدة ، التي كانت تسحَبُ جزءاً من إزارها فتُغَطَّي وجهها، وتميلُ بجسمها قليلاً ناحيةَ اليسار . حركةٌ مُحتَشِمةٌ ، حتى لا يرى الغريب فاهَهَا عندما تأكل .
سيقولُ لكَ إيهاب أَنَّ عليكَ أَنْ تأكلَ وتشربَ جيداً، طالما أَنه متوفِّرٌ ، لأنَّ مشقّةً كبيرة ستنتظركَ غداً ، عند العبور ، وما بعده !!
وقبل أن يخرجَ ، سيخبركَ أنه ذاهبٌ لإستطلاع المنطقة والحدود وتهيئةِ ما يلزم لليوم التالي ، وإذا ما حدث طاريءٌ ، عليكَ بزريبةِ البَقَر ..!!
ستُلقِي ، في الفراش ، بهشيمكَ ، أوجاعِكَ وزمنِكَ ، الذي تحمله على ظهركَ وستدورُ بكَ دوائر التيه . ستُحكِمُ إقفالَ صدرِكَ ليكونَ مذبحاً لكلِّ نذورِ صبواتكَ ،كَتَمْتَها ، حتى على الله .. مُذْ تركتَ رَغباتِكَ
نَهْبَاً لِحُوَاةِ " الحتمية التأريخية ".. منثورةً فوقَ أسلاكِ حياتكَ الشائكة ..

لَمْ يبقَ لديكَ سوى الليلِ والصمتِ .. صمتٌ غامضٌ ، متوَتِّرٌ ، هكذا ستَتَمدَّدُ في قلبِ الظُلمَة ... لكنَّ النعاسَ
سَيَحتَضِرُ إِنْ حَضَرَتْ الذكرى وأَجَّجَتْ نارَ الحنين ! ستَسيلُ الصورُ من ذاكرةِ النسيان ..!
مثلُ أَعمىً ، ستَتَهَجَّسُ الفراغَ الأملَسَ في الظُلمة .. وستظلُّ ساهراً على زيزفون سُباتٍ .. فلا شيءَ في واحةِ الليلِ يُبَدِّدُ غبارَ الذكرى من حقولِ الأنين .. ولا ما يُرجِعُ الَمعاني للسطور ..
هناك ستُقَشِّرُ تُفّاحَ الذكرى .. تماماً مثلُ عاطِلٍ ، يُفَكِّكُ - من ضَجَرٍ - ما خَفِيَ خلفَ بحورِ المعنىَ ، دونَ أَنْ ينتبهَ لسنواتِ عمره تُسابِقُ العبَثَ ، نسِيَ خلالَها أَنْ يُعبأ الجرارَ مَطَراً .. إحتساباً لما لَمْ يُخَطِّطْ له ..!

منذُ ستٍ ، تصيحُ ربابةُ الشوقِ ، تُقَطِّعُ نِياطَ " الأبوذية " ، ولا بَدَوياً ينتبِهُ أَو يُصغي ..

تقومُ إلى باحةِ الدار تمزِّقُ الهواءَ كي لا يَلتَهِمُكَ الوَجْدُ .. هي شهوةٌ لا تكفُّ عن النِباحِ في قاعِ جوعكَ ، تكادُ تَخنُقُكَ .. ستُحاولُ التحايُلَ على ما يُشغِلُ كلَّ أحاسيسكَ فتستجدي السماوات ، بتَبَتُّلٍ ، أن تُسدِلَ هذه المرة ، غشاوةً على "عيونِ حرّاس الثورة " فَتَمُرَّ بسلامٍ ، ولا تقعُ كالمرّةِ السابقةِ بأيديهم ، على مرمىً من أضواء "زَاهِدان " (باكستان ) ... عندما قرِّروا تسفيرَكَ إلى جبهةِ الحرب العراقيةِ- الإيرانيةِ ، لولا طيبةُ قائدِ المجموعةِ ومئةُ دولارٍ كنتَ أخفَيتَها في جورابكَ ، إنتشَلَها منكَ بخفةِ ساحرٍ ! حَوّلوكَ إلى معتقلٍ ، ستهربُ منه لتُعاودَ الكرَّةَ هنا. فلَدَيكَ صغيرةٌ كَبُرَتْ في غيابكَ .. لم يَبقَ على دخولها المدرسةَ إِلاّ شهرين . ولابُدَّ لكَ أنْ تكونَ معها كي لا تَنحَفِرَ في ذاكرتها ، إلى الأبد ، أن أباها كان حياً ولم يحضر زفافَها للمدرسة ...
تَسدُّ عينيكَ على أُمنيةٍ ، ستظلُّ تُشقِّقُ مُهجَتَكَ ، وتَحملها كَحَجرِ الطاحون على ظهركَ ... لكن السماءَ أغلقَتْ أبوابَها قَبلَ أنْ تُتِمَّ رجاءكَ لتصونَكَ من طوفانِ غوايةٍ لا تَرحَم ....
سَقَطَ رجاؤكَ عندَ قدميكَ وتكَسَّرَ مثلَ قَدَحٍ من زجاج ..
سيتبيَّنُ لكَ أن السماءَ صمّاء ، وأَعجزُ من أنْ تُلبّي أقلَّ من ذلك ..! ستصفعُ "الحظَّ" بقفا كفَّكَ
وتحاولُ إبتلاعَ وجعِ القلب ..

تَتَقَلَّبُ على جمر الحرمان ، تُمْسِكُ قلبَكَ حتى يَمتَقِعَ لونُكَ .. وتروحُ تَتَسَمَّعُ أنفاسَكَ تئنُّ بينَ قضبان القلب
في ليلِ الوحشةِ ، حين تُطاردُ الهواءَ الشُهُبُ .. ستَبكي ما تبقَّى من فُتاتِ عشقٍ ، إلتهَمَته غِربانُ الضجرِ والوحشة... بيدَ أَنَّ نارَ الفِراقِ قالتْ ما شاءتْ وإرتحلَتْ...
بالدمعِ سَتُوقَدُ شمعةً ..
فعندما يَضيقُ البحرُ بِشُطآنه ، يُبَلِّلُ الصخورَ ورملَ الساحلِ .. يُلَملِمُ ، على عجلٍ ، موجَه ويتركُ رغوةً
بيضاءَ ،كما يفعلُ أصحابُ البسطات المساكينُ ، حين تُباغتهم الشرطة ..

ستَتَشرَّبكَ لوعةُ الشوقِ ، كما يَغِبُّ العَطَشُ الماءَ البارِدَ .. تُريدُ أنْ تقفِزَ منكَ إليها ..
ستَتَصابرُ ، حتى يَنهدِمَ رأسكَ على صدرِكَ ، فَتصُبَّ بعضاً من ماء الإبريق على رأسِكَ ، كي لا تحترِقَ .. ستُحِسُّ بالتعبِ يسيلُ من أطرافِكَ ، مُخلياً المكانَ لخَدَرٍ لذيذٍ ... تحاولُ أنْ تنامَ على غَصَّةٍ .. ويتراءى لكَ صريرُ الصراصرِ ونقيقُ الضفادعِ دفوفاً تبكي .. وناياتٍ تنوحُ وتنتحبُ ..
................................
................................

ستراها جنبكَ ، تملأُ كأسَ الشايَ . وعندما تَهِمُّ تُقَدِّمه لكَ ، ينفَلِتُ إزارُها ، الذي كانت تُمسِكه
تحتَ الحِنْكِ ، يَتَدحرَجُ الصمتُ ، حتى يستقرَّ في حِجرها ... فَتُطِلُّ قُبَّرَتانِ ، نافرتَين بنَزَقٍ من باحَةِ بَلّورٍ... فالمسافةُ بينَ حلمتينِ هي المسافةُ ذاتها بينَ قُبلتينِ ... خطيئتين ..
تَرتسِمُ على مُحيّاها ظلالُ إبتسامةٍ حَيِيَّة ، فيها من الدعوة أكثر من الصَدّْ ... تَدنو منها ، فَتَقولُُ
" نيست ، نيست" (كلاّ ، كلاّ ) ... وتروحُ تَهُشُّ الهواءَ بيديها ، لكنَّ الغولَ بداخلها يدفعها نحوكَ ،
فَتَتَمنَّعُ بغنَجٍ يُجنِّنُ أُمَّةً ...
عَرَبَةً تَجُرُّها خيولُ الرغبةِ والرَهبَةِ ، كانت ..
تراءى لكَ أَنَّ رَغبَتها تَفِحُّ بنوعٍ غريبٍ من الإثارةِِ والتمنّي الصارخ ، يهذيانِ شَبَقاً ....
ودونَ أن تدري ، تَنسلُّ يُمناكَ نحوهما فيرتجفُ طائرٌ ، كأنَّ بردَ الليلِ أفزَعَه .. فما قَبِضَتْ يداكَ غيرَ سُدىً ..
ستَحتَضنُ كَفَّكَ بكفيها ، تَحرِثُكَ بهمسةٍ :" بَخُدا دَستْ بِمَنْ نَزَنْ .. قُربانَتْ !"(فَدَيتُكَ .. بالله عليكَ
لا تَمَسَّني ! ) ..
باسمةً ، نَظَرَتْ إليكَ على إستحياءٍ ، إلتَقَتْ النظراتُ ، فأفرَخَتْ نواياً ، لاتحتاجُ قولاً ..
لَمْ تكن سعيدة عَصِيَّةً ..كانت قويَّةً كما الخطيئة أمامَ ضميرٍ مُحاصَرٍ أَعزَل ! إنكَسَرَتْ نظراتكما ، وسَقَطَتْ في المسافة عندَ البينَ بَيْنْ ... فارَتْ المُهجَةُ ، شاغَتْ الروح ... كانتْ سعيدة مُبَلَّلَةً بالفَرَاشِ .. تَرقُصُ فوقَ جُنونِ الإقحوان ... تَضَوَّعَ الممرُّ بنسائمَ خليطٍ من الحَبَقِ والفُلّ ...
أَطرَقَتْ برأسها ، عَضَّتْ قليلاً على شفتها السفلى ، تُغالبُ إبتسامةً لا تُريدها أَنْ تنفَلِتَ فتَصيرَ ضحكةً مُتَهَتِّكَةً .... تاهَتْ المسافاتُ بينكما .. فَطِرْتَ بها إلى حيث لا تُلاحقكما نظراتُ الله الفضولية !
من بحرِ الظُلمَةِ ستَتَمَطَّقانِ بكأَسِ هَوَىً لليلةٍ شاردةٍ ، لنْ تَعودَ ...
ستعتصرُ لوزَ شفتيها وتشربُ ماءَ جيدها ..
تُطبقُ على صدرِها تعتصرُه ، فتَطردُ ما تجمَّعَ فيه من زَفراتِ الحرمان والنَهيِ ، الذي يرفضُ أنْ يلبّي توَسلات جَسَدٍ بَضٍّ .. سَتَرضَعُ شَحمَةَ أُذُنِكَ ، فَتُحسَّ برعشَةٍ تَخُضُّكَ من آخرِ رُكنٍ فيكَ ، وتدخلان في أحلى لُعبة في الكون .. ستَتَرنّحُ ، تَترُكها تفعَلُ بكَ ما تشاء ، تَعجِنُكَ ، بعدَ أَنْ صَيَّرَتكَ هلاماً تُعيدُ تَشكيله ، كيفما تشتهي .. سيَنسى الزمن نَفسَهُ ، حتى يجرفكما الطوفانُ ، يطفِيءُ الحرائقَ ويُخرِسُ لعثَمَةَ الإنتظار والتردُّّدِ .....
خَنَقَتْ سعيدة صرخَةً إنفَلَتَتْ منها .. تَلَقَفَتْها خُيولُ الريحِ ورَكَنَتْها في واحدٍ من رفوفِ الأمس ، لِتكونَ
طُعْمَاً للحَنين ..
من أَقصى أَطرافِ الحُلُمِ ، عندَ تُخوم الهَوَسِ جاءت سعيدة ، تَعْدو في فلاتِكَ .. تَقرَعُ صَمَمَ الجدرانِ ، مثل بنفسَجةٍ تُريدُ تَخَطِّي عثرةٍ من سياج ، فَتَسقُطُ في ثغورِ اللوعَةِ ..
شهيَّةً ، شهيَّةً ... سيّدةَ جسدِها ورغباتها .. لم تعبأ برماحٍ تنتصبُ لنَحرِ إلتياعٍ مُحَرّمٍ ... ولَمّا سَكَنَ الفراغُ حولكما ، رُحتُما تُلَملمانِ شَتاتَ أشلائكما المبعثرةِ ، وما فاضَ من كأس العناقِ ، فتناثَرَ بَرقَاً يُوقظُ الرعشَةَ في
خافقينِ شغوفينِ وفانوسٍ كليلٍ .. غالبَتْ وَهَنَها ... أَشعَلَتْ " لُفافةً "، شَفَطَتها بِنَهَمِ ظامىءٍ لِشُربَةِ ماء ...
تَدَحرَجَتْ عيناها نحو الخلفِ ،
أَرْخَتْ جُفُونَها ،
تَصالَبَتْ ...
سافَرَتْ ...
.......................
.......................
وعندما عادَتْ على جَناحِ غيمةٍ ، فَتَحَتْ عينيها وجَرَّحَتْ خُدودَ الليلِ ، قَرَصَتكَ بوِدٍّ وهَمَسَتْ مُعاتِبَةً لماذا
لَمْ "تُسافِرْ" معها ...
طَوَّقتكَ بعناقٍ لذيذٍ ، هَمَستْ بكلماتٍ ثَقَّبَتْ بها جُدارَ الصمتِ .. غَنَّتْ شعراً دَوْزَنَتْ عَروضَه على بُحورِ شَبَقٍ مَكظومٍ ، مُنَدّىً برضابِ فرصةٍ هاربةٍ من " القِسمَة ونصيب " ..

إِفتَرَشَتْكَ ، سَجَدَتْ ..
طاوُوسُ شهوةٍ ، طَحَنَ بَقاياكَ ،
نَضَّتْ عَرَقاً ،
شَفَتَها ، عَضَّتْ..
رأسَها على صدرِها ، أَرخَتْ
فإنزلَقَ شَعرُها البُنّيُّ ، غَطّى وَجهَها ،
إِرتَعَشَتْ ، شَهَقَتْ ، ثمَّ شَهَقَتْ ،
... وتَسارَعَتْ ، فشهَقَتْ ، وإرتَجَّتْ ،
ولَمّا أوشَكَتْ ... صَرَخَتْ من أَعلى السُلَّمِ الموسيقي حتى أَسفَله ،
"خُداااا اايِ مَنْ " ( يا إلهـ......ي ) !
.......................
.......................

إنِزَلَقَتْ إلى جانِبِكَ ، تَتَنَهَّدُ مُهَشَّمَةً ، مُقَطِّعةَ الأنفاس ..
بعدَ حينٍ شَرَعَتْ تمسَحُ ، بباطِنِ كَفِّها ، بَلّوراتِ عَرَقٍ تَدَحرَجَتْ لِواديها .. مدَّتْ يدَها نَحوَكَ ، تُريدُ تَرطيبَ شَفَتَيكَ بما نَزَّتْهُ ، سَقَطَتْ إلى جانبها .... تحامَلَتْ على خَدَرِها ... ألقَتْ عليكَ نظرةً باسمةً ،كأنها تُثَبِّتُ ملامحكَ بذاكرتها .. مَصَّتْ شفتَيكَ ، قَبّلَتكَ من اللسان ، وأنتَ راقِدٌ مثلَ لُعبةٍ فَكّكَها طفلٌ ثم راحَ يتفَرّجُ عليها. رَبَتَتْ على صَدرِكَ برفقٍ .. قَطَعَتْ خيطَ الكلامِ ، ثُمَّ زَحَفَتْ نحو الغرفةِ تَسحَلُ إِزارَها وتَوارَتْ خلفَ الباب .. مثلَ حُلُمٍ رائقٍ ، أَسعَدَ قلباً مكلوماً ، ثُمَّ رَحَلَ . ترَكتكَ تَتَلظّى بما أشعَلَته فيكَ من حرائقَ ،كأنها أرادَتكَ أَنْ تَتَطهَّرَ ..
وتكونَ الشاهِدَ الوحيدَ على موتِكَ يتيماً ...
...........................
عِذقَ رَعشَةٍ ، مَصلوباً في وحشةِ الرملِ والَهباء ، كانَتْ ..
سَحَرتكَ لبضعِ ساعاتٍ ... زرَعَتْ فيكَ بذرةَ الحنينِ إليها ، لَوْثةً ، ثُمّ إختَفَتْ ..
باعَتكَ لأَحزانِكَ ..
مَنْ سَيُلَملِمُ ما بَعْثَرَتهُ من أشلائكَ ..؟
مَنْ سيُطفيءُ ما أَشعَلَته فيكَ بعدَ أَنْ رَحَلَتْ .. ؟!
وإِنْ كانت عابرةً في سبيلِ فرَحٍ قصيرٍ ، لماذا لا تَغفِرُ لها ..؟!
هيَ لَمْ تَسرِقْ منكَ مخطوطةً .. تَنتَحِلها ، مُراهِنَةً على أَنََّ ياءَكَ الأولى سَتُستَبدَلُ بتاءٍ ، يَسبقها نفيٌ ..!!
كانت حُلُماً ، بلا وَهمٍ يَدّعي الأمَلَ ، دونَ مُقوِّمات .....!!


* * * *

ـ " أتكونُ أَتَتْ على غَفلَةٍ من وَهَمٍ ، أو على أطرافِ حُلُمٍ ، وإختَفَتْ هكذا ؟!
أَيا أَنتِ ! إنْ كُنتِ حُلُماً ، أيقظيني وإرحلي ، ولاتعودي تطرُقينَ بابَ الطيفِ !
وإنْ كنتِ أنتِ ، أنتِ .. إبقَيْ حُلُماً كي لا أفيقَ فيثورَ بركانُ وجَعي بكِ ...
سيبقى صهيلُ إشتياقي مُدَوَّخاً ، كخيطِ ماءٍ تاهَ عن النبع ،
في عينيكِ رأيتُ كلَّ نزواتِ العقلِ .. مسافَةَ الجسدِ في أنكيدو ، وطَفَراتِ روح كلكامش ...
كونِي كما تشائينَ ، إلاّ التي أنتِ صورتُها !
فأنتِ شهرزادُ هذا الليلِ الكَفيفِ .. وأنا سَليلُ مملكةِ الحواس ،
لا أَحَدَ يغزو وحدةَ ليلتي إِلاّكِ ،
وحينَ تَسوطُكِ النشوَةُ ، ينحبسُ الزمن ويَتَكَسَّرُ خَطوُه ..
لكِ الإشتياقُ كُلّه وصَهيلُهُ المأسورُ .. يا سعيدة ،
سأستحضِرُ زمناً من عقيقٍ وياسمين ، فتُزهرينَ قِدّاحاً يسرُقُ نَدى الصباحات ..
تعالِي فقد جُنَّ كأسي ، وحنيني إليكِ يهذي ..
تعالِي بسمةً فَوقَ شفاه السَوسَنِ ..
فَدَتكِ حروفي ، تعاليْ كثيراً ، وغيبي قليلاً ،
صَفيرُ الريحِ لا يَعنيني مُقفىً كانَ ، أَم مَنْزوعَ " القرار " ..
مَجدُها أَنْ تَحمِلَ عبيرَكِ ، حَسْبْ !
تعالي إذْ أشتهيكِ ، فأَحلى لعنةُ صِدفَةٍ أنتِ ..
تعالي ، الساعةَ ، لا يَبُلُّ عَطَشي إِليكِ إلاّ أَنتِ ..
تعالي وحُكِّي دَمي بطارِفِ غَمّازتكِ...
إِغفِري ، سعيدة ، خطيئةَ آلهةٍ أَورَثتني شيئاً من أَنكيدو ...
كَفانِي خبَّأتُ شهواتي في السِرِّ ، الذي عِشتُه ، حتى لَمْ يَعُدْ بمقدوري إفناؤها في جسَدي ...
فالموعودُ رهانٌ خاسرٌ للسُذَّجِ .. "


* * *

إنقلَبتَ إلى الجهةِ الأُخرى ، فإرتَطَمَ كُوعُكَ بالجدار ... وَجَعٌ رَماكَ على شاطيء اليقَظةِ ، كَسَّرَ زورَقَ الطيفِ ، صَحَوتَ منقوعاً بعرَقٍ باردٍ ، تَرتَعِشُ من رؤياكَ ، كأَنَّ أَحَداً ضَبَطَكَ مُتَلبِّساً بحُلمٍ ، فما عَرِفتَ كيف تَتَّقي سِهامَ " التُهمة "... !


ــــــــــــــــ
(1) يُوزعُ بُسطاءُ الناس من شيعة العراق على الجيران خبزاً ، مع كمشةٍ من الكِرَاثِ والريحان ، يُسمّونه " خبز العبّاس "، في حال تحقَّقَتْ واحدة
من أمانيهم البسيطة بنجاح تلميذٍ في الدور الثاني للأمتحانات المدرسية ، أو شفاءُ مريض من وعكة صحية .. لأنه في حالة الأُمنيات الأكبَرْ والأمراض الصعبة تكون النذور على "قَدِّها " من الذبائح والنُذور ...
(2) أصحاب القلم والمثقفونَ بشكلٍ عام ... وكانت تُسَتخدَمُ في بعض الأوساط الحزبية سُبَّةً أو للسخريةِ من المثقفين .. على
الرغمِ من حقيقة أنَّ عدداًً كبيراً منهم كان في صفوف الأنصار، بل إستشهَدَ عددٌ منهم ، ولَمْ يُغيِّر ذلك من النظرة الفلاحية
( الشعور بالدونية ) تجاههم ، على إعتبار أنهم من "البرجوازية الصغيرة" المتأرجحة ....كذا



#يحيى_علوان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سَجَرتُ تَنّورَ الذكرى
- كتاب - حوارات المنفيين -
- كتاب - أَيها القناع الصغير، أَعرِفُكَ جيداً -
- كتاب - همس - الجثة لاتسبح ضد التيار
- مونولوج لابنِ الجبابرة *
- لِلعَتمَةِ ذُبالَتي !
- حَسَدْ
- شمعةُ أُمي ، دَمعةُ أَبي
- يوغا
- هاجِرْ
- مَنْ نحنُ ؟!
- نُثار (5)
- شبَّاك
- سلاماً أيُها الأَرَقُ
- نُثار ( 4 )
- أَسئلةٌ حَيْرى
- نُثار ( 3 )
- نُثار ( 2 )
- نُثار ( 1 )
- ...ومن العشقِ ما قَتَلْ


المزيد.....




- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يحيى علوان - يتيم