أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رباح آل جعفر - حسين علي محفوظ ... مسافر في الغروب















المزيد.....

حسين علي محفوظ ... مسافر في الغروب


رباح آل جعفر

الحوار المتمدن-العدد: 2919 - 2010 / 2 / 16 - 15:06
المحور: الادب والفن
    


كنا اثنين غرباء ..
في اللحظة التي أبرق لي من البحرين الصديق سلام الشماع رسالة عاجلة تنعى إلي رحيل العلامة حسين علي محفوظ بعد أقل من ساعتين على وفاته ( وسلام أقرب صديق إلى محفوظ وخازن أسراره ) .. تذكرت الكلمات الأخيرة ، التي قالها لنا الراحل : إنني أعيش الوحدة ، والوحشة ، والحزن ، وأعيش الخريف القادم من العمر .. ومع تزايد شعوره بأن النهاية تقترب ، فإنه ، مع ذلك ، ظل طوال الوقت يتكلم ، ويسأل ، ويناقش ، ويحاور، كأنه يريد أن يكون آخر نفس في الحياة ، حياة في قلب الحياة !!.
وكنت واحدا من محبيه الذين ودعوه بأسى القلوب ، لا بدمع العيون ، برجاء ودعاء .. رجاء أن يكون رحيله تذكرة سفر تأخذه إلى رحاب التأريخ ، ودعاء أن يكون موته جزءا من الحياة ، لا كفنا في الظلمات ، وتجديدا لها عبر تدفق إنساني شاءت له عناية الخالق الأعظم ، أن يتواصل بمثل تواصل الزمن .
وأنا مؤمن أن الكاتب الأصيل ، أو المفكر الخلاق ، لا ينتهي حين يغيب ، فهو مثل محارب قديم لا يموت ، إنما يسافر في الغروب .. وإذا تذكرنا أن بداية كل يوم في الزمان شروق، وختام كل يوم في الزمان غروب ، فان حسين علي محفوظ هو ذلك المسافر في الغروب .
كان اهتمامي بالعلامة الدكتور حسين علي محفوظ شديدا، ورجائي فيه واسعا، إذ كنت أراه من فرسان كتيبة خط الدفاع الأخير عن منظومة التراث العربي ، وثقافات الشرق .. في زمن ظننت فيه ، كما ظن آخرون غيري ، خطر بقاء هذه الثقافات مثل أرض موحشة ، مقفرة ، نتيجة فجوة أجيال ، وافتراق دروب ، وتبعثر قلوب ، وارتحال قبائل ، وكان هاجس الخوف أن ينزل التصحر ، ومعه العقم على ساحة ثقافة عراقية ، ظلت طول عمرها خضراء بالخصب، يانعة بنبت الربيع .
محفوظ المبدع المتوهج ، الذي صحبته ، وعرفته بكل الشوق المتزاحم على قلب تملؤه براءة طفل ، وعقل يطل منه تشاؤم فيلسوف ، رقيقاً بعاطفة دافئة ، يحفظ للإنسانية إيقاعها جاداً ، وجميلاً في ذات اللحظة !.
ذات يوم ، سألته ، وكان جمع من أصدقائه يريدون الاحتفال بعيد ميلاده الماسي ( 75 سنة ) .. قلت له : ماذا لو عاد محفوظ إلى الحياة من جديد ؟ .
وقال لي : لو عدت إلى الحياة من جديد ، لاخترت حياتي هذه ، كما حدثت ، وكما وقعت ، وبالتفاصيل ، ولتمسكت بأحزانها قبل أفراحها ، وبالتعاسة التي فيها قبل السعادة ، التي تشيع في أرجائها ، شكلاً ، ومضموناً ، ومحتوى .
وقلت : إن الشاعر سعدي الشيرازي عاش أكثر من مائة سنة ، ولما سئل عن ذلك ، قال : أحببت كثيرا ، ولا شيء كالحب يطيل العمر ! .
وابتسم محفوظ ملء شفتيه ، ووجنتيه ، وقد فهم ماذا أقصد ، وقاطعني بقوله :
وأنا أؤمن أن الكراهية تنقص العمر ، والحقد يدفنه .. ولا شيء ينجو من الفناء ويهزمه غير الحب .. فأحبوا .. أحبوا .. تطل أعماركم ! .
محفوظ الذي عرفته شاهدا بالحق على دور الموقف ، والمثقف .. يأخذ من نفسه ، ويجود بها ، مثله ( كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ) وجوهر التزامه البحث عن الحقيقة الإنسانية ، التي قضى عمره يفتش عليها، ويسبق غيره هنا ، ويندفع مع غيره هناك .. فهذا رجل كانت له رؤية ورأي يترتبان عليهما موقف ، وتصدر عنهما كلمة تحترم نفسها ، وتحترم الناس .. وهذا رجل كان محبا لطائفته ، ولم يكن طائفيا ، وكانت أسرته الأوسع ، جميع قرائه ومحبيه ، وكم من مرة تمنيت لو أن تجار الطائفية في العراق ، ومبتدعيها ، ومسوقيها ، وموقديها ، يقرأون ما كان الراحل الكبير توصل له في دراسته التي لم تنشر ، ولم يعرف بها إلا قلة من صحبه ، ففي أفكاره هزة تدعو إلى اليقظة .. في هذه الدراسة القيمة توصل محفوظ إلى أن نسبة الاختلافات بين المذاهب الإسلامية 6 بالمائة فقط ، وأن هذه الاختلافات في الفروع ، لا في الأصول ، ما يعني أن هذه النسبة تتوزع ما بين السنة والشيعة بنسبة 3 بالمائة ، وهكذا بين الشوافع والأحناف ، وبين مذاهب وفرق الشيعة .. فأنت على هذا النحو ترى بطلان الدعاوى الطائفية ، وأن المسلمين متفقون في الأصول والفروع بنسبة 94 بالمائة ، وما يتبقى هو ما يتاجر به الآخرون .
في بيت محفوظ مقبرة ، أو قل أنها ( مقبرة الوثائق ) .. كل شيئ تعطيه لمحفوظ يدفنه في هذه المقبرة ، التي لو عثروا عليها الآن وأحسنوا التصرف بمحتوياتها لصارت مجلدات .. إنها مجموعة من الكتب النادرة ، والصور الأثيرة ، وأقلام الرصاص ، التي احتفظ بها من أول عهده في الكتابة حتى آخر يوم من حياته ، فهو لا يرمي القلم الذي به يكتب ، إنما يدفنه في هذه المقبرة ، ولديه خزانة أخرى من قصاصات الورق التي يسجل عليها أفكاره ، وأكثرها أفكار غير منشورة ، وأمام قيمة محفوظ وقد رحل إلى ما وراء الحجاب ما يستحق أن يحفظ .
وإذا كان علي بابا في ( ألف ليلة ) ، يقول عبارة : ( افتح يا سمسم ) فتنفتح له المغارة ، وما فيها من كنوز ، كما تحكي لنا الأسطورة .. فلقد وجدت من الكنوز في مكتبة العلامة محفوظ ما لم أجده في مكتبات العراق .
وجدت مكتبة فريدة عصر ، وفريدة دهر ، لم تقع على مثل خزائنها عين إنسان ، ولم تخطر على قلب شيطان .. هذا كتاب بحجم إنسان ، وهذا كتاب بحجم علبة الشخاط .. وأينما أدرت بصري ، وجدت كتباً مطبوعة على الشمع ، وأخرى على الحجر ، من نوع الكتب التي كانت تأتي على البغال من بومباي ، ومن بولاق ! .
ورأيت العجب في مكتبة محفوظ .. كتب تؤرخ لعهود مضت كان يُقال لها : ( كتب ممنوعة ) ، وكتب على الرفوف ، وكتب فوق النافذة ، وكتب على الأرض .. هذا كتاب قرأه كله ، وهذا كتاب قرأه حتى نصفه ، وهذا كتاب لا يزال مفتوحا يقرأ فيه ، وهذه قصيدة لم تنته بعد .
وإذا كان الناس يحتاجون إلى الرغيف والكتاب والدواء ، وأنت لا تستطيع أن تُطعم الناس ، فعالجهم بالكتاب .. وتذكرت قول عمر الخيام : ( عاشر من الناس كبار العقول ) ، وسألت حسين علي محفوظ ، على طريقة أبي ذر الغفاري ، ( من أين لك هذا ) ؟ .. وقال لي بنصف ابتسامة لاحت على شفتيه : وهل تسألني ، وأنت تعلم ، أنني من ورثة العلماء ، وأجدادي كلهم علم ، وكتب ، وقراطيس ، ومحابر ؟! .
ومع أنني كنت في بعض الأحيان أعتب على العلامة محفوظ ، أنه لا يستطيع الاعتذار ، ولا إشاحة النظر عن بطاقة تدعوه إلى محفل ، أو ندوة ، أو النشر في مطبوع ، أيا كان المطبوع ، إلا أنني اكتشفت بالتجربة أن غرامه بالرحلة قريباً وبعيداً ، هو نفسه غرامه بالمعرفة .
وكنا نقضي كثيرا من ليالي رمضان في منزل محفوظ .. ونعيش جوا أشبه بالأحلام والأنغام ، وفي كل مرة يمنع الحياء محفوظاً أن يتكلم أكثر مما هو لازم ، وأن يكتفي ، في أغلب الأحيان ، بالابتسام ، وهو يستمع إلى ما يقول صديقنا حميد المطبعي بكلماته ، وظرافته ، واستفزازاته الذكية .. والشعراء والمحبون يتفاهمون بغير الكلام ، وهم قادرون على أن يأتوا بالصيف في الشتاء ، وبالشتاء في الصيف ، وكان محفوظ يشعرنا بروعة الماضي ، بذاكرته التي استقرت في التراث ، وحفظت بقدرة الجاحظ ، أسماء الأعشاب ، وأحكام ابن النديم ، ونكات الوزراء ، والظرفاء ، فضحكنا من حناجرنا .
وفي مثل هذه المجالس ، ليس أسهل من رواية نكتة ، وليس أصعب من احتمال موعظة .. والناس يفضلون الابتسامة الجميلة على الحقيقة الكئيبة ، ويستريحون إلى النكتة ، أكثر من سعادتهم بالمعاجم ، والهوامش ، والمتون .
وبدأ محفوظ حياته رساما ، ومهندس آلات ميكانيكية ، ويوما دعي إلى معمل فتاح باشا وقد رأى مكائن الغزل والنسيج ، وعندما رجع إلى البيت صنع ماكنة صغيرة ممائلة مثل تلك التي رآها .
وإذا كانت ثمة مدن كادحة تركض تحت شمس النهار ، وثمة مدن تؤمن بشاعرية الليل ، وتعيشه طولاً وعرضاً .. فلقد عاشت في ذاكرة محفوظ مدينته الكاظمية ، حية ، دفاقة ، منذ أن وُلد على ثراها سنة 1926 حتى ترجله عن دنيانا في 2009 ومدفنه في الصحن الكاظمي قرب مرقد الشيخ المفيد ، على بعد أمتار قليلة من محل مولده في منطقة الأنباريين ، واستوحى محفوظ من الكاظمية فولكلورها الطفولي ، ومن جوها الإسلامي وعبقها الديني ، مادته في الأدب ، وفي الحياة ، فكتب عشرات القصائد من عيون الشعر .. مثلما كتب عشرات الكتب والمخطوطات من قلائد النثر .
وكان الود بيني وبين محفوظ قديما ، والوصل متينا ، وكنت أزوره ، وأتصل به هاتفيا بين الحين والحين حتى وأنا في بلاد الغربة ، متأسياً بحديث نبينا الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم ، القائل : ( إن الله يسأل عن الود القديم ) .. وأنا أجد العراق في سطور محفوظ ، وأشم رائحة الأرض الطيبة ممتزجة برائحة الحبر الذي كتب به الكلمات .



#رباح_آل_جعفر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شاكر علي التكريتي بين احتلالين ..
- جلال الحنفي .. تسعون عاماً في قلب الأزمات والخصومات
- سؤال كبير وخطير : إمارة الشعر العربي من امرئ القيس إلى امرئ ...
- عبد المجيد الشاوي وهذه الأشياء الغريبة العجيبة !!
- عبد الرزاق عبد الواحد .. صورة طبق الأصل !!.
- طه عارف .. وسلام الأصدقاء طويل
- شاكر حسن آل سعيد .. تشكيلياً على الطريقة الصوفية
- ويسألونك عن نوري حمودي القيسي ؟!
- لقاء مع خالد الشوّاف على مشارف الثمانين
- مفكرات يوسف العاني في عصور مختلفة
- قيس لفتة مراد .. عاش ميتا ومات حيا !!
- تذكروا الزهر الشقي .. عزيز السيد جاسم
- لا هو موت .. لا هو انتحار
- أباطيل يوسف نمر ذياب في زنبيل !!
- مصطفى محمود .. المفترى عليه
- عبد الغني الملاح يستردّ للمتنبي أباه !..
- مدني صالح يدفن زمان الوصل في هيت
- ( صانع ) بلند وحسين مردان .. صفاء الحيدري لا عذاب يشبه عذابه
- أبو جهل يتوحم على دمائنا
- عندما تغضب الكلمات


المزيد.....




- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رباح آل جعفر - حسين علي محفوظ ... مسافر في الغروب