أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الأمكنة الكمائنُ 2: حجرة الحَديقة















المزيد.....

الأمكنة الكمائنُ 2: حجرة الحَديقة


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3147 - 2010 / 10 / 7 - 20:30
المحور: الادب والفن
    



" منزل حاج حسين "؛هذا الأثرُ، الغابر، القابعُ الآنَ وَسَط الأبنيَة الحديثة ـ كهَوْلة الخرافة.
حجرة واحدَة حَسْب، من لفيف غرَف المنزل، تعيّن عليها أن تسَوّى مع أرض الديار. جرى ذلك، إثر اللجاجة المُعقبَة التحاق الوالدَيْن بأولادهم المُستقرّين في الأقاصي الشماليّة لقارّة الصقيع. داعي إزالة الحجرة، هوَ كونها ما تفتأ مثل حَدبة في ظهر المنزل الهولةِ. كذلك فإنّ تعنتْ شقيقنا المَريض " جينكو " في مُلازمة المَكان، ربما عجّل في مَوضوع العزم على رَدمه. ثمّة، ما تزالُ تدور وَقائع بعض كوابيس الآونة هذه، المُتأخرة. فبالرغم من اندثار أثر الحجرة، فإنها بقيَتْ تجمَعني في الحلم بشقيقي الكبير، المَبخوس الفأل.
إنها الحجرة، المُتطاول سقفها من أرض الحَديقة إلى أرض الديار؛ السقف المَشغول من جذوع الحَوْر، المَنحوتة، مثل أخواتها الثلاث، المَنذور كلّ منها لنوم أهل الدار. وَحدَها غرفة الضيوف، المُستحدَثة، كانت مَبنيّة من الأسمنت المسلح والطوب، علاوة على المَطبخ.
ويبدو أنّ الحجرة تلك ، المَدروزة في نسيج صلصال الحديقة، كانتْ في زمن الأجداد مكاناً مُخصصاً لدوابهم. لأنّ استخدام الخيل والحمير للتنقل، زمنئذ، حتمَ على كلّ بيت أن يكونَ له إسطبلٌ.
صِلة حجرَة الحديقة بالكوابيس، كونها بلا باب ولا نافذة. مَدخلٌ وفتحة كبيرَة، مُربّعة الشكل، هما المُتيحان لضوء النهار أن يتسلل، حيياً، إلى داخل المَكان العاري أصلاً من الأثاث. ثمّة رفوفٌ عدّة في الجدار المُحاذي للمدخل، يتراصف فوقها العلب الزجاجيّة، المُحتويَة بذور الأزهار، الجافة، فضلاً عن العدّة والأغراض الخاصّة بالحديقة. تحت، إزاء الجدار المُقابل، تمّ وَضعُ سدّة خشبيّة، واطئة نوعاً، لكي يَعتكف فيها صيفاً ثمارُ البطيخ أو قشورُ الجوز، المُضحّى بها شتاءً لأتون المدفأة الأنتيكيّة.

صندوقُ جهاز الأمّ، المُحلّى بالصّدَف، كانَ يَرَكنُ هناك في صَدْر الحجرة.
لقد أضحى على مُنقلب آخر في صفته، بما أنّ مطربانات الزيتون والمُخلل والمكدوس واللبنة والجبن الأبيض والمُربّى، كانت تجدُ ملاذاً آمناً هنا. وكانَ يوجَدُ صندوقٌ آخر، أو أكثر، لمُهملات الكراريس والكتب والأوراق، العائدة لمراحل أولاد الدار، المَدرسيّة. وفي صندوق أدقّ حجماً، كنتُ في طفولتي أكنز أشياءَ مُختلفة، عجيبة، جديرَة بـ " صندوق الدنيا ": لقد وَعَدّتُ أبني، الغلامَ المُشرفَ على سنّ المُراهقة، بأن أهبه ذلك الكنز المُتخلّف عن طفولتي. إنه وَعدٌ، أعرفُ الآنَ أنني سَأخلفُ فيه حتماً؛ طالما مَضى ما يَزيدُ عن اثنين وعشرين عاماً على مُغادرتي الوَطن، بلا رَجْعَة قط.
ولكن، ما هيَ صِِلة " جينكو " بحجرَة الحَديقة، في حَقيقة الحال؛ حتى أنه كانَ يُصرّ على مُلازمتها في آناءِ ليل خريف العُمْر ونهاره؟ جواباً، يُمكن القول بجملة واحدَة، مُقتضبَة، أنّ تلك كانت حجرَة أخي الكبير، الأثيرَة، خلال طفولته وفتوّته. الأبّ، المَلول، كانَ يَتساهلُ مع هذا المُزاحم، الدّخيل، على أمل إلهائه عن صُحْبَة السوء، المُنتظرَة خارج المَنزل.
هناك، إذاً، كانَ الغلامُ يَحظى بمُتع ساعات النهار، مُنشغلاً بابتكاراته واختراعاته؛ هوَ المُتألق الذكاء والخارق الحيويّة. من جهتي، كنتُ الأكثر إفادَة ً من مُنجزات " جينكو " بين أفراد الدار، المُتكاثرين باضطراد. إنّ خلوّ يَدي من ألعاب السّوق، تبعاً لفقر حال العائلة، كانَ يُعوَّض بألعاب بديلة، قرينة: درّاجات خشبيّة، ذات عجلات حديديّة منتزعة من مَكنات ما ؛ مَركبات، مَشغولة بأسياخ دقيقة؛ بنادق ومُسدّسات، قبضاتها من الخشب ومواسيرها من الأنابيب المُلبّسة بالرصاص والعازلة للكوابل الكهربائيّة؛ سيوف وتروس ودروع، مصنوعة من صفائح الفولاذ الرقيق.

كانَ صَعباً فصلُ الصّحيح من المَعلول في جُملة تصرّفات الأخ، الكبير.
معنا، نحن الأخوَة الأصغر سناً، كانَ كلّ شيء على ما يُرام. أمّا الأمّ، فكانَ لها رأيٌ آخر ولا غرو. فما أن يُدير رَجلها ظهرَه، مُغادراً إلى مَكان عمَله، حتى تستهلّ همومُ المَرأة مع ولدها، البكر. طبْعُ والدتنا، المُتسِمُ بالتحفظ والحَذر والسكينة، كانَ غير مُنسَجم بطبيعة الحال مع طبع أبنها هذا؛ المُتهوّر والجَسور والعنيف. ولكنّ تنكيله بالأمّ، لو صحّ التعبيرُ، كانَ على الأغلب بريئاً وطريفا ـ كما هيَ الطفولة.
ابتكاراتُ شقيقنا، لم تكُ خطِرَة على الإطلاق. بيْدَ أنّ بعضها، كانَ سبيلاً لتخويف الأمّ. في أحد الأيام، وكانَ الوَقتُ عصراً، حَضرَ " جينكو " إلى المنزل وبيده كيس من البلاستيك. وكالعادة، نزلَ إلى حجرته الأثيرَة عبْرَ دَرَج الحديقة. ثمّة، أخرَجَ من الكيس ساعة حائط أنتيكيّة، صغيرَة الحَجم، وبدأ يتسلّى بفكّ قطعها. ما أن همّ بإعادَة القطع للهيكل، حتى كانت والدتنا فوقَ رأسه لتسألهُ بتوجّس: " ما هذا الشيء، الغريب، الذي في يَدِكَ؟ "
" هذه؟ هذه قنبلة.. "، أجابَ ببساطة. وإذا بالأمّ تقفز من مَكانها، هاربَة ً. وكانَ الحاجُّ في منزله، عندما استنجدَتْ فيه امرأة أخيه وهيَ ما تفتأ مُرتاعَة، مُوَلولة.
" إنّ وَلدَنا أخرَقٌ، ما في ذلكَ من شكّ "، يُخاطب الأبّ امرأته مُعلقا على آخر حركات أبنهما. إذ ضجّ الزقاقُ، مُذ بعض الوَقت، بصَخب الأطفال المُتعقبين خطى " جينكو "، الحثيثة. إذاك، كانَ يَقبضُ في كلّ يَدٍ على عنق ثعبان، تاركاً ذيله المَسْحول على الأرض. و صِفة الخرَق، ليسَت في ذلك حَسْب. بل لكون شقيقنا قد أفاقَ فجراً كي يتوَجّه إلى بساتين الحارَة؛ ثمّة، أينَ الطرائد المُتخفيَة خلل حقول القمح وخمائل الغيضة ومَساكب الخضار.
" إياكَ أن تُدْخِلَ تلكَ الأفاعي، السامّة، إلى المَنزل.. "، شدّدُ الأبّ على أبنه قدّام الباب الخارجيّ. هذا الأخرَقُ، بدَوره، يُطمأنُ الوالدَ بأنّ لحمَ طريدَتيْه مَنذورٌ لشهيّة هرّ المنزل. ولا يَكادُ يَمضي على ذهاب الأبّ سوَيْعة، حتى يتعالى صراخ أمنا، المُروّعة: لقد أخبرَها " جينكو " بنبرَة قلق، مُتكلّفة، أنه فقدَ أثرَ إحدى الأفاعي، هناك في الحديقة. تفرّ المسكينة مُصطحبة الأولاد إلى منزل شقيقتها، المُجاور، مُردّدة ً: " والله، لن أعودَ حتى يُعثر على تلكَ الحيّة وتقتل ".

ولكنّ الثعبانَ، السامّ السريرَة، كانَ يَتخفى بهيئة الإنسان.
إنه خالُ والدَتنا، المَنعوتُ بلقب " ديغول "؛ لما كانَ من تباهيه بالعَمل كسائق لأحد الجنرالات، الفرنسيين، خلال العهد الاستعماري. كانَ يَمحضُ شقيقنا حقداً أسوَد، غير مَفهوم الدافع. إلا أنه، في كلّ الأحوال، كانَ حقداً يَمتارُ من وليمَة قديمَة، تمتّ لتواريخ العائلة.ولكن هذا، حديثٌ آخر.
أبنُ الخال، المُوافق شقيقي في السنّ، كانَ فتىً طيّباً ونقيّ القلب. ولعلّه الوَحيد بهذه الصفة في أسرته، علاوة على أبنها، البكر. توثق صِلة " جينكو " مع ندّه ذاك، كانَ من أسبابه شغفهما ، المُشترَك، بصيد الطيور وتدجين بعض أنواعها سواءً بسواء . إنها صِلة صداقة، بين قريبَيْن. ولكنها لم تكن تجلب رضا الأبّ، الخال. هذا الأخير، كانت نادرَة زياراته لبيت ابنة أخته، بالرغم من أنّ أمتاراً مَعدودة تفصله عن بيته. إلا في وَقتٍ من حياته، مُتأخر، لما صار الخالُ صديقا، طارئاً، لحديقة منزلنا. إذاك، كانَ يَعرجُ على قدَم مُصابَة بحادث سيارَة، ناشداً السلوانَ بين الأزهار والخمائل والأشجار.
مَشهَدُ " جينكو "، المؤلم، كانَ يَعرض لناظري، الطفل، أثناء تفقدي لحجرَة الحَديقة. عندئذ، يكونُ هوَ مُكوّماً على نفسه، مَسحوقا بشعور الخجل والحرَج، فيما القيودُ تشدّ رجليْه ويدَيْه. والدنا، الصارم، كانَ إلى ذلك شديدَ التأثر بأقاويل الآخرين من أقارب وأصدقاء. إنه " ديغول "، من كانَ قد دأبَ على تحريض أبينا على أبنه؛ الغلام المُراهق بعدُ. هذا وبغض الطرْف عن حقيقة، أنّ كلاً من الأب والخال ما كانَ على ودّ مع الآخر. " ديغول "، كانَ عدواً لدوداً لقوميته، الكردية، خالطاً إياها مع العقيدة الشيوعية. وبهذه الصّفة، كانَ يَهمُز من قناة الأبّ في كلّ مرّة، مُعيداً على مَسمَعه اسطوانة انحراف ابنه، الكبير.
قريبنا، المُتغني بالأخلاق الساميَة، كانَ في أرذل أعوام عُمْره وما يفتأ على دأبه في التحرّش بنساء الجيران قرْصاً ولمساً وتجديفا. كذلك الأمر مع صديقة ابنته،النصرانيّة؛ الفتاة الحسناء ذات الشعر الأشقر والتي كانَ أشقاؤها رفاقا في الحزب: إنها ابنة " طانيوس "، بائعُ المَشروبات الكحوليّة، الحُمصيّ الأصل، ومن كانَ يَملكُ المَحلّ القائم تحتَ منزلهم؛ ثمة، في " رأس الحارَة ". فيما بعد،. لم تسلم من ابتذال الخال، الرّقيع، حتى امرأة أبنه ذاك، المُماثل في السنّ لشقيقي.

من سَطح حجرَة الحَديقة، المُرتفع بعلوّ متر ونيّف عن أرض الديار، كنتُ أرقبُ الطائرات، المُحلقة.
حربُ الاستنزاف، كانت مُحتدِمَة وقتئذ. إلا أنّ تلك، كانت طائرات مُقاتلة، صديقة. وكنا نميّز الأسراب العراقيّة، عن شقيقتها السوريّة؛ بما أنّ الأولى ذات ألوان مُموّهة. في أسواق المدينة، القديمة، كانَ يُسعدنا توقيف بعضُ الجنود العراقيين لأبينا، إثر سماعهم تكلّمه بالكرديّة مع امرأته: " تو كورده؟ "، يبدأ حديثُ التعارف بهذا السؤال، المُعتاد. الأبّ، كانَ صيفا يَعملُ مُراقباً في الجناح السوفياتي، في معرض دمشق الدولي. الجناح العراقي، كانَ إذاك مَحجّ الشبان الكرد: في الهواء الطلق خارج الجناح، كانَ قد تمّ نصبُ شاشة سينمائيّة، عملاقة، تعرض على مدار الساعة أفلاماً عن " مُنجزات ثورة رمضان ". بينها كانَ ثمة فيلم وثائقي، طويل، عن تجربة الحكم الذاتي في إقليم كردستان. هناك، تعرّفنا لأول مرّة، بالصورَة، على شلالات " كلي علي بك " ومنتزه " حاجي عمران " ومطربين وفنانين شهيرين؛ من أمثال " عيسى برواري " و " دلشاد " وغيرهم.
" جينكو "، كانَ ثمة في حجرة الحديقة، عندما رأيتني على سطحها. لقد خرَج تواً من سجن " القلعة "، بعدما أنهى محكوميّته؛ خرَجَ إنساناً آخر، تماماً. صارَ أكثر شروداً وتأملاً وصمتا. بالمُقابل، فاختلاط عقله، ما كانَ قدّ جدّ بعدُ. بيْدَ أنّ عنف طبعه، قدّر له أن يُضافرَ ضراوة ً: ذات ظهيرَة، خريفيّة، شهدَ الزقاقُ قفزة أخينا، الشاهقة، من فوق شرفة أبن الخالة، الحشاش. كانَ هناك، إذاً، عندما تناهى لأذنه صوتُ " جوامير "، المُنادي باسمه مُستغيثا. قريبنا هذا، كانَ يَصغرني بعام واحد؛ ولكنه كان آنذاك ما يزال على خفته وطيشه. لقد تعارك مع أبن أحد العسكريين، المُستأجرين في منزل " قربينة "، والمُنحدر من ريف الساحل.
بدَوره فإنّ رجلاً، عابراً، يبدو أنه من الأصل نفسه، سَمِعَ صوت " مواطنه " المُشتبك مع قريبنا، الطائش. حينما كانَ يُحاول فكّ الاشتباك، إذا بهراوة " جينكو "، الغليظة، تنهال على أمّ رأسه. عدّة ضربات تلقاها الرّجل، المسكين، قبل أن يَندفع الأهلُ والجيران لتخليصه. عدّة ساعات، على الأثر، عندما حضرتْ دوريّة أمن لكي توقف المُعتدي، فإنها عادَتْ خائبة دونما أمل. عبثا، كانَ سؤالهم للباعة المُقيمين والجَوالين عن اسم أخينا، المَطبوع في رأس الرجل ، الجريح. كان هذا، على الأرجح، قد التقط صراخ الغلام الطائش، المُردّد اسم " جينكو "؛ فانطبعَ في ذهنه لاحقا باسم " جنو ". وبكلّ الأحوال، فما كانَ هناك من هوَ على استعدادٍ للوشاية بفتى الزقاق، الأكثر جرأة و قوّة.

علاقات الجوار، الوديّة، بين أهالي الحيّ وأولئك الريفيين، قدّرَ لها أن تتغيّرَ نوعاً.
مُنقلب الأمر، شاءَ أن يُبتدَه مع استيلاء جماعة " الأسد "، العسكرية ، على السلطة. قبل ذلك، تنامى عددُ المُستأجرين في الحارَة، من ذوي المذاهب العلوية والإسماعيلية والدرزية. إنّ كونَ مواطنيهم، القادة العسكريين البعثيين، قد تناهوا إلى سدّة المناصب السياسية، العليا، قد حفز هؤلاء على الاستقرار في الشام ـ كمتطوعين في الجيش والأمن، بدرجة أساسيّة.
من جهتي، كنتُ قد اصطدمتُ مع أحد الطلبَة، من الخلفيّة ذاتها. ذلك جرى في عام أسبق، عندما كنتُ أعيدُ شهادَة الإعداديّة. إنّ صديقنا " ريزان "، الفتى الوَسيم والناعم، كانَ قد أضحى له شعبيّة بيننا في مدرسة " ابن العميد الثانيَة ". إنه أبن الشيخ " النقشبندي "، الذي عمِلَ أعواماً بالقرب من " ملا بارزاني "، أثناء الثورة في الستينات ضدّ حكومة " بغداد ". مع اتفاق آذار، آثرَ الرّجلُ العودة مع أسرته إلى إقليمه، السوريّ؛ ثمة في " الجزيرَة ". إذاك، تابع أولادُ الشيخ دراساتهم في الشام، وكانَ معهم شقيقهم الأصغر. هذا الأخير، كانَ لامع الذكاء والاجتهاد. إلا أنّ شعبيّته لدينا في المدرسة، كانَ لها داع آخر. أمامَ أنظارنا، المَبهورَة، عرَضَ الفتى في أحد تلكَ الأيام شهادَته الدراسيّة، المَمنوحة له في العراق: اسمُ " كردستان "، المُرفق بذكر مادّة " اللغة الكرديّة "، كانا ثمّة في تلك الوثيقة، الرسميّة.

" لماذا لا تتكلمان باللغة العربيّة، بدلاً عن بَرْبرة البهائم هذه..؟ "
هكذا خاطبَ " ريزانَ " أحدُ زملاء الفصل. صديقنا، كانَ عندئذ يتحدّث مع أبن خاله، الزميل أيضاً في نفس الفصل. ذاكَ المُشنِعُ على لغتنا القوميّة، كانَ من ريف الساحل؛ مُتباهِ على الدوام بالفيلد العسكري، الزيتيّ اللون، المُكتسي به. في الفرصة، أخبرنا من لدُن صديقنا الجَميل، المَلول، بخبر الواقعة. أبنُ زقاق " آلرشي "، الجَسور، كانَ يَنصتُ للخبر وهوَ يَغلي غضباً وغيرَة. وإنه " مُنذر " ذاته، من اندفعَ بُعيدَ انتهاء الدوام لإيقاف زميلنا ذاك، المُشنّع: " ولاه، أأنتَ من يَجرأ على القول، بأنّ اللغة الكرديّة هيَ لغة الحيوانات؟ ". ودونما أن يُتيحَ للزميل مجالاً للإجابَة، وَجّه إليه لكمَة مُفاجئة، صاعقة. الفيلد العسكريّ، العتيد، ما لبثَ أن تمزقَ ودُمّيَ. أما صاحبُهُ، فقد أنقذناه بصعوبَة من يَدَيّ رفيقنا، الهائج.
في مساء اليوم التالي، حضرَ أبن عمّنا " الأستاذ حسين " إلى المنزل لزيارَة الأبّ. كانت ابتسامته، العريضة، توحي بخبر جديد يَحمله للعمّ: " إنّ أولادنا يَرفعون الرأسَ، فعلاً.. "، قالها ثمّ راحَ يَسرُد على مَسمع الآخر خبرَ الواقعة نفسها؛ وكما سَمِعها بدَوره على لسان " عبد الوهاب كيكي "، مدير مدرستنا: " لقد صرَفَ المديرُ والدَ الفتى، العنصر في المخابرات، قائلاً له أنّ العراكَ عبارَة عن طيش أولاد. وحينما أمسكَ المديرُ أخيراً بيَد الطالب، المُعتدي، لكي يُعاقبه بالعصا فإنه سأله عن سبب ضربه لزميله. فإذا بالطالب يُجيبه بفخر وأنفة : " أستاذ، إنه يَشتمُ الأكرادَ.. ".

وإنه أبن عمّنا، " الأستاذ حسين "، من توَسّط لي في التسجيل بالمدرسَة الإعداديّة، في حيّ النصارى.
مبنى المدرسَة، كانَ عبارَة عن منزل قديم، أثريّ، يَقوم على طرَف الجادّة الضيّقة، المُتفرّعة من " باب توما ". المَكانُ، كانَ مُخصصاً لأبناء الدّفعة الأكثر جدّة من النازحين، المُخلّفين قراهم وحقولهم للقوات الاسرائيليّة، الغازية؛ عقب انتهاء حرب تشرين، التحريريّة. كانَ أغلبُ الطلبَة من عرَب تلك المناطق، المُتاخمَة لبرّ الشام والجولان. علاوة على قلّة من مُواطنيهم، الشراكسة. بيْدَ أنني تعرّفتُ ثمة على طالب أشقر الشعر، من أصل كرديّ، كانَ زميلاً في الفصل المُجاور. كانَ من آل " ميرزو "؛ العائلة الارستقراطيّة، التي تملّكتْ مثل سواها من العائلات الكرديّة أراض شاسعة مذ فترة العثمانيين وحتى أواسط خمسينات القرن الماضي. وبما أنّ أخوال الفتى من الشراكسة، فكانَ عليه أن يُفضل صُحبة الطلبة من ذوي الأصل نفسه.
وعلى كلّ حال، فكوني " مُستمعاً "، بحَسَب اللائحات الواردَة من مُديريّة التربيَة، فإني لم آبه بالحضور، اليوميّ. بالتالي، كانت خطايَ تذرَع بدأب دروبَ المدينة القديمَة؛ أين الأوابد الأثريّة من مَكتبات ومقامات ومدارس. إلى التسكّع في جوانب الحيّ، الأرقى، جاعلاً حدائقه بمثابَة مَحطات لقدميّ، المُجهدَتيْن. وحينما أتوفرُ على النقود، فلا غنى عن حضور فيلم " سياسيّ "، إيطاليّ أو فرنسيّ، في صالتنا الأثيرَة؛ " الكِندي ".
ذات يوم، إذا بأحد الزملاء يَدفعني بغلظة خلال درس الرياضيات. كانَ فتى غليظ القسمات، بجسم ثور. قبلاً، كنتُ أيضاً قد اعتدّتُ على مسلكه الفظ، الخشن. أما اليوم، فإنّ ردّ فعلي كانَ مفاجئا، عنيفاً. عندما وَقعَ أرضاً، إثرَ جذبي له على غرّة، إذا بأصوات المَرَح تعلو في الفصل بقوّة وصَخب. كانَ الموجّه قد وَصلَ إلى الفصل، لحظة تدخل مدّرس الرياضيات بيني وبين الزميل الثور. هذا الأخير، كانَ قد استعاد بعضاً من هيبته بما كانَ من اللكمات المُسدّدة للخصم. المُوجّه، ما عتمَ أن اصطحبني إلى حجرَة الإدارة: " عليكَ، غداً، بإحضار وليّ أمركَ "، قالها بحزم ثمّ أضاف " إنكَ بهذا السلوك، في الوَقت الذي أضحى حضورُكَ للمدرَسة مَزاجياً ".
في اليوم التالي، كنتُ برفقة " جينكو " وأبن خالتنا، الحشاش. هذا الأخير، كانَ قد تطوّع لمُرافقتنا بعدما أخبره أخي بالمَوضوع. اختياري هكذا " ولي أمر "، كانَ بداعي تجنيب الأبّ العلمَ بتكرار غيابي عن الدوام المدرسي. إثرَ مُحاضرَة فلسفيّة، مُطوّلة نوعاً، على لسان " مصطي "، فإنّ المُوجّه أجاز لنفسه الإشادَة بسلوكي، المُهذب، كما واجتهادي اللامع. خارجاً، وَقفَ أخي أمامَ باب المدرسَة لكي يسألني بنبرَة اهتمام: " أأنتَ مُتأكد، بأنّ ذاك الطالب الأرعن سيَرعوي إثرَ ضربكَ له؟ ". فأجبته بهزة من رأسي، مُوافقة. عندئذ، مَضى هوَ في طريقه مع أبن الخالة، الفيلسوف. ثمّ مَضيتُ بدَوري في درب التجوال والتسكّع؛ طالما أنّ ذلك اليوم، الخريفيّ، كانَ آخر عهدي بمدرَسة النازحين، الإعداديّة.



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأمكنة الكمائنُ: جنينة جَميل
- الأوانس والجَواري 5
- الأوانس والجَواري 4
- الأوانس والجَواري 3
- الأوانس والجَواري 2
- ثمرَة الشرّ: الأوانس والجَواري
- المُتسكعون والمَجانين 4
- المُتسكعون والمَجانين 3
- المُتسكعون والمَجانين 2
- ثمرَة الشرّ: المُتسكعون والمَجانين
- القبلة ، القلب 5
- القبلة ، القلب 4
- القبلة ، القلب 3
- القبلة ، القلب 2
- الأولى والآخرة : الخاتمة
- الأولى والآخرة : مَزهر 13
- الأولى والآخرة : مَزهر 12
- الأولى والآخرة : مَزهر 11
- الأولى والآخرة : مَزهر 10
- الأولى والآخرة : مَزهر 9


المزيد.....




- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الأمكنة الكمائنُ 2: حجرة الحَديقة