أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نصيف الناصري - كتاب { الأنهار الكبيرة المتعرجة } ردّات واندفاعات الشعر العراقي















المزيد.....



كتاب { الأنهار الكبيرة المتعرجة } ردّات واندفاعات الشعر العراقي


نصيف الناصري

الحوار المتمدن-العدد: 2911 - 2010 / 2 / 8 - 10:51
المحور: الادب والفن
    



1 – ملاحظات على الشعر العراقي المعاصر .
وهم الايديولوجيا ووهم الشعر
2 – شعراء السبعينيات في العراق .
أحلام شعرية كبيرة هشمتها مطرقة الايديولوجيا
3 – حياتي كانت في الأرض غياباً وحضوراً تملؤه الوحشة والترحال ,
مقدمة ومختارات من عبد الوهاب البياتي
4 – ما عادت بغداد إلاّ مقبرة لأحبته وقصيدة حبّ ضاع .
مختارات من عبد الوهاب البياتي الجزء الثاني
5 – السوريالية وتحولاتها عند عبد القادر الجنابي .
6 – شواطىء ترتجف في قارب معلق في { ما بعد } وفي { ما قبل } .
في الثناء على عبد القادر الجنابي
7 – عبد الرحمن الماجدي في مجموعتيه { أختام هجرية } و { المعنى في الحاشية }
8 – كزار حنتوش : اعطني 50 ألف دولار ثمن تمثال لي وسأقف في مكانه بشحمي ولحمي ودمي طوال حياتي
9 – 3 شعراء من الثمانينيات :
{ مندفعاً الى الشموع التي تعطر المدافن }
مقدمة ومختارات من محمد مظلوم .
{ جذر وحيد يلامس يأس الشجرة }
مقدمة ومختارات من محمد النصّار .
{ كل شيء أسود في حديقة الشيطان }
مقدمة ومختارات من صلاح حسن .























1 - ملاحظات على الشعر العراقي المعاصر .
وهم الايديولوجيا ووهم الشعر
{ ماذا يفعل الشاعر وكيف يتعامل من الوضع البشري ؟ ما هو التاريخ بالنسبة له ؟ هل يمكنه أن يرى كل هذا ويسمع جميع هذه الأصوات المسحوقة ولا يستجيب ؟ ولكن كيف يستجيب ؟ هناك الشاعر الذي يتشبث بآيديولوجيا معينة تسمح له بأن ينفث بضعة أبيات تعبر عن موقف مسبق يتكفل به الحزب الذي ينتمي اليه وهناك الشاعر الذي له قضية سياسية ينظر من خلال تعاليمها الى هذا المشهد الانساني المريع ، ولكن هناك في الطرف الأقصى الشاعر الذي لا ينتمي الى حزب ولا يعتنق أية قضية سياسية ، يواجه العصر بكامله من خلال انتمائه الانساني المحض ، هذا هو الشاعر الوحيد الذي يستطيع أن يعطينا شهادة حقيقية عن نفسه وعصره ومستقبل العالم وفاجعته …}
سركون بولص
من حوار أجراه معه هادي الحسيني
1
هل هذه مشكلتي وحدي التي أطرحها هنا ، أم انها مشكلة الشعر العراقي المعاصر كله منذ الثورة التجديدية التي قام بها شعراؤنا الذين اصطلحنا على تسميتهم بالرواد في نهاية الأربعينات من القرن الماضي ؟ كم أشعر بالأسى والتعاسة عندما أرى في رفوف المكتبات في بغداد وعمان وسواهما من العواصم العربية الأخرى ، أعمال الكثير من الشعراء العرب تطبع مراراً ، وبعض هذه الأعمال أقل ما يقال عنها انها رديئة ولا تستحق القراءة ولا أرى أعمال الشعراء العراقيين الأكثر ابداعاً وحداثة وأصالة . أمامي الآن قوائم أعددتها منذ فترة تضم أسماء الشعراء الذين ظهروا في العراق خلال العهود الخمسة الماضية ، وكلما تأملت في الأسماء والنتاجات التي أصدرتها . أشعر بحسرة كبيرة للارث الذي يكاد يذهب هدراً من جراء حالات الاقصاء والتغييب المستمرة والمدمرة التي تهيمن منذ عهود طويلة في أوساطنا الشعرية والثقافية بسبب النظريات والمفاهيم النقدية المشوهة والقاصرة التي أوجدتها القوى الايديولوجية والسلطات التي تعاقبت على حكم العراق ، وهي كلها ذات توجهات وأبعاد غريبة عن جوهر الابداع . تقوم نزعاتها الدوغمائية والطائفية على اقصاء جهود وابداع الآخرين الذين تتعارض طروحاتهم وأهدافهم الابداعية مع فهمها القاصر للابداع . متوهمة في الآخر أنه عدو خطر وشرير يجب قتله معنوياً وازاحته وتغييبه من الواجهة الثقافية طالما انه لا يسير وفق طروحاتها وتوجهاتها القائمة ، وقد تعودنا في العراق أن تظهر وفق هذه المفاهيم الايديولوجية في كل عقد مجموعة كبيرة من الشعراء شأنها شأن انقلاباتنا العسكرية الدموية . يطلق عليها النقد المتهافت مصطلح { جيل } حتى أصبح لدينا الآن جيل الخمسينات وجيل الستينات وجيل السبعينات وجيل الثمانينات وجيل التسعينات ، والنقد المتنطع يشحذ أسلحته الآن بانتظار ظهور الجيل القادم المزعوم ليذبح طموحاته المشروعة في الابداع والمغايرة والتجريب قبل أن تولد وتترسخ في أرض الواقع الذي يلتهب بهذه المفاهيم الايديولوجية ، وكل جيل من هذه الأجيال يلغي الجيل الذي سبقه في الظهور من خلال نزعة فاشستية مترسخة منذ زمن طويل في واقعنا الثقافي العراقي ومهاترات صبيانية وادعاءات فارغة يقوم بها الشعراء والنقاد على حد سواء . وهذا عائد باعتقادي الى غياب التقاليد الثقافية الرصينة منذ نهاية الخمسينات بسبب سياسات الأحزاب والسلطات الحاكمة معاً ، وهذا الاقصاء والالغاء في الواقع الشعري والثقافي يشبه من وجوه عديدة انقلاباتنا العسكرية ، فكلما تأتي مجموعة من المغامرين العسكريين الى الحكم تسندها دباباتها وعشائرها ومجازرها . تبدأ فور اعلان بيانها الأول الذي يعد الشعب الجائع والمحبط بالرفاهية والحرية والتعددية والمشاركة في الحكم ، بتغيير النشيد الوطني وألوان العلم العراقي والعيد الوطني للبلاد . ألا تذكرنا هذه الحالة بمحنة السياب النفسية التي سببت موته عندما أنهى علاقته بالحزب الشيوعي وراح يكتب من باب النكاية قصائد قومية عن وهران وبور سعيد والمغرب العربي ؟ وعندما تم ابراز البياتي بعد الفراغ الذي تركه السياب من الحزب وسلطت الأضواء عليه راح يكتب قصائد عن برلين وموسكو وعمال بولونيا والأممية قبل أن يفقد وظيفته في السفارة العراقية في موسكو ويذهب للاستقرار في القاهرة بناء على دعوة من جمال عبد الناصر ليكتب بعد ذلك قصيدته { الى جمال عبد الناصر الانسان } متخلياً عن هجائه القديم له .
2
أشعر بالغثيان دائما كلما تذكرت { ملتقى شعراء السبعينات } الذي أقامته مجلة الطليعة الأدبية التي تصدرها وزارة الثقافة و الاعلام عام 1978 وتمت فيه دعوة 12 شاعراً فقط ليمثلوا جيلهم . لماذا ؟ لأن الوزارة العتيدة تعتقد أن الآخرين ينتمون أو يتعاطفون ايديولوجياً ومعرفياً مع جهات أخرى خارج فلك السلطة ، وهكذا تتم عملية الاقصاء والتعتيم حتى لا تظهر السلطة الحاكمة فقيرة ابداعياً بشعرائها الذين كرستهم وأغدقت عليهم العطايا السخية ورسختهم من خلال وسائل اعلامها الكثيرة ومهرجاناتها ووظائفها واصداراتها . من ناحية ثانية ، ينطبق نفس الشيء على الجانب الآخر الايديولوجي أيضاً ولو بدرجات متفاوتة فردياً وحزبياً ، ولو نظرنا الى ما فعله سامي مهدي في بداية التسعينات رداً على كتاب عبد القادر الجنابي { انفرادات ، الشعر الستيني في العراق } في كتابه { الموجة الصاخبة ، شعر الستينات في العراق } نجد انه جعل من نفسه الشاعر الطليعي الوحيد ، رداً على عبد القادر الجنابي الذي أتهمه بالمحافظة وعدم التجديد في هذا الجيل . وادعى سامي انه كان يبذل الجهود الخارقة في المغامرة والحساسية الشعرية الجديدة وحاول أن يقصي جميع شعراء الستينات ويجردهم من أي انجاز وابداع ، وبالمقابل فعل فاضل العزاوي ما فعله سامي مهدي في كتابه { الروح الحية ، جيل الستينات في العراق } حيث جعل من نفسه العراب الأوحد أيضاً لجيل الستينات في الابداع والتجريب وراح يفتخر بقصيدته العصماء { القصيدة تأكل نفسها } وهي مأخوذة من الشاعر التركي ناظم حكمت حيث يقول في قصيدته المكتوبة في الثلاثينات من القرن الماضي { بحر الخزر }
الفرسان الفرسان ذوو الخيول الحمراء
خيولهم ذوات أجنحة من الريح
خيولهم ذوات أجنحة من
خيولهم ذوات أجنحة
خيولهم ذوات
خيولهم
خيول .
وليراجع القارئ مقدمة المجلد الأول من أعمال ناظم حكمت ، ترجمة فاضل لقمان ، اصدار دار الفارابي 1979 وهنا أثبت شهادة لشاعر مبدع وأصيل من جيل الستينات حول هذه الظاهرة الغريبة هو سركون بولص حيث يقول في حوار أجراه معه الشاعر هادي الحسيني ونشر في صحيفة { الرأي } الأردنية وأعادت نشره صحيفة { ثقافة 11 } العدد 18 والصادرة في 1/ 1 / 1998ما يلي : { أصواتنا نحن الستينيين لا تكتفي بأن تقدم مجرد قصيدة يتملاها القارئ ، وانما نطمح الى يصطدم ذلك القارئ بفجيعة الواقع ، أي أن نكتب قصيدة في عالم مشحون بالتناقضات والجنون والرعب والاحتقار والتدمير ، هذه هي بيضة العنقاء التي أفرخها الغضب في العراق ، والبقية تاريخ موجود مكتوب بشكل سيئ لأن من هيمن على تقديم هذا التاريخ كانوا بضعة أشخاص لهم انتماءات ضيقة وأنوات نرجسية متضخمة لا تصلح لأن تبوئهم تلك المكانة ، سامي مهدي أولهم ، وثانيهم فاضل العزاوي ، هذا الثنائي الذي ينبغي تزويجه في زفة صاخبة والتخلص منهما ليتفرغ شعراء آخرون جديرون بهذه المهمة لتسجيل وقائع هذا التاريخ بشكل صادق } . لقد كان العزاوي في { الروح الحية } يطلق التهم جزافاً وقد ادعى ان حسب الشيخ جعفر كان يمدح صدام حسين كلما احتاج الى المال ، وهذا غير صحيح طبعاً وأقصى بالتالي جهود الكثير من أبناء جيله ليتربع هو وحده على عرش الستينات . وهل ننسى الانطولوجيات البائسة التي صدرت في العراق خلال السبعينات وحملت عناوين فضفاضة كتلك التي حررها علي العلاق وحملت عنوان { مختارات من شعراء الطليعة } وضمت قصائد رديئة لشعراء يتغنون بأمجاد الأمة والمشروعات القومية والنضال ضد الاستعمار والامبريالية مع اننا كنا مستعمرين من قبل مغول الداخل الأكثر تخلفا ودموية من كل استعمار في العالم ، وكذلك انطولوجيا منذر الجبوري { مختارات من الشعر العراقي المعاصر } التي ضمت قصائد بائسة وهزيلة لأبواق السلطة ممن مجدوا سياساتها وشعاراتها القومية الزائفة ، وكذلك انطولوجيا طراد الكبيسي فقد كانت فقيرة من حيث الحصيلة الابداعية الى حد كبير ، لأنها ضمت قصائد تحكمها رؤية ايديولوجية معينة تنظر الى الابداع من زاوية الحدث الضيق والزائل ، وقد أقصى فيها الكثير من الشعراء المبدعين ، وحسنا فعل سعدي يوسف عندما أسقط من الطبعة الأخيرة لأعماله التي صدرت عن دار { المدى } المقدمة التي كتبها طراد الكبيسي الذي يعتبر أبرز ناقد ايديولوجي واكب خطوات جيل الستينات ، وقد أصدر العديد من الكتب عنه ، نذكر منها { شجر الغابة الحجري } و { الغابة والفصول } . يكتب في مقدمته لأعمال سعدي يوسف في القسم الثاني منها { كان الشعب بقواه الوطنية وجماهيره وأدبائه يخوض نضالاً مريراً ضد الاستعمار والحكومات الرجعية العميلة والاقطاع والتخلف الثقافي وسيطرة الفكر اليميني والغيبي يوم بدأ سعدي يكتب الشعر أو يحسب انه يكتب الشعر ، وكانت الحركة الشعرية الجديدة في بداياتها تكافح هي الأخرى وسط تيارات تقليدية وعقلية سلفية ترى في كل جديد خطراً عليها كوجود معنوي مرتبط بمصالح مادية استغلالية لا انسانية ، ولعله كان من حسن حظ هذه الحركة النامية الجديدة انها لم توجد وسط خصوم أقوياء سياسياً وفكرياً بل وجدت وسط أصدقاء أقوياء أيضاً ، فقد كانت الحركة الوطنية ملتهبة والقضايا الجماهيرية ملتهبة هي الأخرى . الثورة تنضج ، والحاجة الى تجديد أساليب الكفاح والتعبير قولاً وفعلاً ملحة } . لنتساءل هنا . ما علاقة هذا التنظير الذي كان شائعاً في الأدبيات الحزبية بالعملية الابداعية في تجربة سعدي يوسف الذي شيد عمارته العالية من خلال المعرفة العميقة والرؤية الجمالية والابداعية للعالم ؟ لكننا سنتعرف على الجواب عندما نعرف ان الكبيسي كان قد أصدر عام 1986 كتاباً بعنوان { التجربة الخلاقة ، قراءة في فكر الرئيس القائد صدام حسين } والتجربة الخلاقة كتاب للبروفيسور مورا ترجمته من الانجليزية الى العربية الشاعرة المرحومة سلافة حجاوي وصدر ببغداد في طبعتين . يتحدث فيه مورا عبر دراسة مستفيضة وممتعة عن تجارب ثمانية شعراء من العالم أعطوا الحداثة زخماً كبيراً في القرن العشرين منهم اليوت ، لوركا ، كافافي ، رفائيل البيرتي ، المفارقة الواضحة هنا أن الكبيسي يتحدث عن الفكر الغيبي واليميني في سنوات الخمسينات ويكتب في الثمانينات عن فكر صدام حسين واشراقاته الفلسفية المزعومة ، وبعد هل نذكر كتاب الدكتور محسن الموسوي { كشف المضامين البورجوازية في الشعر } الذي يبدو انه قد تخلى عنه الآن ولم يعد يذكره في قائمة مؤلفاته النقدية ، حيث يؤكد فيه أن اليوت وسان جون بيرس وسواهما من شعراء العالم الكبار لا يجب قراءتهم لأن شعرهم يحتوي على مضامين بورجوازية مدانة ، ولست أدري لماذا تدان المضامين البورجوازية في الشعر اذا صحت هذه الفرضية . ثم ما علاقة شعر هؤلاء العمالقة الذي استبطنوا محنة الوجود والانسان في العالم بهذا الحكي ؟ كان هذا الكتاب والكتب الأخرى التي على شاكلته هي التي تنظر لشعرنا في سنوات السبعينات عندما كانت تدوخ رؤوسنا شعارات ومفاهيم { الواقعية الاشتراكية والالتزام ، والبعد القومي } يا للمفارقة .
3
هناك شعراء في العراق غادروا عالمنا منذ ما يربو على الثلاثين عاماً وبقيت أعمالهم الأكثر أهمية من أعمال الكثيرين من الشعراء العرب ، مبعثرة ومعتماً عليهاً ولم تكلف أية جهة نفسها عناء جمعها واصدارها بما يليق . ألا يحق لنا الآن أن نتساءل عن أعمال حسين مردان ورشدي العامل وعبد الأمير الحصيري وحافظ جميل وعبد القادر رشيد الناصري ورشيد مجيد وعبد القادر العزاوي . لا مؤسسة ولا جهة ما تكلف نفسها مهمة اعداد ونشر أعمال هؤلاء الشعراء باعتبارها ارثاً ثقافياً وروحياً . وحدها أعمال عبد الرزاق عبد الواحد ومحمد حسين آل ياسين وكمال الحديثي وعلي الياسري شعراء { أم المهالك } بمراسيم جمهورية كذلك أعمال الشعراء العرب الذين مجدوا حروبنا المشؤومة من مصريين وخليجيين ومغاربة ومغتربين في أمريكا وكندا والبرازيل ، تطبع في طبعات أنيقة وبالألوف وعلى ورق ملون مع انها ليس فيها ما يستحق حتى مجرد تصفحها ، وحالة الاقصاء هذه في ثقافتنا وشعرنا جعلت الشعر والشاعر ينكمشان على نفسيهما ، بل أن البعض ودع الشعر نهائياً بعد أن كرس له حياة كاملة بسبب التهميش والحصار الثقافي والمعنوي والقهر المستمر ، ان لم يكن السجن والنفي وبالتالي لم يعد العراق الشاعر ينتج بعد الرواد وسعدي يوسف سوى شعراء بلا شعر اذا استثنينا بعض المواهب القليلة والكبيرة ،جيل يلغي ، وجيل يهمش ويعتم على ابداعات وانجازات جيل ، لا تطورات طبيعيية ومعرفية تتراكم باستمرار ، ولا اندفاعات شعرية تجدد ولا ثورة حقيقية تنسف المفاهيم التي رسخها جيل الرواد الذي انشغل بأساطيره و رموزه واسقاطاته التاريخية على واقعنا المتردي ، وغنائيته وتهويماته التي ما عادت تهم أحداً ، وهكذا تربع روادنا على عرش { الشعراء الكبار العظام } . من المسؤول عن حالة الاقصاء والتهميش هذه التي نعاني منها ؟ انه النقد المتهافت والمتحجر الذي يدوس في كل لحظة على ابداعات الشعراء الذين ظهروا لاحقاً واجترحوا المفاهيم والحساسية الشعرية الجديدة والمغايرة ، وكانت مكافأتهم هي التقزيم والتعتيم والنفي في الداخل والخارج ، وهكذا أصبح البعض لا يسير إلاّ على عكازات بسبب اليأس والاحباط المستمرين ، وانتقلت هذه العدوى الينا نحن شعراء الثمانينات بسبب المفاهيم الايديولوجية التي كانت مهيمنة على شعرنا عند الكثير من الشعراء والنقاد ، فذهبنا نحارب بضراوة ضد هذه الظاهرة وضد كل ما يدمر مشروعاتنا الشعرية والمعرفية { وأستثني هنا الشعراء الذين كرستهم دوائر اعلام السلطة ليمجدوا حربها المشؤومة مع ايران وطبعت مجموعاتهم وسلمتهم وظائف في الصحف والمنتديات الدعائية الأخرى } لأننا كنا قد شهدنا ولادة عبقريات شعرية كبيرة خارج خارطة الشعر العراقي وشهدنا كذلك المناخ الكئيب وجو الاحتضار الذي فرض خمودا ته على وسطنا الشعري في هذه الفترة بسبب المكائد السياسية والمذابح الفاشية التي هيمنت على حياة الشارع العراقي ، وأكبر دليل يمكنني أن أقدمه هنا هو خفوت حماسات شعراء السبعينات باستثناء بعض المواهب التي واصلت مشوار الابداع الى الآن ، وتراجع عطاء مجمل شعراء الستينات اذا استثنينا أيضا بعض المواهب المعروفة بانجازاتها الساحرة ، ومن أجل فهم أكثر لهذه الظاهرة المؤسفة أقدم هنا مقتطفات من شهادة للشاعر حميد العقابي وهو شاعر بدأ الكتابة في منتصف السبعينات وغادر العراق مبكراً الى المنفى حيث يقول : { جيل من الشباب بدأ الكتابة في النصف الثاني من السبعينات ولم ينشر داخل العراق سوى بضع قصائد ولكن الأحداث قد أنضجته وقد نشأ بحساسية تختلف عن حساسية شعراء بداية العقد الذين فرضوا على الساحة الأدبية العراقية ولما يكملوا عدتهم الفنية بعد ، أقول { فرضوا } لأسباب سياسية محضة ناتجة عن المزايدة ما بين طرفي التحالف المتناقض ما بين الأحزاب السياسية في فترة السبعينات وكذلك { باتفاق غير معلن } على دفن المشروع الستيني المتمرد والذي كان بامكانه أن يحدث ثورة شعرية حقيقية في الشعر العراقي { بل اجتماعية عامة } لو فسح له المجال ، فكان نتيجة لهذا الاجهاض ان مثل السبعينات جيل كسيح من الأسماء المحسوبة على هذا الحزب أو ذاك . عقد من الصراخ الايديولوجي كان ضحيته الشاب الذي فتح عينيه فلم يجد غير اتجاهين ثقافيين لا ثالث لهما ، حيث تم اقصاء ما استطاع أن ينجزه جيل الستينات وتم اغلاق مجلتين قدمتا الكثير أو كادتا وهما { شعر 69 / والكلمة } ومنع دخول أغلب المجلات التي تصدر في القاهرة وبيروت ودمشق ، فصار الكتاب الصادر عن دار نشر عربية غير منحازة لهذين الاتجاهين منشوراً سرياً تتداوله الأيدي سراً خشية كاتبي التقارير ، وتكاد مكتبات بغداد تخلو من الكتب المترجمة باستثناء ما يصدر عن وزارة الإعلام وما تصدره { دار التقدم السوفيتي } من ترجمات لروايات ساذجة ، أقول من فتح عينيه في بدأ السبعينات لم يجد أمامه غير أكداس من شعر المناسبات والشعارات الضحلة ، فذلك الذي { لا يعشق امرأة لا ينبع من عينيها النفط } وهذا الذي يترنم ب { بين المطرقة والسندان - يولد في العمل الانسان } وبرغبة من ينفض عنه غبار الماضي بتجربته الطاعنة في الفشل راح الشاب المشتعل بهوس الابداع يقرأ ما حرم منه طيلة السنوات الماضية فكان { واقعية بلا ضفاف } بديلاً عن { الماركسية والمرتد غار ودي } وجاء النفري وبن الفارض وبورخس ومندلشتام وبرودسكي وسان جون بيرس ليزيلوا صدأ الروح الذي خلفته المفاهيم البسيطة التي جعلت من ناظم حكمت وتفاؤله الثوري مقياسا وحيدا للشعر } . ولم أكن أنا أو سواي من شعراء الثمانينات الذين دافعنا عن الرؤيا والكتابة والحساسية الجديدة على توافق تام أو حتى تقبل أي نتاج يقدمه لنا شعراء الستينات والسبعينات { باستثناء بعض الأسماء المعروفة } الذين انشغل القسم الأكبر منهم بموضوعات لا تقدم للشعر شيئاً ، وهنا قد يعتقد البعض ممن تعوزه شمس العقل ، ان ظروف الحرب التي قلبت الكثير من الموازين الأدبية وغيرت في بنية المجتمع ودرجات التذوق هي السبب المباشر في رفضنا للارث السابق . كلا أن الحرب قد رسخت من خلال ماكينات اعلامها الضخمة ومهرجاناتها الصاخبة ، وأعطت زخماً ودفعاً لا محدوداً للأشكال الجاهزة وأعادت الحياة الى نماذج ماتت وانقرضت منذ قرون مثل الرجز والموشح والبند . لقد كنا نرفض النتاجات السابقة قبل عام 1980 وكانت مبررات رفضنا في البداية لا تتعدى سوى وظيفة الشعر ودوره في العالم والصلة بالتراث الذي كان يطرح كمفهوم ايديولوجي والانفتاح على ثقافات غير الثقافات الوجودية والقومية والماركسية التي هضمها ونادى بها شعراء الستينات والسبعينات ، لكن أساليب الوصايا الفجة والتهميش الذي مورس ضد مشروعاتنا الشعرية التي تبنيناها وخاصة مشروع قصيدة النثر التي كانت ممنوعة منعاً باتاً ، جعلتنا نتطرف ونذهب في المغامرة الى عوالم بعيدة لم تألفها أدوات ومصطلحات النقاد التي ذبلت وماتت بسبب ايديولوجيتها التي ذبحتها المؤامرات السياسية الدائمة ، وعدم تجديد نفسها ومواكبتها التطورات الحاصلة في الحساسية الشعرية الجديدة . لقد كنا وما زلنا نواصل البحث المضني عن الخارق والمطلق والجوهر الأصيل للشعر الذي أضاعه أو فرط فيه أصحاب المواهب الضعيفة ممن ركبوا الأمواج الايديولوجية من أجل تثبيت كيانات اجتماعية لهم على حساب الابداع وجذوة الشعر المضيئة دائماً ، ومما يلفت النظر في أغلب تجارب شعراء الثمانينات هو أن نتاجا تهم كثيرة التوغل في { المسائل الوجودية التي لها صلة بالحياة والموت والطفولة والحب والصيرورة } عكس الشعر الآخر الذي هو مجاز جماهيري حسب تعبير فان تيغيم ، ولئن وصل هؤلاء الشعراء إلى هذه النتيجة ، فأن فعلهم الابداعي هو أنهم لجئوا الى جوهر الشعر وحده واتخذوه أداة تعبير عن أحلامهم وطموحاتهم المشروعة بعيدا عن الوهم الايديولوجي المتعصب . وبعيداً عن المفاهيم الدوغمائية التي كانت تسد أمامنا طرق الابداع . أود أن أعلن عن ايماننا العالي في الشعر الحقيقي ، أليس الشعر كما تقول اندريه شديد : { حركة لا نهاية لها ، طريق نعود اليه بمعابره التي يلتقي فيها الحلم بالعادي ، المدرك واللامرئ } لن يوصلنا الشعر كما يعتقد البعض الى البستان الخالي من الظلال ولاالى الفجر الدائم ، لكن في ذلك خلاصنا . ما الذي يمنعنا من الذهاب الى الينابيع القصية على حد تعبير اندريه شديد أيضاً ؟ هل نتعاطف مع الذين أساءوا الينا أو غدروا بنا من خلال تعصبهم ورؤاهم التي لا ترى من العالم إلاّ غابة تتصارع فيها الايديولوجيات فقط ، ولا يميزون بين وهم الايديولوجيا ووهم الشعر الذي هو طريق لا يعرف الوقوف وعطش دائم له صفة النسمة التي تهب ، سريع العطب ، لكنه معلق دائماً عبر جباهنا ؟ .

2 - شعراء السبعينات في العراق :
أحلام شعرية كبيرة هشمتها مطرقة الأيديولوجيا
{ لقد جئتكم بنبأ من أكثر الأنباء اثارة للدهشة ، لم يحدث مثله من قبل ، فقد عبثوا بقوانين الشعر }
مالا رميه
{ الموسيقى والأدب }
محاضرة في أكسفورد
1
عند الحديث عن سقوط الأحلام الشعرية لشعراء السبعينات في العراق{ 73 شاعراً } في فخ الأيديولوجيا بكافة مظاهرها وأشكالها. ينبغي أن لا يغيب عن أذهاننا شعراء الستينات الذين سبقوهم في الظهور بعقد من السنوات واهتمامهم بما هو آني وزائل على حساب الابداع الأصيل ، وجعلهم الشعر وهو من أكثر النشاطات الانسانية قداسة وسرية ، رسالة وانتماء وهوية لأيديولوجية معينة جعلتهم الآن باستثناء بعض المواهب القليلة جداً ، يندبون حظوظهم العاثرة وخيبا تهم الدائمة من رماد الآيديولوجيا وأحلامها الرومانتيكية الخلابة التي أوصلتهم إما الى حافة اليأس أو الانضمام الى خيمة السلطة الفاشية حيث التمجيد الكاذب برسالة البعث الوهمية والاشادة الدائمة بعبقرية وفكر صدام حسين { الاستراتيجي } المزعوم الذي أوصل العراق الى ما هو عليه الآن . وللتعرف بشكل واضح على الخيبة المريرة التي يشعر فيها شعراء الستينات الآن أقتطف هنا فقرات من المقدمة التي كتبها فاضل العزاوي وهو من فرسان الأيديولوجيا البارزين في هذا الجيل شأنه شأن الآخرين ، لكتاب { انفرادات ـ الشعر العراقي الجديد } حيث يكتب : { جيل الستينات الذي يقدمه هذا الكتاب الكبير عاش تجربة أخرى غير تجربة جيل الشعراء الذين سبقوه ، فقد شهد معظم شعرائه الجحيم وهم في العشرين من عمرهم { يقصد في العشرينات من أعمارهم } أو حتى قبل ذلك تعرضوا الى أبشع أشكال التعذيب في سراديب المعتقلات والسجون وواجهوا القتل واشتركوا في الحركات المسلحة واختلفوا مع أحزابهم وعرفوا حياة التشرد والصعلكة والبطالة والنوم في الحدائق والمقاهي والمساجد . ما من مجموعة شعرية أو فكرية في الوطن العربي كله حوربت كما حورب الجيل الذي يقدمه { انفرادات } وما من جيل تعرض الى الخيانة كما تعرض له هذا الجيل ، قمع بضراوة من قبل جميع الفئات السياسية داخل السلطة وخارجها ، فقد جرى أبعاد أبز ممثليه عن المراكز الثقافية وألغيت مجلاتهم ومنعوا من النشر وتعرض كثيرون منهم للاعتقال والملاحقة } . وشهادة العزاوي المرة هذه ، تبين لنا بالدليل الواضح أن محاولات تدجين الشعر والشاعر للآني والزائل عبر الشعارات الايديولوجية الفضفاضة سمة من سمات واقعنا السياسي والثقافي المعاصر ابتدأت بعد انقلاب عام 1958 الذي أطاح بالعائلة المالكة بطريقة وحشية في { قصر النهاية } وتم فيه قتل الملك الشاب والوصي والنساء والأطفال وحتى الخدم الذين خرجوا لمواجهة الجنود المدججين بالبنادق والدبابات ويقودهم النقيب عبد الستار العبوسي وهم يرفعون المصاحف التي لم تفدهم بشيء ، والحالة المأساوية لشعرنا المعاصر هذه ، كان قد شخصها مبكراً الشاعر سعدي يوسف عبر مجلة { الأقلام } حيث كتب في العدد الرابع عام 1972 : { مازلت مقتنعاً الاقتناع كله بان الأدب ـ الشعر بخاصة ـ تعرض لعملية تشويه في السنوات بين 1964 ـ 1968 وان عملية التشويه هذه كادت تقضي على حيوية الشعر العراقي وتقاليده المشرفة وان آثار العملية أصابت الشعر بفقر دم مزمن ستظل آثاره تعرقل التطور الشعري حتى السنوات العشر المقبلة } وفقر الدم المزمن الذي شخصه سعدي يوسف هنا ، رأيناه مهيمنا على مجمل نتاجات شعراء السبعينات إلاّ قلة قليلة وللدليل ف { جيلهم } كما تحلو لنقادنا هذه التسمية لم يعطنا شعراء مهمين حتى الآن ، ومادمنا بصدد الايديولوجيا ومطرقتها التي هشمت الأحلام الشعرية لهؤلاء الشعراء فتنبغي الاشارة الى أن شهر العسل الذي تم بين الشيوعيين والبعثيين ضمن اطار ما سمي في حينه { بالجبهة الوطنية والقومية التقدمية } عام 1973 أفرز من بين ما أفرزه من قيم ومفاهيم شاذة وتزييف وتهميش لدور الثقافة الحقيقي في المجتمع ، والشعر والأدب عامة ، تسليطه الأضواء على شعراء وهميين ونقاد مأجورين لعبوا أدواراً قذرة في تدمير الصروح الثقافية التي رسختها أجيال من العقول العراقية الكبيرة منذ بداية تأسيس الدولة العراقية الحديثة عبر قلبهم للحقائق وتزييفهم لكل الانجازات الثقافية السابقة وطمسها وتشويهها بحجة بورجوازيتها ورجعيتها وما شابه من المصطلحات السياسية التي استوردتها نخبنا الأيديولوجية من الشرق والغرب وفرضتها بالقوة على واقعنا العراقي المبتلى بالدمار والطغيان ، وقد تبارى الكل في كسب أكبر حشد لهم من هؤلاء الشعراء والنقاد والمنظرين المأجورين لفرض آيديولوجياتهم عبر المنابر الثقافية والصحف والمجلات حتى أصبح واقعنا الثقافي والشعري مسيساً كله وراحت ثقافتنا ترسخ النزعات الطائفية والحزبية المتعصبة في المجتمع من خلال نظرة احادية الجانب ، ترى في الأدب والثقافة وسيلة آنية تكمن وظيفتها في الجانب الآيديولوجي والترويج له فقط ، والحديث الذي دار من قبل عن ثقافة الداخل وثقافة الخارج ليس جديداً أبداً ، فقد ترسخ منذ الاعلان عن جبهتنا الوطنية العتيدة حين انقسمت ثقافتنا الى داخل وخارج عبر الشكل التالي : صحيفتا الثورة والجمهورية ومجلات الأقلام والطليعة الأدبية وألف باء للبعثيين ، وصحيفتا الفكر الجديد وطريق الشعب ومجلة الثقافة الجديدة للشيوعيين ، وللتوضيح أكثر أقدم هنا فقرات من افتتاحية العدد 15 لمجلة { البديل } الصادرة عام 1990 وهي لسان حال { رابطة الكتاب والصحفيين الديمقراطيين العراقيين } التي أنشأها الحزب الشيوعي العراقي في الخارج لتكون بديلاً عن اتحاد الأدباء في العراق : { نتطلع في بحر هذا العام 1990 الى عقد المؤتمر العام الثالث لرابطتنا ، محطة أخرى في مسيرتنا الثقافية ، وقد عانينا جراء ذلك الكثير ، المنفى بتفاصيله القاتلة وآلامه الكبيرة وترحالنا الدائم في بقاع شتى في العالم وعلاقاتنا التي أخذت تضيق في هذا المحيط من البلدان والناس ، ومن أجل اغناء المؤتمر بمحتوى ثقافي فكري فاعل . نقترح أن يسهم المندوبون بمداخلات تتناول الثقافة بشقيها : في الوطن والمنفى ، وما دمنا نقر بأن عدداً غير قليل من المثقفين الديمقراطيين العراقيين ما يزال خارج الرابطة ، فلابد لنا من أن نبحث عما اذا كان الموقف السياسي أم الثقافي سبباً لهذا الابتعاد ، وكيف يمكن اللقاء بين التيارات الثقافية العراقية ضمن الرابطة وعلى ضفافها } وللقارئ أن يتساءل : ما علاقة المثقف الديمقراطي الحر والثقافة الحرة في الانتساب الى هذه الرابطة التي تدعي تمثيل الثقافة وهي واجهة للحزب الشيوعي وفي هذه الفترة بالذات التي سقطت فيها جميع الأحزاب والنظم الشمولية التي تصنع الناس على شاكلة الدجاج ناهيك عن الثقافة والابداع ؟ وبالنسبة للشعراء الذين انسلخوا عن اللجنة المركزية وانضموا الى القيادة المركزية التي كان يقودها عزيز الحاج ، فقد توزعوا بعد القبض عليه وانهياره عام 1969 واعلانه ترك العمل السياسي عبر شاشة التلفزيون ، ما بين الانضمام الى حزب السلطة والتنعم بمكاسبها القذرة أو ترك العمل السياسي أو الهجرة الى خارج العراق ليسقط والى الأبد حلمهم الرومانسي في ثورة مسلحة على غرار الثورة الكوبية ، تحرر العراق كله من سلطة الجنرال الضعيف عبد الرحمن عارف ، والأمر الأشد غرابة بعد كل هذه السنوات وتشظي الأحلام المستحيلة . نجد الآن أن هؤلاء الشعراء ما يزالون يعملون على تغليب الجانب الايديولوجي على الابداعي ولا يكاد واحد من هؤلاء الذين اصطلحنا عليهم بجيل الستينات باستثناء البعض القليل . لم ينتم الى حزب أو حركة سياسية معينة ويبشر بأفكارها وطروحاتها الدوغمائية . والسؤال الآن ـ أين تكمن وظيفة الشعر الأصلية ، هل هي في الحلم الايديولوجي الذي انتهى عبر التنازل من شاشة التلفزيون والتحالف الغريب والهش في { الجبهة الوطنية والقومية التقدمية } والتمجيد برسالة البعث الوهمية . أم هي في ذلك الجانب السري والشخصي والحلمي والمعرفي المقدس الذي يقود الانسان الى الأبدية ويضيء له المجاهل ويخفف عنه ضغوط الواقع واغتراب العالم ؟ بالتأكيد انه في الجانب الثاني وهذا الجانب يرفض دائما أولئك الذين يخونون جوهره الحقيقي .
2
ضمن هذا المناخ الشاذ على كافة الأصعدة السياسية والثقافية والاجتماعية ، أعلنت مجلة { الكلمة } حسب مفاهيمنا النقدية المشوهة عام 1973 { بعد أن فر من فر وتعهد من تعهد وخان من خان} حسب تعبير وليد جمعة في كتاب{ انفرادات} عن ولادة جيل شعري جديد عبر تخصيصها ملف في أحد اعدادها لمجموعة من الشعراء الشباب الذين لم يستكملوا عدتهم بعد وأطلقت عليه ملف { جيل السبعينات } وراحت تكتب المراثي وتضع الزهور على قبر{ جيل الستينات } من دون أن تمنحه فرصة تقديم نتاجه وصخبه وادعاءاته في التغيير والابداع وخلق عالم تسود فيه العدالة الانسانية وتضيئه قناديل الشعر الرحيمة ، وعلى الرغم من خلو هذا الملف الذي نشرته { الكلمة } لجيلها المزعوم من أي ابداع حقيقي . راحت السلطة والقوى الايديولوجية الأخرى تتبارى كما سبقت الاشارة في كسب ود هذا أو ذلك الشاعر تارة بالتهديد والوعيد وتارة أخرى بالترغيب والامتيازات ليكون لسان حالها والمدافع عن أحسابها وأنسابها مثلما كان يحدث في عصور ما قبل الاسلام ، وراحت بعدها الوجوه الملمعة في الأوكار الحزبية والثقافية تطل علينا عبر الصحف والمجلات وجلسات اتحاد الأدباء ، لكن المصيبة الكبيرة التي لم نكن نعرفها من قبل في شعرنا المعاصر ، كانت تكمن في أن أغلب موضوعات قصائد هؤلاء الشعراء كانت تدور حول { مسيرة الثورة الظافرة } و{ العمل الشعبي } و{ تأميم النفط } و{ كل شيء من أجل المعركة } و{ أمجاد الأسلاف } وابتكرت السلطة وبقية القبائل الايديولوجية الأخرى تقليداً جديداً في واقعنا الشعري المعاصر ، ربما لأول مرة في العالم ، يتمثل في اصدار بلاغات وأوامر الى القواعد والمنظمات الحزبية يلزمها بضرورة الحضور والتواجد في كافة الجلسات الشعرية التي تقام لهؤلاء الشعراء للتصفيق ومطالبتهم بالاعادة المرة تلو الأخرى ، ليظهروا للعين بهاء شاعر يتهم حسب تعبير باسترناك مع تحوير بسيط .
3
بعد أن رسخت { الكلمة } هذا الجيل ، عادت في وقت لاحق ونشرت { بيان القصيدة اليومية } الذي وقعه الشعراء : خز عل الماجدي ، غزاي درع الطائي ، عبد الحسين صنكور ، وطالبوا فيه برؤيا جديدة للكتابة والحياة تتمثل في التعامل مع أشياء الواقع اليومية بروح وبصيرة جمالية عميقة والابتعاد عن البلاغة والفذلكات التي انشغل فيها شعراء الستينات كما طالبوا أن تبتعد القصيدة عن السياسة ورموز الخمسينات الأسطورية والمناسبة العادية ، وهنا ثارت الضجة حول هذه الرؤيا والأفكار التي طرحها هؤلاء الشعراء في هذا البيان ، جعلتهم يتخلون عن هذه الرؤيا الجديدة نهائيا ليطلع علينا غزاي درع الطائي بمجموعته الأولى { وردة لعيون البعثية ليلى } أما خز عل الماجدي فقد تخلى نهائياً عن كل الأفكار التي طرحها هذا البيان وانشغل طوال السنوات المنصرمة باساطير وحكايات السومريين والعرب قبل الاسلام في مجموعاته :{ يقظة دلمون } و{ نشيد أسرا فيل } و{ خزائيل } ونشر لاحقاً نصوصاً طويلة { اليواقيت } و { شمس الزايرجة } و{ انك بشع وغير كوني } وفيها يتكئ على مفاهيم السحر في القرون الوسطى ، وخصوصاً تلك التي تحدث عنها ابن خلدون في مقدمته ، وبالنسبة لعبد الحسين صنكور فقد ترك الشعر نهائياً ولم يكتب أية قصيدة .
4
بلغت الضجة الاعلامية لشعراء السبعينات ذروتها الكبيرة قبل سقوط وانهيار التحالف البعثي ـ الشيوعي بشهور وذلك حين أقامت وزارة الأعلام عبر مجلة { الطليعة الأدبية } الملتقى الأول لشعراء السبعينات وهو الأول والأخير في احدى قاعات المكتبة الوطنية ، وتمت فيه دعوة مجموعة من هؤلاء الشعراء ، أما أولئك الذين لم تتم دعوتهم فقد وجدوا لهم مكاناً في صحيفتي { طريق الشعب والفكر الجديد } ليشتركوا في هذا الزفاف الشعري الذي ترعاه الايديولوجيا بصيغ وأشكال عديدة ، ومن الشعراء الذين تمت دعوتهم : خز عل الماجدي ، هاشم شفيق ، زاهر الجيزاني ، سلام كاظم ، مرشد الزبيدي ، فاروق يوسف ، غزاي درع الطائي ، ساجدة الموسوي ، خليل الأسدي ، رعد عبد القادر ، وقد اشترك في أعمال هذا الملتقى الكثير من النقاد الذين ينظرون الى العملية الابداعية من خلال تعاليم وتوجهات الأفكار الايديولوجية التي يحملونها ، واستمرت الأفعال وردود الأفعال لمدة أكثر من شهرين في الصحافة والمجلات وبقية وسائل الأعلام الأخرى ، لكن الأحلام الشعرية التي عبر عنها هؤلاء الشعراء في ملتقاهم هذا ، سقطت كلها بعد شهور حين انفرط عقد التحالف الأيديولوجي الشيوعي ـ البعثي ، ليدمر معه كل المظاهر الثقافية والسياسية والاجتماعية التي هي مدمرة أصلاً . بعدها صمت الجميع وأغلق اتحاد الأدباء أبوابه حتى العام 1983 .
5
في سنوات الثمانينات الأولى صدرت ثلاث مجموعات مهمة لثلاثة من أبرز شعراء السبعينات هي { دخان المنزل } لسلام كاظم و{ يقظة دلمون } لخز عل الماجدي و{ من أجل توضيح التباس القصد } لزاهر الجيزاني . احتوت هذه المجموعات على هم معرفي وجمالي ملحوظ ومصير الانسان والعالم وتحولات الطبيعة والأحلام من خلال رموز واشارات جديدة لها دلالاتها الخاصة ، عبر عنها خز عل الماجدي في مقال له { بحضارة الشاعر الشخصية } كما عبر عنها زاهر الجيزاني في جهوده الكتابية التي دأب عليها طوال سنوات الثمانينات وخصوصا حول { الكتابة الجديدة } لكن بدء الحرب الصدامية ـ الايرانية وظهور سلسلة { ديوان المعركة } و{ أدب المعركة } عن وزارة الأعلام . جعلت مشروعات وتنظيرات هؤلاء الشعراء تكاد تنزوي بفعل الكم الهائل من الاصدارات التعبوية والاعلامية وانشغال أبرز نقادنا بمفاهيم جديدة مثل { البطولة في الشعر . الشعر والفروسية . الروح المعنوية . مرآة الأسلاف . القصيدة القتالية } الخ أما خز عل الماجدي الذي انشغل في التنظير { لميتاجماليا الشعر } و{ قصائد الصورة } و{ السحر والشعر } و{ حضارة الشاعر الشخصية } فقد حوربت مجموعاته التي كان يقدمها للنشر دائماً وبحكم معرفتي الشخصية به فقد اطلعت على أعمال وكتب شعرية له مازالت تنام في أدراج مكتبته ، لكنه أفلح طوال سنوات الثمانينات في أن يصدر 4 مجموعات هي { يقظة دلمون ، و نشيد اسرا فيل ، و خزائيل ، و عكاز رامبو } ويالأحلام خزعل المهووس بالحضارات القديمة ورموزها وثقافاتها أمام عنف وقسوة الواقع المهووس أيضاً بالايديولوجيا الزائلة والحروب العبثية التي لا طائل من ورائها ، ولما لم يجد متنفساً لهذه الأحلام الشعرية أكمل في النصف الأول من التسعينات دراسته في جامعة بغداد وحصل على شهادة الدكتوراه في موضوع { الحضارة السومرية } أنجز وأصدر بعدها أكثر من عشرين كتاباً في هذا المجال ، تناولت السحر والدين والشعر والأسطورة والطب ومازال يكتب الشعر ويقرأه في جلسة هنا وجلسة هناك ، أما زاهر الجيزاني الأكثر ولعاً من الجميع في الكتابة عن { تفجير اللغة } فقد بدأ ظهوره ادونيسياً خالصاً عبر مجموعته الأولى { تعالي نذهب الى البرية } الصادرة عام 1979 وأعقبها بمجموعة أخرى عام 1981 تنتمي الى نفس المناخ الادونيسي مع تأكيدها على الغنائية حملت عنوان { من أجل توضيح التباس القصد } وراح بعدها يجاهد في ترسيخ مصطلح { تفجير اللغة } غير مكترث لقرار مجلس قيادة الثورة الشهير{ بقانون حماية اللغة العربية } حيث جر على نفسه لعنات وشتائم النقاد والشعراء الأقدم منه ظهوراً ، واشتدت هذه اللعنة عندما أعد وكتب مقدمة انطولوجيا { الموجة الجديدة } بالاشتراك مع سلام كاظم التي ضمت مختارات لأكثر من خمسين شاعراً من شعراء الكتابة الجديدة وصدرت عام 1986 عن [ دار الشؤون الثقافية العامة ] بعد هذه المجموعة بدأ الجيزاني يتخلى عن الحلم الأدونيسي في تفجير اللغة وتنظيراته في مجلة { الأقلام } عن الغنائية وعودتها بقوة مع شعراء السبعينات ليعود بعد أن أصدر عام 1989 مجموعته الرابعة { الأب في مسائه الشخصي } وهي خليط من النثر والشعر ، تبقى في رأيي أبرز ما صدر له حتى الآن ، الى مهاجمة ادونيس عبر مقال نشره في أحد أعداد مجلة { الأقلام } تحت عنوان { قصيدة ادونيس الجديدة ، قصيدة تجاعيد } وهو عن قصيدة ادونيس { شهوة تتقدم في خرائط …..} ومن هنا بدأ تخليه مرة أخرى عن مشروعه القديم ليكتب بعد خروجه من العراق كتاباً احتفالياً عن عبد الوهاب البياتي تحت عنوان { الحداثة والشعرية ـ البياتي في مرآة الشرق } ويؤكد فيه أن البياتي أهم من السياب وأدونيس شعرياً ، أعقبه بكتاب آخر عن المعارضة العراقية ومشاكل العراق ليصمت بعدما تخلى عن كل الأحلام الشعرية وما صاحبها من جهد وصخب طوال سنوات الثمانينات ، أما الصامت الأكبر سلام كاظم وهو من البارزين في هذا الجيل فقد رفض نشر كل ما كتبه بعد صدور مجموعته الأولى التي تنبأ فيها بما سيحدث في العراق من دخان ومذابح وطغيان ، باستثناء ثلاث قصائد نشرها تحت الحاحنا الدائم هي { الملوك العزل } في مجلة الأقلام و{ ربيع سماء قلقة } في مجلة الطليعة الأدبية و{ الشرق } في مجلة ألف باء وذهبت سدى جميع الاغراءات والدعوات في التأثير على موقفه الرافض هذا .
6
نشرت مجلة { الوطن العربي } التي تصدر من باريس في منتصف الثمانينات حوارات مطولة وقصائد لمجموعة من شعراء السبعينات منهم خز عل الماجدي وزاهر الجيزاني وسلام كاظم وفاروق يوسف ،.تحدثوا فيها عن فهمهم للابداع في الشعر والكتابة والحساسية الجديدة وأبدوا آراء في ما يخص راهن الثقافة العراقية والعربية ومشروع قصيدة النثر التي كانت حلماً يداعب مخيلا تهم قبل أن يرسخها الشعراء الذين ظهروا من بعدهم من خلال جهود دؤوبة ومخلصة وصامتة في التجريب الذي استمر من عام 1980 وحتى عام1990 من دون أن يفلحوا في نشر نتاجهم الذي بدا غريباً آنذاك ، حتى تنبه لهم الناقد حاتم الصكر عام 1990 وكتب عنهم مقالاته { شعراء الظل } التي بين فيها مدى اخلاصهم لقضية الشعر بعيداً عن التنظير اللامجدي والادعاء بتفجير اللغة وما شابه من مصطلحات . بعد حوار{ الوطن العربي } هذا أخرج نقادنا جميع أسلحتهم الصدئة وراحوا يشحذونها بوجوه هؤلاء الشعراء وراحوا يكيلون لهم التهم ويشككون في مشروعاتهم الكتابية الجديدة ، وبلغت المهزلة ذروتها عندما تطوع الناقد يوسف نمر ذياب بكتابة ونشر مقال طويل في مجلة { ألف باء } أسماه { البيان الختامي للشعر السبعيني } جامعاً فيه خلاصة آراء الكثير من نقادنا المشوهة ضد شعراء السبعينات بعدما كانوا قد مهدوا الأرض لهم في البداية وفرشوها بالأعشاب والزهور ، وهكذا حاول هذا الناقد الهمام أن يلغي بجرة قلم جيلاً شعرياً بأكمله من الذاكرة الثقافية لعرا قنا المبتلى بسمومه وسموم من هم على شاكلته ، لمجرد أن هؤلاء الشعراء حاولوا الاعلان عن آرائهم في مجلة تصدر خارج العراق ، وبالنسبة لهؤلاء الشعراء فقد قاموا من جانبهم بالرد عليه رداً قاسياً وقد عددوا 50 نقطة وردت في البيان الموجه ضدهم ، اعتبروها لا تمت الى الابداع بصلة ونشروا معاً في نفس المجلة دفاعهم الشهير { خمسون بيضة فاسدة في سلة النقد } لكن العداء ظل مستمراً بين النقاد وبين المشروع السبعيني بعدما أحرقت الايديولوجيا وهشمت كل الأحلام التي نادى بها هؤلاء الشعراء ، حتى جاء عدي صدام حسين في عام 1993 ليرأس { التجمع الثقافي في العراق } ويطرد الجميع شعراء ونقاداً وينصب بدلاً عنهم مجموعة من الأدباء الجدد الذين راحوا يدبجون مقالات تطالب بضرورة طرد واسكات جميع { الديناصورات } من الحياة الثقافية في العراق ، والمقصود بهم تلك القلة الباقية من أدباء ومثقفي العراق ليتربع المدعو رعد بندر وهو شاعر عمودي عادي على كرسي محمد مهدي الجواهري ، رئيساً لاتحاد الأدباء في العراق بأمر من عدي ، بعدما حصل على لقب { شاعر أم المعارك } بمرسوم جمهوري نشر في الصحف العراقية ، من دون أن تصدر له مجموعة شعرية واحدة .

3 - حياتي كانت في الأرض غياباً وحضوراً تملؤه الوحشة والترحال

مختارات من عبد الوهاب البياتي { الجزء الأول }

عائشة . الحب الاعظم

1

تظهر صورة عائشة وكينونتها في مجمل أعمال البياتي على الدوام بأشكال ومظاهر مختلفة ومتباينة ، فمن المرأة الحبيبة الواقعية ، الى الاسطورية ، فالكونية ، الى المرأة الماورائية ، ولكنها لا تظهر منفصلة الواحدة عن الأخرى ، فالمرأة الواقعية التي هي من لحم ودم . تظهر على وجهها بعض العلامات التي تشير الى انتمائها الى عالم السحر ومملكة الاسطورة . ولا شك في أن رمز عائشة عند البياتي وكما جاء على لسانه ، هي { روح العالم الجديد ، والرمز الفردي والجماعي للحب } . انها امرأة تموت وتولد باستمرار وتضيء طريق العاشق / الشاعر وتغمره بموتها في الظلام والعزلة والبرد ، ثم تظهر من جديد في صور وأشكال مختلفة من التجسيد . صفصافة . فراشة . ناعورة تبكي على الفرات . حمامة . والفراشة { رمز الخلود في الطقوس الجنائزية الفرعونية } . والحمامة هي حمامة الطوفان ، وأميرة بابلية ، أو ساحرة أو عرّافة ، ثم انها تنهض دائماً مثل طائر العنقاء من بين الرماد . انها اوفيليا وشهرزاد في وقت معاً . تجسدت عدة مرات في صورة عشتار ، إلهة الحب والموت في حضارة وادي الرافدين :

{ مجنونا كنت انادي باسمك

كل المعبودات وكل زهور الغابات

وكل الربات .

2

عائشة / عشتار تمثل حضوراً دائماً . انها شيء أزلي . هل يمكن أن تكون عائشة ، فضلاً عن تشخيصها للحب . حاملة ماهية التوالد الانساني الذي يتكامل بشكل متواصل من موت الى موت ومن نهاية الى نهاية ؟

يجيب البياتي : { أن أصل عائشة يعود الى شيء واقعي . انها هي الوحدة . هي الكائن الذي تجتمع فيه الحياة والموت / الموت والبعث . لقد أصبحت عائشة كل هذه الأمور ، أي أن العناصر الأربعة تنهض فيها ، وبما أن الحياة شيء مؤجل فأن الموت مؤجل ، والبعث مؤجل ، وعائشة أيضاً مؤجلة وتظل المحبوبة المتظرة } .

{ تخفي وراء قناعها وجه الملاك

وملامح الأنثى

التي نضجت على نار القصائد

أيقظت شهواتها ريح الشمال

فتجوهرت تفاحة / خمراً

رغيفاً ساخناً

في معبد الحب المقدس

أدمنت طيب العناق

ظهرت بأحلامي ، فقلت : فراشة

رفّت بصيف طفولتي

قبل الآوان

وتقمصت كل الوجوه

وسافرت / بدمي تنام

قديسة تنسل في جوف الظلام

لتعانق الصنم المحطم

تنشب الأظفار في الحجر / الحطام

يا قوتة . فمها / تشع طرية /

نار الحقول /

ضفائر معقودة /

عينان تضطرمان من فرط الحنان

وجه وراء قناعه ، يخفي { مدائن صالح }

وحدائق الليمون في أعلى الفرات

أمضيت صيف طفولتي

فيها ، وأدركني الشتاء

وحملت في منفاي بعد رحيلها

ذهب القصائد والرماد .

قصيدة { صورة جانبية لعائشة }

3

عائشة البياتي هذه تظهر في صور كثيرة ، كانت مثل الواحد في الكل ، والكل في الواحد ، وبعد ذلك صارت تأخذ أبعاداً أخرى . بدأ يجري في عروقها دم وحياة من الماضي والحاضر والمستقبل . انها المرأة التي ماتت وسوف تولد مرة أخرى . انها الموت والحياة / المرئي واللامرئي . ومعلوم أن كلمة عائشة في اللغة العربية تعني انها : المرأة التي تعيش دائماً . التي تموت ولا تموت / التي تأتي دائماً وتذهب . عائشة هذه تجربة جاءت من الواقع لكنها أخذت أبعاداً رمزية / اسطورية / تاريخية . تظهر وتختفي / تعيش وتموت / مرئية وغير مرئية / تزوره عندما يريدها / عندما يشتاق اليها / من دون انذار ، وهو ينتظرها في كل لحظة وفي كل مكان ، ويسافر دائماً من أجلها ، حتى أن حياته أصبحت ترحالاً دائماً وهو مجنون من أجلها .

4

يعرّف البياتي الديالكتيك الوجودي للحب فيقول : { انه يتميز في استبقاء المتناقضات ويضع العاشق أمام نفس المشكلة ، بحيث يظهر انه معرض لخطر الشقاء الأبدي ، والعشق يكون التعرف عليه أيسر عندما يكون مرئياً . والوضوح العام في الحب هو السحابة المسحورة التي تظلل رأس العاشق ، فتحل فيه روح الزمن الذي يضرب بجذوره في مملكة السحر والموت والجنون ، ذلك أن حضور المتناهي فينا يثبت وجود اللامتناهي ، ونحن لا نقول فكرة اللامتناهي ، اذ لا توجد للامتناهي فكرة تمثله ، وعند حضور اللامتناهي فينا وفي هذا { البعد } و { القرب } . يثبت وجود الحب الأعظم الذي يحل في الحياة ، وينتصر على الموت ، ويحل في الأشياء فيمنحها الحياة ، لأن الكائن المتناهي -العاشق – دون حضور اللامتناهي ، لا يلبث أن يسقط ميتاً كالورقة الصفراء أو الثمرة الفجة المتعفنة . أن الكائن المتناهي ,هو في بحثه عن الله والحب . يصاب بعطب الموت ، وصيرورة الأشياء وكينونتها ، فيعبر قوس الدائرة ، أو قشرة طبقة الجليد التي تغلف حياتنا ، ليشرف منها على هياكل النور التي خرّ السهروردي المقتول ساجداً أمامها ، والمحبوبة هي وسيط وقطب ومريد الساحر والشاعر والثوري للوصول الى الضفاف الروحية التي هي قاع الابداع التاريخي } .

يبدو لي أن هذا المفهوم للحب أشمل وأعمق مما يمكن أن يطرحه الكثير من الشعراء العرب ، والاختلاف بين البياتي وبين الشعراء الآخرين كبير جداً ، لأنه لا يكتب قصيدة غزل حسب وظيفة ومفهوم الشعر العربي القديم . بل يكتب قصيدة حب خالصة ، لا قصيدة اعلانية مجانية تعدد صفات ومحاسن المرأة من خلال التغزل الفج والاشادة الكاذبة بها كجسد معروض للمتعة الرخيصة الآنية ، ويقول :

{ أن بعض الشعراء مثلاً يكتبون عن امرأة قد أحبوها وارتبطوا بها ولها اسم ومكان معين وعبروا عن حبهم هذا ، هؤلاء أسميهم شعراء البورجوازية الصغيرة ، لأنهم بهذا الشكل يحولون المرأة الى بضاعة تنتمي الى عصور الاقطاع ، فالمرأة ليست هذا الكائن الأرضي ، بل هي أكبر من هذا التحديد ، وبصفتي شاعراً فانني لا أكتب عن الجغرافيا ذات التضاريس بل أكتب عما وراء هذه الجغرافيا وتضاريسها من معان ورموز ، أي احالة ما هو واقعي الى اسطوري واحالة ما هو اسطوري الى واقعي ، لأن ذلك من مهمات الشاعر الحقيقية } .

5

يخبرنا البياتي في أحد فصول كتابه الممتع { تجربتي الشعرية } أن حبه للمرأة امتزج في طفولته وشبابه بحبه للانسانية والوطن والثورة ، حتى أصبح من المتعذر عليه أن يفصل فيما بينهم ، بل لقد كان أي فصل بمثابة جريمة قتل للآخر ، لذا فقد طال طوافه على أبواب مدينته وأبواب مدن العالم بحثاً عمن يحب ، ولكن البحث عن الحب الأعظم كلفه حياته كلها فقد بترت ومزقت أشلاء جسده وروحه ونثرت في كل زمان ومكان وها هو يحاول اليوم أن يجمع هذه الأشلاء الممزقة لكي يعود للانصهار والذوبان في روح العالم الكلية ، حتى تتم نبؤة عرّاف اليمامة ، ولكن ماذا كان ثمن هذا كله ؟

{ فعرّاف اليمامة كان قد صمت منذ أزمنة بعيدة وتحول الى شاعر وانحدر من عصر الاسطورة الى شطآن التاريخ ليبني نيسابور الجديدة على الأرض ، وأن رمز الحب الأزلي الواحد الذي ينبعث فيضيء ما لايتناهى من صور الوجود والذات الواحدة التي تظهر فيما لايتناهى من التعيينات في كل آنٍ ، وهي باقية على الدوام على ما هي عليه . قد اتحد كل منها بالآخر وأصبحا في نهاية الأمر العرّاف / الشاعر . ولكن مجنون عائشة الاسطورية والتاريخية الذي ظل مسافراً وظلت عائشة تنتظره في كل زمان ومكان ، كان قد مات وعاد الى الظهور ثانية لأن السفر موت / وولادة / وبعث بدون عائشة ليزور أضرحة الأولياء ويطوف حولها بحثاً عن النور .

والبياتي مثله مثل الكثيرين من الشعراء والمفكرين يبحث عن الحب في عالم مليء بالآلام والفجائع والفشل . وعالم الاسطورة هنا عالم غني ومعبر ، والبياتي يهبط الى أعماقه ليغرف بوعي خلاق وثقافة كوزموبوليتية ورؤية شعرية عميقة ، من لآلئه ودرره فتمر من بين يديه لتتحول الى جواهر نادرة وأصيلة * } .

* د وليد غائب صالح { عبد الوهاب البياتي من باب الشيخ الى قرطبة } بيروت 1995 ص 18



المختارات



أولد واحترق بحبي


{ 1 }

تستيقظ ( لارا ) في ذاكرتي : قطًّا تتريًّا , يتربص بي , يتمطَّى , يتثاءب
يخدش وجهي المحموم ويحرمني النوم . أراها في قاع جحيم المدن
القطبية تشنقني بضفائرها وتعلقني مثل الأرنب فوق الحائط مشدودًا في خيط دموعي .
أصرخ : ( لارا ) فتجيب الريح المذعورة : ( لارا ) أعدو خلف الريح وخلف
قطارات الليل وأسأل عاملة المقهى . لا يدري أحد . أمضى تحت الثلج
وحيدًا , أبكي حبي العاثر في كل مقاهي العالم والحانات .

{ 2 }

في لوحات ( اللوفر ) والأيقوناتْ
في أحزان عيون الملكات
في سحر المعبودات
كانت ( لارا ) تثوي تحت قناع الموت الذهبي وتحت شعاع النور الغارق في اللوحات
تدعوني , فأقرب وجهي منها , محمومًا أبكي
لكن يدًا تمتد , فتمسح كل اللوحات وتخفي كل الأيقونات
تاركة فوق قناع الموت الذهبي بصيصًا من نورٍ لنهارٍ مات .

{ 3 }

( لارا رحلتْ )
( لارا انتحرت )
قال البوَّاب وقالت جارتها , وانخرطت ببكاءٍ حارْ
قالت أخرى : ( لا يدري أحد , حتى الشيطان ) .

{ 4 }

أرمي قنبلة تحت قطار الليل المشحون بأوراق خريف
في ذاكرتي , أزحف بين الموتى , أتلمس دربي في
أوحال حقولٍ لم تحرث , أستنجد بالحرس الليلى
لأوقف في ذاكرتي هذا الحب المفترس الأعمى , هذا
النور الأسود , محمومًا تحت المطر المتساقط
أطلق في الفجر على نفسي النارْ .

{ 5 }

منفيًّا في ذاكرتي
محبوسًا في الكلماتْ
أشرد تحت الأمطارْ أصرخ : ( لارا )
أصرخ : ( لارا )
فتجيب الريح المذعورة : ( لارا ) .

{ 6 }

في قصر الحمراء
في غرفات حريم الملك الشقراوات
أسمع عودًا شرقيًّا وبكاء غزال
أدنو مبهورًا من هالات الحرف العربي المضفور بآلاف الأزهار
أسمع آهات
كانت (لارا) تحت الأقمار السبعة والنور الوهاج
تدعوني فأقرب وجهي منها , محمومًا أبكي ,
لكن يدًا تمتد , فتقذفني في بئر الظلماتْ
تاركة فوق السجادة قيثاري وبصيصًا من نور لنهارٍ ماتْ .

{ 7 }

( لم تترك عنوانًا ) قال مدير المسرح وهو يَمُطُّ الكلمات .

{ 8 }

تسقط في غابات البحر الأسود أوراق الأشجارْ
تنطفئ الأضواء ويرتحل العشاق
وأظل أنا وحدي , أبحث عنها , محمومًا أبكي تحت الأمطار .

{ 9 }

أصرخ : ( لارا ) فتجيب الريح المذعورة : ( لارا ) في كوخ الصياد .

{ 10 }

أرسم صورتها فوق الثلج , فيشتعل اللون الأخضر في عينيها والعسليُّ
الداكن , يدنو فمها الكرزيُّ الدافئُ من وجهي, تلتحم الأيدي بعناق
أبدي , لكن يدًا تمتدُّ , فتمسح صورتها , تاركة فوق اللون المقتول
بصيصًا من نورٍ لنهارٍ ماتْ .

{ 11 }

شمس حياتي غابت . لا يدري أحد . الحب وجود أعمى ووحيد ما من .
أحدٍ يعرف في هذا المنفى أحدًا . الكل وحيدٌ . قلب العالم من حجرٍ في هذا المنفى – الملكوتْ .

قمر شيراز

1

أجرح قلبي ، أسقي من دمه شعري . تتألق جوهرة في قاع

النهر الانساني . تطير فراشات حمر . تولد من شعري

امرأة حاملة قمراً شيرازياً في سنبلة من ذهب مضفوراً ،

يتوهج في عينيها عسل الغابات وحزن النار الأبدية . تنبت

أجنحة في الليل لها فتطير ، لتوقظ شمساً نائمة في حبات

العرق المتلألئ فوق جبين العاشق ، في حزن الألوان

المخبوءة في اللوحات . امرأة حاملة قمراً شيرازياً ،

في الليل تطير ، تحاصر نومي ، تجرح قلبي ، تسقي من دمه

شعري . أتعبد فيها ، فأرى مدناً غارقة في قاع النهر النابع

من عينيها . يتوهج سحر عسلي يقتل من يدنو أو يرنو أو

يسبح ضد التيار . أرى كل نساء العالم في واحدة تولد من

شعري . أتملكها . أسكن فيها . أعبدها . أصرخ في وجه

الليل ولكن جناحي يتكسر فوق الألوان المخبوءة في اللوحات .

2

مجنوناً بالنهر النابع من عينيها

بالعسل الناري المتوهج في نهر النار

أسبح ضد التيار .

3

أكتب تاريخ الأنهار

أبدؤه بطيور الحب وبالنهر الذهبي الأشجار .

4

بدمي يغتسل العشاق

وبشعري يبني الغرباء

في المنفى شيراز .

5

أتملكها . أسكن فيها

أعبدها

وأرسم في ريشتها مدناً فاضلة يتعبد فيها الشعراء .

6

مجنوناً بالنهر النابع من عينيها

بالسيل الجامح والفيضان

باللهب المفترس الجوعان

أسبح من غير وصول للشاطئ . أغرق سكران .

7

أفرد أجنحتي وأطير اليها في منتصف الليل ، أراها نائمة

تحلم بالقمر الشيرازي الأخضر فوق البوابات الحجرية

يبكي . يتدلى من أغصان حديقتها ويظل وحيداً يتعبد فيها .

ما كان يكون . حياتي كانت في الأرض غياباً وحضوراً تملؤه

الوحشة والترحال وأشباح الموتى . كوني أيتها المشربة الوجنة

بالتوت الأحمر والورد الجبلي الأبيض . زادي في هذي

الرحلة . كوني آخر منفى . وطن أعبده . أسكن فيه وأموت .

8

قولي للحب نعم أو قولي لا .

9

قولي ارحل فسأرحل في الحال

قولي أهواك

أو قولي لا أهواك .

10

قنديلا ذهب عيناك

ويداك شراعان .

11



أخفي فاجعة تحت قناع الكلمات . أقول لجرحي

لا تبرأ ولحزني لا تبرد وأقول اغتسلوا بدمي

للعشاق .

12

تلتهم النار النار وتخبو أحزان العشاق الرحّل في صحراء

الحب وتبقى شيراز ونبقى نرحل في الليل اليها

محترقين بنار الحزن الأبدية . تنبت أجنحة في الفجر لنا

فنطير ، ولكننا قبل وصول الركب اليها . نتملكها . نسكن

فيها ، ونعود .

13

وجدوني عند ينابيع النور قتيلاً ، وفمي بالتوت الأحمر والورد

الجبلي الأبيض مصبوغاً وجناحي مغروساً في النور .



حب تحت المطر


1

{ واترلو } كان البدء ، وكل جسور العالم كانت تمتد

لواترلو ، لتعانقه ، لترى مغتربين التقيا تحت عمود النور

ابتسما ، وقفا وأشارا لوميض البرق وقصف السحب

الرعدية . عادا ينتظران . ابتسما . قالت عيناها { من

أنت ؟ } أجاب : { أنا . لا أدري } وبكى . اقتربت منه

وضعت يدها في يده . سارا تحت المطر المتساقط ، حتى

الفجر ، وكانت كالطفل تغني . تقفز من فوق البرك المائية

تعدو هاربة وتعود . شوارع لندن كانت تتنهد في عمق

والفجر على الأرصفة المبتلة في عينيها ، يتخفى في أوراق

الأشجار ؟ أجاب { أنا . لا أدري } وبكى . قالت :

{ سأراك غداً } عانقها . قبّل عينيها تحت المطر المتساقط .

كانت كجليد الليل تذوب حناناً تحت القبلات .



2



عانقها ثانية وافترقا تحت سماء الفجر العارية السوداء .



3



كانت تبكي في داخله سنوات طفولته الضائعة العجفاء .



4



كان يراها في الحلم كثيرا منذ سنين . كانت صورتها تهرب

منه اذا ما استيقظ أو ناداها في الحلم ، وكان بحمى العاشق

يبحث عنها في كل مكان . كان يراها في كل عيون نساء

المدن الأرضية ، بالأزهار مغطاة وبأوراق الليمون الضارب

للحمرة ، تعدو حافية تحت الأمطار . تشير اليه : { تعال ورائي }

يركض مجنوناً . يبكي سنوات المنفى وعذاب البحث

الخائب عنها والترحال .



5



كانت تنشب في داخله معركة بين المعبودات :

واحدة ماتت قبل الحب وأخرى بعد الحب وأخرى في

المابين وأخرى تحت الأنقاض .



6



ثورة موتي كانت زلزال .



7



و { تعال ورائي } ظلت في لحم السنوات العاري

ودم الحب المغتال

جرحاً لا يشفى وحنيناً قتّال .



8



كان يراها في كل الأسفار

في كل المدن الأرضية بين الناس

ويناديها في كل الأسماء .



9



كانت تتخفى في أوراق الليمون وأزهار التفاح .



10



{ واترلو } كان البدء وكل جسور العالم كانت تمتد لواترلو

تسعى للقاء الغرباء .



11



تحت عمود النور التقيا . ابتسما . وقفا وأشارا

لوميض البرق وقصف السحب الرعدية . كانا يعتنقان .



12



كان يمارس سحراً أسود في داخله : { تأتي أو لا تأتي ؟ من

يدري ؟ } مجنوناً كان .



13



كانت في يده دمية شمع يغرز فيها دبوساً من نار

{ حبيني } قال لها ، واتقدت عيناه

بشرارة حزن تصعد من قلب المأساة .



14



شاحبة كالوردة تحت عمود النور رآها . جاءت قبل

الموعد . كانت في معطفها المطري الأزرق ، قبّلها من

فمها . سارا . قالت : { فلنسرع } ضحكا . دخلا باراً

طلبا كأسين . اقتربت منه ، وضعت يدها في يده . قالت

عيناه لها { حبيني } غرقا في حلم ، فرآها ورأته في

أرض أخرى تحرقها شمس الصحراء . ابتسما . عادا من

أرض الحلم . أراها صورته بلباس البدو الرحّل . قالت :

{ من أنت ؟ }

أجاب { أنا . لا أدري } وبكى . كانت صحراء حمراء

تمتد وتمتد الى ما شاء الله

لتغطي خارطة الأشياء .



15



عانقها . قبّل عينيها . لندن كانت تتنهد في عمق

والفجر على الأرصفة المبتلة في عينيها يتخفى في أوراق

الأشجار .



16



{ عائشة اسمي } قالت : { وأبي ملكاً اسطورياً كان

يحكم مملكة دمرها زلزال في الألف الثالث قبل الميلاد } .




الموت والقنديل



( 1 )

صيحاتك كانت فأس الحطاب الموغل في
غابات اللغة العذراء , وكانت ملكًا أسطوريًّا
يحكم في مملكة العقل الباطن والأصقاع
الوثنية حيث الموسيقى والسحر الأسود
والجنس وحيث الثورة والموت . قناع الملك
الأسطوري الممتقع الوجه وراء زجاج نوافذ
قصر الصيف وكانت عربات الحرب
الآشورية تحت الأبراج المحروقة كانت
صيحاتك صوت نبيٍّ يبكي تحت الأسوار
المهدومة شعبًا مستلبًا مهزومًا كانت برقًا
أحمر في مدن العشق أضاء تماثيل الربات .
وقاع الآبار المهجورة كانت صيحاتك
صيحاتي وأنا أتسلق أسوار المدن الأرضية
أرحل تحت الثلج أواصل موتي (...) حيث
الموسيقى والثورة والحب وحيث الله .

( 2 )

لغة الأسطورةْ
تسكن في فأس الحطاب الموغل في غابات اللغة العذراء
فلماذا رحل الملك الأسطوريُّ الحطَّابْ ?

( 3 )

مات مغني الأزهار البريةِ
مات مغني النار
مات مغني عربات الحرب الآشورية تحت الأسوار .

( 4 )

صيحاتك كانت صيحاتي
فلماذا نتبارى في هذا المضمار ?
فسباق البشر الفانين , هنا , أتعبني
وصراع الأقدار .

( 5 )

كان الروم أمامي وسوى الروم ورائي ,
وأنا كنتُ أميل على سيفي منتحرًا تحت الثلج ,
وقبل أفول النجم القطبيِّ وراء الأبراجْ
فلماذا سيف الدولة ولَّى الأدبارْ ?

( 6 )

ها أنذا عارٍ عُري سماء الصحراءِ
حزينٌ حزنَ حصانٍ غجريٍّ
مسكونٌ بالنارْ .

( 7 )

وطني المنفى
منفايَ الكلماتْ .

( 8 )

صار وجودي شكلاً
والشكل وجودًا في اللغة العذراءْ .

( 9 )
لغتي صارت قنديلاً في باب الله .

( 10 )


أرحل تحت الثلج , أواصل موتي في الأصقاعْ .


( 11 )

أيتها الأشجار القطبية , يا صوت نبي يبكي , يا رعدًا
في الزمن الأرضيِّ المتفجر حبّا , يا نار الإبداع .
لماذا رحل الملك الأسطوريُّ الحطاب ليترك هذي
الغابات طعامًا للنار ? لماذا ترك الشعراء
خنادقهم ? ولماذا سيف الدولة ولَّى الأدبار ? الروم
أمامي كانوا وسوى الروم ورائي وأنا كنت أميل
على سيفي منتحرًا تحت الثلج وقبل أفول النجمِ
القطبيِّ وراء الأبراج . صرختُ : تعالوا !
لغتي صارت قنديلاً في باب الله , حياتي
فرت من بين يدي , صارت شكلاً والشكلُ
وجودًا . فخذوا تاج الشوك وسيفي
وخذوا راحلتي
قطراتِ المطر العالق في شَعْرِي
زهرةَ عباد الشمس الواضعةَ الخد على خدي
تذكارات طفولة حبي
كتبي , موتي
فسيبقى صوتي
قنديلاً في باب الله .




الموت في غرناطة



عائشةٌ تشقٌّ بطنَ الحوت
ترفع في الموج يديها
تفتح التابوت
تُزيح عن جبينها النقاب
تجتاز ألف باب
تنهض بعد الموت
عائدةً للبيت
ها أنذا أسمعها تقول لي لبَّيكْ
جاريةً أعود من مملكتي إليك
وعندما قبَّلتها بكيتْ
شعرت بالهزيمة
أمام هذي الزهرة اليتيمة
الحبُ , يا مليكتي , مغامرة
يخسر فيها رأسَهُ المهزوم
بكيتُ , فالنجومْ
غابتْ , وعدتُ خاسرًا مهزوم
أُسائلُ الأطلالَ والرسوم
عائشةٌ عادت , ولكني وُضعتُ , وأنا أموت
في ذلك التابوت .
تَبادَلَ النهران
مجريهما , واحترقا تحت سماء الصيف في القيعان
وتركا جرحًا على شجيرة الرمان
وطائرًا ظمآن
ينوح في البستان
آه جناحي كسرته الريح
وصاح في غرناطة
معلم الصبيان
لوركا يموتُ , ماتْ
أعدمه الفاشست في الليل على الفرات
ومزقوا جثته , وسملوا العينين
لوركا بلا يدين
يبثّ نجواه الى العنقاء
والنورِ والتراب والهواء
وقطراتِ الماء
أيتها العذراء
ها أنذا انتهيتْ
مقدَّسٌ , باسمك , هذا الموت
وصمت هذا البيت
ها أنذا صلَّيت
لعودة الغائب من منفاه
لنور هذا العالم الأبيض , للموت الذي أراه
يفتح قبر عائشة
يُزيح عن جبينها النقاب
يجتاز ألف باب
آه جناحي كسرته الريح
من قاع نهر الموت , يا مليكتي , أصيح
جَفّتْ جذوري , قَطَعَ الحطّاب
رأسي وما استجاب
لهذه الصلاة
أرضٌ تدور في الفراغ ودمٌ يُراقْ
وَيحْي على العراق
تحت سماء صيفه الحمراء
من قبل ألفِ سنةٍ يرتفع البكاء
حزنًا على شهيد كربلاء
ولم يزل على الفرات دمه المُراق
يصبغ وجهَ الماء والنخيل في المساء
آه جناحي كسرته الريح
من قاع نهر الموت , يا مليكتي , أصيح
من ظلمة الضريح
أمدُّ للنهر يدي , فَتُمسك السراب
يدي على التراب
يا عالمًا يحكمه الذئاب
ليس لنا فيه سوى حقّ عبور هذه الجسور
نأتي ونمضي حاملين الفقر للقبور
يا صرخات النور
ها أنذا محاصرٌ مهجور
ها أنذا أموت
في ظلمة التابوت
يأكل لحمي ثعلب المقابر
تطعنني الخناجر
من بلد لبلد مهاجر
على جناح طائر
- أيتها العذراء
والنور والتراب والهواء
وقطرات الماء
ها أنذا انتهيت
مقدّسٌ , باسمك , هذا الموت .

القصيدة الاغريقية


1

قالت : ما أقسى ، حين يغيب النجم ، عذاب العاشق أو
حين يموت البحر . انتظريني – قال المجنون- وظلي ميتة
بين الموتى واقتربي من ضوء الشمعة ، أن الله يرانا ويرى
وجهي الخائف مقترباً من وجهك محموماً تحت نقاب
الدمع . اقتربي ، فدموعك على شفتي ملح البحر وطعم
رغيف الخبز : انتظريني ، قال المجنون .

2

كانت أغصان السرو وأشجار الدفلى تخفي عني مدناً
ونجوماً ، تسبح في عطر بنفسج ليل يصعد من أغوار القلب
الانساني ، وكانت امرأة عارية فوق حصان تضحك في
العاصفة . انتظريني ، لكن البحر الميت غطاها بالاعشاب
وبالزبد المتطاير في الريح . اقتربي : ناداها ، لكن صهيل
حصان البحر الاسطوري تمزق فوق صخور الشاطئ ،
وانطلقت بضفائرها الذهبية ، تعدو آلهة الشعر
المجنون الى { دلفي } تبكي أقدار الشعراء .

3

كانت في الفجر تمشط شعر الأمواج
وتداعب أوتار القيثار .

4

كانت بضفائرها الذهبية ترقص عارية تحت الأمطار .

5

دهمتني ، وأنا في منتصف الدرب الى { دلفي }
صاعقة خضراء .

6

كنا أربعة : أنا والموسيقي الأعمى
ودليلي
ومغني آلهة { الأولمب الحكماء } .

7

حملتني في البحر { الايجي } الى { دلفي } أشرعة الفجر
البيضاء .

8

وضعوني في باب المعبد أخرس مشلولاً
وضعوا فوق جبيني زهرة عباد الشمس
وغطوني برداء .

9

قالوا : انطق باسم الحب
وباسم الله
وتكلم واقرأ هذا اللوح المحفوظ وراء المحراب .

10

شقّ ملاك صدري
أخرج من قلبي حبة مسك سوداء .

11

قال : اقرأ ، فقرأت وصايا آلهة الشعر المكتوب على الألواح
صعدت كلماتي من بئر شقاء العشاق الشهداء .

12

كانت تستلقي بضفائرها الذهبية عارية فوق رمال الشاطئ
تبكي عند مغيب النجم حصان البحر الاسطوري وترسم
في الأفق دوائر حمراء وتهمس للريح : اشتعلي يا نار
الحب ، وكوني شارة هذا الليل الأبدي القادم من أطلال
المدن الاغريقية ، كوني مغزل نار قميص الفجر الشاحب .
كوني مفتاح الباب المغلق واشتعلي حباً يا قطرات المطر
المتساقط في كل الغابات .
كانت ترسم فوق الرمل عيوناً وشفاه
ويداً تستجدي قطرات المطر الخضراء
قالت : فلنرحل ، قال المجنون : انتظري ، ظلي ميتة بين
الموتى ، واقتربي من ضوء الشمعة . ان الله يرانا ويرى
وجهي الخائف مقترباً من وجهك محموماً تحت نقاب
الدمع . انتظري : قال المجنون .

13

منحتني آلهة الشعر الصافي
وأنا في درب العودة من { دلفي }
البركات
وسلاح الكلمات .


4 - { ما عادت بغداد إلاّ مقبرة لأحبته وقصيدة حب ضاع }

مختارات من عبد الوهاب البياتي { الجزء الثاني }



في رسالة بعثتها الى الصديق الشاعر والناقد أسامة العقيلي المشرف على موقع { عراق الكلمة } قبل أيام ، أخبرته أنني أود أن أضع في شبكة الانترنت كمية معقولة من قصائد الشاعر المرحوم عبد الوهاب البياتي في مناسبة رحيله السادسة التي مرّت يوم 6 / 7 أي قبل يومين من الآن . وشرحت له الغاية من عملي حيث أخبرته أن كل ما للبياتي من قصائد في شبكة الانترنت لا يتعدى حدود قصائد { كتاب في جريدة } 14 قصيدة ، ومجموعة قليلة من القصائد متفرقة هنا وهناك . ما يدفعني الى هذا العمل هو انني أعرف بأسى ولوعة أن لا اجماع عندنا على شاعر عراقي باستثناء السياب . ما أن رحل البياتي عن هذه الدنيا الفانية حتى راحت السهام تنطلق صوبه قبل أن توارى جثته الثرى ، وأغلب هذه السهام أطلقها شعراء وأدباء حزبنا الشيوعي العراقي الذي هو أول من رسّخ الطائفية الثقافية في العراق كما هو معروف منذ سنوات { الجبهة الوطنية والقومية التقدمية } المزعومة حين بدأوا هم وحليفهم حزب البعث في تقسيم الأدب والثقافة في العراق عبر تأسيسهم للصحف والمجلات ودور النشر الحزبية والعقائدية الخاصة بكل حزب على حدة . هؤلاء يعتقدون حسب فهمهم الآيديولوجي القاصر والطائفي للثقافة والابداع أن كل أطياف الثقافية العراقية يجب أن تكون شيوعية خالصة ، وكان شعراء وأدباء حزب البعث بسبب فهمهم الآيديولوجي القاصر والطائفي للابداع أيضاً يريدون أن تكون الثقافة والابداع في العراق بعثية خالصة تخدم توجهات وأفكار حزبهم الشوفيني الذي أوصل العراق الى ما هو عليه الآن . والآن بعد انقراض { الجبهة الوطنية والقومية التقدمية } في عام 1978 ومحو أرض العراق من نتاجات الشعراء والكتّاب الشيوعيين عبر المنع والمصادرة والتعتيم من قبل سلطة نظام صدام حسين ، جاء النظام الجديد الآن بعد زوال الديكتاتورية ليصنف الأدباء والشعراء العراقيين حسب موقفهم من الاحتلال الأمريكي للعراق . يحاول الآن أن يرسخ خطابه الطائفي أيضاً عبر مهرجانات الشعر الشعبي والشعر العمودي والصحافة والمسرح ، ولا يغيب عن بالنا تلك الفعالية الدينية التي أقامها اتحاد الأدباء والكتَاب في العراق وكرسها لذكرى فاجعة الامام الحسين . أليس من الأجدى أن تقام هذه الفعالية الدينية في جمعية أو اتحاد غير أتحاد أدباء العراق الذي يضم خليطاً من الأديان والمذاهب والقوميات ؟

يتبرع رئيس الجمهورية جلال الطالباني وصاحب دار { المدى } للنشر فخري كريم زنكَنة لشاعر من الجزائر بمبلغ كبير جداً من المال ويتم توظيفه مراسلاً لصحيفة { المدى } العراقية في الجزائر ، ولا يتم اصدار مجموعة شعرية عن دار { المدى } لشاعر عراقي مثل المرحوم كمال سبتي . أمضى سنوات طويلة من عمره في المنافي هارباً ومحارباً لسلطة صدام حسين ، لكن كمال سبتي عاش ومات في منفاه وحيداً ، وكان عراقياً خالصاً وديمقراطياً مستقلاً .



المختارات { الجزء الثاني }


سأبوح بحبكِ للريح وللأشجار


{ 1 }

تقبع في غرفتك الآن وحيداً . تنهال التذكارات ، فها هي

ذي الدنيا ، جسد امرأة تتأوه تحتك ، مغمضة عينيها .

يسقط ثلج أسود فوق الخدين ، فتبكي في صمت ، فسنابل

قمح الجسد العاري ، تكسرها ريح مغيب يتوغل في مدن

لم تولد . من أي السنوات الضوئية يأتي هذا الضيف

الحجري بسلة أثمار الصيف ، فتبكي في صمت ؟ من أي

نهار ينبثق الفرح الباكي ويموت ، ليترك فوق الأوراق نجوماً

وعصافير

والى أين تسير

هذي الدنيا بعباءتها في الريح ؟

امرأة حبلى في الشهر التاسع قرب البحر تصيح

تتشهى القمر الليموني النائم فوق سطوح الريف .

{ 2 }

يا امرأة الهملايا وسفوح الأنديز

نامي في قاع محيط الروح

حتى ينفجر البركان ويعوي كلب الرؤيا المسعور .

{ 3 }

ربات الأقدار

يرقصن على موسيقى الجاز

في صالى رقص الأمطار .

{ 4 }

ها أنت تشد الأوتار وتبكي في أعقاب طقوس الاخصاب

لبذور الخلق الأولى ، تحت رماد الأحقاب .

{ 5 }

عاصفة تقتلع الأبواب

تلقي بخريطة هذي الدنيا فوق الأرض وتطفئ ضوء

المصباح .

{ 6 }

ها أنت تواجه نفسك في المرآة

بقميصك نار تشتعل الآن .

{ 7 }

يتوغل في قلبك حزن الليل الاسباني وثلج الغابات

الروسية . تسقط من فوق الكرسي مريضاً . تأكلك الحمّى .

تصرخ ، لكن الصرخات تضيع هباء . النجدة ، انسان

يحترق الآن وحيداً في غرفته . يتشبث بالحبر وبالأوراق .

بخارى بمآذنها الزرقاء تصلي للأنهار الوحشية في أعماق

الليل وتتلو آيات زرادشت الأشجار . ربيع شعوب يولد من

حبات القمح ومن صلوات الريح ، وأنت تصلي للعشب

المأخوذ العاري من حد الماء الى حد الماء .

ترسم خارطة لعيون المعبودات وربات الأقدار .

تسقط من فوق الكرسي مريضاً فوق الخارطة البيضاء .

{ 8 }

يا امرأة الهملايا وسفوح الأنديز ، لماذا فوق سرير الأمطار

تنام جبال الفيروز ؟

{ 9 }

يموت الشاعر منفياً أو منتحراً أو مجنوناًُ أو عبداً أو خدّاماً في

هذي البقع السوداء وفي تلك الأقفاص الذهبية ، حيث

الشعب المأخوذ العاري من حد الماء الى حد الماء يموت

ببطء ، تحت سياط الارهاب ، وحيداً ، معزولاً ، منبوذاً

محروماً قرب الأقفاص .

{ 10 }

يا امرأة ستكون

سأبوح بحبكِ للريح وللأشجار

وأعيد كتابة تاريخك فوق الخارطة البيضاء .



أحمل موتي وأرحل


{ 1 }

ناديت غزالة حبي في الصحراء الليبية – في العهد الملكي

البائد – كان البوليس ورائي – فاجأني البحر الأبيض بالجزر

المخبوءة تحت لسان عروس الماء وتحت عيون الاسطول

السادس – كنت وحيداً – كان البوليس ورائي – والليل

الملكيُّ – ولارا تسبح في البحر الأسود – في سوجي –

وخزامى في إربد – في ضوء بنادق حرب التحرير الشعبية

للأرض الحبلى بالثورة ترنو وتصلي – فاجأني البحر

الأبيض – كنت وحيداً – أبحث في الصحراء الليبية عن مفتاح

المدن المنسية في خارطة الدنيا – لارا تنشر في الريح

ضفائرها – ترقص في الغابات الوثنية – تمضي عائدة للفندق

بعد عناق البحر – وفي منتصف الليل عشيق آخر ينسل

اليها

ويعريها

ويقِّبل عينيها

ويقبِّل نهديها

ويقول لها نفس الكلمات

وتقول له نفس الكلمات

{ أحبك }

لارا – هي والآخر

كانت تبكي ، فالبحر سيأخذ منها الآخر

كانت تبكي ويدي تمتد اليها ويد الآخر

وفمي في فمها وفم الآخر

ودمي ودم الآخر

وحياتي وحياة الآخر

كنت وحيداً – يا حبي المدفون بقاع البحر الأسود

يا شمس ربيعي في الغابات الوثنية – يا حبي

كان البوليس ورائي – في الصحراء الليبية –

في العهد الملكيّ البائد – في قاع الدنيا

فاجأني البحر الأبيض .

{ 2 }

يحمل العاشق في غربته

موته ، تاريخه ، عنوانه

وعذاباً كامناً في دمه

وحضوراً أبدياً كانه .

{ 3 }

يتفرق الأحباب قبل صياح ديك الفجر

في المدن الكبيرة يرحلون ويتركون

ما تترك العربات فوق الثلج : ها هي ذي السماء

زرقاء من بعد الرحيل

والشمس تشرق من جديد فوق أشجار الحدائق والبيوت .

{ 4 }

{ لارا } و { خزامى }

في صحراء الليل الوثنية أشعلتا النار .

{ 5 }

{ لارا } رحلت بعد رحيلي

ضاعت في زحمة هذا العالم

في غابات البحر الأسود والأورال

عادت للأرض المسحورة تذرعها

في قداس رحيل الأمطار

و { خزامى } نذرت للبحر ضفائرها

ولنجم الميلاد

وأنا حطمت حياتي

في كل منافي العالم

بحثاً عن لارا وخزامى

وعبدت النار

مارست السحر الأسود في مدن ماتت

قبل التاريخ وقبل الطوفان

واستبدلت قناعي بقناع الشيطان

ظهرت لي لارا وخزامى في موسيقى الأشعار

في حرف السين وحرف الهاء وحرف التاء .

{ 6 }

برحيلي رحلت كل الأشياء .



سأنصب لكِ خيمة في الحدائق الطاغورية



غزالة تأتي من البحر

وزهرة تطلع من صدري

وساحر يحمل في كفه

صاعقة الميلاد والموت

وخلف سور الليل صفصافة

يغسل عينيها ندى الفجر

تنشر في الليل مناديلها

وتغمس الأوراق في النهر

تأوي العصافير اليها وفي

غيابها تنام في قلبي

حاملة بذور أحلامها

وصبوات النور والزهر

وكلمات لم نقلها ولم

تُبح بها غزالة البحر

اغتصب العالم فيها وفي

حروفها أموت في الأسر

مرتدياً أكفان كينونتي

وغسق الميلاد في القبر

وحاملاً للنور قيثارتي

وصاعداً اليك من بئري

أقرأ في نجم الضحى طالع ال

غابات والسحاب والطير

محترقاً منتظراً عائداً

اليك من مملكة السحر

مقبِّلاً وجهكِ في سحره ال

غارق في ارتعاشة الثغر

مطارداً ، مطارداً يحتمي

بالأرنب المذعور في الصدر

ينشر في رحيله خصلة

من ليلك النائم في الشعر

يصرخ جوعي ودمي ضارعاً

وكل ما في جسد الأرض

صار فمي الى الليل وال

غابات والأنهار والصخر

حتى كأن الأرض من جوعها

مدّت فماً اليك تستجدي

حاملة اليك ياقوتها

وخاتم { اللبيك } والورد

نذراً وقرباناً وتعويذة

مسكونة بالبرق والرعد

حتى اذا ما اقتربت لحظة ال

عناق في مملكة السحر

وسجد الساحر في بيتك ال

مصنوع من قصائد الشعر

واقتربت يداه من وردة ال

ثغر ومن تميمة النهد

ومسّه النور بأقداسه

وباح للعاشق بالسر

وصاح فوق الطور مستنجداً

غزالة عدت الى البحر

ونجمة في قاع نهر الى

بلادها تعود في الفجر

تاركة بذور كينونتي

وجسدي الميت في الأرض

ممزقاً محترقاً دامياً

تحت سياط الجوع والخوف

أحمله كل مساء الى

عرّافة المعبد في { دلفي }

أسألها عنك وعن نجمة ال

صباح في مدائن الموت

تجيب والثعبان في جيدها

لم تأتِ حتى الآن ، لم تأت

فارحل الى بلادها مرة

أخرى وَبُح للبحر بالحب .



قراءة في ديوان { شمس تبريز } لجلال الدين الرومي



{ 1 }

قالت عائشة للناي الباكي : من يقتل هذا الشاعر أو يعتقه

من نار الحب الأبدية ؟ هاهو ذا أوغل في السكر

وأصبح بي مجنوناً ، وأنا أصبحت به .... أيضاً

وكلانا مجنون سكران

يبحث عن وجه الآخر في الحان

نتحطم مثل إناء الخزف الملآن

لمّا يعرونا ، قبل صياح الديك ، خمار الظمآن .

هاهو ذا شمس الدين

يشرق من { تبريز }

يمنحني بركات العاشق والمعشوق

وكلانا ثمل مجنون

المعشوق هو الكل الحيّ ، وأما العاشق

فهو حجاب وهو الميت .

برماد حريق أتغشى وبأسمال الفقراء

أمسك كأس شرابي بيد ، وبأخرى شعر حبيبي .

أرقص عبر الميدان

في أحشائي نار لا تخبو ، فلماذا لا تحرقني النار ؟

ها أنذا أضع الكفن الأبيض والسيف أمامك

فلتضرب عنقي وأنا سكران .

{ 2 }

خطفت مني قلبي

سلبت مني نفسي

أخذت مني العالم

فرّت مني

لم تترك لي غير الشوق الواري وفؤادي الظمآن .

{ 3 }

ديك مخصي بثياب النظّام

ينطح صخر قوافي الشعر الموطوء ، ويخفي عورته بالأوزان

قال لخادم سيده السلطان

سأجيء برأس الشاعر هذا ، حتى لو كان يصلي في

المسجد أو في الحانة سكران .

{ 4 }

ينهش صدري رخ اسطوري رافق رحلات الرجل المجهول

الى أصقاع الدنيا . كان { سنائي } و { العطّار } رفيقي رحلته

الأولى . ينهش صدري وأنا أسمع عائشة تبكي في بستان

طفولتها .

كانت للرجل المجهول القادم من مدن العشق السبع ، تقول

بحزن :

كان فراقاً مرّاً ، فافعل ما كنت تريد سوى هذا .

يا هذا مجنون أنت وسكران

وأراها شاحبة تقفز من فوق السور الى البستان

ببنفسج عينيها تختبئ امرأة وحريق ودخان

ومحبون

يأتون ويمضون

وأنا ثمل مجنون

أسمعها وأراها في حقل بنفسج

أمرأة تتوهج

تتلاشى في زبد النور وتولد .

{ 5 }

خطفت مني قلبي

سلبت مني نفسي

أخذت مني العالم

فرّت مني

لم تترك لي غير الشوق الواري وفؤادي الظمآن .

{ 6 }

لمّا تدخل امرأة حجرة { خوفو } لا تدركها الشيخوخة

والموت وتبقى قادرة ، رغم مضي الأعوام على الحب ،

وعائشة كانت تلك المرأة ، أو هي أصبحت الآن

لمّا قلّدها رايته شمس الدين وعانقها . لمّا قال لها :

كوني

{ لارا } أو { ليلى } أو { هند }

كوني ما شئتِ وكوني خاتمة العقد .

{ 7 }

كانت عائشة في شفتي ناياً يبكي

وأنا أحكي

عن ألم الحب .


شهوة الحياة


متُّ من الحياة

لكنني

ما زلت طفلاً جائعاً

يبكي

كدودة تقرض تفاحةً

كان هو الموت

وكالسيرك

مهرِّج يسرقنا خلسة

ونحن في دوامة الضحك

طفولتي في يده دمية

حطمها في ثورة الشك

رأيتهُ في عرصات البلى

يعيدُ في هبائها سبكي

دمي على قناعه وهو لا

يضحك في السيرك

ولا يبكي

قلت لأمي الأرض

لا تجزعي

فهو الذي حدثني عنكِ

أورثني الفقر

وها أنني

أرزحُ تحت تاجه الشوكي

أن حكت الحياة عن بؤسها

فما الذي

عن بؤسنا نحكي ؟

نذبل في ليل المنافي ولا

نشبع / في عناقنا / منكِ .


العمياء


{ 1 }

عمياء أنا

لكنك لو قبَّلت يديا

نظري سيعود إليا .

{ 2 }

في هذا الخاتم

جنيّ محبوس يستنجد بي

لو تنجدهُ

يحملنا فوق بساط الريح

الى غرناطة .

{ 3 }

عمياء أنا

لكني أحلى من { ولاّدة }

أنظمُ شعراً في نومي

لكني أنسى ما أنظمه .

رجل يشبه سيف الدولة

عانقني

لكني كنت أحلّق ُ

فوق مروج الشعر سحابة .

{ 4 }

عمياء أنا

لكني في شعر المتنبي

أبصر بحر الروم وطروادة

لو قبّلت يدي

لنظماُ الالياذة .

{ 5 }

في صدري بستان

سعدي الشيرازي حارسهُ
لو يدخله شعراء اليوم

لماتوا عطشاً

فتوغَّل بي

فأنا أحلى من كل نساء الفردوسي

وقوافي { الشاه نامه } .



احتضار أبي تمّام


وكالماء والريح لا أستقر بأرضٍ

فموت الطبيعة والكلمات

يدفعني للرحيل

رأيت خرائب بابل

يعوي بها الذئب

بعد الأفول

ونار { المدائن }

يخرج كسرى وشاعرهُ

في العشيات

منها الى { طيسفون }

وأسبق موتي الى { حلب }

و{ المعرة } .

ساعي البريد أنا

أم طريد زمان يموت ؟

مؤرخهم

فاته قلقي وانتظاري

وسرّ احتضاري الطويل .

عمّان 24 / 8 / 1997



الحريق


{ 1 }

{ أميمةُ } قالت لمرآتها

هاهنا جثم النسر فوقي

ومرّت مخالبه فوق نهديّ

تاركة قمراً وصليب

تملكني وأنا بين ذراعيه

أسبحُ مجنونة ببريق النجوم

توغل بي حارثاً جسدي البكر

فكدتُ / وقد خطف الحب قلبي / أموت

أعانقه وهو عني بعيد

وأشربه وهو مني قريب .

وقالت لمرآتها : مَن ببابي ؟

فقالت لها : أنتِ بالباب ِ

يا وردة المستحيل

وكدتُ ، أقول لها وأنا غارق بدمي أستغيث :

أحبك حتى الموت

وهذا الحريق سيبقى هو الشاهد الحيّ

من بعد موتي على ما أقول .

{ 2 }

{ أحبُّكِ }

صارت حريق المنافي

وفي كل منفى : أحبكِ أنتِ

فوجهك اسطورة ولدت من قرارة موج الخليج

أداوي بها وجعي وبها أستغيث .



القطب والمريد


{ 1 }

شيخي القطب الكيلاني

في باب الشيخ ببغداد

فتح الباب لزائره المجهول

وقال :

أعرف عمَّن تسأل يا هذا

فحفيدي ضُيّع أو ضاع

في مدن العشق السبع

وفي رب التبّان

كان حفيدي إن زار الأهل ببغداد

يأتي ، ليحدثني

عما كابده في الغربة

أو يسألني عن رأيي فيما يكتبه من أشعار

أحياناً يبكي

في حرقة من ضيَّع شيئاً

ويلوذ بصحن المسجد يتلو بعض الآيات

أحياناً كان يناجي امرأة رحلت أو ماتت

يبحث عنها عبثاً

في شعر الشبلي و طواسين الحلاج .

{ 2 }

في آخر يومٍ

قبَّل شبّاك ضريحي

قال : وداعاً شيخي

ومضى

ما عادت بغداد

إلاّ مقبرة لأحبتهِ

وقصيدة حب ضاع .

رؤيا في قصر الشتاء

ذاب الجليد ، وفاضت الأنهار

واتسخت

وما من سائلٍ : أين الربيعُ ؟

وأين فئران السفينة ؟

هاهم اختبأوا

وراء نسائهم

أغواهم الشيطانُ

في زمن الغواية والسقوط

من يعرف الآن الطريق

الى منافي الشمس

غوركي كان يعرف ما يخبئهُ اللصوص

في الساحة الحمراء

أو في قصر الشتاء

وكان يعرف : أن أحفاداً لهم

سيقايضون النجمة الحمراء

بالدولار .

في أي المدائن والقرى

اختبأ الربيع ؟

غوركي يدبُّ على عصاهُ

من الشمال الى الجنوب

بحثاً عن البرق الذي فطر السماء

وأضاء في ايقونةٍ

وجه المعلم وهو يخطب في الجموع .

أين اختفى العملاقُ

في محارة ؟

أم في جنون الريح

في القطب البعيد ؟

صمت يلفُ الكائنات

فمن يفجرهُ

ويسبق سلحفاة الوقتِ

في هذا العماء ؟

من أين يبتدئ المغني

وهو يمسك قلبهُ

من شرفةٍ في الغيب

أم قصر الشتاء ؟

وجهان في ايقونةٍ :

وجه المعلم والمسيح

يتعجلان نهاية الفصل الأخير .

27 / 3 / 1997 عمّان



الوجه المقدس


مقدس وجهكِ

أنتِ الوثنُ المعبودُ

نهران من الغموض والشهوة

في أعماق عينيك يصبان وينبعان

والأرض تدورُ

وأنا أدورُ

هل أنتِ التي أحببتها في زمن آخر

أم أنتِ التي مارست السحر

على دجلة والفرات في فجر الحضارات

ففاضا ذهباً

أم أنتِ في طفولتي

كنتِ بنومي امرأة تمارس الطقوس ؟

لم تكبري ، وجهكِ ما زال ، كما كان

بهيّاً صافياً

يشع منه النور

آخذه بين يديّ جائعاً

رغيف خبز ساخنٍ .

وجهكِ لي يقول

{ تاج محل } أنتِ

تحت القمر الهندي في ليلة صيفٍ

آية في كتب اللاهوت

غزالة ولدت من قبيلة الريح

ومن سلالة الملوك .

مقدس وجهكِ في معابد المجوس .

{ 2 }

ها أنا أقتل نفسي

تحت تمثالكِ في { اللوفر }

مأخوذاً بنهرين من الغموض والشهوة

في أعماق عينيك يصبان وينبعان في المجهول .



العباس بن الأحنف : الحب المستحيل


{ 1 }

نوّرت حانات بغدادَ

فَمن يفتح لي البابَ

فعباس وحيد ومريض

خائفاً أغمض عينيهِ .

رأى جاريةً ترقصُ في الكأسِ

فناداها :

أأنتِ الوردة الحمراء في نهر الجنون ؟

أي نخّاس تُرى باعكِ للشيطان

في سوق الرقيق ؟

أنتِ لي وحدي هنا ، الآن

أعريك من الإرث السماوي

ومن ميراث خانات المغول

فارقصي سيدةً لليلِ في الكأس

وعودي لبخارى وسمرقند

وصحراء متاهات الوجود

طفلة تلعب في بستانها

تقطف أزهار النجوم

وأنا أنهض من موتي

ومن حانات بغداد

ومن مستنقع العيش الذليل

حاملاً حزن المغنين السكارى

ووصايا الفقراء المعدمين .

{ 2 }

خائفاً أغمض عينيهِ

رأى البرق اليماني يضيءُ الكأس

في أعقابه

قرعُ طبول

إنها بغداد تستيقظ من موت الى موت ومن حاناتها

يخر حفارو القبور

والصعاليك وأشباح اللصوص

شاحباً عباس في أعقابهم

يشعل قنديل الحنين

باحثاً في الكأس عن جارية أخرى .

أما من رقصة في ذلك الليل الطويل ؟

{ 3 }

أظلمت حانات بغداد

فلا جدوى

وعباس من الحب يموت .

إلهة القمر

عريقة أنتِ بفن الحب

تعرفين ما لا تعرف البغيّ

في معبد عشتار

وما لا تعرف الهرةُ

في منتصف الليل .

تموئين مواءً موجعاً

ترتجف الغابة

والطيور من أعشاشها تفرُّ

اذ تصب عيناك لهيباً

في عروق الحجر

الملقى على قارعة الطريق

اذ ينتحر المراهقون والدراويش

ولا يفيق في المعبد والحانة

من سكرته

العاشق والقديس .

لشَعركِ المصبوغ بالحنّاء

عطر غابة

أحرقها المغول واستباحها الغجر

رآك دين الجن في معراجه الأرضي

في اسطورة الخلق

وفي معابد القمر

تراودين المرأة / الذكر

عارية

سكرى

بنهدين من الطين

تموئين مواءً موجعاً

تمارسين الحب تحت الثلج والمطر .

21 / 12 / 1995




5 - السوريالية وتحولاتها عند عبد القادر الجنابي




{ وبِخطفةِ البرق راح حَمار العين اليمنى يصبغُ الغابة كلها .

عبد القادر الجنابي : قصيدة حلم . مجموعة { حياة ما بعد الياء } .

ولد عبد القادر الجنابي ببغداد في العام 1944، بدأ حياته الأدبية في ذلك الصخب المدوّي للثقافة وهمومها النبيلة في عراق الستينيات عبر ترجماته للشعراء السود من الانكليزية . غادر العراق أوخر كانون الثاني 1970 متوجها الى لندن { فقضى فيها أكثر من سنتين مناضلاً تروتسكياً لكن الشرطية الانكليزية أجبرته على السفر الى باريس في منتصف عام 1972 حيث يقيم حالياً كمواطن عالمي }. أسس في عام 1973 أول مجلة سوريالية عربية { الرغبة الاباحية } وأصدر باسمها عشرات الكراريس . كما أصدر بعدها مجلة { النقطة } ومجلة { فراديس } كما أصدر عدة مجلات باللغتين الفرنسية والانجليزية ، وعدة انطولوجيات بالفرنسية للتعريف بالشعر العربي ، منها " Le Poème arabe moderne التي ضمت 96 شاعرا منذ بدء الخمسينيات وحتى أوائل ثمانينيات القرن الماضي . ترجم من الفرنسية الكثير من المختارات الشعرية { الأفعى بلا رأس ولا ذيل } وبعض الدراسات المهمة وأصدر عدداً من المجموعات الشعرية منها { في هواء اللغة الطلق } و { مرح الغربة الشرقية } و { حياة ما بعد الياء } وله سيرة { تربية عبدالقادر الجنابي } دار الجديد 1994 . تمت ترجمتها الى أربع لغات { الفرنسية ، الالمانية ، الاسبانية والكاتالانية }. يحاول من حين الى آخر الكتابة بالانكليزية وله كتابان في هذا المضمار : Stance in the desirt الذي يضم معظم قصائده بالانكليزية و The Nile of Surrealism الذي يحتوي على دراستين : الأولى محاضرة ألقيت في جامعة فانكوفر حول الحركة السوريالية المصرية ، والثانية نقد للسوريالية العالمية المعاصرة . عبد القادر الجنابي شاعر سوريالي بامتياز وهو بشهادة أغلب الذين بحثوا وأرخوا للسوريالية في الأدب العربي . يعتبر الشاعر الأول للسوريالية ومنظرها في أدبنا العربي . { أغلب كتاباته المنشورة التي جمعت لاحقاً في كتابه : معارك من أجل الرغبة الاباحية . تكاد تكون توضيحاً لوظيفة الشعر التخريبية . لكن ثمة خلاصتين لهذه الوظيفة الطالعة من جوهر اللغة } أقدمهما هنا الى القارئ وهما { رسالة الى الشعراء العرب } و { مفاتيح } وهي شهادة تلقي الضوء على رؤيته وتجربته الشعرية . حين مغادرته العراق ووصوله الى لندن انخرط مع الفنانين والأدباء المهمشين في ممارسات احتجاجية ضد الأوضاع السياسية والثقافية ويقول في { تربية عبد القادر الجنابي } : { عليك أن تجازف بكل تقاليدك وأعرافك ، وليس سوى طريقتين : التسول أو السرقة . لكن التسول يحتاج الى أناس لهم قدرة الخنوع واستشفاق الاخرين ، أنا شخص لا تلين قناته لغامز ، ولدت متمرداً . الصراع من أجل البقاء السليم يقتضيني الآن أن أسرق } . ويقول في مكان آخر { في هذه البارات يمكن للمرء أن يخالط الانجليز وعشت معهم في أعلى طوابق بناية مهجورة ، اتخذوها مأوى يحرق فيه كل مساء بخور ذو رائحة طيبة حتى مطلع النهار مشبع بدخان الحشيش وملغوم بحبوب د.أس. ل . والماريجوانا . في باريس باشر للمرة الأولى كتابة الشعر ، فكانت النتيجة محاولات شبه دادائية ضمها كراس صغير في ذكرى مرور 6 سنوات على حرب حزيران : { كيف أعاودك وهذا أثر فأسك } 1973 . وبما أن أيّ نشاط دادائي يفضي بالضرورة الى السوريالية فقد أسس في كانون الأول من العام 1973 مجلة الرغبة الاباحية لسان حال الحركة السوريالية العربية ، ثم توالت من بعدها مجموعة من كراريس التحريض والشعر : { 1- الله يُستَر ولا يَستُر . 2- ثمة موتى يجب قتلهم . 3- مصرع الوضوح . الخ

نشر مجموعته الشعرية الأولى { في هواء اللغة الطلق } بباريس عام 1978 ولعب دوراً أساسياً في فروع الأممية السوريالية عبر مجلاتها ومعارضها من عام 1972 وحتى عام 1986 عندما وجه نقده للسوريالية الى جميع المنتمين الجدد ، لافتاً انتباههم الى انه :


{ ما ان يصبح الابتكار نهجاً تقليدياً ، حتى يتحول ليس فحسب الى مادة مومسة يُحسن ويساء استعمالها ، بل انه أيضاً يعمي بصيرة المرء عن رؤية العنصر الحيّ الكامن في الابتكار ، وهذا يُبتر استمرارية الطبيعة الابداعية والتأويلية المتأصلة في التناول السوريالي للمواد المعطاة . هذا يعني أن العنصر الحيّ نفسه مهما صمد في السوريالية ، فقد تم طمره تحت الأرض منذ زمن بعيد ، ذلك أن الرغبة لاحيائه تحتاج الى شباب متجدد ومتحرر من التمسك الديني بالمبادئ ومستعد للشك حتى في المُثل العليا التي ناضل من أجلها ، أيّ شباب قادر على قتل الأب . له عين لا تزال خام وأكثر افتراساً من آكلي لحوم البشر ، الى حدّ انها تقوى وبلمحة خاطفة على رؤية مسار تاريخ السوريالية بأكمله ، لتقف عند محطة جوهرية لم ينتبه اليها أحد في ذلك التاريخ نفسه . عين بلا ذاكرة تقوى على تحريرنا من أية هالة تحيط بالتراث والأمكنة القديمة ، وإلاّ فاننا أسرى جمال الماضي المزيّف الذي يتخذ شكل بيت عنكبوت ننظر منه في غالب الأحيان الى غد جوّال . ومع ذلك فان الغد يبقى الأمس الأسوأ ، وبالطبع فان الأمر يتطلب انقطاعاً عن لغة التخريب التي كانت لزمن مضى لغة الأحرار ، وهي اليوم كما قال جورج حنين صائباً : ذات مصداقية توازي التأكيد على أظلم الممارسات المجحفة بحق البشرية } . الجنابي شاعر سوريالي متمرد على كل الأشياء الزائفة في الشعر والسياسة والحياة . يكتب قصيدته ويواصل مشروعه الابداعي منذ سنوات طويلة . معرى إلاَّ من اخلاصه لجوهر ووظيفة الشعر ومغامرته السوريالية الفردية وجهوده الكبيرة في خلق عالم وقصيدة تتوسل اللذة الخالصة والخلاص من قبح وظلمة الواقع . من المعلوم أن النقد العربي المتنطع والمهموم في القضايا الاجتماعية والاكاديمية في العالم العربي والمحاباة المفضوحة لشعراء القطيع والسلطات ، قد أساء مجمل المشروع الشعري السوريالي المغاير للجنابي ، وبسبب الإرث الكبير لتخلف الثقافة والفكر العربي الذي تهيمن عليه وتسيّره الثوابت الدينية والسياسية منذ قرون طويلة . فأن السوريالية لم تترسخ في الثقافة والشعرية العربية . واذا كانت هناك { تنظيرات وتطبيقات للسوريالية ظهرت مشوهة هنا وهناك ، كما هي محاولة أدونيس في كتابه { الصوفية والسوريالية } ، فهي عند الجنابي امتداد حقيقي وعميق لجماعة { الفن والحرية } التي أسسها في النصف الأول من القرن الماضي الشاعر والكاتب المصري جورج حنين الذي تعرف اليه الجنابي في باريس قبل موته في عام 1973 . تقول الباحثة الالمانية سيبيلا كراينيك مؤلفة كتاب { السوريالية في الأدب العربي } * . صدر عن منشورات رايشرت ب 130 صفحة وهو من أهم الدراسات التي تناولت السوريالية في الأدب العربي ممثلة في أحد أبرز شعرائها ومنظريها في المنفى عبد القادر الجنابي : { قدمت جماعة الفن والحرية السوريالية كرفض وتمرد على الواقع العربي القائم آنذاك ، ولم تقدمها كنظرة أدبية فقط وانما وسيلة احتجاج ضد السياسات عبر الأدب والفن . لقد ربط الجنابي في السنوات الأولى لمغادرته العراق بين السوريالية والماركسية ، حيث يكتب في { تربية عبد لقادر الجنابي } : { أن الماركسية كامنة في السوريالية . وأن النضال السياسي لا يختلف عن النضال الشعري } . كان أوضح تعبير لفهم هذا الربط هو جهود الجنابي المحمومة عبر مجلته الأولى { الرغبة الاباحية } التي صدر عددها الأول في عام 1973 . لقد كانت مغامرة الجنابي الفردية جبارة في محاولته تحقيق ما فشلت في تحقيقه جماعة { الفن والحرية } في نقل السوريالية الى الأدب والثقافة العربية .

اذن كان المشروع السوريالي في البداية عند الجنابي اختياراً سياسياً ضد البؤس والقبح في الواقع الثقافي والسياسي العربي ، لكنه بعد نقده الذي وجهه الى المنتمين الجدد للسوريالية وفي نهاية الثمانينيات ، بعد سنوات أنفقها في ترجمة بول تسيلان ، حاول الابتعاد عن تقديم السوريالية كالتزام سياسي ، من دون أن يصمت عن ادانته واحتجاجه وفضحه للسياسات الغبية المتخلفة في العالم العربي ، ومنظوماتها الفكرية والأدبية التي لم تستطع في يوم ما التخلص من أوامر ووصايا السلطات الحاكمة وكلاب صيدها المدربة في أجهزة المخابرات والمؤسسات العسكرية القمعية . كان الاصرار على كتابة قصيدة النثر منذ البداية . يمثل المفهوم السوريالي للكتابة الشعرية عند الجنابي الذي يرفض بعنف كل التقاليد والأساليب والأشكال المتخلفة والراسخة في الشعرية العربية . شعرية الجنابي هي { شعرية الفرد في مقابل الشعرية العربية التي عملت وتعمل على تغييبه دائماً } . اللغة عنده في ازاحتها للأنساق البلاغية وأنماطها القديمة . جارحة ، استفزازية وعنيفة ، لكنها شفيفة كالمرايا وتصعق القارىء عبر اختراقاتها لأنظمة الخطاب والعلامات ، وتبدو الكثير من نصوصه ، وخصوصاً نصوص مجموعته { حياة ما بعد الياء } عبر رؤيتها المتعددة للكينونة وتحولات وصيرورة الطبيعة والعالم . شبيهة بمتاهة تغذيها شمس الصيف وتراجيديا الوقائع الحياتية وتجارب الماضي . وعلى الرغم من تلاعبه الحاذق بالكلمات ونحته لها وجعلها ذات خصوصية واضحة لصيقة بفهمه لوظيفة اللغة الشعرية الجديدة ، فأن الصورة والايماءة والاشارة تجذب القارئ وتحرره من الفهم المنغلق على ذاته وتحرر القوى الشاغرة في ذاكرته ومخيلته .

كتب الجنابي { رسالة الى الشعراء العرب } باسم مجموعة الرغبة الاباحية احتجاجاً على اخلاقية الشعراء العرب بجعل الشعر وسيلة للتكسب ، وعلى انحطاط الشعراء العراقيين خاصة بالتفافهم حول النظام الحاكم في العراق إبان ما سمي في حينه { الجبهة الوطنية والقومية التقدمية } . وزعت هذه الرسالة في باريس على شكل بيان وأرسلت الى جميع الصحف في ديسمبر عام 1974 ، وقد نشرتها مجلة { الحوادث } مبتورة في كانون الثاني عام 1975 .

رسالة مفتوحة الى الشعراء العرب :

أيها الشعراء

يبدو أن الخيانة قد أطبقت على أنفاسكم المتقطعة دون أن تقووا على التحرر منها . أين هو الشاعر ؟ بؤرة الكلمات المتقدة مستقبلاً ، معبرة عن مواقفه إزاء أيّ خنق اجتماعي قائم . مواقفه ؟ إن هي إلاّ جذوته الشعرية . عندما يكتب الشاعر ، أي عندما يطلع على لعالم شاعراً مأخوذاً بأحلام عينيه لتدمير بنية الواقع القائم وتحويله الى واقع يطاق العيش فيه ، تتأمل الثورة مملكتها . مملكة الحرية . سمة مستقبل الانسان الرئيسية . إلاّ أن ما نرى فيكم الآن ، كالأمس ، هو شعراء همهم تفادي الثورة ، ويتجسد ذلك بطلوعكم { شعراء } فخورين بقدرتهم على خداع لسلطة وتمويه فهمها لشعرهم عبر التواري وراء أقنعة { الرمزية } أو ما يسمى { الغموض } . هذا في الوقت الذي يتأمل عدو الثورة ، أيّ الأنظمة العربية الحاكمة بلا استثناء . تحييدكم في حال نشوب الصراع .



تجنبوا السقطة لكي لا تتجنبوا الثورة

يقيناً ، اننا ندرك بأن لكل حقبة تاريخية . لكل واقع معطى ، مزبلة . كيف يمكننا تسمية أحدكم شاعراً وهو يشيد ب { انجازات ثورية } مزعومة لنظام قمعي طبقي مكشوف بكل صراحة ؟ أو يعقد صفقة ثقافية { محضة على حد قوله } بحجة تأمين عيشه ؟ يا للوحل . ان خطر السقطة الذي يحيق بشاعرنا اليوم . يتأتى من جهله بقانون التجربة الشعرية المفيد بأن الانتصار الوحيد الذي يحققه الشاعر ، عبر كل هزائمه وانتصاراته . هو أن تكون أعماله شاعداً خالداً على صراحته . يتأتى هذا الخطر من عدم انصياعه لفكره الحقيقي . مختبر مخيلته . من كونه قابعاً في ظلال موازنة الصمت ، بينما الدنيا الآخرة التي هي ليست سوى التاريخ المنعكس في مرآة شعره ، تطالبه بالاختيار .



جسد المستقبل أم جثة الماضي ؟

افتحوا صمّامات مخيلتكم ضد كل ما يعمل النظام القائم على ترسيخه من قيم وأخلاق وأفكار . رفض { معونات } الأنظمة الحاكمة شكل من أشكال الانحياز الفعلي الى معسكر الثورة . اذا تحرينا الأسباب والمعاني التي اعتمدها { النظام العراقي مثلاً } في طبع كراسات ودفع المبالغ الضئيلة لكتّاب أشيع عنهم بما يفضلون تسميته بالالتزام الثوري ، نتحقق انه يعبر عن المرمى الذي ينشد النظام وصوله ، في كل حروبه المجرمة ضد مصالح الطبقات الكادحة ، وهو اسكاتكم . تعطيل الرنين الاجتماعي الذي ينبغي أن تمنحوه لشعركم من خلال ممارسة صريحة لما يطمح اليه هذا الشعر . الطموح ، إن هو إلاّ الثورة الاجتماعية ، نَفس كل شعر . أن ما يرمي اليه النظام في عمليته هذه وحتى في السماح لكم بالنشر في صحفه ، هو استئصال أنفاس معارضتكم لأية خيانة طبقية يقوم بها . حتى لو كانت هذه الخيانة واضحة الى حدّ الصفاقة . وسيؤدي هذا الاستئصال الى تلطيخ شعركم بالوحل . أيها { الشعراء } ، الشعر الذي يسمو على الأوضاع من أجل المعمور ، أهذا هو مصيره : ركام من المزابل ؟ يا لهول القذارة .



الصراحة ليست الشعر المباشر

أن الشعر لهو بهجة المخيلة وهي تتأمل حقوقها متحققة . انه الفعالية المشحونة بالأهواء . فكر الفرد . فمثلما يُذهب الشاعر عنه رجس الدين بتحرير صور الرغبة ، فانه يكافح من دون هوادة الآلهة الشالة الواقفة وقفة العنيد لابقاء الانسان على عبوديته حيال القوى الاجتماعية والالوهية المتضافرة والمكتملة . أن يكون المرء صريحاً ، أي شاعراً . لا يعني بتاتاً انه يمكّن الوعي الزائف أي { الآيديولوجي } من التغلب على رؤياه الشعرية . لا يعني أن يبتدع طموحاته على شكل قصيدة مباشرة – منشوراً سياسياً حيث بؤس الشعر يتجسد . كلا ، انما عليه أن لا يتورع عن اظهار احتقاره وسخطه لكل جرائم النظام الطبقية . هنا يكمن معنى الصراحة . أن يعاقر الشاعر مخيلته ، ولا ينجم عن ذلك أن الشاعر يرغب في جعل الشعر في خدمة عمل سياسي ولو كان ثورياً . لأنه يناضل في كل ميدان . ميدان الشعر بوسائل خاصة بالشعر ، وفي ميدان العمل الاجتماعي دون أن يخلط أبداً ميداني العمل وإلاّ أعاد الالتباس الذي ينبغي تبديده ، ومن ثم يبطل أن يكون شاعراً ، أي ثورياً ‘لى حدّ عبارة شاعر السوريالية بنجاما بيريه . ذلك أن الأزمة الابداعية بقدر ماهي جانب من الأزمة الاجتماعية ، ولا يمكن أن تجد حلاً جذرياً ضمن اطار الوضع السائد مالم ينفجر بركان الثورة الاجتماعية الشاملة ويقصم ظهر هذا الاطار ، فان الشروط الاجتماعية للابداع هي ممارسة استقلاله لشامل بكل حرية . ولهذا السبب يتجنب الابداع على الدوام ، السقوط في شرك التحاور والسباق مع نجوم الثقافة السائدة . متاريس فكر الطبقة الحاكمة ، لأن مهمته ليست انتاج الركام ابريراً على جدارته بالصدارة الثقافية ، بل هي تقويض هذه الثقافة السائدة وتحقيق ذات بحَثّ الخطى الرامية الى خلق عالم أفضل .



لا مجال للاطالة ، أو بالأحرى لا داعي لها



إنّا لا نتورع من التلذذ باظهار احتقارنا الشامل لما تفعلونه من محاولات التذبذب والكذب ليومي الصريح والمساومة مع كل شيء سائد حتى سقوطكم العلني في وحل الماضي . لذا اهيلوا التراب على أدمغتكم المجثثة ولن تكون هذه كلمتنا الأخيرة } .

{ في الخامس من كانون الاول 1973 صدر العدد الاول من الرغبة الاباحية مطبوعاً بالاوفست . ذلك النهار شربنا البيرة حتى مآخير الليل متجاذبين أطراف العربدة والمجون في مقاهي الحي اللاتيني المكتئبة بوجوه الحزبويين من كل شاكلة . حجر اللغة المهدد كثيراً ما القيناه في مسامع لاوعيهم :" سنجعل من أحشائكم وعظامكم وأفكاركم أحذية لشتاء مقبل . كنا صلفين ، الشراسة عينها . وكنا ، اذا تجرأ أحدهم على السؤال عن ثمن النسخة ، نجيبه : خمس فرنكات ، حقير }. من كتاب { تربية عبد القادر الجنابي }

. ظلت الشعرية العربية مدة طويلة أسيرة الفهم المشوه والتنظيرات المبتورة لأدونيس وأنسي الحاج في ما يخص قصيدة النثر عبر اعتمادهما كتاب سارة برنار { قصيدة النثر منذ بودلير الى أيامنا } حتى جاءت أخيراً جهود الجنابي الحقيقية عبر تضلعه في اللغة الفرنسية وثقافته العالية لينقل الى القارئ العربي شروط ومفهوم وشكل وأسلوب قصيدة النثر الصحيحة بعيداً عن البتر والتشويه ، وقد مثلت مختاراته المهمة { الأفعى بلا رأس ولا ذيل } أفضل فهم لقصيدة النثر عبر ترجمته للكثير من القصائد الفرنسية والروسية والأمريكية ، ويقول عبده وازن في مقال له نشرته صحيفة { الحياة } أن الجنابي { اعتمد مراجع حديثة ومنها مثلاً كتاب ايف فاديه { قصيدة النثر . الصادر في عام 1996 } وكتاب ميشال ساندراس { قراءة قصيدة النثر . الصادر في عام 1995 } علاوة على اعتماده على مختارات مهمة مثل مختارات موريس شابلان التي تعتبر أول انطولوجيا لقصيدة النثر الفرنسية ، وقد صدرت في عام 1946 وكذلك مختارات لوك شابلان التي أعادت اصدارها دار سيغير في عام 1984 }



مفاتيح

{ شهادة }




ثمة قصائد لا يمكن اعادة كتابتها . ثمة قصائد ليست إلاّ ملاحظات أولية . تخطيطات تعود قصائد . ما أن تدوَّن القصيدة على الورق ، حتى يبدأ فعلاً ، الشغل الشعري .

***

كلُّ شاعر هو في طور النمو ، كلُّ قصيدة هي وثيقة بأنه لا يزال ، كلُّ ادعاء بأن ثمت { صيغة نهائية } للقصيدة ، ماهو إلاّ مرآة ينعكس على سطحها بعبع { شعراء بالصدفة } ، شعراء يتغيرون وفق العوام .

***

القصيدة غرفة . بيوت الشعر فيها موجودة وجود الأثاث . من حين لآخر ، لابد ّ من نفض الغبار . اعادة تركيب . رمي مارثَّ منه ثم الاتيان بغرض جديد . القصيدة فعل منتهٍ . علّة وجودها : أن تكتب دوماً ، للمرة الأولى .

***

{ مامن تحسين يُجرى على النص } كما يوضح ادورنو ، يمكن أن يعُتبر قليل الشأن . من بين مائة تعديل قد يبدو كل واحد طفيفاً أو متحذلقاً بحدّ ذاته ، لكنها مجتمعة ، تستطيع أن ترفع النص الى مستوى جديد ؟ على المرء ألاّ يبخل بالشطب . طول النص ليس كثير الأهمية ، والخوف من أن ماهو مكتوب على الورق غير كافٍ لهو خوف طفولي . لا ينبغي اعتبار أيّ شيء جديراً بالبقاء لمجرد أنه هناك ، بعد أن دوَّن . بعدما تبدو عدة جمل وكأنها تنويعات على نفس الفكرة ، فما ذلك إلاّ لأنها محاولات مختلفة للقبض على شيء لم يقيّض للكاتب أن يمسك به تماماً . يفضل عند ذلك اختيار أحسن صيغة والعمل على تطويرها . من مقتضيات تقنية الكتابة ، قدرة العزوف عن الأفكار ، وحتى عن أخصبها أذا ما تطلب البناء ذلك . لأن ثراءها وحيويتها سيعودان بالنفع على أفكار أخرى لا تزال مكبوتة .

***

القصيدة . مهما كانت نوعيتها . وليد تفطمه رغبة التعاشق الحرّ مع الكلمات الناهضة . قضية في مستوى اللغة . لغة في مستوى القضية .

***

الى أيّ مدى تلبي هذه القصيدة أو ذاك النص ، هذا الادعاء ؟ هذا أمر متجه أصلاً الى عُرض التاريخ الذي ليس له في أغلب الأحيان شأن عند ساحل اللحظة .

***

في عالم علمانيته – التي هي سورة من سور المقدس – استنفدت كل شكل ومضمون حديثين . لم يعد الشعر في حاجة الى تحديث . شروط الشعر اليوم هي أن نعي و- بعمق تكاد تنفطر فيه النفس – لا تكمن في مُعاركة العقل ، أو احالة الواقع صوراً سردية تزعم اشاعة نشوة التغيير في روح القارئ . ليس للشعر من رواد وبالتالي من متجاوزين . رجال انشاء يفكرون بأبيات يعشش فيها المبتئسون كأنهم غربان { منفية } تستمد صرختها من ضوء المزابل . { الشعر ضد للأدب فهو يتحكم بالأوهام الواقعية وبأوثان كل نوع . انه لحسن الحظ ، يغذي الالتباس القائم بين لغة الحقيقة ولغة الخلق 1 .

***

ان تحديث أدوات المعرفة وآلات الحدس بالسرعة التي يتم فيها . خلّف الشعر كله في ليل ساهر حيث تفزع الاستعارة الى ومضة التصوير : تملي فكرة المستقبل وهي تشفُّ ، حتى تبدر عنها بواطن المشاريع الوهمية . هذا الطائل الذي يكمن وراء كل نص . الشعر سرّه الانغماس في أمداء التنحي المطلق ، انه تأمل الفرد الذي يغسل اللغة غسلاً في مخدع اليومي . ضد أيّ اسلام في مرآة الطريق المسدود ، حتى تفصح القصيدة عن شهوة العين باختراق المعيون . عن قطب تدور عليه رحى التنوير ، فيتصالح الانسان مع الطبيعة . وهاهو الفعل الشعري اللهٌ 2 اذ يموت . تولد كل الأشياء وكل تلك الشروط التي تريد الشاعر أن يمرّ بسيرورة التطور الشامل الحاصل في حياة الكتابة وبيئة الألفاظ ، الى حدّ أن تلسعه المحنة لسعة لا شفاء منها . تجعل ذاكرته تلبّ بكل ماهو حيّ عنيد ، ويكون لنوعه بدء آخر ، وإلاّ كان كل ما يكتبه مصيره العربنة ، أيّ التكرار المدقع بما قد بلي من صور وأشكال اجترحها الشعر عند حافر الحضارات .



1. ملاحظات في الشعر . نص مشترك لاندريه بروتون وبول ايلوار , انظر { فراديس } العدد 2 .

2. التنوين ، هذا الخطأ النحوي ، مقصود .



قصائد مختارة لعبد القادر الجنابي


مهاجرو الداخل


ما نريده
ليسَ مصعداً في مبنى الأسماء
ساحة لجنديّ مجهول
مقصاً ينتظرُ قصيدة
خرجت على القافية
بلا ثياب .

قد يذهب الرجل الى لا رجعة
قد يأتيها في ثنايا الليل
قد ينتفض
فتكون عيناه
صحو البديل .

نريد
ظهيرة في منتصف الليل
قمراً في حضن الشمس
غرفاً لا يثكلُ فيها
ضوءُ النهار
وكتلة هذا النديد
لتزويق القشعريرة
وندبة الخوف

ما نريده ،
أصلاً في الأرض .

شكٌ وميثاق
شهادات نحملها معنا
إلى العالم الآخر
صوبَ الأحياء :

ليس الرأس
ولا اليد ،
ولا الذراع
ولا حتى ذاك التراث

وإنما خُصلة تاريخ
في مهب الأوراق
يسرّحها مشط الاختلاف .


حُلُم


"... بهذه الطريقة يدخل البطلُ الغابة . لم ينتبه الى أن المخرج أنأى من هذه الكواكب المندثرة في طمي السماء . توقف عند أوّل شجرةٍ انتصبت أمامه بكل ذكرياتها المليئة بابطال أشدّ بأساً منه . أخذ ينظر اليها ، رأى عصفوراً جد صغير يحاول أن يحط على أحد أغصانها الذي يَغزو الى السّحاب . والساعات تسري زفرات في الأعالي مختلطة بطشيش الهواء الذي تحدثه عصابة الطير وهي تبرق خلل الشجر . على أنّ سنوات عمره تعبر فيلماً في وحشة الغاب . وكأن أشجاراً ترْدفه بأشجار أخرى ؛ بأزمنة لا متناهية ، تصيّره إشارة برّاقة في قلب الشيء ، يتكثف حتى تصير أشياؤه زمناً شعرياً لا نهائياً . أوراق تتساقط من رحلته . طفق يَنفـذ بعينيه الى أدق التفاصيل . وبِخطفةِ البرق راح حَمار العين اليمنى يصبغُ الغابة كلها ، بينما يتطاير شررٌ من العين اليسرى ، فيحرق صورة غابةٍ معلقة بشكلٍ مضبوط جداً في غرفة طفلٍ صغير . "


صناعة الشِّعْر


مِنْ ضلع الأفعال تنبجسُ الأسماء ، ومن عين الأسماء تنبجسُ الأفعال درجة في سلّم الخلق : " فليكن ..." وها هي ولادة جديدة للكون . كان المبنى خالياً عندما انفتح ثقبٌ صغير يؤدّي الى دائرة السلّم . إنها ساعة الغروب ، على انه في اللحظة التي ارتقيت فيها السلم ، بين النائم واليقظان ، كان الرجل الذي يعيش في الطبقة العليا مع الجنّ والملاك ، قد وصل الى الدرجة الثالثة نزولاً ، بينما رجلي اليمنى بلغت الدرجة الرابعة صعوداً . لكن كلما تمر ثانية ، أشعر بأن الدّرَجات تأخذ بالازدياد . وكلّما يُسرى بي ، أسمع صوتاً يفيد بأن ربَّ البيت سيرسلُ دابّة يُقالُ لها البُراق ، دون البغل وفوق الحمار ، يصعد بي الى سدرة المبنى . كان مجموع درجات السلم ستّ عشرة درجـة . أنّى ينزل أصعد ، أنّى أصعد ينزل : مباراة في القدرة على بلوغ الغاية ! وما ان بلغت ، حتى تراءت الدرجات وكأنها زحافات يجهش اليهـا الايقاع ! طفق الرجل يتوقد فيتأجّج وكاد يُشطّر بعضُه عن بَعض من أجل نزلةٍ أخرى ؛ فاصلة مشدودة الى وتِد بعيد يمكّنه من الثبات . غير أن علة جعلته يتهاوى كتلة نورٍ ترتطم بأسفل السلم فتتشظّى الى شعل صغيرة سرعان ما
يكتنفها رجالُ الارصاد الطالعون من حوائط المبنى .


الله في كلمة

العجوزُ التي تعيش في الغرفة المقابلة لشقّتنا ، والتي كثيراً ما كانت تتأمل ، في مرآةٍ مشروخة ، أحناء جمالها المترهل ، العجوزُ هذه ... لا أظنّها إلاَّ قد ماتت . منذ ثلاثة أيام وغرفتهـا في ظلام يثير أسئلة جدّ متضاربة في أذهان نُزلاء البناية التي أسكن . لكن ...، لِم هذا الشعور المتشائم بأنّ كلّ غيابٍ هو موتٌ نهائي ؟ العجوز هذه ، إمّا انزوت عن أنظارنا لغرضٍ إبداعي { ألـم تقل لنا أنها تنادم الكتابة أياما لكي تتخلص من الصور التي جعلتها ضريرة } وإمّا ذهبت الى بلد آخر للاستراحة ، للتأمل : ربّ هواءٍ صحيح يتسرب من نافذة - ذاكرة بعيدة ... انّها عجوز قبل كلّ شيء . غيرَ أنَّ ليلة أخرى قد مرّت والظلام هو إزاءُهُ ؟ " فليكن "، صرّح أحدُ النزلاء : " ما دام ليس هنالك من مَعلَم يؤكد لنا موت عجوز . البابُ مبهمٌ فحسب ".
إنّهُ على حق : " مبهمٌ فحسب ".
اذن ،
شيءٌ ما يسري .


هذا الصباح ، ليلٌ يتوهّج


هذا الصباح ، ليلٌ يتوهّج
قُم اطلع أيها الشاعر :
كم من سماءٍ
تتجعدُ جبهتُها في الهاوية ،
تُرْدِف أشعارَكَ المتظاهرة بالحياء ،
وأنت تريد أن ترتعي في خبز الشهرة .

أين لحنُك .

ذرِ الذينَ ...
تِه بالمجهول مسحورا
إلقِ بخبزك في المياه الراهفة :
فليس من مثوى .

القصيدة رسمٌ في بؤبؤ التنحّي :
بين الفوهة والهدف ،
السرّة وبثور العيش ...

كم من عالم يتراءى في شُقة القول
كِسرة فردوسٍ تَسْفكُ كلَّ ما فيه
وبشرخ لحظة
يَنْدُرُ في متحف وهميّ ،
ممدّدًا بلا هرير ،
لا يُكشّرُ حتى عن هَمهمةِ ضوءٍ
يستوقدُها منبوذون في أطواء المدينة .

قم أيّها الشاعر :
إنّك لست إلاّ...
بهذا

أو مت .


ليت الحصانَ كان وحيدًا

الى محمود درويش


القضيّة ينزُُّ من شفتيها الدم
متمددة على رمل النسيان
يدلك ظهرَها شعاعٌ من الحنين
يوقظُها أدنى الذكريات

القضيّة شلال من الأوراق
آتٍ بلا مجيء
في لمح البصر
يتلاشى
بين أرجل الشعارات
وحجر الصّوان

القضيّة حصان
أنْ يخرجَ
ذات يوم كالطفل
من حمّام الجميع .
" يمضغ الريحَ "
" ويؤنس البيتَ "
فتُسْجَر آبار
فيها مَصْحاة
من سُكْر التي واللتيّا

القضيّة ، ذا هي ...
كيلومترات
نجمٌ بَليلٌ
في موجهة البرد ،
في لجّ سلام
تلحسُ الحربُ ضفافَه .

الشكل والمضمون


حتّى الآن كان اللّيل جذراً يمتد في العوالم الأرضيّة ، يغشى البحر والجبال . يمشي فوق الكون متثأْللاً بالنجوم ، وما سيكون كائنٌ ، في جبته ، أصلاً . الليل ، عالم الما وراء ، تتناغم في هيولاه الأضداد . كان ، وحتى الآن ، قبراً مفتوحاً تخرج منه الأرواح مثلما تخرج النار من فم التنين . يلعب في العين البصيرة ، ينام مع السجناء عندما ينام النور في بياض الأرض ، حارساً البئر الذي أُلقيت فيها الحقيقة . من فجر الزمن الى منتهى الدهر ، أمام الليل المطلق ينحني الظلام... الليل كان على وشك الحلول... حتى الآنَ المجدُ فيه .

بين السطور ، يسفك الشاعرُ دمَ شيطانه

الدّم ، وفقاً سائل أحمر يجري في الأوردة والشرايين وينقلُ العناصر المغذية والنفايات المختلفة لجميع خلايا الجسم ، تنقله الشرايينُ الى مختلف أجزاء الجسم وتعيدهُ الأوردة الى القلب الذي يقذفُ به الى الرئتين . القصيدة جزء من جسم الشاعر: لها حصتها في كل ما يتلقى هذا الجسم من دم .



ديدان


عشرات من الديدان تنخر في النص ، تأكل حروفَ الجر ، الأسماءَ ، الأفعال . عشرات من الديدان تنبثق من كلّ زوايا شاشة الكومبيوتر ، تنخر الناصبَ والمنصوب ، الاسم والمصدرَ وشواذ الإدغام ، تنخرُ في الجامد والمشتق . المجرد الثلاثي ، الرباعي والمزيد من ديدان ننتجها في جملة النخر الدائر طوال كينونة لا يدركها إلاّ هذا الليل البهيم يؤول اليه مصيرُنا حيث لا بسملة ولا حوقلة ، انما نخرٌ على الدوام في قرائح المصير .


حياة


في ساعة لا شكل لها، يترامى نبأُ موته وكأنه يريد مرّة أخرى أن يدعك الحُجُرات بشمس الأرق ؛ يترنّحَ بين القلم والكأسِ ؛ يحرثَ التسكّعَ في يوم النّاس... كَمَن يختصر سنوات الخمر الضوئية مخالبَ ينشبها في جلد الحياة ... كَمَن يترامى من شواهق العصيان ليستقر بين مآبر الأطباء سيان عنده الذاكرة والنسيان !
هكذا مات علي بن عاشور* تاركاً كلَّ شيء يزفرُ في ظلمة خضراء .

• توفي علي بن عاشور في الثاني والعشرين من شباط 1997. وبعد أن بقيت جثته في معرض الجثث أكثر من اسبوعين دون أن يطالب بها أحد ليجعلها تستقر بين أنامل التراب ، برزت وصيةٌ تفيد انّه نذر جثتَه الى مدرسة الطب التونسي للاستفادة منها في عمليات التشريح . النثر هذا كتب بعد وفاته بيومين .

فاتورة


في المطعم ، ذات مساء ، يطلب الزبائن طعاماً لا يشتهونه بالضرورة . المرأة التي تجلسُ زهائي ، غرق تفكيرُها في لائحة الطعام . لم ينتبه الخادم الى ما قد طلبته . نظرته كانت تزوغ في القرار . جاءها بفخذِ دجاجة مشوية ، قدح من النبيذ ، ملعقة وشوكة من الذكريات .


الكتابة مطلقا


الى رؤوبين سنير
الفجرُ واقفٌ فوق الجبل .
أشبه بدجاجةٍ ، ينتفشُ ريشُ الليل والبُومة تفتحُ عينيها .

لن ينتظرنا أحدٌ . فنحن كالشيوخ الحكماء شاخصو البصر في قرى الجواب الى نجم سُرعان ما يغيب . نتحدث الى أنفسنا بذهن صاف . لبياض أعيننا صرخةٌ عشواء ضد بياض الأرض . الغدُ يطرقُ مسامعنا متهدّلاً وكأنّه لسانٌ جسيم يخرج من حلق الأفق .

لا أحد سوانا . النافذة مُلطّخة بالغبش . من محلول المشابهة ظلٌّ يسهر للحراسة .

نُساري أبراجاً بعيدة تتعاقبُ بانتظام ، ننهش في جسد الظلام حتى يداهمنا مطرٌ شديد ما يجعل الصمتَ يحمل مظلّته ويمضي الى شقة القول . وفجأة ينشقُّ القمرُ ، فتشرب السماءُ من ماء كلِّ ما أسودّ باصقةً إيّاه في مجاري الكلام .



" بيت الكائن "


الى صديقي الشاعر الاسرائيلي امير اور

وحيدٌ في السهل ، قرميديُّ اللون . مُسيَّج بملتويات الحواس ، الضباب والظلال المائلة عند مدرج الألفاظ . غرف متلاصقة واحدة بالأخرى . تسيرُ الأفكارُ وحائطه ، تتجاسد وإيّاه بسخامها الحلمي في صالة الاعجاز . كم هو غريبٌ غناءُ الداخل ! هذه المنائرُ ، الجوهرُ ، وهذا الطائر .
ثابتٌ كالذكرى . وحيدٌ في السهل يُضيئه النّجمُ الصامتُ وعيناه تحدّقان في كل بهائم الأرض .


فلسفة البؤس


في كلِّ نهار ، ظلٌّ من الليل ينظر الى الأسود بعين ملؤها الحسد .

مشاعر مختلطة


باكراً ، أنهض من الفراش . أدخل الحمّام . أفطر . أتّزِرُ أمام المرأة . هذيانٌ ينطبعُ على مائها ، يستوقفُ نظري : الشارع الذي أقطعه كلّ يوم ، الكتاب الذي لم أنته منه ، المطبخ ، السجادة ، أنا ، الباب ، كلُّ هذا سيُجبَل من جديد . واذا في مُستَل الاشباه ، أعثر على توازني .

من ضلع الشّجر الأخضر ، أُقتُطِعَ الأوّل في ليلٍ .


الآلهة السبعة


For Elesheva Greenbaum مشظّى بالنجوم . ذا هو يشدُّ بعنف شَعرَ الثاني المتهدّل من سماء الصورة ، بينما الثالثُ تذرفُ من الرَّهْز عيناهُ ، والرابعُ يحتلمُ في الأرض الرّطبة حيث يَفضُّ القمرُ أغلاقَ الشمس ، ينحلُّ في المياه النشوانية ، والخامسُ يُحرَقُ بتهمة الزّندقة .
السادسُ جَرحته المفاجأةُ وظلَّ حيّاً .
السابع مِكْسالٌ قطعَ يد البحر وطار مع الغريبة .


الأفق شعرة


في ذكرى يوسف الخال

أمّا الشاعرُ المولعُ بالصّور والتعاويذ ، فإنّ مناماً يبهره الى الكتاب . لحظةٌ بيضاءُ تشرقُ فيه . تَتنفّسُ سطورَ اليد وتقاطيعَ الدماغ . وها هو الضبابُ آخذٌ بالانقشاع تحت أشعة الشاعر المتوهجة في في مسالك النّور حيث آثار لا براهين .
ما أنفذ حَرفَه الى قلب المتلقّي ، وخيالُهُ - منعكساً في ماء النّسوة اللواتي حملن ثلج الشيء الى حنايا الجبال - سهوبٌ من النّسلِ .
ذي هي النبوءةُ تفيضُ مفلولة الحرف .
فكلُّ قصيدة ضمير .
وكلُّ ضمير جيل .



نقد الذات


رجلٌ تطير العصافير من معدته ، صوب عينيه ، تخترق بؤبؤه ، تحلق في بياضه . من فُوهة مثبّتة في دماغه ، تنطلق رصاصةٌ : الطيور تسقط في الهاوية ، والرجل يجد نفسه عاريا أمام ماضيه .


القطيعة


في حجرة لا باب لها ، كان رجل ، ربطة في عنقه ، يبحث عن ماضيه الثقافي في ديار المخطوطات . وفي زاوية قائمة بين الأطلال ، تذكر أن المفتاح الذي في يديه بلا جدوى . أيموت على حوافي المعلقات مغطى برغوة التأويل ، أم يطيش الى وهج التغيير ، تاركاً الذباب تتهافت على " نور" أطفأته الأحداث . بضربة واحدة ، كسر قفل النوم ، وشربَ الأفق بكأس نظرةٍ . غَداة غدٍ ، تتعالى الحان النّاي !


موت


والآن بعد أنْ حلَّ المساءُ ، وطفِقت طيور الشارع تأمنُ الى أعشاشِها ، عليّ أن أقعد هنا ، وأترسَّمَ الساعةَ وأنا بمَسْمَع من الموسيقى . أخذَ ضجيجُ الآخرين يخفّ شيئاً فشيئاً . الكتابُ مفتوحٌ على صفحةٍ جاء في نهايتها : " كلُّ الأشياء الحيّة ، الشجرةُ ، الصحراءُ ، ميلادُ الكلمة في القلب ، اللمعانُ في الخارج ، لها رائحة العدم ". نهضتُ لآتي بقلمٍ وورقةٍ . فرأيتُ ما كنتُ أحسبه جملاً مفيدة ، أطيافاً تحملُني الى السفح الثاني من الحياة ؛ الى زرّ كان يكفي أنْ أضغطه فينطفئ الضوء .
حزينةٌ هي الظلال ، في حجرة الغياب الطويل . تبحث وحدها في قمامة العتمة عن غبار النجوم .

* أدين هنا في هذه الفقرات ببعض الأفكار للسيد رشيد بوطيب

6 - شواطىء ترتجف في قارب معلق في { ما بعد } وفي { ما قبل } .

في الثناء على عبد القادر الجنابي ..




1

في ثقافة كثقافتنا العربية الراهنة كل ما فيها يتقهقر ويتراجع الى الوراء بفعل هيمنة البؤس الآيديولوجي وأنماط الفكر المنحطة الأخرى ، منذ سنوات الخمسينيات من القرن الماضي . كيف لنا أن نتعامل مع تجربة شعرية ابداعية وحرّة تقف بالضد من كل ما هو سائد ومنحط في الشعرية العربية الراهنة ؟

في تجربة عبد القادر الجنابي ذات الأبعاد الفكرية والجمالية المتعددة . لا نعثر نحن القراء إلاّ على موضوعات الشعر الكبيرة . الزمن . الموت . الصيرورة . القلق . الطفولة . الحب . الماوراء . ومحنة الانسان في العالم . موضوعات كهذه يتم التعامل معها في أوساطنا الثقافية والشعرية المسيسة دائماً والغارقة في البؤس الآيديولوجي . بحذر شديد وربما بسوء فهم لكونها حرّة وخطرة وغير معنية بما هو راسخ الجذور في الواقع السياسي والآيديولوجي لعالمنا وثقافتنا العربية . المحنة الأخرى هي أن تجربة الجنابي تكاد أن تكون الوحيدة ، بل هي الوحيدة في الشعرية العربية المعاصرة التي تتخذ الرؤيا السوريالية وفكرها منهجاً وسلوكاً في الكتابة المستمرة منذ بداياتها وحتى الآن . ليست السوريالية في مجمل تجربة الجنابي كما فهمها أدونيس { أشرب مرق الأحذية } . واذا كان أدونيس هنا يعتقد أن السوريالية هي مجرد سياق لغوي عبثي . فانها عند الجنابي الذي عاش ويعيش في باريس منذ دهر طويل ، وتعرف على السوريالية فكراً ورؤيا عبر قراءة أصولها بلغتها الأم التي يجيدها اجادة تامة . هي محاولات دائمة للوصول الى الهاوية للخلاص من العبث والسأم الذي يغلف حياتنا في العالم . عبر رؤيا جديدة دائماً تبغي تحديث لغة الشعر وصوره وسياقاته وأشكاله من خلال المعرفة العميقة والتجريب الدائم . تمنحنا قراءة شعر الجنابي طاقات روحية عظيمة وتوسع لنا الآفاق من خلال الرؤيا العميقة التي تختزنها تجربته في الحياة والكتابة . ليس الجنابي معبراً عن آيديولوجيا معينة ولا يطمح أن يرضي هذه الجهة أو تلك . الكتابة عنده محاولات محمومة للكشف عن أسرار العالم والطبيعة والروح .


2



{ الشعر دغل المحنة : له مكتشفون لا سوّاح } هكذا يقول الجنابي في قصيدته { غواسق وأظفار } . نعم انها محنة . وأيّ محنة ؟ هل من الممكن أن تغامر دور النشر العربية وما أكثرها في العالم العربي باصدار أعمال عبد القادر الجنابي كما تفعل مع الشعراء الآخرين الذين يكتبون للقطيع المسيس والجائع للجنس والفرفشة وما يفهمه بسهولة من دون دوخة رأس ؟ هل من الممكن أن يلبي الجنابي دعوات وزارات الثقافة العربية ويحضر مهرجاناتها الشعرية ليقرأ شعراً يدغدغ عواطف القطيع الذي يتم احضاره بالقوة للتصفيق للشعراء العرب الفطاحل في هذه المهرجانات الحقيرة التي تمجد الرؤساء والملوك ؟ محنة الجنابي نرصدها نحن عبر قصيدته { الله في كلمة } كما في قصائد أخرى كثيرة . { لِم هذا الشعور المتشائم بأنّ كلّ غياب هو موت نهائي } . العجوز التي تعيش وحيدة في الغرفة المقابلة لشقته { إمّا انزوت عن أنظارنا لغرض ابداعي } و { إمّا ذهبت الى بلدٍ آخر للاستراحة . للتأمل } . ليست القصيدة غامضة . انها امتحان لانسانية الشاعر ورصده للأشياء وحركة البشر في حضورهم وغيابهم في الحياة . لم تمت العجوز التي افتقدها الشاعر منذ ثلاثة أيام . ذهبت الى غرض ابداعي . سافرت الى بلد آخر لتستريح . لتتأمل . في قصيدة { نسمة احتفال باندريه بروتون } وهي كما قصائد الجنابي الأخرى . لا تتخذ الأساليب والأشكال السائدة في الشعرية العربية التي لم تتغير منذ ظهور شعر التفعيلة في خمسينيات القرن الماضي . يقول :

{ نحن الشعراء ليس بامكاننا اغاثة حقبة ما أو صيانتها ، إذ كلّ ما بوسعنا هو أن نعبّر عن هلاكها فحسب . ومع هذا أن نتخلى أبداً عن حاسة التذكر :

تذكر ما لا نعرفه } .

تحيلنا هذه السطور الى محنة الشعر والفكر الآيديولوجي في الثقافة العربية الآن . آخر مهرجان شعري عربي عقد في القاهرة قبل فترة قليلة . تم فيه منح الجائزة الأولى الى محمود درويش بسبب { حفاظه على مستواه الشعري الابداعي الى الآن } . شعر درويش عند أولئك الذين منحوه الجائزة { اتباع نظام حكم وثقافة مؤوسسات تقليدية } يظل يرفل بالابداع والقداسة دائماً . ولا تهم أولئك الجلاوزة الخسارات الدائمة وموت الناس وضياع الأحلام الثورية التي عبر عنها درويش وتخلى عنها فيما بعد حين اكتشف أن حركة الحداثة الشعرية العربية قد أزاحته بسبب طرائقه التقليدية في الكتابة ، والشعارات التي كان يكتبها من قبل ويدغدغ فيها جماهير المهرجانات .



3

لغة الجنابي حادة وخطرة وحميمة وشفيفة دائماً ، ولا تتوسل الأساليب المألوفة ولا السياقات التي اعتاد الشعراء العرب عليها . تظهر المعاني والموضوعات في قصيدته بأشكال عديدة من الوضوح وعدم الوضوح .



{ وأنا مُستطرق في سان جيرمان

تذكرت بودلير وما كان يألفه من فرق

بين المتسكع ، المنحبس عن قدرة النظر

والمستطرق ذي العيناء الراصدة كل ما هو أبدي ، انفلاتي .

ما يدخل تاريخ الخلق

حتى التَمَحتُ شاعراً كشعرائنا

يخرج من المسرح حاملاً مرايا .


{ قصيدة عندما لا يرى الشاعر .. قبره يراه }

العيناء الراصدة ، وتاريخ الخلق هو ما يهمنا هنا . يخلق الجنابي وأود أن يقرأ القارىء القصيدة كاملة . علاقات متعددة مع الأحداث والأزمان والشعراء عبر رؤيا ولغة غير مألوفة تدمر الأنماط والبنى الدلالية عبر ازاحة السياق والمعنى .


{ المستطرق ذي العيناء }

{ القصيدة زهاؤها }

{ المتسكع يلتمسني جهراً } .



عبد القادر الجنابي باللغة الفرنسية :
" انعكاسات في مرآة الرمال "
انطولوجيا شخصية

انطوان جوكي


طالما أن الباب مغلقٌ بإحكام على لغز الحياة والموت ، " شيء ما يحدث "! ومع أن محاولة فك هذا اللغز محكومة بالفشل حتماً ، إلاّ أن الشاعر الحقيقي لا ييأس من الوقوف خلف هذا الباب محاولاً كسره أو إحداث ثغرة فيه أو على الأقل الإصغاء من ورائه إلى ما يدور من الجهة الأخرى ، متسلحاً بقوة كلمته التي يشحذها على حجر الصدق . في هذه الحال بالذات نعثر على الشاعر العراقي عبدالقادر الجنابي داخل مجموعة قصائده الصادرة حديثاً في باريس تحت عنوان " انعكاسات في مرآة الرمال " لدى دار " لسكمبت " الفرنسية ، والتي تتصدّرها مقدّمة للشاعر الفرنسي ليونل راي . وكما عوّدنا في دواوينه السابقة ومجلاته الشعرية ومداخلاته النقدية المثيرة ، نجد الجنابي في كل مزاياه في هذه الانطولوجيا : سوريالي في الدرجة الأولى ، ذو مخيّلة صورية جامحة ، وحالم مستوهم ومحرِّر للرغبات الدفينة ، خيميائي في بلوغه المعنى أو المبنى المقصود ، ناقد لاذع وثائر أبداً على التقاليد والأفكار البالية التي تتحكّم بمصير مجتمعنا وحياتنا... إضافة إلى نزعته الانسانية العميقة وحسّه العالي للفكاهة السوداء حتى في أقصى درجات الجد . لكن أكثر ما تتميّز به هذه الانطولوجيا الشخصية هو النفس الفلسفي والملحمي الذي يعبر القسم الأول منها ، ويعيد الشاعر فيه كتابة سفر التكوين ويطرح داخله تساؤلاته واستبصاراته حول الكون والعالم ، مبرهناً عن روحانية صافية تحتفظ ببكارتها وتسمو فوق الماضي . وليس صدفة أنه استخدم أسلوب قصيدة النثر بالمعنى الأوروبي ، ما سمح له أن يجول في لحظة الخليقة الأولى مستقصياً الفردوس المفقود و" ملكة الأشياء الأولى ومفتاح الأسرار المهمَل " . ويقصد الجنابي عبر هذه الشعرية ذات الطابع النظري الى أن الشرارة هي في الإنسان : " الشرارة الكامنة في كل واحد منا خلاقة ، عندما لا تنشد التوحّد وتلك الشعلة السماوية ، بل عندما تتحوّل إلى شعلة نفسها ، أمِّ شراراتٍ ، عوالم جديدة " . وكما الشاعر الفرنسي لوتريامون ، يحاكي الجنابي بارئه من دون ورع لاعتماده على قصائده أن تمثله " في الآخرة " ، فالصلاة بالنسبة إليه " تنفس ، ارواء للمخيّلة "، أما وحدة الليل فتحثه على " افتضاض أزهار الحلم الرطبة ". ولهذا نراه يجعل " من كل قصيدة ، من كل مقطع لفظي ، من كل صرخة فعل انتقام ". فكلماته " لا تتعاشق "، كما قال أندريه بروتون ، وإنما تبتغي السر الأكبر الكامن في علاقاتها اللغوية . لكن الجنابي الشاعر والناقد المتربّص بالإغراءات والخدع والمخادعين ، غير مستعجل للهروب نحو مواضع أخرى بقدر ما هو راغب في تحديد إمكانات اللغة بأكثر دقة ممكنة . ثائرٌ ، يرفع جهده اللغوي الى أعلى درجات الحدّة والشفافية . هاجسه الأول سبر جسد مخيلته وكتابة الغامض تارةً والاستيهامي طوراً ، بعيداً كل البعد عن المنحدرات والصور المحمومة عبثاً . بعض قصائد الجنابي تتطلّب من قارئها أن يعيد قراءتها مرات حتى يدركها ، يدخل في جوّها وفي " سيرورتها الفكرية ". ذلك أنه مطالب بفهم " الإدراك " هنا كمحاولة التقاط المعنى المعطى لكلمات الشاعر ، ولظلالها ، ضمن حوار شفاف معها . فقصائد الجنابي لا تكف عن حث القارئ على السير نحو " الحقيقي " بنفس واثقة لئلا تصبح التناقضات التي ستعترض طريقه مجرد لحظات عَوْم راكد ، وإنما درجة أكبر من المغامرة المثيرة والموقظة . الإدراك إذاً مع الجنابي هو التخلي عن عاداتنا في القراءة والقبول بأن الحدس وتمثيلاته { الصوَر } لا تتجسد إلا في الكلمة الرزينة والبسيطة ولكن المفتوحة على كل الآفاق ، وأن الشعر ليس مجرد تعبير بل بحث دائم . هنالك مستويان في قصيدة الجنابي النثرية : الأول ، قصيدة النثر بالمعنى الأوروبي للكلمة ، وهي المكتوبة على شكل كتلة مترابطة ، وتحتل القسم الأول من كتابه الشعري وتتناثر هنا وهناك في الأقسام الأخرى . وهذا النمط الكتلوي من الشعر حين يحمل بصمته، وهو من أهم المعرّفين به { لا ننسَ أنه أصدر قبل عام تقريباً أول انطولوجيا بالعربية لقصيدة النثر الفرنسية } ، ليس تقليداً بقدر ما هو اجتراح كتابي يشرع اللغة العربية على آفاق شعرية جديدة . فقصائده هذه تتخذ مظهراً نثرياً رزيناً وتتميّز بطابع السرد الطريف والمفاجىء ونقاوة في النبرة والأسلوب . أما المستوى الثاني ، فتحتل فيه قصيدة النثر المشطّرة { بالمعنى العربي المتداول } ، معظم أقسام الكتاب . وهي ليست مجرّد قصائد غير موزونة ، كون اهتماماتها أبعد من ذلك . إنها تعتمد على إيقاعاتها الوزنية الخاصة بها وغالباً ما تتألف من جُمل مشطّرة صغيرة تصف بكل بساطة حدثاً حقيقياً أو متخيّلاً ، كما لو أن الجنابي يريد من خلال هذه البساطة المتوترة إظهار إمكان استخراج شعر قوي ومؤثّر من أي شيء ، لا شيء . شعر عبدالقادر الجنابي إذاً يخلق شروطه ورموزه الخاصة ، ما يجعله أحياناً مغلقاً على البليدي الذهن والمتعوّدين على الأساليب الكتابية السطحية . ويبدو في أحيان أخرى بسيطاً في متناول الجميع . ومن خلال قصائده الشعرية والنثرية الموجودة في كتابه الأخير ، يحتل الشاعر بقوة موقعه كمبدعٍ في عالمنا العربي :



آن أوان الارتياد ،

هبوط سلم الوجود

حيث الجسد إضاءة فُكّت أزرارها ،

لغة ضد التيار " .

لعل أهمية هذه الانطولوجيا الشعرية تكمن في كونها صورة بانورامية وشاملة عن تجربة الشاعر عبد القادر الجنابي و عن المراحل التي اجتازها شعره الذي ارتبط في بداياته بالجمالية السوريالية لينحو من ثم الى فضاء شعري خاص قائم على البحث الشخصي عن آفاق جديدة .



قراءة في كتاب لسيبيلا كراينيك :
السوريالية العربية في المنفى.. الجنابي نموذحاً

رشيد بوطيب . فرانكفورت




كتاب سيبيلا كراينيك الذي صدر مؤخرا بالألمانية عن دار رايشرت (130 صفحة ) ، من أهم الدراسات التي تناولت السوريالية في الأدب العربي ، ممثلة في أحد أبرز شعرائها ومنظريها : عبد القادر الجنابي .







إن السوريالية كحركة أدبية لم تستطع أن تفرض نفسها في الأدب العربي المعاصر لأسباب عديدة ، منها لا ريب العجز المرضي للثقافة العربية الدينية والمحدثة في تمثل أفكارها وطروحاتها الجذرية . ولهذا لا عجب أن تقتصر الباحثة في دراستها على السوريالية العربية في المنفى وعلى أبرز ممثليها عبد القادر الجنابي ـ باعتبار أن الثقافة العربية بالداخل لم تعرف السوريالية وإن عرفت تظبيقات وتنظيرات مشوهة



لها كما هو الحال عند أدونيس في التصوف والسوريالية . الذي ترى الباحثة أن الجنابي امتداد لجماعة الفن والحرية التي أسسها المصري جورج حنين (1914ـ 1973). هذه الجماعة التي فهمت السوريالية كحركة رفض وتمرد على الواقع العربي . إن السوريالية في رأي هذه الحركة ليست فقط مدرسة أدبية ولكن وسيلة للاحتجاج السياسي عبر الأدب والفن . لقد كانت الحركة السوريالية العربية الوحيدة في الثقافة العربية منذ نهاية الثلاثينيات وحتى نهاية الخمسينيات . وكانت تجمعها علاقة وطيدة بالسوريالية الفرنسية ، وقد أصدرت العديد من المجلات وأقامت العديد من المعارض . وتبدأ الكاتبة في دراستها لسوريالية عبد القادر الجنابي من سيرته الذاتية ، التي تقدم للقارئ العديد من المعلومات حول تجربته السوريالية . لقد ربط الجنابي في البداية بين السوريالية والماركسية ، قائلا بأن الماركسية كمينة في السوريالية ، وأن النضال السياسي لا يتميز عن النضال الأدبي . وقد عبر عن ذلك بوضوح في مجلة الرغبة الاباحية التي بدأت سنة 1973 بالصدور . في باريس يلتقي الجنابي بجوروج حنين الذي كان ينادي بنوع من السوريالية الاجتماعية ، والذي تخلى عن السوريالية سنة 1947 بسبب الصراعات الداخلية لهذه الحركة . وقد أخذ الجنابي على عاتقه تحقيق ما فشلت في تحقيقه حركة الفن والحرية : نقل السوريالية إلى الثقافة العربية . لقد كانت السوريالية بالنسبة لعبد القادر الجنابي اختياراً سياسياً ، لكنه نهاية الثمانينات ، وبعد سنوات أنفقها في ترجمة بول سيلان ، سوف يبتعد عن فهم السوريالية كالتزام سياسي ، دون أن يتوقف عن تعرية وفضح السياسة العربية الرسمية وثقافتها الاستمنائية التي لم تتحرر من سلطة الأب ، وستصبح القصيدة من الآن فصاعداً وسيلة الصمود الوحيدة ضد الخطاب الرسمي . وفي معالجتها لشعرية الجنابي ترى الباحثة أن قصيدة النثر تمثل المفهوم السوريالي للكتابة عند الجنابي ، التي ترفض كل التقاليد الشعرية ولا ترى فرقاً بين النثر والشعر . إنها شعرية الفرد في مقابل الشعرية العربية التي عملت على تغييب الفرد . وأكمل مثال عن نثر الجنابي ، ترى الكاتبة ، ديوانه : "حياة ما بعد الياء ". هذا الديوان الذي يتوزعه موضوعان : الأول نظري ، والثاني سيرذاتي . الأول تفكير وجودي في الأحداث اليومية ، والثاني كتابة للتجربة الفردية للشاعر . وترى الكاتبة أن أهم ما يميز نثر الجنابي هو ذلك التلاعب أو الباروديا الواضحة للغة الدينية السائدة . إن تدمير جبل الموروث الجاثم فوق صدر الأجيال ، يبدأ بتدمير لغته والسخرية منها ودنيوتها أو تعرية قداستها الكاذبة .
آخر فصل في الكتاب يتحدث عن استقبال أعمال الجنابي في العالم العربي . وترى الكاتبة أن هذا الاستقبال تميز بسوء الفهم غالباً ، وبعجز النقد العربي على استيعاب وفهم ثورة الجنابي الشعرية وشقاوته الفكرية


قصائد من عبد القادر الجنابي


فخفخة الحروف



{ نشرت في " هواء اللغة الطلق " باريس 1978 : مجموعة شعرية كتبت في فينا سنة 1977 }

وهكذا أُفطِم الطفل
نتف شعرهُ وليّل نهاره
إذ في فُجرة البكاء
بأبأ الناس وتفتّى كطائرٍ أخطب
فأشخصت ذكراه
وعندما فسَّق المفردات
جاعلاً هواجرها تتضرّم
قالوا عنه :
صوّد شيَّن
ظيّأ وغيَّن
وإذّاك كوَّف ونوَّن
ولوَّم وموَّم
وتيّأ بقدر ما جيَّم
وثيَّأ وذوَّل
وإن كثكثَ
قالوا عنه : سيَّن .


{ من " في هواء اللغة الطلق " }



قصيدة قيد الدرس الى أنسي الحاج


كانَ يا ما كانَ في قديم الشرق صالة انتظار .
ر ....
الطائر المهاجر وراء الأبواب .
انقطع الأمل في شفائه إذ تصرّف بحذرٍ واحتراس .
لكن المولعَ هذا
تلقى تربية مسيحية عميقة .
حلم أحياناً بالمجد
فتولدت فيه شفرةُ خيال .



الطائر المهاجر


قوة انفجارٍ هائلة ترتفع عن المواضعات
وفي هذا سرّ رنينه .
لقد دمغته الخطيئة ببركةِ الجنون
فألقى برفات الشمس في قعور البحار
حيث المرايا تميطُ اللثام عن وكرٍ تتوارى فيه
أفراخ الكلمات .
على نحوٍ ما – دم الطقس يسيل
الفكرةُ مرآة معلقة على حائط الشَّعر .
سلسلةُ فزع .
إن رأساً متلبساً بالالهام قد قُبضَ عليه .
العالم لغة
ذات يومٍ
كان الطائرُ المهاجرُ يعدو في ممرات النظر
يتقاذفهُ نوم هائج .
ثلاثة أطفال يلعبون
صافحهم بحرارةٍ ألقت بهم في النهر
كما لو أنّهُ أطلقَ رصاصاً طائشاً
تحوَّل المارةُ الى طيور .
في جوف الليل ، يخلدُ الطائر الى صحراء
مُتساكِنوها فجرٌ ورملٌ
ورأس مقطوع .
قديماً يكون الشعراء .



اختيار رغبة


{ من " في هواء اللغة الطلق " }



ها أنذا
خسارةٌ فادحة في طقس جميل .
لقد سكرت الريح
الأقمار البعيدة وارت عنّي أنوارها
ومكنون دخيلتي يتغوره نهرٌ
تطفو فوق مياهه
" أنا " جديدة
تدفع العالم الى حيز الظل
أنا آتية من فجاج الأعماق
تتأرض الخارج
تخلع عنه ثوب الوقار
فيمتشق العالم وجه السر .



من جورج الى إقبال حنين



{ من " هواء اللغة الطلق " }


المادةُ صارت كلمة
والكلمةُ صارت حركة
والحركةُ ضرورة
صرخةٌ تتفتَحُ فيكِ
شمساً مشلولة
ليتفشّى فيَّ الظل .
ثمة لغةٌ منعدمة
تتحركُ في الداخل
تنزف الخارج ، ذلك الزمن المائت .
فجر الضحكة المترامية يوصدُ ثغرَ الأشياء
لكي لا تقتاتَ الغيمةُ الرماد
ولا الرماد يقتاتُ الفزع
الفزع الذي يفلتُ على الدوام ، من هذا العمق .
الصمتُ النائح
بين الماء والوحل
لفظة لا مرئية
لنَفَس الصرخة البطيء .
الصباح نبات بارد .
تاريخ منفصلٌ هو حضوركِ الذي
يَصعَقُ الذاكرة
كأن الشمسَ تفكّك ذاتها
مكفهِرة في احضان الماء .


نسمة احتفال باندريه بروتون



{ من " في هواء اللغة الطلق " }

الى محمد عوض

{ الحديث أطول من هذا لكن في فمي ماء }

التوحيدي


دون أيّ حذفٍ ، جداول التأمل الجارية راح معظمها هدراً .
إكتئاب هذه الليلة يخطو خطوات متعثرة أمام هذا الجمود المفاجىء ، الملحود
الذي لا يغمض له جفن . إنه يتابعُ ، بكل وعيٍ ، فكراً يصطدمُ بتكشفاته الهوسية .
وبذا يكون من الصعوبة تسجيل الضباب وتأشيره خاصةً إذا كان لحظة استمتاع
سريعة . على إنّي حاولت التأكد من نجاح المحاولة . فضربنا موعداً أنا والتمرد .
أخذتُ آنذاك أناطحُ حائط اللاوعي بعنف حتى طفق الدم ينبجس من رأسي .
عندئذ صار فمي فوهة ما أفكر به . ابتدت الكلمات تنطلقُ بشكل طائش مخترقة
جسد الأوراق المكوّمة أمامي : كلمات فاجرة لكنها بلا كافور . إذ يلوح أنّه لا
يمكن أن أهزأ بالنهر . إنّه يبدو خلال زجاج ما أفكر به ، مشهداً يجوّفه الضحك
الآخذُ بالانفجار . إذاك يفلتُ استهلال جديد للفعل ذاته . لكأن ما أفكر به – وإن
هو يعكس في القوى المؤقتة للحظة الخلق هذه ، وجوده المحتجب – حضورٌ يئن
من اتساع تجربته الحسية وانكماشها في آنٍ .
ثمَّ أشياء كثيرة تبقى بمثابة سويداءات قلوب الموتى ، ومن المحتمل اعتبارها
أسراراً ثمينة ينبغي إماطة لثام ما تنطوي عليه . كثيراً ما نجدها أسراراً لا يسعفنا
الجهد المبذول في معرفتها إلاّ بنتائج تافهة لا يعبأ بها حتى فصحاء قوم ما تحت
المقبرة . فالأسرار الشائخة إن هي حقائق شاحبة سرعان ما تندحر أمام عنف
الأحداث وعواقبها التغييرية .
رؤوس أقلام مسطورة هنا وهناك . لأن الفشل هو شرابنا الوحيد هذه الليلة ، فَلِمَ
يا أندريه بروتون لا نطلق عقال قريحتنا ونبحر إثر ذلك في شحوب الكلام المنثور
على سرير الصفحات البيضاء حيث " كل فقرة روضة وكل معنى كأس مدام " .
ومهما يكن من أمر ، فإنه يمكن لنا ، فيما بعد ، أن نتداول فكرة متوالدة أبداً :
فكرة تبعث في أوصالنا أحاسيس باردة برودة الحياة حتى تكون نهزة هذا الاهتياج
الناتج عن ضعف متأصل في واقع القطيعة الشعرية التي تتغورها ثمالة كبرى .
لكن أهي ضرورة يجب أن نخترم عورتها ؟ اللغة ذاكرة لا يتم اشباع رغباتها إلاّ
بالتداعي الحرّ . إذن ، كيف يمكنكم احتراشها في احجارها ؟ هي ذي الأنوار
تعمل سكاكينها في صلب العتمة لكي ترتقي هامة الانسان الرثيث ، انسان عصرنا
هذا . يستحيل . ليس بامكانكم مدّ الحجاب على ما تعانونه من توهج ورغبات حارة لعبور شاطىء النار كيما تتوغلون في الطريق الى المجهول .
إنّي أتذكر الفجر .
إنّه آتٍ يستعير بهجة طلوعه .
فالشوارع ملأى بالتنويعات الهائمة . والمعرفة جفافٌ يبزغ وسط الكلمات . أمّا
الواقع فإنّه بهيمة تسلك ، بحذر ، تضاريس الحلم النائية . لكن ..
تقهقراً ، ثمّ .
هذا ما تفعله ، في أحيان ٍ . أيها الشاعر المقتفى أثره . في " أحايين " تتكسر على
الدوام وهي تستعير ايحاءً رتيباً :
في مسرى الاضطرار
ألمحُ شواطىء ترتجف في قارب معلق في " ما بعد " وفي " ما قبل " .
أكتب نهاراً يلتهب " هنا " ويتملص من " هناك " .
وقبعة مبيّضة ببلادة المعنى تتطاير في الفراغ . لكن من بعيد ، يبدو أن تأججاً
يحلُّ ظلاماً فيستيقظ أسخياء الصورة بصفعة الشمس .
هكذا تثير الأفكار حافظتي . اي اندريه بروتون . غير أن باطن الفكر يغيب دوماً
عن عيان اللغة . فالمطلوب ، إذن ، لغة محفوفة بالفكر لا فكر محفوف باللغة .
لكن ، نحن الشعراء ليس بامكاننا إغاثة حقبة ما أو صيانتها . إذ كل ما بوسعنا هو
أن نعبّر عن هلاكها فحسب . ومع هذا أن نتخلى أبداً عن حاسة التذكر : تذكر ما
لا نعرفه .. اواه . لا . لن .
نحن ننسى لكي نتذكر . إذ ما من دليل في هذه الحياة ليُتبع . فوضوح طرس الأفكار الغامضة يخجل محيا الأفكار الواضحة .
إنّي أتذكر جسد الكواكب المتطايرة بين الصخور ، انك تمر من هنا ، من تحت
ندوب فزع مذبذب . تمر دون أن تعرف كلل افتضاض بكارة المستقبل الساجد
أمامك جملة استعارية . فما أنت إلاّ شاعر ، جنون يكتب نفسه بنفسه بعد أن غشيت نبراته ظلل المعنى ، وهكذا تؤرث اللغة لكي تتوامض الكلمات .
اندريه بروتون . إنّ العالم الراهن حيث " العقل آلة العبودية لا للاشراق على
الحرية " ، لهو مكابرة ومماراة . ابداعات متساكنيه إن هي إلاّ وثائق كذب للظفر بحقيقة .
رَ فارس العصور الوسطى يميط اللثام عن وجه الغابات
رَ طائر الميول المزدوجة يفتش عن مظلة
رَ السماء تطور بالأرض ، فتنفتق الصور . إذ هاهي لحظة الزوابع والانهيار ،
وهاهي كتل الرذاذ تقرع الأذان المتناثرة السمع . لقد دقّت " ساعة الانتقامات "
ساعة القطيعة مع هذه الليلة التي طالت ، الليلة التي سأتركها حتماً فريسة نكرانها لي ولك وللقارىء الذي ينتظر مصيره حبراً على ورق . وداعاً قارىء هذه الكلمات . إنّي ماضٍ الى أرض شاسعة حيث الشعر فوضى على النظام : أراضٍ بعيدة عن ناصية التسطير حيث توثين فكرة الجمال إرضاء لك لا غير . لأجل أنَ هناك فقط في تلك الأراضي سيكون بمقدور المرء أن يكتشف بنفسه ما قد كشفته نفسه دون أي اكتراث مباشر بك .
أنا خارج الى هناك ، الى الداخل حيث ذكرى بروتون موحية حدّ الاقرار بالحاجة الى مضغ تبغ الجنون ، وها أنا أمضغه بمتعة ليس لها قتيل ، ذلك أن الضوء ، وبمعزل عن أية عاطفة أو نيّة لتسبيب مغامرة ، يطمس فيّ الآن .
آهٍ ، كم هي الذكرى وكم هي الى الجنون صائرة ؟
كان يكفي أن أرفس قطيع المرايا كي أشعر بأن الحقيقة تولد في فمي . كان ذلك
في فجر اكتشافي للسوريالية ، اذ عرفت أهمية المكوث بين صرخات خواطري،
فعلى الجانب الآخر من المسؤولية الانسانية كانت الطيور الحبيسة تأرجح بين
طوطم وتابو ، تنقر زجاج التاريخ ، وحقيقة أخرى كانت تبعث حيّة . لا محالة .
لقد سقط الفجر مهشماً ،
واللغة تشهد هزيعها الأخير .
ثمّت يوم سيركب الشاعر فيه اللغة مجذّفاً بها فوق الصفحات ، وإذاك تعود
القصيدة غانية يشاعرها ذلك الذي يتشبح ، أبداً ، سرّ الكلمات .


صباح سابق لحرب مقبلة



{ من " مرح الغربة الشرقية " . كراس " النقطة " باريس 1984 }

الى لقمان سليم

لا أحدَ في الشارع
دمٌ جاسدٌ
أفق يشمّرُ عن زرقته
سابراً أحوال مزبلةٍ
أسفل العريش .
لا أحد في الشارع
الظلمة ملقاة وسط الطريق
حيّة يرون عليها النعاس
عند بساط الرحمة .
كلبٌ يهرُ
والريح
تهبُّ جلّ الوقت
تتكىء تارةً
على حائطٍ
وتارةً على علبة كبريت .
لا أحدَ في الشارع
غيري أنا
بريقُ النجم
وطيف ذلك الذي
ذبحوه .



باول تسيلان وردة اللا أحد



{ مجموعة قصائد نشرت تحت نفس العنوان في " كراسات النقطة " باريس 1983

1

أيامئذ ، لا ندري أين هي جذوة الحياة لتبريدها
كلّ شعراء العالم سائبون
كلّ لفظ فيه كمين
كلّ طفاوة
يثار غبارها في كلّ حين
نستثيبها في صحراء التيه .
هنا تنشط القصيدة
هنا سوّينا الكلمة : انسان .



2

جولان . في خرائب الصورة أصول وأجول
انظر في تلك الجهات
أفجارٌ تتفتح على قمم الليل
ممرات تفضي حتى بياض الأرض
الصمتُ يبلغُ صراخه المرآة .
ها أنا شاخصٌ
الى جبال دون وديان
يطوف الكلم بأعلاها
قاصداً أشجاراً تلدها ثمار .
هنا
في خرائب الصورة ،
شبث الانسان بالحركة
فتشقق الظلّ .



3

فانوس ، اليوم دينونة العالم
رجل تتنضده مشاريع ،
ستقع الثورة ، من لدنه ، هذا المساء .
طوبى للكلمة التي لفّت في كفن
طوبى لهذا الطيب المحفوظ ليوم دفن الشعراء .

4

حواس : ذاهبون الى أطراف الظلّ
بين صور تتلاحق
ومعانٍ تتلاقح
ثمّة نسب هو الطفح .
لُبس يجلو ظلم البياض
وهو يفرُّ من سطر الى سطر
نازلاً بنا شطّ الأبدية .
قاع صخوره تهتز
الرمل يتفحّذها
فتربو الطحالب .
في الرأس يشرق جسد الأرض بطيب الكلام ،
طمياً نُجبل منه ،
نفتته في كلّ برهة خطاب .
ها نحن نساحله في هذا الليل النائم
حيث صمت يتناءى
صوب الفاكهة المحرمة
تاركاً إيّانا وأصابع الكلام تطرق الفراغ .
ليس من منقذ
الذاكرة تتواثب حولنا .
تستحيلنا . نشعر باصفرار ضحكتها .
النسيان تحت هذا .
الانسان أنفه .




اشراق



{ من " شيء من هذا القبيل " / 1992 }


لا أحد يعرف ما هي المرآة سوى " شخصان " الذي يصامتها عند الغسق .
شاخص البصر ، فشخصان هذا مثبورٌ بصورته ككل الشعراء الهائمين في
وادٍ من الظنّ بصورة جميلة . على انه عارف ، منذ نعومة أنظاره ، بأن
وجهه لن يُرى إلاّ معكوساً على جسم صقيل ، لذا قرر اليوم أن ينفرد والمرآة .
راح يحاكيها عيناً ومعيوناً . ينفث فيها حتّى الدخول الى جوفها :
نورٌ أنّى يرى ، تتخايل فيه آلاف الصور المخزونة ، يستحي بعضها من
الآخر ، تروح وتجيء موجاً بلا شاطىء . طفق يجمعها في قنان ، كما لو انها
هوام مصيرها التلاشي في جسم النور . غير أن صورة انزلقت من بين
أصابعه الى هَويّة المرآة ، لم يستطع الامساك بها . اذ انغلق عليه الانعكاس .
أخذ ينطّ برأسه الى الشرخ مردداً : " انها صورتي . انها صورتي " .
اختلط عليه الرديد . شَعَر أن بريقاً يجرفه الى الجهة الأخرى . ينأى به الى
صورة توهمها ، فاذا هي خيال يرتسم فيه شخصان تتقاذفهما الشظايا في قصدير
البياض كأنهما كوكب في مجذاف .



غواسق وأظفار



{ نشرت في " تدفق " }


التجديف صرخة الله اليائسة .

***

نظرة الضحية تخترقُ جلد السكّين .

***

أيّ ظلام هذا الذي لا ينطوي على شعلةٍ ؟

***

النهر يستمنيه مجذاف .

***

عند كل حادثة موت ، يغسل الله يديه .

***

الفكرة طمث الدماغ .

***

لكلّ كتاب نار ما إن تُسرق حتى تعود رماداً .

***

الايمان انفراج ينفذ منه الغيث .

***

هذه هي آثار جراحي تتساءل عن أسمائها .

***

منذ ظلمة ، أجفل الليل ، والنهار ليلاً ساج في حضن ضوئه .

***

في ذكرى البسطامي : لينزل هذا الذي في السماء بجناحيه

وسأريه من هو الأشدّ بطشاً ؟

***

لنختلس ، أخيراً ، نظرة الينا . خروجنا الى الداخل .

***

متى يكون لنا حركة . سطح وحوش . عودٌ الى حياة طبيعية ؟

***

اللون تبحر به الريشة الى عرض الفراغ .

***

سأنام ، حتى أتبين سدول الشعراء . قصائد منسية .

***

الأبراج عاجية لمن لم يعد له زمنٌ ، داع لوجوده .

***

في كآبة العزلة ، كل شيء يميد إلاّ الفكرة .

***

ما إن يسكت كلّ شيء ، حتى تستيقظ وشوشة الفراغ .

***

لكلّ نبي بيت عنكبوت ينسج فيه ماضياً ليتخلى عن ماضيه .

***

لولا جهلي التام بالنحو ، أكانت هذه النصوص بشكلها الحالي ؟

***

الحكمة قبو تحلم به السطوح .

***

قاسٍ لأن السنوات . الأيام والأشهر سنوات وأيام وأشهر .

***

كلنا آلهة تبحث عن إله .

***

هاوية الوطن عش للآخر .

***

اقتصاد في يمّ اللغة . رؤى لها شهقات تبكي حصى التفكير .

***

لم أعِ اني أكتب ، والضوء مطفأ ، على جمرات الماء .

***

في هدأة الليل نهار يولول . عوالم تعلو وتندثر .

في هدأة الليل ، الموت يُلاعب الحياة التي نحلم .

***

لماذا كلّ هذه الكتابات ، هذا التنافس بين السنوات

وتيّار النسيان يجرف كلّ شيء في الوقت اللازم .

الأرض في زوال .

***

الشعر دخل المحنة : له مكتشفون لا سوّاح .

لم يعد عدمٌ ثمّ . الفراغ يتشظى داخل الفراغ .



صناعة الشعر


{ من " تدفق " }

من ضلع الأفعال تنبجس الأسماء ، ومن عين الأسماء تنبجس الأفعال درجة في
سلّم الخلق : " فليكن ... " وهاهي ولادة جديدة للكون .
كان المبنى خالياً عندما انفتح ثقب صغير يؤدي الى دائرة السلّم . انها ساعة الغروب . على انه في اللحظة التي ارتقيت فيها السلّم ، بين النائم واليقظان ،
كان الرجل الذي يعيش في الطابق الأعلى مع الجن والملاك ، قد وصل الى الدرجة الثالثة نزولاً ، بينما رجلي اليمنى بلغت الدرجة الرابعة صعوداً .
لكن كلما تمرّ ثانية ، أشعر بأن الدرجات تأخذ بالازدياد . وكلما يسري بي ،
أسمع صوتاً يفيد بأن ربّ البيت سيرسل دابّة يقال لها البراق ، دون البغل وفوق الحمار ، يصعد بي الى سدرة المبنى . كان مجموع درجات السلّم ستّ عشرة درجة . أنّى ينزل أصعد : مباراة في القدرة على بلوغ الغاية . وما ان بلغت
حتى تراءت الدرجات كأنها زحافات يجهش اليها الايقاع . طفق الرجل يتوقد
فيتأجج وكاد يُشطر بعضه عن بعض من أجل نزلة أخرى . فاصلة مشدودة الى وتد بعيد يمكّنه من الثبات . غير أن علّة جعلته يتهاوى كتلة نور ترتطم بأسفل
السلّم فتتشظى الى شعل صغيرة سرعان ما يكتنفها رجال الارصاد الطالعون من
حوائط المبنى .



قَسَم



{ من " تدفق " }


سأكتبها بعد دقائق
ساعات
سأكتبها حتماً
غداً
بعد أشهر
سنة
اسبوع
لكن سأكتبها
بعد عقد
قرن
أو قرون
سأكتب
هذي القصيدة
اللعينة
التي ستمثلني
يوم الحشر
أمام الله
وأنا أُشاعرُ
جارية لعوب .



عندما لا يرى الشاعر ... قبره يراه



{ نشرت في جريدة " القدس " منتصف شباط 1993 }



الى أدونيس صديقاً


وأنا مستطرقٌ في سان جيرمان
تذكرت بودلير وما كان يألفه من فرق
بين المتسكع ، المنحبس عن قدرة النظر
والمستطرق ذي العيناء الراصدة كل ما هو أبدي ، انفلاتي
ما يدخل تاريخ الخلق
حتى التَمحتُ شاعراً كشعرائنا
يخرج من المسرح حاملاً مرايا
انعكاس يطفر من جرمها
فيبهره الى المقهى المقابل لتمثال ابولينير
الذي لا يراه
ولا حتى تخترقه صورة بروتون
محتجاً من خلف السياج
ضد بيكاسو .
مُستطرِقٌ في سان جيرمان
للمكان تاريخٌ ، ماض تنمو حوله الأعشاب .
أدخل المقهى
وإذا بالمتسكع يلتمسني جهراً .
عيناه البيضاوان " خيمة مليئة بأصوات النهار
وأشباح الليل " .
يبرق منها أعلامٌ فأعلام
تملأ حيّ سارتر ورينيه شار :
أبو نؤاس ،
النفري ،
أبو تمّام ،
الكتاب
" أربعة عشر قرناً قبل مالارميه كان
أساساً للعالم وخلاصة له وخاتماً للكلام "
المتسكع تبرق عيناه – ومقهى بونابرت منذ أعوام كالمعتاد –
دون أن يدرك بأن الأسلاف مسلةٌ أمام السوّاح :
مجرد خطوتين ، ويكون له
عينٌ في يد
ورأس في أخرى .
القصيدة زهاؤها .
المتسكع فَجَأتهُ أصوات سحيقة في سلّم العرفان
فأبى إلاّ أن تَجهرَ " الجائزة "
بأنه الكتلة
الاسم
وصدمة المكان .




7 - عبد الرحمن الماجدي في مجموعتيه الشعريتين

{ أختام هجرية } و { المعنى في الحاشية }

عنف اللغة بين التاريخ الشخصي للألم والمفارقة



عن منشورات بابل { المركز الثقافي العربي – السويسري . زيورخ – بغداد } صدرت للشاعر العراقي عبد الرحمن الماجدي المقيم في هولندا . مجموعتان شعريتان بطبعة جديدة هما { أختام هجرية } و { المعنى في الحاشية } وقد سبق للشاعر أن أصدر المجموعة الأولى عام 2001 عن { دار مخطوطات } في لاهاي المتخصصة في طباعة الكتب اليدوية تحت عنوان { ممالك لغد حيران } بينما صدرت المجموعة الثانية عن الدار نفسها عام 2005 . ضمت مجموعة { أختام هجرية } 33 قصيدة . 8 منها قصيرة ومن دون عنوان ، وضمت المجموعة الثانية { المعنى في الحاشية } 22 قصيدة منها 8 مقطعات من دون عنوان . عبد الرحمن الماجدي المولود عام 1965 والذي درس الأدب الروسي وتخرج في جامعة بغداد عام 1989 . عمل في عدد من الصحف العراقية والعربية وترجمت الكثير من قصائده الى الانكليزية والهولندية والفارسية . له الآن تحت الطبع ترجمة لكتاب شعري عن الهولندية ومن المؤمل أن يصدر قريباً ببغداد . شاعر لا يهمه الظهور الفارغ ولا يطمح ألاّ الى اغناء قصيدته وشحنها دائماً بالجدة والمغايرة . وهو في صمته وعزوفه عن النشر الدائم يحاول أن لا يحسب على جيل أو طائفة معينة أو أيّ شيء آخر سوى الجوهر الحقيقي للشعر . اللغة عند الماجدي في هاتين المجموعتين عنيفة ومحتدمة وأعتقد أن الحدة والعنف هنا يعودان الى الوقائع التي عاشها وخبرها في ماضي تاريخه الشخصي . والميزة المهمة في نصوصه تكمن في استخدامه لتقنيات متعددة مثل المونولوج و{ البالاد } الحكاية الشعرية والصورة والسرد الذي يأتي أحياناً غاضباً وحزيناً وينأى عن الإخبار والتقرير والمباشرة ، عبر لغة محتدمة لا تنساق الى الأبنية القديمة للبلاغ الخطابي . وتبدو الصورة الشعرية التي يقدمها الماجدي عبر قصائده بعيدة عن أشكال البيان التي تتوسل التشبيه والاستعارة كما هو سائد اليوم في أغلب الشعر العربي الراهن . واعتقد أن تجربته الشعرية التي يطمح الى تقديمها بقوة ومهارة عبر التجريب والقراءات الدائمة والبحث عن المغايرة جعلته لا يشبه إلاّ نفسه وهو يصدر هاتين المجموعتين اللتين بدتا لي انهما نتاج تجربة ناضجة يحنو عليها الماجدي بشقاء كبير من أجل الجوهر الحقيقي للشعر والاخلاص للفاعلية الشعرية التي يريد من خلالها أن يعبّر عن مصائر الأشياء في العالم والطبيعة والزمن والتحول والصيرورة . يفتتح مجموعة { أختام هجرية } بقصيدة قصيرة لا تخلو من معنى عميق وهي من ثلاث سطور يعلن فيها :



{ لا يعبأ بمكائد الذهب
طريقته مسوّرة
بختم العارف .



نعم . طرق الماجدي في نصوصه المشحونة بالرموز والصور والمعرفة العميقة ، مسوّرة بأختام تجربته الطويلة التي يسعى دائماً الى دفعها صوب الغاية القصوى للمغايرة والابتعاد عن السائد والمألوف .



1- أختام هجرية



لا يخفي الماجدي مرجعياته الشعرية والمعرفية العربية في كلا المجموعتين وهو حين يؤرخ لتواريخ قصائده فانه يؤرخها حسب السنة الهجرية . أن التراث العربي الذي يتسلح فيه الشاعر وبانت رموزه ولغته في تجربته هنا ، لا يخلو من فائدة جليلة في كتابة نص يتوسم الشعرية الجديدة التي تزيح لغة الخطاب المألوفة بغية خلق علاقات وعلامات وأحياناً تضادات تضفي التوتر واللاطمأنينة على مناخ هذا النص وهو يسحبنا الى قراءته بامعان بعيداً عن الخدر الذي نألفه في قراءتنا للنصوص التي ينتجها الشعراء الآخرون ممن مللنا من تجاربهم التي لا تتغير أبداً ، واذا كانت العلامات التي تتقدم بعض النصوص في مجموعة { المعنى في الحاشية } تمهد الطريق الى القارىء صوب ما أراد أن يبوح به الشاعر ، فانها من جهة أخرى تبدو مراوغة للقارىء اللافطن ، ويلزمنا هنا التعامل مع النصوص بحذر لكونها تنحو نحو السرية والغموض في شفراتها التي أراد الماجدي أن يغلفها بخبرته ، مع أننا نعرف أن هناك بعض النصوص التي يقدمها الشاعر بصيغ ليست سرية ولا غامضة وهو يتحدث عن وقائع تاريخه الشخصي وتاريخ أسرته عبر سرد يتوسل المفارقة والصورة وتدمير الصيغ البلاغية للشعرية العربية في أنظمتها وأنساقها التي نعرفها .



{ على سطح بيتنا ببغداد وجدنا
مقبرة
سكانها :
أبي
وأمي
واخوتي
وأنا .
أسكنونا مكانهم
وغادروا .
دموع على الميتين
عنوسة رابضة
أبناء مكررون
ونبؤة عاطلة .



قصيدة { مقبرة } مجموعة { أختام هجرية } .



في قصيدة { هروب } وهي حكاية شعرية درامية ، يبدو بطل القصيدة { سلمان } وهو خال الشاعر المصاب بالفالج شخصية تعاني مأساتها عبر تغيير أولاده لمهنته من فلاح الى عامل .
الرجل يلزم الصمت من جراء الفعل الذي قام به أولاده ، لكنهم ذات ليلة سمعوه { يبكي كالثكالى في فراشه } . في الصباح يختفي الأب . الأولاد بحثوا عنه في الحارات والبيوت و { رؤوس الشوارع } لكن من جدوى . بعد أيام يأتي زائر الى بغداد من مدينة { العمارة } ويخبر الأولاد عن شيخ { وُجِد ذات ليلة يبكي كالثكالى في مشحوف نابت في طين الهور الناشف مصاب بالفالج } . قدر هذه الشخصية المأساوي انها لا تستطيع تغيير نفسها حين تهجر أرضها وتنتقل الى أرض أخرى . ظلت وفيه الى عاداتها وانحدارها الطبقي حتى النهاية وعادت تتشبث بطينتها الأولى . في قصيدة { ارتجاف } تبلغ المفارقة ذروتها حين يعري الشاعر أولئك الشعراء الذين يتسابقون على المنابر وهم يتنطعون أمام الجمهور الذي يشبههم في ذائقته الفقيرة وجهله في الفاعلية الحقيقية للشعرية الجديدة . يقول :

{ سألتُ شاعراً عن ارتجافي على
المنصة .
أجابني مرتجفاً :
الشعراء حقاً هنا يرتجفون .
ازداد ارتجافي
فارتجف الميكرفون
المنصة
الحضور
والقاعة .
حينها تمكنت من القاء القصيدة .



أن هذا الارتجاف والحيرة التي يشعر فيها الماجدي عند المنصة وهو ينظر الى الجمهور الذي يريد أن يفهم ما يقوله الشاعر . تبدو حيرة مركبة ، فهي من جهة تمنحنا الشعور بالغثيان من هذه المنصة ، ومن جهة أخرى هو شعورنا بتفاهة الحضور في القاعة وهم ينتظرون ما يطربهم ويهز احساساتهم البليدة ، لكن قصيدة الماجدي لم تكتب الى الجمهور ولا يريد لها أن تدغدغ عواطفهم وفضولهم . انها قصيدة ذات شعرية وحساسية جديدة تمتحن قوتها ودهشتها من التواصل مع المغامرة والأسرار والرموز ولا تعبأ للمتبطرين والعاطلين عن الفعل . في قصيدة { ضيوف فوق العادة } يضفي الخطاب على الواقعة بعداً درامياً عبر السطر الأول في النص :



{ آخر الليل – أول الفجر
صرخ بي جرس الباب
مستغيثاً ،
كاد الطارق يدخل بأنفه
العظيم ، من عين
الباب .

ومن خلال قراءتنا للنص يتكشف لنا المحمول الكامل للواقعة التي يعرفها كل شخص عربي من المحيط الى الخليج والتي يمكن أن يتعرض لها الآلاف من الناس في كل يوم . ما أقسى أن يطرق أبوابنا في الفجر أولئك الذين يحملون المسدسات ويقتادوننا الى السجون بسبب وشاية أو بسبب رفضنا للظلم واحتجاجنا على الأنظمة الديكتاتورية وسياساتها الخرقاء ؟



{ دخلوا رغماً عنّي
فجلسوا يحركون خواصرهم
بحرفة ، لأرى
حملهم الثقيل .
دسّوا اسمي عمداً في
أحاديثهم المهموسة .
دعوني لزيارتهم رغماً عني
وغادروا .



يبدو المتحدث في هذه الواقعة المؤلمة وهو يحاول دفع هؤلاء الضيوف الذين هم فوق العادة . أن يحتفظ برباطة جأشه وهو يعلم أن مصيره معلق ما بين أيديهم ، ومن خلال الاختزال والقطع في الخطاب ، يقدم واقعة حقيقية تبتعد عن المبالغة في تصوير المفارقة .



{ كان الصباح يهرب تاركاً
لنزواتهم مقاليد يوم
طويل .



يمنحنا المعنى السري للواقعة هنا بعداً درامياً نستطيع بواسطته أن نلغي الاشتراطات القصدية في الخطاب من أجل الوصول الى ما وراء الواقعة ، واذا كان النص هنا يظهر المعنى المألوف للبنى الدلالية عبر تركيزه على { الوحدات المكونة للنص } فانه سعى من جانب آخر الى تقديم الجانب النفسي للشخصية في مواجهتها للواقعة التي تسردها .



2- المعنى في الحاشية



يبدو الاختلاف واضحاً بين هذه المجموعة والمجموعة الأولى التي أصدرها الماجدي قبلها بسنوات . اختلاف في الأنساق والعلامات التي تحيل الى الوقائع وفي الرموز التي تبتعد عن الخطاب ودلالاته اليومية وتستمد جذورها من الأحلام والذكريات والحالات النفسية التي عرفها الشاعر فيما مضى . حيرة الشاعر الآن أمام اللغة تجيب عنها قصيدة { سؤال } ، لكنها حيرة العارف الذي يريد لنصه أن يتقدم وسط الأدغال الدلالية للشعرية الحديثة . في قصيدة { الأيام } يبدو الاحساس بثقل الزمن على حياة الماجدي مكثفاً عبر مونولوج شفيف يبدأه كالآتي :



{ الأيام أعدائي
أحكمُ اغلاق أبوابي بوجوههم .



لكن هؤلاء الضيوف الأعداء الذين يطعمهم { مللاً } ويسقيهم { يأساً } ويقطعُ { ساعاتهم بسكاكين النزق } . كل هذه الأفعال التي يقوم فيها هي من أجل ترتيب معاركه القادمة في الساحات { المغلقة لملاعب رأسه } . يتكرر الاحساس بوطأة اللحظات التي مرت وطواها الزمن في القصيدة الأولى من المجموعة { يواصلون لفافاتهم } وقصيدة { شيخ لعوب } وقصيدة { الجميلات آنفاً } وقصيدة { النوم السابع } . واذا كانت معالجة الماجدي للزمن طاغية في هذه القصائد ، عبر رصده للحظات التي مرّت وتلك التي ستمرّ ، فانه يحاول أن يبعد المناخات الرثائية والحزينة عبر اصراره على اقتناص لحظات السرور القليلة في العالم والاحتفال بسريتها وجذوتها العميقة . في المقطعات المكثفة التي جاءت من دون عناوين يكشف الماجدي اللثام عن الأشياء والعالم الواقعي للمحمولات في هذه النصوص ويتحدث عبر كلام معبر لا يحتاج الى ابهام أو غموض أو اضفاء الصفات البلاغية على الكلمات . أن النصوص هنا وهي تركز على المفارقة تمنحنا ما لا نريد أن نعرف من خلال التباعد والتضاد بين المعنى والخطاب .



{ الخديعة
حفرة عجيبة
يزداد عمقها
كلما هدأت معاول الشك .
{ يا صاحبَي العربة
أحدكما سيأكل من رأس الآخر
ولن يسقيه ربّه شيئاً .

{ يا أخي
يا من ينظر لسقوطي الوشيك
ادفعني بكلتا يديك .
{ سأدعوكم لحفلة تنكرية
هل توافقون ؟
لنخلع أقنعتنا اذن .



لا أريد في هذا العرض السريع للمجموعتين أن أعطي رأياً جازماً في ابداع الماجدي وتجربته وسأقدم هنا قصائد من كلا المجموعتين واترك الحكم الى القارىء .



قصائد من { أختام هجرية }



حديقة الرحمن



أشار الينا
وفي الظل تسلم نياشيننا
عندما الآخرون نسوا عيونهم
في مباخر
الأساقفة .
أشار الينا
وأطلعني على آيةٍ منه ،
على لحظة يقينه
فتعرفت على وريثه في بهو
كلامه
عندما الآخرون ألبسوه قميص
الردة
وخاطوا فم يومه بالوشاية .



***

على حشائش تأويله
نصبتُ شؤوني
وسوّتها بالفراغ
وأجلستُ براهيني على أرائك
حكمته
مستدرجاً الحاذقين لعسل
انتظاره .



***

أنا الشبيه .


***

وأنتَ آت
فتش عن ثقتنا في ثيابه
فاللذة ، جنده الصغار ، دفنوها
في كاتدرائيته .


***

يا أحد عشر غائباً
خذني لأجرّك
وطوقني بالهائل من أسيافك
لأحصي هزائمي
وأعيد بها ترتيب يومي .
قدني لمأدبة شراكك
لأسترد طهارتي من دنس
غيابك .
ادخلني حديقتك
لأتذوق طعم الغفلة في ضحكك .


***

أنا الشبيه .



***

هيأت لمحنتك خاتماً
وصولجان
ورعايا يهتفون
ملكاً لا يبلى
وهيبة عظيمة .
حاشية تكتم السر ّ .
أعياداً
ووفود تهنئة
وضحّاكين .
ألسنة تتناوب برطانات شتّى
وكاهنة تتقن قراءة الطالع .
خرائط ومسّاحين
سككاً للعيّارين
شرطة ومطلوبين .
فرساناً
ورجّالة ،
ماثانيين
حواريين
وروافض
هبطوا من الأرض
وعادوا بنياشين معطلة
ووصايا تخذل الوارثين
تحثني بأحد عشر صامتاً
أحد عشر منتظراً
أحد عشر غائباً
دخلوا الحديقة
وموّهوا رسومها
مذ الآخرون نسوا عيونهم في
مباخر الأساقفة .



هناكئذ



مكبل بحضورك أيها التعب
وبألواح الفيروزج
ملقاة في قبو الظهيرة
يعاينها دهاقنة يرقبون بريد
الملائكة .
أشيح بوجهي عن وجهي
هارباً بمصاحف الموتى
وبحضورك أيها التعب
تاركين شبهتي بلا طيلسان
فرجة لسيدين يتواريان عن
العامة .
بعيون معصوبة
يساومني ميت على جثتي
فأسمعُ شغب الموتى
وأشمّ وقار المبعوثين
فيفتح الأبد بابه على رهط
يختلفون :
{ تلكَ أمكم
فأعدوا لها لبوسها يا بني ماء
السماء }
وقّدوا سراويلكم بالفؤوس
لعل بني ماثان يسرون ليلاً
لصيارفة الكهف
يسكّون لهم أروقة بلا عسس
والذبيحين يكفان عن عراكهما
حول حلم أبويّ .
تلك أمكم .
أضع عيوني في كيس ورقي
وأرد المجلس من جهاته الستة
لأشهد قلوب الأنبياء وهي
تغتسل في طشت من
ذهب .
أؤرخُ البارحة بتصانيف
النسيان
وأعلق ، مع الفتية علاماتهم
على أبواب
المدينة .
أشيح بوجهي عن وجهي
ازاء صمت طويل لآباء
مجهولين
يتناقلون ارثهم بهمة .
هناكئذ
سأترك جثتي على جدار
مصدوع
قبل أن تغلق الجنة أبوابها
الزرق
بجنود يخرجون الكمثرى
يحرقون رايات البكّائيين
وينثرون دموعهم على المارة
ليشتريها فلكيّ يرافق المغول .
يعري آخر آبائي علته
لدم يتجلد في كؤوس
الحجّاميين
واهباً أتباعه غلماناً من فضة
يرقبون – في وصايا الغائبين –
عودته .



خروج أخير



بالفتوحات التي يدونها
الماضون للاحقين
بمعاول تثلم هندسات الملل
بحشد من الشعائر تقولُ
للراكضين : انسوني
بآباء مجهولين يختلفون على
نسبٍ مجهول .
أخرجُ
بهيكلِ من يمشي على جثته
بجلد ينوس تحته نما العافية
فأرى بأكثر من عينين
أمراء يفركون بأفخاذهم خواتم
شهواتهم
أطفالاً يقذفون بأسنان
ضحكاتهم الأولى لشمس
قديمةمعداناً يتكاثرون
فيعادون لسراديب غفلتهم
سرّيين يتوارثون غصة
غصة العارف بموته ،
يحبسهم طهاة التأريخ بقدور
الوقّاتين
وقاتي الغلط حتى يصل لقامة مديحهم .


***
أشتبه بشبهتي
فأهزّ بيدي أجراس خسارتي
أحشو المسدس بورد أسود
أصوّب ضجري لاستراحة
البستاني
فتفقد الحديقة بصرها .



***

بكَ أيها النسيان
يا مقراض القلق
سأنتهي من مذبحة حيرتي
فاهتدِ إليّ
يا حطّاب الألم
ارحمني من تركة الغياب
ودَين التذكر أسددهُ لسيّاف
الماضي .



***

أخرجُ
من اساطير تتعكز على خدرنا
أرمّم منارات يقيني
بعيني النسر تمنحان الحظ
لعابر فلوات الشك
بحرقة الدفّانين يرشدون
النغمة
ولن تصل
لوجهة اليقين ،
بسعالي الدهشة تعطّل اللسان
بخيول اللذة البلورية تتقافز
حول نيران الجسد .
أرممه بيقين اليائس من شك
يؤكد اليقين
أرصُّ الإرث المنتقى في
أكياس خيش الأيام
أرقمُ وجهاتها بليطة الغابرين
وأخرج .


***


آنية القلب أعددتها لضيوف
الطريق ، التي يسلكها
الهداةُ
حين يعبرون مغالق الذات
القيّمين على المكان
أرباب المأدبة
أرباب الجسد
في زورق النوم الكبير .



هندسة السهو



أجاملُ الطريق
أتأملهُ
ليتسع لخطواتي
وللاثنين اللذين أخصهما
بعنايتي :
أحدهما يصفّ مقاديره على
سقالة الحاضر
ويغوي القابل من آثامه بهندسة
السهو ،
وسواه يدل على منابع الألم بيدٍ
وبالأخرى يطبب العائدين من
أكواخ الذهب .



قصائد من { المعنى في الحاشية }



سؤال



كيف أصفُ المشهد أيتها اللغة ؟
هل أقول : ركضت جثة الجندي
خطوات بعد أن قطعت
شظيةٌ الرأس ؟
أم أقولُ : تدحرج الرأس فيما
ركضت الجثة خطوات ؟
أم أقولُ : اختفى الرأس فهربت الجثة ؟
أين أصبحَ / أمسى / باتَ / صار / .. /
الجندي ؟
مع الرأس أم مع الجثة ؟



غريب



وأنا أتأملُ الراقصين
همستي لرفيقكِ : مَن هذا الغريب ؟
في الصباح كنتُ أنفضُ شرشفَ
صَحوي مِن حلمٍ راقصٍ ،
كأنكِ همستي لي فيه : مَن هذا الغريبُ ؟



رثاء


غداً
حينَ يأكلني الموتُ
حين يمضغني نيئاً
لن يصغي ، كأصدقائي ، لصراخي
سيمصّ روحي
ويرميني قشرةً صمّاء بكماء
ليعلك الأصدقاء رثائي
بكلمةٍ
لا يصغي أحد لصراخها .



عطالة


ممدداً على حصان ليليٍّ
أتابعُ مشاهد حلم تافهٍ
يدور في محطة رأسي .
تدوسني همّة الجيران الصباحية
فأنهزم من حرب المنزل
التي لا أجيد المناورة فيها
مفرغاً فشلي
ركلاتٍ على مؤخرة النهار .



اوديبيّون



حَملنا أبانا على عاتق أخطائنا .
رميناهُ مربوطاً
على تلة الذنوب .
رجمناه بضمائرنا
ورحنا نكتب شاهدته :
هذا جناهُ أبواي
وأنا جنيتُ على سواي .



خِدمة العَلَم



{ تميمة فاتَ أوان ربطها
عاطلةٌ إلاّ برأس رهطها }



عِش ، خافقاً أو ساكناً
في علوٍّ أو دنوٍّ ، لوحدك
فلن نعتصم بكَ بعد الآن .
يا آكل أصحابي .
ألبستنا ثياب الذلة
قطفتَ زهرات العمر
على ندرتها .
قشعرتَ جلودنا بصباحاتكَ البالية
وَخوزقتنا بساريتكَ .
تحمرّ حين نصفر
تبيضّ حين نسوّدُ
تخضرّ حين نتيّبسُ أمامكَ
لتذكرنا بحياة سوداء .
تطوطمتَ علينا أيّها العَلمُ .
انشغلنا ، سنواتٍ بتنظيف ذقوننا
من ضحكك .
لستَ سوى خرقةٍ
سراويل حبيباتنا أزهى من ألوانها .
حمّالات صدورهن أحقُ بالنشيد .
فَرفرف بعيداً عن هوائنا .
اننا نتنقّه .



هدية



أنا هبةُ الهمّ الجزيلة
أكللُ اليوم بالسواد
فتجَهم
أو ابكِ
لأرى ماء شؤنكِ .
زجاجة القلب تحطمت
وها بيضات الخيبة تفقسُ .
فدُر في دوّامة القلق المُغلقة
إذ لا معين
سوى فتى الحيرة الثرثار
يقودكَ كأعمى
يفكرُ أيّ الظلمتين يختار .



اقتران



كلما أمسكُ أمنية
تدلي قدميها في القبر
قائلة : اتركني ، أو أنزلك معي .



ساقُ صالح



كُلّ ما في صالحٍ صالحٌ
إلاّ ساقَهُ
عاطلة عن العمل والأمل .
كَي لا يأكله شرّها
سَلّمَ أمرهُ لله
وساقهُ للجرّاح .
كفّنها بنظرة أخيرة
ليحملها أخوتهُ للمدفن
معزّينه مصابه ليس الجلل .
دون أن يلتفتَ أحد
بتعزية
بنظرة
أو كلمة
لساقه الصالحة
المفجوعة بأختها ،
وبجسد صالح الذي ستحمله أنّى
يَشاءُ .


8 - كزار حنتوش :


اعطني 50 الف دولار ثمن تمثال لي ،
وسأقف في مكانه بشحمي ولحمي ودمي طوال حياتيكزار ح


في حوار مع الشاعر كزار حنتوش أورده هنا . يطالبه أحد الصحفيين بضم صوته له والى أدباء { الديوانية } مدينته لمناشدة المسؤوليين في اقامة تمثال له باعتباره الوجه الثقافي والشاعر الأول في مدينتهم . كزار يرفض الفكرة ويقول : { بالطبع سيكون جوابي : كلا وبالقلم العريض . أولى بالمسؤولين أن يقيموا التماثيل لشهداء الديوانية الأبطال ، وأن عجزوا عن ذلك فعليهم أن يقيموا تمثالاً فخماً لشهداء الديوانية العظام ، ثم لو جنَّ أحد المسؤولين وقرر أن يقيم لي تمثالاً يطل على مقبرة الأطفال قرب { زيد النار } . ولا في سلوكه الاجتماعي ولا في طرق حياته المتعددة أي شاعر عراقي آخر . انه طراز خاص من الشعراء . نسيج وحده . بدأ حياته الأدبية يكتب الشعر الشعبي وانتمى الى الحزب الشيوعي العراقي في السبعينيات ، لكنه تخلى فيما بعد عن الانتماء السياسي وعن شعر العامية واتجه الى الكتابة بلغة شعرية خاصة به { اللغة الثالثة } . لكنه ظل في أعماقه محافظاً على روحه الشيوعية حسب طريقته الخاصة في صعلكته وفي مسيرة حياته . ولا ينتمي منجزه الشعري الى تقاليد الشعر العراقي التي ترسخت منذ خمسينيات القرن الماضي . انه كما قلت طراز خاص ونسيج اجتماعي وثقافي وشعري من صنعه وحده . كسول جداً في كل شيء . في شعره وفي أنماط حياته الفقيرة والغنية في آنٍ معاً . لا تهمه مسألة الاصدار المنتظم ، مثلما لا تهمه شطحات الحداثة وفذلكاتها . قصيدته تشبه تماماً . تشبه حياته ومصادرها الاجتماعية . يخيل إليّ أحياناً أنه لم يقرأ كتاباً واحداً في حياته ، لكنه مثقف جيد وقارئ دائم ، ولا أستطيع أن أمنع نفسي من الاعجاب بقصائده التي تصدر من مخزون اجتماعي نعرفه كلنا . وفي مناسبة الحديث عن كسله المعروف . أود أن أروي هذه الحادثة . عندما تمت احالته على التقاعد المبكر من وظيفته { تخرج في معهد الهندسة العالي } بسبب تغيبه المستمر عن الدوام الرسمي . فقد معاملة التقاعد في أحد البارات عندما كان يشرب هو وجان دمو ، قبل أن يقدمها الى مديرية تقاعد { الديوانية } ونسى الأمر تماماً . بعد شهور التقيته ببغداد وسألته ممازحاً : { أود أن تدعوني الى بار } أجابني ببراءة : { لا أملك نقوداً . أنت ستدعوني } قلت له : { ملعون . تقبض ثمن مكافآت قصائدك وراتبك التقاعدي وتطلب مني أن أدعوك } قال : { أيّ راتب ؟ لقد ضاعت معاملة التقاعد في بار ونسيت أمرها تماماً } . وأعتقد أن كزار حتى الآن لم يسوي مسألة تقاعده . عرف مصطلح القصيدة { الحنتوشية } في الثمانينيات بسبب الميزة الخاصة لقصيدته التي يستطيع المرء تمييزها على الفور من خلال لغتها ومناخها وموضوعها . لا يحسب كزار على تيارات الحداثة الشعرية في العراق ، لكنه مؤسس لنفسه طريقة خاصة به . ميزتها الفريدة انه لا يشبه أيّ شاعر آخر في العالم ، وهذا هو مجده . يحيا يومه بكل امتلاء ، من دون التفكير بالغد . ليست لديه مشاكل مع الآخرين ولا مع العالم ولا مع الزمن . عندما يأتي من { الديوانية } الى بغداد مرة أو مرتين في الشهر . نشبع أنا وجان دمو وحسن النواب من البيرة والخمر بسبب الدعوات التي توجه له ولنا من محبيه عبر وجوده معنا في مقهى { حسن عجمي } أو في البارات . جان دمو الذي لا يعترف بأيّ شاعر في العراق ، كان دائم العيش مع كزار حين يأتي الى بغداد . يبدو أن ما يجمع بينهما هو الصداقة العالية في انسانيتها والادمان على الكحول . سأله جان مرة وكنا في بار { روافد دجلة } بساحة النصر قبل أن يتزوج : { كزار . منذ متى استحممت ؟ } فأجابه : { لا أدري ، ولكنني أستحم كل 8 شهور مرة واحدة } فقهقه جان بصخب وتساءل مرة أخرى متعجباً من نشاط كزار : { شنو أنت بطة ؟ } . معلوم أن جان لا يستحم .

أقدم هنا 8 قصائد لكزار وحوارين أجريا معه في الفترة الأخيرة وأوجه له التحية .

زار ح

دمع كالقار


{ الى روح كاظم خبط }

لماذا لم تعضدك بعض قلوب الناس ؟
ولماذا صار الغائب كالحاضر
والذاكر كالناسي ؟
ولماذا ظلت زاهية ، طيبة ، أيام المتناسي ؟
ولماذا برقك يا كاظم خلب
ورعودك منسية ؟
كنت هناك
بين القصب العالي
والماء
أحسو كاسات النفط الابيض
دون رفيق
أين رفاقي الآن..؟
بان النهر كما لو كان
مرتدياً بزة جندي قروي
والجندب موسيقاري الأول
لم ينل نشيدي المعهود
والسحب السود
تفور كما السورة فوقي
معتمدة أن تلقي بمزاجي الصيفي الفاتن في الوصل .
ما بالي أتلفتُ كالمأخوذ
يأخذ روحي هجس
ويرد بها آخر
ألأني أحسو كاسات النفط الأبيض
دون رفيق
أين هم الآن ؟
قسم تحت الأرض
والباقي دفنوا أنفسهم أحياء
في مقبرة المال الفاخرة
تحت سقوف مقاه طاعنة في السن
أو فوق أسرة مخطيات بدينات..
السحب السود تفور
والريحُ تطاردها بمقشات لينةٍ نحو الغرب
وشعرتُ بشيءٍ يلسعُ ظهري
فأدرت الى خلفي جيداً . يبترُ بالإصبع
ياللرعب !
قف الشعر الملفوف الأملح
وتخردلت..
قط بعيون بنّية
وفراء أسود لمّاع
يرقبني بثياب
حتى أدخل في روعي
حتى أدخل في روعي
اني سأذوب كما الحالوب
لكن القط الفجري العينين
ماء بصوت بشري
{ وين الوعد .. وين ؟ }
وارتد على الأعقاب
نحو الحرش القصبي
ايهٍ .. ايهٍ.. يا: ك الحنتوش
حتى البحر المتوسط
لن يشطف روحك
قمت على طولي منتحباً
مصبوغاً بمدادٍ كالقار..
بدموعي .


يا رائحة الجنة


قل لي: يا رائحة الجنة
وشباب الصيف
كيف ساقطع شوط العمر وحيدة كيف ؟
قل لي: يا شاطب عمري بالنرجس
ياواهب عمري للحيف
كيف ساقطع شوط العمر طريدة كيف ؟
كيف ، وكيف ، وكيف، وكيف ؟
قل لي: يالرمشك ابنوس
والحاجب سيف
كيف سأقطع شوط العمر شريدة كيف ؟
كيف ، وكيف ، وكيف، وكيف ؟


الأصدقاء



{ فأن مضت الأيام ، قلت لها اذهبي ، ولكن ابق أيها الذي ليس لك مثيل في الطهر .

جلال الدين الرومي . المثنوي }


غيمة ،
تمطرُ في أرضٍ اخرى
جرف يدنو أو يبعد
ان أثريت ، وان أفلست
ضبعٌ
يأكل لحمكَ ميتاً
قلب محشوٌّ بالروث
ظلٌّ يطوي كبساطٍ
قطّ يدعو بعمى صاحبهِ
مرآة لا تبصر فيها
قبعة تتقاذفها أيدي
صبيان النار
شمس باردةٌ
عين حمراءُ
كأس يرشح منه الخلُّ
خبزُ دون ادام
عصا موسى
دون مآرب أخرى
نغمٌ يتأبطك
نأيٌ غير مثقب
زبدٌ يضحك...
اسبانيا ما فيها لوركا،
أو ما شادو
طلبانيون في البيت
تروتسكيون في الحانات
سيفُ { شارلمان }
{ عمرو بن العاص } يبارز في { صفّين }
أسدٌ ينهش اشعاري
وفي حرب الشعر نعامه
صيف دون مراوح
وسماء دون نجوم
ديك يوقظنا في عزّ الظهر
صلاة مصلٍّ نسي { الحمدو }
{ اتلانتك } لا تغرق
بايرونيون بلا (يونان)
وزكام في تشرين الثاني.


عشاء { باكونين } الأخير


جئت الى { نادي الادباء }
مهووش الشعر، غريباً، وجلاً، مرتاب
فلقد أنبأني ملكُ الافاقين السبعه
بأن صديقي الشاعر
قد ضاقت انشوطتهُ
والدنيا خطت دائرة النار حواليه
بجناح غراب
لكن البواب
يرجمني بحصاه
ويطاردني بعصاه
أحني رأسي حتى بوز حذائي غير المصبوغ
كأجير مصريٍ في بارٍ لسراة القوم
-عفواً أن صديقي الشاعر
يقبع تحت السروِ
كجرو
منتظراً أن أنسف وحشتُه وأولّي !
انظر! أن لدي قليلاً من بارود الحرب
انظر! بلتني الأمطار تماماً
والقمر الأخضر غاب
لكن البواب
ثانية!
يرجمني بحصاه
ويطاردني بعصاه
أقفز بار الأدباء !
أتخطى الخافر والساقي والبواب
وأحطُّ على مائدة الليل
حيث الوحشة كالناعور
نازلة صاعدة
صاعدة نازلة
يأتيني رأس النادل المتخفيّ في زي غراب
ماذا تطلب يا سيد ؟
- قنبلة !


دولاب المدينة


فجراً يخرقها السوق
من أسفلها كالخازوق
ظهراً تطرق حامية
فوق سنادين { سليمان المرزوق }
عصراً تشوى كالطابوق
في أحزان التجار { الورعين }
فتهب على أحياء سراة القوم
رائحة اللحم المحروق
ليلاً تركض للبارات
بالقلب الحافي
والحلم المسروق
فجراً يخرقها السوق
من أسفلها كالخازوق .


كل خميس


أنصبُ نفسي كالسدرة
في الميدان العام
لكن الطيرَ الذهبي
يصدفُ عني
ويحطّ على غيري .


الجذور


في الليل يعود أبي مهموماً
آثار الجص على دشداشته دوماً
ويمسينا بالخير
يفتح كيساً ورقياً
فتضوع روائح باقات { الرشاد }
وتضوع روائح خبز { المعمل }
في غرفتنا الطين
مرات في منتصف الليل
أبصر والدتي تتنصت في السر
الى صوت أبي المفجوع
{ الدنية اتلحفت بيّه وانه الها
ترجه عود آخاويها وانلهـا }
وتنحب في السر
فوق سرير معمول من جريد { النخل }
مرات في عز الليل
تأخذ والدتي للترعة قدر { الفافون }
تأخذ يشماغ أبي
وحضائن اختي
تهمس في اذني
در بالك من قطط الجارة { أم حسين }
مرات في عز الظهر
تأخذ والدتي منجلها
وتروح
فتشيعا كلبتنا السوداء
بالعينين الدامعتين
وتغفو قرب { الكوز }
ذات نهار بارد
قال ابي :
صرنا نتدفأ بالشمس
ذات نهار بارد
كانت والدتي
تقبع واجمة
قرب التنور البارد
ذات مساء بارد
كان لحافي بارد
ذات مساء حلو
عاد ابي منشرحاً
قال لوالدتي شيئاً
أعطاها شيئاً
وابتسمنا
فرأيت شفاهاً
تطلق اقماراً لليل .


رفعت الصحف وجفت الاقلام

{ الى الشهيد : سعدون }

يقتلوننا واحداً اثر آخر في يوم
والامهات ينجبن غيرنا
تأفل النجوم في آخرة الليل
وتسطع في قدوم ليلة اخرى
يخدعك الصديق في يوم
وتلاقيه وفياً في اليوم التالي
يرحل النهار
ليعود
تغيب الاقمار
لتعود
لا شئ يدوم .. ولاشئ يفنى
لا { ناكا زاكي } محيت
ولا { بغداد } ماتت
{ سعدوننا } وحياتنا وحبيباتنا ، نتاج الرب
لا سعدوننا يفنى
ولا حياتنا
ولا حدائقنا .. تفنى
هذا النهار …. وهذا النيل
هذه الحلكة….وهذه الأقمار
نخلع الصديق العاق مرة كالحذاء
ونلبسه مرات
نخلع الطغاة كالقمصان
ونرتديها من جديد
لا الاصدقاء العاقون عمروا
ولا الطغاة
لا القطط انقرضت
ولا الكلاب ، ولاالذئاب ، ولا الصوص
وكذلك الثوريون
نحن نتبادل الادوار منذ { الحسين }
ما عاد الكاس يحتمل يا عبد الامير الحصيري
ما عادت الحياة تحتمل متوالية الطغاة
الذي صار ….قد صار ..
والذي جرى …قد جرى
هذا النهار …هذا النهار
هذه الاقمار ….وهذه الاقمار
انني أرفع الشهيد على سلم أحمر طويل
واعاتبه
لماذا تتجدد منذ الحسين
انطروا قبضتي ايها الحمقى ، قبضتي الحمراء
انها لا تطش الدر عليكم
انها ترسم لكم الازرق ، الاحمر ، الاخضر
انكم لا تستطيعون بترها ، قبل الان ، ولا بعد الان
فقد تمرد الوقت
ورفعت الصحف
وجفت الاقلام .



كزار حنتوش

لقاء - قيصر الوائلي

انني أعظم شاعر عراقي حي حتى الان.

اتحاد أدباء الديوانية لن يستجدي مسؤولاً أو حزباً أو مقاولاً ..

عرفناه بقصائده الشفافة الرائعة وببساطته وحقيقته وجراته وطيبة قلبه ومحبته للجميع . لا يهدأ له حبر ولا ينام كأمير موناكو.. له عش في أقصى الديوانية يحتضن القطط والأوراق وحبيبته الابدية ، زوجته الشاعرة المبدعة { رسمية محيبس } . بصمته في ساحة الشعر العراقي والعربي كبيرة بحجم الفرات . هو { أسعد انسان في العالم } رغم وقوفه كنخلة خضراء طيبة في { الغابة الحمراء } . الشاعر المتألق كزار حنتوش في صراحة مباشرة ومكشوفة . فكان هذا اللقاء.

- أين يقف كزار حنتوش في حقل الشعر ؟

- أقف في حقل الشعر كنخلة عيطاء.. لا كفزاعة كبعض المتشاعرين .

- نجحت وبامتياز باستخدام اللغة الوسطى في قصائدك وأسست مدرسة { حنتوشيه } في ذلك . كيف تأتى لك ذلك؟

- ها أنت قلتها { مدرسة حنتوشيه } فكيف سأتخلى عنها . لقد غرف الكثيرون من المياه الحنتوشيه ، وها أنذا مثل السمك ، مأكول مذموم . لقد حاولوا تقليدي وفشلوا ، فما ذنبي أنا ؟. لقد قال عني الجميع بانني ماركة الديوانية المسجلة.. وما على الذين يكرهونني لانهم لن يطالوا قامتي . ليذهبوا الى الجحيم.

- ماذا حقق اتحاد أدباء الديوانية خلال فترة رئاستك له وهل أنت راض عما قدمت . رغم عدم رضى البعض ؟

- سأبدأ من شطر سؤالك الاخير { رغم عدم رضا البعض } سأحدد لكم من هؤلاء البعض . علي الشباني ود. ناهضة ستار وراسم الاعسم ، وهم أصدقاء أحبهم كثيراً واحترم آراءهم لكنهم كانوا حاضرين جميعاً في الانتخابات الديمقراطية التي جاءت بي الى هرم الاتحاد ، فلماذا لم يعترضوا حينما تم انتخابي ؟ بالطبع كانوا لا يجرأون على الاعتراض فقد جرت الانتخابات بشفافية عالية ، وديمقراطية يحسدنا عليها حتى أدباء فرنسا.. ولكنهم لامر ما وهذا من حقهم.. قد هاجموني وهاجموا أعضاء الهيئة الادارية عن حق، أو دونما وجه حق.. وعلى كل حال فهذه هي آراؤهم وهم مسؤولون عنها وأنا بدوري أقيّمها تقييماً عالياً ، وبشأن شطر سؤالك الاول.. لا ادعي انني حققت الكثير للاتحاد ولكنني بشهادة الجميع أنشط رئيس اتحاد في العراق ، وهذه مزية تحسب للديوانية واهلها.. أما يكفي الديوانية فخراً وأقولها بدون تواضع انني أعظم شاعر عراقي حي حتى الان . أنصح الجميع أن يدعموا الاتحاد بدلاً من وضع العصي في دواليبه وإلاّ فأنهم سيكونون من الخاسرين.. فالاتحاد ليس ملكاً لكزار حنتوش وحده ، وانما ملك الجميع..

- الكثير وأنا واحد منهم يعتبرك شاعر الديوانية الأول ورمزاً ثقافياً مهماً ، فهل تضم صوتك لنا بمناشدة المسؤولين باقامة تمثال لـ { حنتوش } يطل على احدى ساحات المدينة ؟

- بالطبع سيكون جوابي : كلا وبالقلم العريض . أولى بالمسؤولين أن يقيموا التماثيل لشهداء الديوانية الابطال ، وأن عجزوا عن ذلك فعليهم أن يقيموا تمثالاً فخماً لشهداء الديوانية العظام ، ثم لو جن أحد المسؤولين وقرر أن يقيم لي تمثالاً يطل على مقبرة الاطفال قرب { زيد النار } . فانني سأقول له كما قال احد الشعراء : كم ستصرفون على هذا التمثال ، وقد يجيب مثلاً بخمسين الف دولار.. عندها سأقول له: اعطني هذا المبلغ ، وسأقف أنا بشحمي ولحمي ودمي مكان التمثال طوال حياتي!!

- أن قلت لك تكلم بحرية مطلقة في الختام فماذا ستقول ؟

- ساقول واحداً في المليون من الحقيقة . لدينا ستة وخمسون أديباً في الديوانية ، ماذا لو تبرع كل واحد منهم بالف دينار في الشهر فقط لاتحاد الادباء لكي يقيم مهرجاناً شعرياً فخماً للشعراء الشباب في الديوانية الذين لهم مكانه متميزة في الشعر الجديد وكذلك مهرجاناً رائعا لكتاب القصة القصيرة الشباب الذين لا يقلون عن كتاب القصة القصيرة في العراق شأناً وعلو مكانة. لو فعلوا ذلك ولن يفعلوا ، سيكونوا قد راحوا ، واستراحوا . أن اتحاد أدباء وكتاب الديوانية سوف لن يستجدي مسؤولاً أو حزباً أو مقاولاً أو أي أحد كائناً ما كان.. وانما يستجدي من أعضائه، وهذا ليس بعيب.. والجميع يعرف انني أعف يداً من بعض منظمات المجتمع المدني ، وبامكانات محدودة أن ينشط أكثر مما ينبغي رغم امكاناته المحدودة ورغم أنف الجميع. أيها الـ { 56 } عضواً الذين أنتم في الحصاد ومنجلكم مكسور . اغيثوا اتحادكم المناضل بدلاً من الثرثرة في المقاهي والجامعة ومحافلكم الخاصة ، الغاصة بكل ما لذ وطاب . وكان الله في عوني وعون محمد الفرطوسي ، وعون الفنان الشاب خالد ايما والشاعر سعد ناجي، فنحن الذين نعلق اللافتات ، ونوجه الدعوات ونجلب الحاكيات ونحملها على أكتافنا الى أصحابها . أيها الادباء النجباء ، ارفقوا بشيخكم الذي ناهز الستين من العمر.. ولكن لا حياة لمن تنادي
!

كزار حنتوش.. نعم أنا شاعر حقيقي

لقاء : نجاة عبدالله


كزار حنتوش شاعر يصيب الصبر بطلقة بيضاء حتى يبدو أكثر نحافة لينفذ في سم الخياط . وديع وهو يقتفي صمت الوجوه ، تتفرق الكلمات بين يديه ، هذا ساحر وهذا شيطان ، هذا شاعر انساني وهذا شاعر ارتدى قناع الوهم وسار مع الركب . لا يحب الحوارات ويستعيض عنها بالتأمل وسماع عبدالحليم حافظ الذي يحبه أكثر من يسنين . في مهرجان المربد لهذا العام افتقدناه حتى حل ضيفا في اليوم الثاني قلت له :

ـ هل انت شاعر حقيقي ؟

ـ نعم ، وأقولها بالفم الملآن .. ترى على من نطلق لقب شاعر حقيقي مثلاً . أعلى خرنوب طرطيع “ ان ذلك لعمري يعتبر خيانة ترقى الى مصاف الخيانة الوطنية العظمى . أقول انني شاعر حقيقي نكاية بأولئك الذين يتمنون تقبيل التراب الذي أدوسه في الوقت الذي يبعثرون امكانياتهم الضئيلة في تأليف قاموس شتائم بحقي . أن هؤلاء حمقى . انهم ضفادع في برك.. نعم أنا شاعر حقيقي لان قلبي أبيض كاللبن الرائب لا أكره أحداً أبداً وأتعامل بنبل مع أعدائي . يمكنك أن تقولي انني {ونكيشوت حقيقي } وهذا يكفي على ما أعتقد كما اعتاد { ستالين } ترديد هذه اللازمة في كل اجتماع للمكتب السياسي للحزب الشيوعي يريد أن ينهيه عندما تأخذ الامور الوجهة التي لا يريدها { جنكيز } الامانة العامة للحزب حسبما يقول الرفيق أو النبي الاعزل { ليون تروتسكي }.


* كزار حنتوش يعيش الشعر قبل الحياة أم يعيش الحياة شعراً ؟

ـ أما قبل الحياة فتلك فذلكة أو حذلقة لفظية لا تثبت عليها حتى أشواك القنفذ .. انني أعيش حياتي بشكل شاعري ابيقوري ولربما كان ذلك السبب في قلة ما أصدرت من مجموعات شعرية ، اضافة طبعاً الى الكسل الذي أعتبره من أعظم هبات الله للانسان.. تصوري انني لا أفكر بالشعر الا بمقدار 1% أما التسعة والتسعون الباقية ، فأقضيها في زورق تهريب بلا أشرعة أو مجاذيف اسمه الحياة.. يأخذني حيث شاء ولولا اني توطت بالشعر أو تورط الشعر بي كما قال عني أحد الشعراء الكبار لكنت الآن مقامراً أو مهرباً للثغرات السرية الى العشاق أو اللصوص والنساء المتصابيات والثوريين الذين يقاتلون دون امل في { الينبال } .


* قصائدك تبدو مرّة وشقية . هل فقدت عسل الايام ؟

ـ وكيف لا يا ابنة أخي وأنا أفطر بالزرنيخ وأتغذى قنابل يدوية وأتعشى أرامل وملائكة فقدت أجنحتها . كيف لا والعراق بات ينطبق عليه قول المتنبي العظيم :
رماني الدهر بالأرزاء حتى فؤادي في غشاء من نبال
فصرت اذا أصابتني سهام تكسرت النصال على النصال
من أين يأتي العسل الى قصائدي والدم يهدر كالسيل في شوارع العراق والبعض اتخذوا العراق مطية لبلوغ المآرب والأحزاب تتكالب على المغانم وبعض الادباء والثوريين غيروا اتجاه مقاعدهم نحو اتجاه رياح التاريخ التي قد تغير هي بدورها الاتجاه فيصعق هؤلاء ويهوون الى قرارة العدم ، وكيف لا أأنس بالحنظل اذ أرى نفراً من هؤلاء.. وقد ارتدوا بزة جيفارا أو استعاروا لحية الشهيد الصدر.. علما انهم الى وقت قريب كانوا يبصقون في سجل جيفارا الثوري ، وينتفون لحية الشهيد الصدر وحاشاه.. انهم اللعنة التي تحيل قصائدي الى هيكل للألم والمرارة فليكن الألم رديفاً لنا وليكن العسل لأولئك الدببة الذين يسحقون بشراسة كل ما هو خير وجميل في هذا العالم.




9 - 3 شعراء من شعراء الثمانينيات
{ مندفعاً الى الشموع التي تعطر المدافن }
مختارات من محمد مظلوم
سيرة ابداعية :
جاء إلى الحياة في بغداد منطقة الكرادة في 18/10/1963، من أبوين مهاجرين من إحدى قرى قضاء النعمانية بمحافظة واسط .
ـ أكمل الدراسة الابتدائية في مدينة الشماعية في مدرسة التوحيد التي كانت تتوسط مستشفى الأمراض العقلية ومركز لشرطة الخيالة آنذاك . ثم الدراسة المتوسطة في ثانوية بورسعيد بمدينة الثورة فثانوية البحتري المسائية .
ـ تخرج من قسم الدراسات الإسلامية في كلية الشريعة/ جامعة بغداد .
ـ سيق للخدمة العسكرية خلال الحرب العراقية الإيرانية سائق دبابة في سلاح الدروع ، بمناطق جمجمال وأغجلر وباسطكي في كركوك والسليمانية ودهوك في شمال العراق .
ـ عين مدرساً للغة العربية في المناطق الكردية في الشمال أيضاً ـ ثانوية ديانا على الحدود الإيرانية ثم ثانوية صلاح الدين في أربيل .
غادر العراق عن طريق الشمال عبر نهر الخابور إلى سوريا حيث يقيم منذ العام 1991.
ـ نشر أولى محاولاته عام 1978 وكانت قصيدة غزلية من الشعر العمودي في جريدة الراصد ، ثم نشر أغلب شعره في مجلة الطليعة الأدبية وجريدة العراق في الثمانينات ، وبعد مغادرته العراق في صحف السفير والنهار اللبنانيتين والملحق الثقافي لجريدة الثورة السورية .
ـ أسهم مع الشاعر السوري أحمد سليمان وعدد آخر من الأدباء العرب في إصدار مجلة كراس للإبداع المغاير في بيروت 1994.

ـ صدرت له الكتب التالية :
غير منصوص عليه ـ ارتكابات
دار الحضارة الجديدة ـ بيروت 1992
المتأخر ـ عابراً بين مرايا الشبهات
دار الكنوز الأدبية ـ بيروت 1994
محمد والذين معه
منشورات كراس ـ بيروت 1996
النائم وسيرته معارك
دار الكنوز الأدبية ـ بيروت 1998
خمسة شعراء عراقيين
مختارات مع آخرين ـ دار الجندي دمشق 1998
عبد الوهاب البياتي ـ كتاب المختارات
مقدمة في تجربته ومنتخبات من أشعاره ـ دار الكنوز الأدبية ـ بيروت 1998
أندلس لبغداد
قصيدة ـ دار المدى ـ دمشق 2002
اسكندر البرابرة
دار نينوى دمشق
1
لا يمكن الاحاطة في هذه المقدمة بمجمل عمل محمد مظلوم الشعري ، واعتقد أن تجارب متعددة ومتجددة لشاعر مبدع مثل مظلوم تحتاج الى دراسات يقوم فيها النقاد الجدد بعد أن ذبلت وماتت مناهج ورؤى أغلب نقادنا الآن . يشكل عمل مظلوم بمجمله منظومات معرفية عديدة للفكر في حركته ، والتاريخ ، والوجود . وتتيح لنا تجربته عبر كل مجموعة وكل نص أن نقترب من تحولات وافتراقات الزمن والموت والحب والتحول والصيرورة وما وراء الوجود . في لغة فخمة وأنيقة لا تسمي الأشياء والوقائع والحوادث ، حسب الدلالات والشفرات المألوفة في الحياة اليومية للواقع الراهن . لغة مظلوم خطرة وهي تشير وتضمر المعنى عبر الايماءة والالماحة في اندفاعات الشعرية وافتراقاتها المحمّلة بالمجازات والصورة التي تحرك أغلب نصوص مجموعاته .
2
الميزة الأساسية دائماً لعمل مظلوم ، هي خلو منجزه الابداعي من { الانفعال الآني والعاطفة } لكنه محمّل على الدوام بالتوتر ، والصراع الشديد بين الفكر والوجود وحركية التاريخ . في كل نص تتعدد وتتوسع الأفكار والدلالات والمدلولات والعلامات في مجابهتها لأسرار ما وراء الوجود وأحداث التاريخ التي يتعامل معها الشاعر عبر رؤيا مبدعة بعيداً عن الوثيقة والأخبار والسرد والوصف ، أما الوقائع التي خبرها وعاشها ، وأشياء العالم الغامضة فهي تظهر من خلال رؤاه المحمّلة بحصيلة ضخمة من تجاربه وخبراته المعرفية والحياتية .
{ من الإمتاع ، والتعب أحياناً ، أن يتتبع المرء المسار الفني لهؤلاء الشعراء الشبان ، الذين خلفوا محرقة العراق وراءهم ، وإن ظلوا يحملون جراحها الغائرة ، في ثنايا ضمائرهم ونصوصهم . يتأتى الإمتاع من متابعة الخلاص الفردي فنياً ، أما التعب فمصدره هول الماضي القريب الذي يكاد يقيد ، أو يعيق ، عملية الخلاص الفني ، هذه التي تشترط توازن التحكم والحكم ، مستلزماً أول . و" حالة " محمد مظلوم ، بالرغم من كل خصوصيتها ليست بعيدة عن هذا السياق . مجموعتاه السابقتان : " غير منصوص عليه ـ ارتكابات " 1992، و" المتأخر ـ عابراً بين مرايا الشبهات " 1994، معنيتان بالصدمة الشكلانية ، سواء في تركيب الجملة الشعرية ، أو طبيعة إقامة العلائق بين الأشياء ، أو الدلالة غير المؤصلة في مشروعية النص وإن كانت حاضرة بصورة أو بأخرى في مستهدف الشاعر . وفي هذا المجال ، أعتقد أن الأمر ليس خاصاً بشاعر واحد هو محمد مظلوم ، إنما هو ظاهر يكاد يكون شائعاً . المسعى ، إذاً ، لدى الشاعر ، ولديَّ أنا الذي يتابع ، هو في مراقبة الفكاك من ربقة المجموع الشعري ، الجماعة ، النسق الذي إن امتلك حيثيات ميكانيكيته ، فإنه يظل نقطة الافتراق ، لا الانطلاق ، عند كل من يحاول إقامة بيته الخاص ، غرفته في الأقل } .
سعدي يوسف { أيام محمد والذين معه } مجلة { المدى } العدد 14 . 1996
3
من الصعب الآن ، الحديث عن كل شفرات النصوص التي أقدمها هنا ، والارث المعرفي الذي يخترقها ويغلفها ، ذلك لأن تجارب مظلوم الراسخة منذ بداياته الأولى الى الآن . تجعلنا نشعر بالفخر ونحن نمتحن هذه التجارب عبر قراءتها في اندفاعاتها واختراقاتها للمألوف في الشعرية العربية الراهنة . { وهي دعوة لقراءة البياض غير المجاني ، المعبر عنه بنقاط ، تدعونا لقراءة النص الموازي المحذوف الذي حجبته خشية التكرار المتخذة نواة للنص الظاهر . هذا نص يواجه قسوة العالم بإيقاع الصمت فيغدو شكله مضمونه ومضمونه شكله . وبهذا يمكنها أن نقرأ تفاصيله الصغيرة التي تبدو لنا أحياناً بعيدة عن المركز أو النواة / لكنها مرتبطة به عبر ثنائية التكرار والحذف التي كانت أشد المهيمنات وضوحاً في هذا النص الحديث } حاتم الصكر { وشاية الكلام أو صلة المكتوب بالمحذوف }
مجلة { اسفار } العدد 11 / 12 . 1989
4
يسعى عمل مظلوم في تعدد مستوياته الفنية واللغوية والرمزية الى اختراق الشفرات من خلال تدمير بنيتها المألوفة ، وايجاد بنية سرية جديدة تبتعد عن النسق والسياق والدلالة التي نتعامل فيها في الحياة اليومية . وينسحب هذا المسعى الى الدال والمدلول والعلامات ، عبر الصورة الجديدة والمدهشة ، والمجاز الذي يلعب دوراً مهماً في اختراق صمت الأشياء في أغلب النصوص ، ولا يخلو نص لمحمد مظلوم من هذه الفاعلية .
5
تشكل السوريالية أحدى المرجعيات المهمة والواضحة في تجارب محمد مظلوم الأولى وهو يكتب ويكشف الأسرار عن العالم والتاريخ والوقائع التي عاشها واكتوى بنارها . ومظلوم في كشفه وتعريته للظلام والبؤس والموت والضجر الذي يغلف حياة الانسان والأشياء في العالم . لا ينطلق من رؤيا مسبقة أو قصدية واضحة في كتابته للقصيدة ، عبر مرجعياته السوريالية في هذه التجارب المؤثرة ، وانما يحاول دائماً أن تكون لنصوصه الميزة والعلامة الخاصة بابداعه وتوتراته وصراعاته مع اللحظة الشعرية في سريتها وغرابتها اللامألوفة . وهو شاعر الموت بامتياز وشاعر الوجود وأسئلته وحيرتها المضجرة . { ومثلما لم يجد كلكامش مستحيله ، سوى في الموت ، لا يجد مظلوم ، صداقاته المستحيلة ، إلاّ في الموت ، أو في نبش سيرة هذا الموت . عديدون هم الشعراء الذين بحثوا في لحظات التاريخ ، عن نقطة تماس مع قصائدهم . وعديدون هم الشعراء الذين بحثوا في الأسطورة ، عن نقاط تماس أخرى . لكنني لا أقصد أبداً أن مظلوم ، ينتمي الى هذه الفئة أو تلك . سؤالا التاريخ والأسطورة عنده ، يختلفان بشكل جذري ، سؤاله ، ليس سوى الحاضر تفتيته ، وإعادة جمعه من جديد . وفي هذا السؤال تتبدى رحلة الوجود برمته . وبين تلك الأسئلة ، يقيم الشعر علاقته باللحظة الراهنة ، أي أن الشعر ، ينحو الى كتابة تفاصيل الكائن في هذا العالم المنهار ، يكتب تعبه وقلقه ورحلاته الوهمية الى داخله . أقول وهمية ، لأن الرحلة في نهاية الأمر ، لن تصل الى نتيجة معينة ، لن تصل الى استكشاف كنه هذا الكائن ، بل ستزيده حيرة وتزيده أسئلة وبحثاً ، عن طبقات أخرى } .
اسكندر حبش { محمد والذين معه . هيمنة الموت واسئلة الوجود } صحيفة السفير السبت 14 / 9 / 1996
بانتظار الغَاْئب
ـ في ارتكاب الندم ـ
{ قالَ هذا فراقُ بيني وبينك ، سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليهِ صبراً } ]
قرآن كريم
{ أفضلُ العبادة الصمتُ وانتظار الفرج }
شاهد العهد المغلوب
سيرة الغَاْئب عن حياته .
تـَطْريزٌ على غبارٍ داكنٍ
وأنَّكم زوال في لغتي
أنا ،
بينما فاصلتان تضيقان على
ميمٍ حيٍّ مُمَدّدٍ على حَيَاْة مستأجرة .
كما تقفُ الغجريَّةُ في عيدِ ملابسها
الحَيَاْة تساوم الزبائن المؤجّلين .
بين سوادين أعزلين
الْكَلاْم خراب أخضر .
تماما كما لم يحدث
الليل يُـتأتئ بين سوادِ الزناجيل ،
وفي النهار
يبطئ المحكي في النزول من اللافتة .
أمِتْها
اللحظةُ سرعان ما تـُهزم في تأجيلها
أمتْها
الغيمة امِرْآة في الثلاثين تحاولُ العبورَ مني
أمتها ،
بينما بريدٌ كاسدٌ يعيِّط في المنفى .
أبعدَ من حياتي
الذِكْرَيَاْت تهمشُ شعرَها
بينما أسندُ رأسي إلى ندمي
وأتذكر .
بقي القميصُ على حبل الغسيل ،
نائما على طفولتي ،
وهكذا استمررْتُ
في علاقة مشبوهةٍ مع جنوبيةٍ في الثلاثين .
أحْلاْمي تتكلـَّمُ
فتستردُّ سوادَها
على سريري الَّذِيْ لم أنـمْ فيه ،
أعتقد الحَيَاْة وأسكت .
أحْلاْمي كذلك تنزلُ من الباص
وتتلقى الرسائلَ
ليس الا مغزل التاريخ
يبرمُ أصنامَـهُ على فخذ أيَّاْمي .
1
في السادسة والعشرين وهو يهتمُّ حالياً بإنكارِ حياتـِهِ وتعليمِ أيَّاْمـَهُ حرفةَ الغيابِ كي يغادرَ الآخرين ، اسمَه الَّذِيْ لا يدلُّ على أحدٍ ، سوى أنه وأيَّاْمه يتكُلَّمَاْن منعزلين عن الحفل وهو الَّذِيْ طردَ الحقيقةَ من بابِ الكنيسةِ وعانقَ انتحاراً ناقصاً ، البقيـَّةُ منه تغازلُ انتظارَ الباص في حيـِّز مؤجل .
2
الذِكْرَيَاْت الميـتة أفقدتني متعة العدم ، النقود في جيبي فترة منسية ، سائق الباص أخبرني بذلك ، كذلك صديقي الَّذِيْ نام أكثر من ألف ليلة في ملحق الحَيَاْة التامة أعاده الماضي بسيارة أجرة إلى منزله .
3
ثمة ما يتبقى من الْمَوْت ، ربما شهوة ناقصة تفشل في لمِّ ضجة الذهب المسفوح ، ربما الذِكْرَيَاْت تثرثر فوق سيارة الإيفا ، حياتي كذلك تثرثر في نداءات غسيل الملابس ، وحمام الأسواق ، في مكالمات الهواتف العمومية ومقاهي الأقليات الصغيرة .
شطارة الشقراء في الحب أوسع من سواد بريدي المرهق .
4
في النهار الَّذِيْ لم يحدث أكمن في الْكَلاْم الَّذِيْ لم أقله ، إيضاح مرتفع عليّ أن أجتازهُ لأَُعانقَ التأويلَ ، كذلك نسياني ، تسقط من جيبه ألفُ الفعلِ ، لم أمتلكْ نسياني فأحِّدثَ عن حياتي ، وبلا ذِكْرَيَاْت لأندم .
{ المحوُ َبعْد أن أكملَ التحقيقَ في هروبِ ميتٍ كان يقرأ في دفتر كتبوا فيه غيابي }
أحمل في الأسواق جثة الميراث ، وخلفي النادمون يفركون عيونهم ، وسبع نساء نادمات يخضبن ألسنتهنَّ من رمادي ، لهذا أجَّـل الميت هويته واستولى على صورة النسيان .
أيتها الحَيَاْة يا أرملتي .
6
الشمس التي فوقي تماماً لا أجدها ، الشمس التي اسودت على رأسي ، تدعوني إلى البحث عنها ، فألاحقها عند أبواب المنازل في منعطفات لا تؤدي إلى طريق ، ألاحقها في دليل الهاتف ، ألاحقها في متاحف الآثار وشركات المقاولات ، ألاحقها في محلات بيع الأحذية أو أنساها في المصاعد العاطلة ، ألاحقها في المواعيد غير المعلنة والْكَلاْم الأرمل ، أما الجُنُوْن الَّذِيْ خرج من البناية فلا نص له .
7
يدي التي لا أمتلكها ، تلوح لأيَّاْمي التي تسافر في حَاْفِلاْت الطرق السريعة ، يدي التي أصفف بها شعري لن أشير بها إلى القبر حتى أمتلك جثتي ، يدي التي تنام على الطاولة لن أطلقها في جنون الرَبِيْع .
8
لأقول ما أجهل ، علّي أن أدع المحكي يرطن بين رصيفين منشغلين بالسكوت ، وأقمار تخرج من المستشفيات فيتجمع على طعنها ثلاثة مصابين بعاهتين مختلفتين ، الجُنُوْن أيضاً حين خرج من المكتبة ، هرول خلف يده التي سرقتها إحدى موظفات السياحة .
مواطنون من جنسيات شتى يحتفلون بتأبين أيَّاْمهم في ساحةٍ مؤجَّرةٍ إلى ميت يعقد صفقة مع حياته في المنفى .
9
إنها باريس التي لم يزرها خليفة توفيق ، الَّذِيْ نسي إحراق جثته قبل أن ينتحر ، فكان أن استولى عليها أحد الفارين من قوافل النذور .
10
أستيقظ من حياتي على صفارة الإنذار فأبحث عن حياتي في السفن المحطمة قرب متحف الحاضر ، أبحث عن حياتي في عيون تحش ضجـَّـتي في أبد الانتظار ، أبحث عن حياتي قرب وردةٍ تطلق الرصاص على أيَّاْمي وجنوني المتراكض في شارع الحمالين ، لم أهرب من بين يدي الحلاق من أجل أن أرى حياتي بنظارةٍ تلوح للفقهاء المصطافين في الشمال السويدي أو المؤجلين في قلعة "بجمجمال" .
11
حياتهم تخلتْ عنهم نهائياً ، أو، حياتهم مدعوَّةٌ إلى حاضرٍ يستمرُّ في المحو ، وأدناه منهجُ الفعالياتِ الإنسانيةِ طيلةََ عام ٍ من الحَيَاْة .
ج خليفة توفيق / انتحر ببندقيةِ حراسةٍ كان يحْرس حياتَّهُ طيلةَ عام من الحرية { المستودع صيف 1988. }
ج صبيح نعمة داغر/ كان ينهق تماماً في الحادية عشرة من اليوم الأربعين { القلعة آب 1989 }
ج / حكمة فهران فاضل/ حلق شاربيه قبل السباحة في نهر الزاب { آغجلر تموز 1989 }
12
سأقول ما أجهل تاركاً للغةِ أن تحررَ متعتها من سياطي ، ألون الأفعال بالرغبة كي أحكَّ سواد أغلالها وأهدُّ السياج بين الطبيعة والتاريخ نهر =…. رأسٌ يدهده من جبل ولا يصدق حامل الراية كَيْفَ بعد أن وقعتُ في السكوت أنطق خارج ما أقول والنهر ما زال يتراجع عن جثث من أسموه موتاً ؟ من يحرس المتعة حتى نهوض البغل الأبيض ؟ من يجهز الهواء بالأقفال حتى يمنع المطرودين إلى مجدهم من تقبيل الضجة على أحزمة العاريات ؟
13
حياتي أميةٌ، فمن يدلني على خطأ واحد يبرر لي قراءة ما يحدث وكتابة ما لم يحدث ؟ من يدلني على سبب واحد يبررُ لي أن أستجوب امِرْآة كَيْفَ لم أصادفها قبل أن أخرج من حياتي ؟
14
الحَيَاْة أرملة أبوس حرملها وأترك وردة معاقبة على سوادها ، أجتاز أحد عشر مستوراً وأعلق احتجاجي على عنق تمثال لا ينحني، لكنه يتذكر .
15
أغطية النوم المنشورة على الحيطان تستيقظ ، مصاطب الانتظار في الساحات الخالية تستيقظ ، شبابيك بعد منتصف الليل تستيقظ ، التنور على السطح يستيقظ ، تستيقظ أكواب الشاي المنكفئة وصحون الطعام ، السفن المحطمة هناك تستيقظ أيضاً ، مطابع الْمَوْت تستيقظ ، المدافئ النفطية في الخيمة القريبة من طريق الحَاْفِلاْت تستيقظ… بينما تنام حياتي .
16
خارج حياتي ، احلم بالبريد الَّذِيْ يروض الْوَحْشَة والمنحدرات التي تقدم الاعتذار للغيوم ، خارج حياتي أتكلـَّم عن مزيد من الرَبِيْع الَّذِيْ قوس الفضة ، وخلفه سلاسل الرماد تقتاد أحد المحاربين الى الاعتراف .
17
لا غرباء في القاعة كي تتعرف حريتي عليَّ ، أجلس قرب متعة العدم ، فأرى المختلفين كلهم خاسرين كلهم ينتظرون أمطارا ذهبية من جلد المقتول كلهم مرسلون حتما الى الطواحين يرزمون تحتها الأيَّاْم ليعيشوا رحلة تمت وينسوا أصابعهم إلى السياج الَّذِيْ قسم البيت وكنت هناك .
18
سقوف المنازل كلها ، وهواء المدن المنسية خلف نار الماضي ، السَّمَاْء المقنعة بالمتعة وكذلك الأيَّاْم التي ترزم الوصية ، لا تصرف الضيف الماكث في الكُلَّمَاْت المعادية . أطرديه أيتها القطط التي تسعل حجرا أيها السكون الجائع ليس إلا محارب عتاده الذكرى فحاصره أيها النسيان المشع .
19
خزائن الأحْلاْم مهددة بالانتحار ، فادفعها أمامك ، مثل برميل أبيض أو مثل عربة أسلاك صنعتها في الطفولة ، واترك الهواء المغتصب لسكاكين الحرية العمياء ، اترك لها مصيرها الفردي واختر نظارة سوداء أو زرقاء ، وقفازاً ملوناً وقبعة معقوفة وعصا تنشُّ بها الحاضر وادخل حياتك العانس .
20
جميع من لم أتعرف عليهم متهمون ، بي من كاتب الادعاء في غابة بَيْضِاْءَ الى كاتب الشاهدة ، لا استثني متنزها في يخت بالْبَحْر المقفل ولا منتحرا بالعطالة في مصارف الرَبِيْع .
21
كم تتغير الأسماء في متاحفك أيها الْكَلاْم ؟ ما نفع هذا كله ؟ ونحن رماد الآلة التي تكنس ما نحصي من أحْلاْم ندهناها في أول اليتم ؟ ما نفع الندم أمام المرايا التي تعاقب المنتظرين ؟
22
بسيطة هي الفوضى : راية منفردة قرب نهر الخازر تحتها ينام الثأر رأسه شرق وقدماه غرب بينما ينحني الشريط الجائع بين حيلة المصورين وجمعة الأحْلاْم .
23
اللحظة صورة احفظها في إطار العدم ، والفراغ جدار ، بينما أحْلاْمنا شريط اسود يبروز الزاوية.. كل هذا لأبرئ الفرات من الغرقى والخريف من المنتحرين والنِّسَاْء من الغابة ، لم كل هذا ؟
24
ليختلط اللغز ، وتنفض الطيور غبار دموعها ، ولتنم مقاهي المواعيد القصيرة ولتسافر قوارب المتأخرين عن المعارك والمصحات التي تنتشر في ظلام حياتنا . ليختلط اللغز ولكن مقابل ذلك لي أن أقول ماذا تحت لسانك أيها القصاب ؟
{ القصاب يطلق غاز حياته على نزهة السطوح ويعلب المطر النادم }
25
الْمَوْت خبزا آكله لأكتب الحَيَاْة ، الحَيَاْة أفضحها في الأنفاق ، أو البنايات المعزولة . الْمَوْت حافلة اصعدها لأصادف النسيان يحاور النِّسَاْء في ندم اسمه الحَيَاْة .
موظفة الإحصاء المثيرة كانت تنظم شهادة وفاة باسمي عندما غازلتها ، هي لم تسمع كُلَّمَاْتي وأنا قرأت في شهادة الوفاة اسمي .
{ لم اكتبها إنها حياتي }
26
في العام الثامن من السنة الماضية ، ابنتي التي لم تولد تتذكر: المستشفيات التي تسافر في القطارات ، القطارات التي تغادر المستشفيات ، المستشفيات التي ترمم الحَيَاْة ، الحَيَاْة التي تخرج من المطار بلا جواز وهكذا إلى آخر الذِكْرَيَاْت .
بغداد ـ سليمانية 1989
مراثي المؤجَلين
أيُها الأموات لماذا تظهرونَ لي ؟
أنتم يا من مدنهم الخرائب
وبيوتهم العظام
لماذا تطاردوني ؟
إرث المعزول
موائدُ…
غيرَ أن الْهَوَاْءَ يحملُ كرهَ حامليه ،
أقصدُ ،
الملثـَّمينَ بالثأر الفائت ، وعلى عيونهم أقفالُ الكتب المهدومة . موائدُ…
فوقها مخلـَّفات ما يوحي بخطـَّة لإعدام الربيع المقبل ،
بينما ،
رقعة الشطرنج ، والمسدَّسُ الرماديُّ ينتظرانِ المطر .
إرث المجنون
خلفَ منصـَّة بيضاءَ ،
الصَّيفُ يعوي ،
وخلفه ابتسامة بيضاء ،
ترطنُ خلفها عتمة الحكاية…
…………………..
يجلسُ سيِّدُ الوردِ بين طوفانينِ ،
شابكاً يديه على ركبتيه ،
كمن ينام ،
أو ، كما كان في بطن أمِّه ،
متـَّكئاً إلى سواد الحريـِّة ،
حالماً بخرابِ ما يتاحُ من أجراسِ رماده .
…………………………….
هل كنتُ آخرَ الأخطاء ، لتكون المرأةُ عقابي ؟
إرث المنتحر
مشاغلُ القطار رغبة النهار في التلفـُّتِ قبل المغادرة ،
والوصيـَّة الَّتِيْ تنظـِّفُ الرسائل ،
حريقٌ معلـَّبٌ في وجدانٍ شاغر ،
إستدلـِّوا عليه بأدويته إذن ولا ترثوا عصيانـَه
علـِّقوا سلاسلَ غيمِه في غرفةِ الدَّرسِ ،
واجمعوا صحونَ الطعام ،
المروحةُ الَّتِيْ فوقـَه توقفتْ قبلَ إسبوعين ،
لمْ يعـُدْ ممكناً أن يوزِّعَ بينكم حلوى غيابـه ،
كان يناديه، خارج القاعة ،
ـ مَنْ…؟
كان يناديه خارج الغياب ،
في حراسة النهار ،
عندما ميـِّتُ سرقَ البندقية .
إرث الغائب
ـ لِمَنْ…؟
واستدار النهارُ ، نافضاً كفـَّيه من دمية العصيان ،
في الوقتِ ذاته ،
كان الغائبُ ،
يفكـِّرُ بيديه ، ويتكلـَّمُ بقدمه في الحذاء الضيِّق ،
وهم كانوا يعطونَها لشراسة الموسيقى الَّتِيْ تحطـِّمُ صُوْرَةَ الظلام ،
وتـُقدِّمُ الأقـْـنعةَ في فوضى الغائبين ،
……………
عليَّ أنْ أعيدَ ما نسيتـُهُ لأحظى بأحْلاْميْ ،
عليَّ أنْ أنْ أجرِّبَ الصَّحراء ، لأعودَ من ممرِّ الخطأ ،
عليَّ أنْ أرثَ غيابي
لأرثي المستقبل .
إرث أل { …. } .
إلى حسين مظلوم
أل [ حسين ] نامَ ، وارثاً حزنَ غده ،
نامَ أل { حسين } والحاضرُ يعدُّ لقبره منفى .
……………………..
الْهَوَاْءُ خصمٌ راهنٌ
والبقيـَّةُ تأجيلٌ لحياته السُّوْدَاْءِ ،
ال { حسين } نامَ
تاركاً عينيهِ تنسجانِ أعيادَ خسرانه .
……………………………
أبوه الخطأ المستترُ في الكنايةِ
وأمُّه ،
غابة النسيان الهارب من التدوين ،
منكسرٌ أمامَ أعياده ومحتفلٌ بالندم .
…………………………
الشرفاتُ
تسرقُ مشهَده وهو يخبئ حريـَّته الشاسعة ،
نصفـُهُ انتظارٌ ونصفـُه تأجيل .
إقرأوه…،
كما تضيِّعونَ إبرةً في الدم ،
واسمعوه…،
كما يركضُ الأعمى في غابة الأجراس
…………………………
كأنَّه ـ إذا ما وقف ـ
مئذنة ، تغادرُ الأرْضَ الَّتِيْ أنبتَتْها ،
لتلاحقَ رسائلها إلى السَمَاْءِ…
بقامته ،
أتذكـَّرُ ـ أمَّنا ـ النَّخلةَ
وبضحكتهِ ضجيجَ الرطب ،
فكفِّنوه ،
بعطور المشتليات ،
نادوه باسمه
ستجيبكم كربلاء .
…………..
هـُم يا حسين ،
متكرِّرون ،
كطعنات الماضي على وجوه تتقنـَّعُ بالندم ،
ومعادة جنائزنا كأيدٍ تحتضنُ الفوات ،
لأنَّ حزننا بَرِيْدٌ من الله ،
لن يجدوا في الغيوم ما يشي بنا ،
أخافُ يا حسين ..
ـ عندما أقرأ ـ أنْ أحرِّفك ،
فأستمرُّ في المحـْو .

من مجموعة { اندلس لبغداد }
مِنْ مُعْجَمٍ مُلْتَبِسٍ وَجَدُوْهُ فِيْ النَّهْرِ ،
وَدِمَاْءٍ مُهْمَلَةٍ عَلَىْ جِسْرٍ وَحِيْد ٍ،
غُصِبَتْ بَغْدَاْد .
وَكُنْتُ خَاْرِجَاً مِنْ مِيَاْهٍ مُجَاْوِرَةٍ ،
نَاْفِضَاً عَنْ ثِيَاْبيْ لَمَعَاْنَ الطِّيْنِ ،
وأرْعَىْ طُيُوْرِيْ بِنِيْراْنٍ يَلْهَثُ فِيْهَاْ الْمَلاْئِكَة !
ليْسَتْ سِوَىْ تَسْمِيَةٍ غَاْمِضَةٍ ،
لاْ تَجُرُّ وَرَاْءَهَاْ ذكْرَيَاْتٍ أَوْ بَريْدَاً .
رَفَعَتْهَاْ ، مِنْ طِيْنِهَاْ الْهَاْرِبِ فِيْ الْجَحِيْمِ ،
أَذْرُعٌ مَوْشُوْمةٌ بالْجُذَاْمِ ،
لِشَيَاْطِيْنَ
بِوُجُوْهِ ثيْرَاْنٍ تَبْكيْ .
لَوْ انَّهَاْ فِكْرَةٌ
دَفَعْتُهَاْ للنَّاسِ ،
لَكنَّهَاْ خَطَأٌ قَدِيْمٌ
ثَاْوٍ فِيْ الْكُتُبِ الْمُسْتَعَاْرَةِ ،
وفِيْ البِدَاْيَاْتِ الْمُمَوَّهةِ .
لكنَّهَاْ كُنَاْسَةُ السَّمَاْءِ وَسُرَّةُ الطُّوْفَاْنِ .
يَجْمَعُ اللصُوْصُ مِنْ سَواْدِهَاْ الْفَاْتنِ
حَيَاْةً مُشَاْعَةً وَتَذَاْكِرَ للْخُلُوْد .
شَمَمْتُ فِيْ الْمَنَاْفِيْ ،
رَاْئِحَةَ الطَّيْرِ الَّتِيْ ذُبِحَتْ فِيْ بَسَاْتِيْنِهَاْ ،
وَهَرَّبَتْ رِيْشَهَاْ غَرْبَ الْفُرَاْت .
لَوْ إنَّهَاْ شَحْمَةُ الأَرْضِ ،
دَوَّتْ خَمِيْرَتُهَاْ السَّوْدَاْءُ ،
وَنَاْمَ مُهَنْدِسُوهَاْ ـ مُطْمَئنيْنَ ـ
فِيْ الْخَرَاْب .
لكنَّهَاْ زُرَاْفَةُ العُصُوْرِ ،
تَتَلفَّتُ بأسْنَاْنِهَاْ البِيْضِ ،
ولاْ شَجَرٌ يَسْوَدُّ ،
أوْ فَرِيْسَةٌ تَلْمَعُ .
لَكنَّهَاْ خَرِيْطَةٌ تَدَفَّأتْ بالشَّرِّ ،
ألْقَيْتُ فِيْ حَريْقِهَاْ بَذْرَةَ الْمُهَاْجِرِيْنَ ،
ونَظْرْتُ فِيْ السَّمَاْءِ ،
مُسْتَوْحِشاً شَتَاْتَ قَرَاْبِيْنِيْ
تَرْتَدُّ إليَّ ،
وَدِمَاْؤهَاْ تَشْخُبُ عَلَىْ وَجْهِيْ .
عِنْدَهَاْ ارْتَفَعَتْ مِنْ طَيْسَفُوْنَ حَرَاْئِقُ الْمَنْفَىْ ،
فَتَرَكَ الْمُزَاْرِعُوْنَ مَوْتاْهُمْ يَحْرُثُوْنَ الرَّمَاْد ،
مُخْتَلِفِيْنَ إلَىْ سُوْقٍ عَلَىْ النَّهْرِ ،
يَغْسِلُوْنَ عَلَىْ شَطِّهِ شُعُورَهُمُ السَّوْدَاْء .
وَيَعُوْدُوْنَ مَعَ الْفَجْرِ ،
بِسِلاْلٍ مِنْ رَمَاْد .
أكَانَتْ غَيْرَ سُوْقٍ لِبغَاْلِ الْمُهَرِّبِيْنَ
وهُمْ يَقْطَعُوْنَ وعُوْرَةَ الشَّرْقِ ،
بِدِيَاْنَاْتٍ طَوِيْلَةِ الْيَدَيْنِ ؟
أمْ هِيَ بُسْتَاْنٌ فِيْ طَرِيْقِ الْحَرِيْرِ ؟
يَأويْ إلَىْ مَاْئِهِ ،
الصِّيْنيِّوْنَ ،
والْفُرْسُ ،
وَسَاْئرُ الْفَلَكِييْنَ
بأفْيَاْلِهِمْ وَرَطَاْنَاْتِهِمْ .
مَاْ تَقُوْلُ يَاْ ابْنَ صَاْلِحَ ؟
فَلَعلَّ سُكَّانَ بَغْدَاْدَ تَدَفَّقُوُاْ مِنْ مَدَاْئِنِ أبِيْكَ ،
يُضَاْرِبُوْنَهُمْ بأصْنَاْمٍ صَغِيْرةٍ عَلَىْ وشْكِ الْكَلاْم .
وأنْتَ أيُّهَاْ الْبَغْدَاْدِيُّ ،
مِنْ أيْنَ لَكَ الأنْقَاْضُ ،
لِتَبْحَثَ عَنْ سُرَّةِ الدُّنْيَاْ ،
فِيْ مُعْجَمِ الْخَرَاْب ؟
فِيْ الْمُسْتَهَلِّ والْمَآلِ ،
يُجْمِعُ الرُّوَاْةُ والْفُقَهَاْءُ
عَلَىْ إِنَّهَاْ حِكَاْيَةٌ مَغْصُوْبَةٌ
مِنْ خَيَاْلِ الشَّيَاْطِيْن .
يَسْكُنُهَاْ الْخَلْقُ والْمَلاْئِكةُ ولاْ يَمْتَلِكُوْن .
ومَاْ ارْتَكَبْتُ حَيَاْتِيْ لأخْرُجَ مِنْ ظِلٍّ إلَىْ ظِلاْلْ
وَمَاْ علَّقْتُ قِيْثَاْرَاْتِيْ
عَلَىْ أسْوَاْرِ أوْرُوْكَ
لأرْثِيَهَاْ جَنَّةً فِيْ الْغُبَاْر .
أقْطَعَهَاْ مَلِكٌ مُسِنٌّ
لِوَاْحِدٍ مِنْ عَبِيْدِهِ الْمَخْصِيِيْنَ ،
وَحِيْنَ تَقَلَّبَ بَيْنَ سَرِيْرِهِ والْقَبْرِ ،
قَاْلَوُاْ: سَمِّهَاْ ،
قَاْلَ : اتْرُكُوُهَاْ بِسَلاْم .
قَاْلَ الْخَصِيُّ : إنَّهَاْ أعْطِيَةُ الْصَّنَمِ الْمَيْتِ ،
وَقَاْلَ الصِّيْنيِّوْنَ : بَلْ هِيَ رِبْحٌ وَاْسِعٌ ،
مَاْ اسْمُهَاْ إذَنْ ؟
كَرِهَ الْفُقَهَاْءُ اسْمَهَاْ فَكَنَوُاْ عَنْهَاْ
وَسمَّاْهَاْ الْمُعْجَمِيُّوْنَ : بُسْتَاْنَ الرَّجُلِ الْمَيْتِ .
لكنَّنِي أسَمِّيْهَاْ بَغْدَاْدَ .
بَغْدَاْدَ الَّتِيْ غَرِقَتْ فِيْ عَيْنِ دِيْكِ الْقِيَاْمَةِ ،
بَغْدَاْدَ الَّتِيْ حَفَرَتْهَاْ السَّمَاْءُ فِيْ سَفِيْنَةِ الطـُّوْفَاْنِ ،
بَغْدَاْدَ الَّتِيْ شَمَّتْ نَوْمَهَاْ خَيْلُ الْمَغُوْلِ ،
بَغْدَاْدَ السَّالِكَةَ للْحُفَاْةِ والطـَّاْئِرَاْتِ .
وللأسَرِ الْهَجِيْنَةِ مِنْ قُرَىً مُجَاْوِرَةٍ ،
تَتقاتَلُ فَوْقَ جِسْرِهَاْ عَلَىْ بَقيِّةِ الْخَرَاْب .
بَغْدَاْدَ الْمَعْصُوْبَةَ العَيْنَيْنِ ،
تَقْرَأ فِيْ الْحُرُوْبِِ مَقْتَلَ الْحُسَيْنِ
وبَرِيْدَ الْهَاْرِبِيْنَ مِنْ جُذَاْمِهَاْ .
كَاْنَ الكَهَنَةُ
يَقْرَأوْنَ فِيْ الكُتُبِ القَدِيْمَـةِ
مَاْ جَرَىْ لِلْمَديْنَةِ وَمَاْ سَيَجْرِيْ .
وَكَاْنَ الفَلَكِيِّوْنَ
يَخِيْطُوْنَ لَهَاْ سَمَاْءً مِنْ ذِكْرَيَاْتٍ وأعْدَاْءٍ .
أمَّا أنَاْ فكُنْتُ مُتَلَفِّتَاً لِقَرَاْبِيْنِيْ الَّتِيْ هَبَطَتْ ،
مُعْتَذِراً لِمَوْتِ الرُّعَاْة .
لَوْ انَّهَاْ أرْضُ اللَّهِ
تأزَّرَتْ بِوَجْهِهِ وَلَمْ تَحْتَضِنْهَاْ الرِّيْحُ ،
لَكِنَّهَاْ عَتْمَةُ التَّاْريْخِ
يَتَقَلَّبُ بِهَاْ الإنْسَاْنُ فِيْ كُلِّ العُصُوْر .
لَوْ انَّهَاْ أرْضُ اللَّهِ
مَاْ خَطَّ رَمَاْدَهَاْ اللصُّ الْهَاْرِبُ ،
واخْتَاْرَهَاْ ذَاْبِحُ الغَزَاْلِ
مَأوَىً لِجُنْدِه .
لكنَّهَاْ غُصِبَتْ فِيْ نِزَاْعٍ مَجْهُوْلٍ .
وَكَاْنَ الْجُنُوْدُ ،
قدْ أفْسَدوُاْ الْمُدُنَ الْمُجَاْوِرَةَ .
أمَّاْ القَاْدَةُ ،
فانْشَغَلوُاْ بِعَاْدَاْتِهِمْ الأَثِيْرَةِ :
اصْطِيَاْدِ النِّسَاْءِ ،
وَجَنْيِ الأمْوَاْلِ ،
وتَدْبِيْرِ الانْقِلاْبَاْت !
كَاْنَ اسْمُهُ عَبْدَ الله ،
لَكِنَّهُ فرَّ مِنْ بَيْتِ العَجُوْز
بِكُنْيَةٍ لَمْ تُلاْحِقْهُ ،
وَهْوَ يَفْتَحُ الْمُدُنَ والنِّسَاْءَ ،
وقُبُوْرَ قَتْلاْهُ .
وَحِيْنَ غَفَاْ فِيْهَاْ الدَّوَاْنِيْقِيُّ
وَلَمْ يَلْسَعْهُ بَعُوْضُهَاْ
أدْرَكَ أنَّ قَاْدَةَ الْجُنْدِ لَنْ يُدبِّرُوُاْ الانْقِلاْبَاْتِ فِيْهَاْ ،
واسْتَيْقَظَ فِيْ عَاْصِمَةٍ جَدِيْدَة !
بَاْعَدَ بَيْنَ سَاْقَيْهِ ،
كَمُتْعَبٍ يَتَبوَّلُ
وَفِيْ رَأسِهِ تَخْفِتُ الْحُرُوْبُ .
جَاْءَ بالْجُنُودِ مِنْ ثَكَنَاْتِهِمْ ،
وَالْمُهَنْدِسِيْنَ ،
مِنْ تَوَاْبيْتَ فِيْ الْمَاْءِ ،
وَوَقَفَ بَيْنَهُمْ وهُمْ يَخُطُّوْنَ الأرْضَ بالرَّمَاْد
خَرِيْطَةً لِمَدِيْنةٍ فِيْ الفَجْرِ
مَشَىْ فِيْ أزقَّتِهَاْ ،
وَدَخَلَهَاْ مِنْ كُلِّ بَاْبٍ ،
وكَانَتْ عُيونُهَاْ تلْمَعُ
وَهْيَ مَخْطُوْطَةٌ بِالرَّمَاْد .
وَلَمَّاْ وقَفَ الليْلُ بَيْنَهُمْ جَمِيْعَاً
قَاْلَ : ضَمِّدُوُاْ خُطُوْطَ الرَّمَاْدِ بِحُبُوْبِ الْقُطْنِ
واسْكُبُوُاْ النِّفْطَ عَلَىْ الْقُطْنِ
أشْعِلُوُاْ النَّاْرَ واتْرُكُوْهَاْ بِسَلاْم !
أمَّاْ هُوَ فانْسَحَبَ إلَىْ مَكَاْنٍ مُرْتَفِعٍ ،
واسْتدَاْرَ إلَىْ جِهَةِ النَّاْرِ ،
ولَمَّاْ رَآهَاْ تَحْتَرِقُ مِنْ كُلِّ الْجِهَاْتِ ،
خَرِيْطَةً لِمَدِيْنةٍ فِيْ الظلاْمِ ،
خَلَعَ الْخَاْتَمَ مِنْ بُنْصُرِهِ
وَرَمَاْهُ نَحْوَ الْحَرِيْقِ ،
وَصَرَخَ مُنْتَشِيَاً : هَذِهِ مَدِيْنَتِيْ ،
وأنْشِئتْ بَغْدَاْد .
بَعْدَ قُرُوُنٍ ،
فَجْرَ الَّسَاْبِعَ عَشَرَ منْ كَاْنُوْنِ الثَّاْنِيْ 1991
وَقَفْتُ عَلَىْ جِبَاْلِ دِيَاْنَاْ فِيْ كُرْدِسْتَانْ
كَيْ أرَىْ مَدِيْنَتِيْ .
وانْحَدَرْتُ إليْهَاْ فِيْ الْيَوْمِ التَّاْلِيْ
فَوَجَدْتُ الْمُزَاْرِعِيْنَ يَعُوْدُوْنَ إلَىْ قُرَاْهُمْ ،
والرُّعَاْةَ إلَىْ سَمَاْئِهِمْ ،
تَاْرِكِيْنَ قَطيْعَاً إلكِتْرُوْنِيَّاً
يَحْرُثُ بَغْدَاْدَ عَلَىْ عَجَل .
لَوْ قِيْلَ للْكَرْخِ حَمَاْمةٌ عَلَىْ رَأسِكَ ،
هَزَّ كَتِفَيْهِ وَطَاْرَ إلَىْ النَّهْرِ .
لَوْ قِيْلَ للنَّهْرِ شَمْعَةٌ عَلَىْ يَدَيْكَ ،
عَاْنَقَ الغَرْقَىْ ،
وهُمْ يَعُوْدُوْنَ إلَىْ أمَّهَاْتِهمْ .
لَكِنَّ الْجِسْرَ الْمُعَلَّقَ بأهْدَاْبِ اللَّه ،
دَمَّرَتْهُ الطَّائِرَاْتُ ،
وَلَمْ تُرَمِمْهُ ذِكْرَيَاْتُ الْمَوْتَىْ .
الرَّمَاْدُ تَاْرِيْخُ بَغْدَاْد ،
يَطِيْرُ مَعَ الْخِضْرِ ـ كُلَّ ثُلاْثَاْءٍ ـ
وَيَغْتَسِلُ حَتَّىْ سُرَّتِهِ ،
وَكُلَّمَاْ تَزَوَّجَ الطُّوْفَاْنُ أرْضَاً ،
تَحَدَّرَتْ قَوَاْرِبُ الأيْتَاْمِ ،
وحَفِرَتْ لَهَاْ جَذْراً فِيْ الرَّمَاْدِ .
حَاْضِرُهَاْ لِيْ وَمَاْضِيهَاْ للجَمِيْعِ !
هَاْهُمُ الْمُؤَرِّخُوْنَ ،
بأسَاْنِيْدِهِمْ الْمَجْرُوْحَةِ ،
يَبِيْعُوْنَ فِيْ أسْوَاْقِهَاْ شَاْيَاً ،
ويَسْكُبُوْنَ أحْبَاْرَهُمْ عَلَىْ وُجُوْهِ النَّاْسِ .
وَهَاْهُمُ الْمُسْتَشْرِقُونَ ،
يَتَصَفَّحُوْنَ جَنَّةً فِيْ الظَّلاْمِ ،
ويَكْتُبُوْنَ بِدَمِ صُوفِّيَتِهَاْ فِتْنَةً شَقْرَاْءَ ،
وَعَقَاْئِدَ عَمْياْءَ لاْ إمَاْمَ لَهَاْ !
قَصَفَ الْحُلَفَاْءُ عَلَىْ خَرِيْطَتِهَاْ ،
وَزَاْرَةَ الْدِفَاْعِ الْقَدِيْمِ ،
الدِفَاْعِ الَّذِيْ انْتَهَىْ
باْسْتِسْلاْمِ عَبْدِ الْكَرِيْم قَاْسِم ،
لقِلَّةٍ مِنَ الانْقِلاْبِييْنَ
هَزَمُوْهُ مِنْ مَبْنىْ الإذَاْعَةِ .
يَقُولُ البَغْدَاْدِيُّوْنَ إنَّهُ انْحَنَىْ يَوْمَهَاْ
لالْتِقَاْطِ طَاْقيَّتِهِ الَّتِيْ سَقَطَتْ ،
بَعْدَمَاْ صَفَعَهُ انْقِلاْبِيٌّ بِرُتْبَةِ عَرِيْف .
القتْلُ مُوْجَزُ الْحِكَاْيَة ،
مِنَ الْخُلْدِ إلَىْ النِّهَاْيَة !
قَصْرٌ للْخُلْد
يَتْرُكُهُ الْمُلُوْكُ الْمَخْلُوْعُوْنَ
إلَىْ مَنَافٍ يَمُوْتُوْنَ فِيْهَاْ .
قَصْرٌ للزِّهُوْرَ يَشُمُّهَاْ لَيْلُ الْعِرَاْقِيِيْنَ ،
وَهْيَ تَسْمَعُ تَدْبِيْرَاْتٍ مَشْبُوْهَةً
وَرَاْءَ السِّيَاْجِ .
قَصْرٌ للرِّحَاْبِ
يَسْتَريْبُ بِقَصَّةِ شَعْرِ الْمَلِكِ الصَّغِيْرِ
لَيْلَةَ مَقْتَلِهِ !
وَقَصْرٌ للنِّهَاْيةِ الَّتِيْ يُغَاْدِرُهَاْ سُجَنَاْؤهَاْ إلَىْ الذِّكْرَيَاْتِ !
سِكِّيْرُوْهَاْ ، فِيْ الْمَنْفَىْ ،
يَخُطُّوْنَ بأقْدَاْمِهِمْ ،
خَرِيْطَةً سِرِّيَةً لِحَاْنَاْتٍ نَهَاْرِيِّة ،
وَيَقْلِبُوْنَ سِتْرَةَ الليْلِ ،
عَلَىْ أكْتافِهِمْ الْمَاْئلَةِ
نُدُوْبٌ مِنْ لُقَاْحَاْتٍ قَدِيْمَةٍ ،
وآثارٌ لِحِيْطَاْنٍ تَهَدَّمَتْ ،
عِنْدَمَاْ اتَكَأوُاْ عَلَيْهَاْ بأجْسَاْدِهِم الْمُتَأرْجِحَةِ .
حَاْنَاْتُ الشَّامِ ، عَلَىْ وِسْعِهَاْ ، لَمْ تُعْدِلْ خَمَّاْرِةً ،
قَرِيْبَةً مِنَ الْمَاْءِ ،
يُديُرُهَاْ { حَنَّاْ } أوْ { مِيْخَاْ }
ويَرْتَاْدُهَاْ الْعَاطِلوْنَ
والغُرَبَاْءُ
والْمُسَاْفِروْنَ .
{ كَاْنَ النُّوَاْسِيُّ كُلَّمَاْ عَاْدَ إلَىْ بَغْدَاْدَ مِنْ سفرٍ ،
أقَاْمَ ثَلاْثَةَ أيَّاْمَ فِيْ حَاْنَاْتِ الْضَّوَاْحِي يُنْفِقُ مَاْ عَاْدَ بِهِ مِنَ السَّفر
وَدَخَلَ بَغْدَاْدَ سَكْرَاْنَ مُفْلِساً } .

من مجموعة { اسكندر البرابرة }

زَاْدُ الرِّحْلَة
هُزِمَ البَرَاْبِرَةُ الْقُدَاْمَىْ مُتْعَبِيْنَ ،
وَظَلَّ مِنْ عَثَرَاْتِهِمْ ،
مَوْتٌ كَثِيْرٌ ،
عَاْبِرِيْنَ إِلَىْ الظِّلاْلِ بِلاْ رَصِيْفٍ أوْ وَصِيْفْ !
هُزِمُواْ
بِرَاْيَاْتٍ تُخَضِّبُهَاْ عُيُوْنُ جُيُوْشِهِمْ ،
وَعُيُوْنُهُمْ زَوَغَاْنُ قَتْلَىْ
يَزْرَعُوْنَ سَمَاْءَهُمْ
شَجَرَاً عَلَىْ شَجَرِ السُّيُوْفْ
لَمَعَاْنُهُمْ ،
يَصِلُ الغُرُوْبَ وَلاْ يُصَلِّيْ لِلْكُسُوفْ .
تِلْكَ السَّمَاْءُ لَهُمْ إذَنْ ،
مَهْجُوْرَةٌ
كَرِمَاْلِ أوْرَ وَكَالْمَوَاْئِدِ
بَعْدَمَاْ فَرَّ الضُّيُوْفُ جَمِيْعُهُمْ ،
وأتَىْ ضُيُوْفْ
الْمُتْعَبُوْنَ مَضَوَاْ
فَهَلْ نَطْوِيْ حِكَاْيَتَنَاْ ؟
وَثَمَّتَ قَاْدِمُوْنَ
يُرَاْجِعُوْنَ خَرِيْطَةً لِلنَّوْمِ
أيْقَظَهَاْ أدِلاَّءُ الْحِكَاْيَةْ
مَرَّ البَرَاْبِرَةُ الَّذِيْنَ عَرِفْتُهُمْ
فَوْقَ الْخَرَاْئِطِ وَالْخَرَاْئِبِ
مِنْ هُنَاْكَ وَمِنْ هُنَاْ !
وَتَفَرَّقُواْ ،
كَاْنَتْ مَلاْمِحُهُمْ تُخَبِّئُ جَنَّةَ الْفَوْضَىْ ،
وَكَاْنَ الْمَوْتُ
يُوْشِكُ أنْ يَحِيْضَ بِهِمْ ،
وَهُمْ يَتَجَمَّعُوْنَ لِمَحْوِ سِيْرَتِهِمْ ،
بِأُخْرَىْ سَاْئِرَةْ .
وَرَأيْتُ كَاْفَاْفِيْ وَحِيْدَاً
بانْتِظَاْرِ قُدُوْمِهِمْ
لِيَخِيْطَ فِيْ الْمَنْفَىْ
سَمَاْءَ بَرَاْبِرَةْ ،
يَحْتلُّهَاْ طَيْرٌ يَبِيْضُ حِكَاْيَةً ،
عَنْ يَوْمِ فَوْضَاْهُ الأَخِيْرِ
عِنِ السَّمَاْءِ الْغَاْبِرَةْ
عَمَّنْ سَيَنْخَفِضُوْنَ
فِيْ أرْضِ السَّوَاْدِ
وَيَجْمَعُوْنَ خَرِيْطَةَ الأَمْطَاْرِ ،
كَيْ يَصِلَ الغُزَاْةُ مُبَاْرَكِيْنَ
بِمَاْءِ قَتْلاْهُمْ ،
وأقْزَاْمٍ لَهُمْ ظِلٌّ وأشْجَاْرٌ
وَرَاْيَاْتٌ مُطَرَّزَةٌ بِعَظْمَةِ جُوْعِهِمْ .
مَاْ الْفَرْقُ إنْ مَكَثواْ
فَرَاْعِنَةً بِوَاْحَاْتٍ
أو انْهَمَرُواْ
حُلُوْلاً خِصْبَةً فِيْ الذَّاْكِرَةْ
أوْ شَيَّدُواْ أُمَمَاً مِنَ النِّسْيَاْنِ
أوْ سَكَنُواْ ظِلاْلاً عَاْبِرَةْ ؟
مَاْ الْفَرْقُ
لَوْ ضَلُّوا الطَّرِيْقَ
إِلَىْ الَّذِيْنَ تَجَمَّعُواْ مِنْ قَبْلِهِمْ ،
وَتَرَدَّدُواْ قَبْلَ الْوُصُوْلِ
فَهَؤلاْءِ تَجَمَّعُواْ
سُمَّاً بِلَيْلِ الذِّكْرَيَاْتِ
يُبَرْبِرُوْنَ إِزَاْءَ قَتْلاْهُمْ وَلاْ يَتَفَرَّقُوْنَ..
وَهَؤلاْءِ عَلَىْ الْحُدُوْدِ بَرَاْبِرَةْ !
أنَا بَيْنَهُمْ..
كَوَصِيَّةِ الْمَوْتَىْ إِلَىْ مَوْتَىْ
وَكَالْوَشْمِ الْمُهَرَّبِ تَحْتَ جِلْدِ النَّسْرِ ،
أغْمِضُ
كَيْ أعِيْدَ خَرَاْئِطَ الْقَتْلَىْ إِلَىْ الْمَاْضِيْ ،
إِلَىْ رُوْمَاْ
وَبَغْدَاْدَ الْقَدِيْمَةِ ،
أوْ أحُطَّ
مُقَوِّسَاً ظَهْرِيْ عَلَىْ لَيْلِ الْخَرَاْبِ
وَفِتْنَةِ النَّاْجِيْنَ ،
لاْ لَسْتُ الْغَرِيْبَ
وَهَذِهِ لَيْسَتْ بِلاْدِيْ !
مِنْ قَاْسِيُوْنَ إِلَىْ السَّوَاْدِ الْمُرِّ ،
كَمْ مِنْ رِحْلةٍ مُرْتَدَّةٍ للْجُوْعِ وَالدَّمِ
وَالْحَضَاْرَاْتِ الْجَرِيْحَةِ ،
وَالْجُنُوْدِ الْحُمْرِ ،
وَالشُّطَّاْرِ ،
وَالْغُرَبَاْءِ ؟
كَمْ مَنْفَىْ سَيَكْسِرُهُ مَصَبُّ النَّهْرِ
فِيْ شَرْقِ السَّوَاْدْ !
إبْحَثْ عَنِ الزَّاْدِ الْبِلاْدْ !
الرِّحْلَةُ انْكَشَفَتْ ،
وَهُمْ رَسَمُوا طَرِيْقَاً فِيْ الرَّمَادْ !
لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ ، إنَّهُمْ ذَهَبُوا
يَطِيْرُ الطَّيْرُ فِيْ الإِنْسَاْنِ أوْ تَتَأَخَّرُ الْعَنْقَاْءُ ،
أوْ تِأتِيْ الْبِلاْدُ فَلاْ بِلاْدْ !
مَاْ كُنْتُ فِيْ بَغْدَاْدَ
إِلاَّ جُرْحَهَاْ الأَعْمَىْ ، يُفَتِّشُ عَنْ ضَمَاْدْ !
لِمْ يَبْقَ مِنِّيْ
إنَّنِيْ مَاْضٍ كَخِيْطٍ فِيْ الْحَرِيقْ .
أوْ نَاْسِكٌ يَصِفُ الطَّرِيْقْ ،
جَاْءَ الغُزَاْةُ مَضَىْ الطُّغَاْةُ ،
تَرَىْ الْمَرَاْيَاْ مَاْ تَرَىْ
فَلأَيِّ بُهْلُوْلٍ سَيَتَّسِعُ الْمَضِيْقْ ؟
يَأْتِيْ الْحَرِيْقُ
وَتَخْتَفِيْ رُوْمَاْ
وَيَلْمَعُ مِنْ جَدِيْدٍ فِيْ الظَّلاْمِ خَرَابُهَاْ :
حُرِّيَّةً وَبَرَاْبِرَةْ .
أيْنَ كَلْكَاْمِشُ يَاْ كُوْلُوْمْبُوْس؟
إنَّهُ دَمٌ، انْهَدَمَ الْجُرْحُ وَالْمُوْسِيْقَىْ ،
عَلَيْكَ أنْ تَمُرَّ منْ قَوْسِ الْخَدِيْعَةِ ، وأسَاْطِيْرِ الْعَنْكَبُوْتِ ، وَتَخْرُجَ هَاْذِيَاً: الْبَصِيْرَةَ الْبَصِيْرَةْ .
هَذَاْ اللَّيْلُ لاْ يَكْفِيْ لأرَىْ عَيْنَ هُوْمِيْرُوْسَ ، خَرَزَةَ الإِغْرِيْقِ الضَّاْئِعَةَ فِيْ الْمَدْرَجِ الرُّوْمَاْنِيْ
لاْ يَكْفِيْ هَذَاْ اللَّيْلُ لإِحْرَاْقِ إنْجِيْلِ بِيْزَنْطَةَ ، وَتَأْنِيْبِ أوْغَسْطِيْنَ عَلَىْ تُفَّاْحَةٍ تَدَحْرَجَتْ لِتَصِلَ الْحُدُوْدَ كَقُنْبُلَةٍ مُتَّسِخَةٍ بِالْجُغْرَاْفِيَاْ ، وَالْبَسَاْتِيْنِ الْهَاْرِبَةِ فِيْ الْعَوَاْصِف
اللَّيْلُ لاْ يَكْفِيْ وَلاْ النَّهَاْرُ ، لِيَرْكُضَ الْفُقَهَاْءُ فِيْ الْمَسَاْفَةِ بَيْنَهُمَاْ بَحْثَاً عَنِ الْحَلِّ
الْبِلاْدُ مُنَكَّسَةُ الأَسْنَاْنِ ، كَامْرَأَةٍ جَنُوْبِيَّةٍ تُقَبِّلُ أحْفَاْدَهَا وَتَشْتِمُهُمْ وَهْيَ تَلْثَغُ بِالْمَرَاْثِيْ الْقَاْتِمَةْ
البِلاْدُ مُسَلَّحَةٌ ، وَمَسْلَخَةٌ أيْضَاً ! لاْ أَحَدَ يَعْبُرُ الصُّوْرَةَ دُوْنَ أنْ يَتَلَطَّخَ بألْوَاْنِهَاْ
وَهُمْ يَهْبِطُوْنَ فِيْ أُوْرَ بَحْثَاً عَنْ كِلْكَاْمِش
الْعَاْلَمُ لَيْسَ بَعْدُ ،
وَالسُّوْمَرِيُّ لاْ يْزَاْلُ مَنْفِيَّاً فِيْ سُهُوْلِهِ السَّوْدِ ،
هَلْ بِمَقْدُوْرِهِ صِيَاْغَةُ الْعَاْلَمِ ، مِنْ طِيْنِهِ الْقَدِيْمِ ، وَهْوَ يَشْحَفُ جِلْدَ الْمَاْءِ ، بِمِجْدَاْفٍ يُهَيِّجُ الأَسْرَاْرَ ،
هَلْ بِمَقْدُوْرِهِ أنْ يَكْتُبَ عَنْكَبُوْتَ الْعَوْدَةِ لآثَاْرِ الْعَرَبَاْتِ فِيْ الأَهْوَاْرِ ، وَيَخْتِمَهَاْ بِسُرْفَةِ التُّرَاْبِ وَدِيْدَاْنِهِ فِيْ عِظَاْمِ الرُّهْبَاْن
وَالْعَاْلَمُ لَيْسَ بَعْدُ ،
فَهَلْ لِكُوْلُوُمْبُوسَ نَاْرٌ مُشْتَعِلَةٌ عِنْدَ ضَفَةِ الْفُرَاْتِ ؟
هَلْ لَدَىْ كِلْكَاْمِشَ مَاْ يُعْطِيْهُ لِلتَّاْئِهِ ؟
هَلْ لِكُوْلُوُمْبُوسَ مَاْ يَصِفُهُ مِنْ تَبْغٍ قَدِيْمٍ لِلْخَاْئِفِ مِنْ مَوْتٍ بَيْنَ نَهْرَيْن ؟
كِلاْهُمَاْ يَبْحَثُ عَنْ أرْضٍ لِقَتْلَىْ لاْ يَمُوْتُونْ
وَالْعَاْلَمُ لَيْسَ بَعْدُ !
لِتَكُنْ مَلاْحِمَ أخْرَىْ لِلْحُفَاْةِ يَمْشُوْنَ عَلَىْ إبَرِ الْحَيَاْةِ وَخُيُوْطِ الْمَوْتِ وَيُسَمُّوْنَ دَمَ رِحْلَتِهِمْ نَسِيْجَ بِلاْدْ !
لِتَكُنْ ضِفَاْفَاً جَديْدَةً لِرِيَاْحِ كُوْلُوُمْبُوْسَ
وَهْوَ يَأنَسُ نَاْرَاً لَمَّاْظَةً فِيْ وَحْشَتِهِ ،
فَمَشَىْ عَلَىْ رُكْبَتَيْهِ ،
مُتَحَاْشِيَاً أنْ تَسْبِقَهُ الذِّئَاْبُ ، هَذِهِ الْمَرَّةَ ، نَحْوَ جِهَةِ الدُّخَانْ
وَنَحْوَ الْمَآذِنِ بِهِلاْلِهَاْ الْمَعْقُوْفِ كَقَرْنِ الأَيَّلِ الْهَاْرِبِ فِيْ سَوَاْدِ الْكُوْفَةْ .
الشَّمَالُ الْبَعِيْدُ كَمْ كَاْنَ قَرِيْبَاً كَالْمَوْتِ، وَكَالْخُلُوْدِ ،
الشَّمَالُ الْبَعِيْدُ، الشَّمَاْلُ الْعَاْلِيْ ، يُطِلُّ عَلَىْ مُنْحَدَرَاْتِ السَّوَاْدِ ، كَمَنْ يُرَاْقِبُ جُثَّةَ مَاْضِيْهِ الْغَرِيْقَةَ وَيَبْكِيْ
نَخْلَةٌ وَمِئْذَنَةْ .
قَنَّاْصُوْنَ وَخَوَنَةْ
فِخِاْخٌ وَمَيْتٌ يَسْهُوْ بِذِكْرَيَاْتِهِ
لَعَلَّهَاْ الْبِلاْدُ ،
مُزَاْرِعُوْنَ يَهْبِطُوْنَ مِنَ الْجَبَلِ مُتَأَخِّرِيْنَ ،
وَرُعَاْةٌ يَزْرَعُوْنَ دَمَ الذِّئْبِ، فِيْ شَوَاْرِعِ الْعَاْصِمَةْ
لَيْسَ فِيْ الْمَنْزِلِ سِوَىْ رَوَاْئِحِ الْبَاْرُوْدِ وَالْقَتْلَىْ ،
لَيْسَ فِيْ الْمَقْهَىْ سِوَىْ أخْبَاْرٍ مَكْتُوْبَةٍ بِالْبَاْرُوْدِ
الْجَمِيْعُ غَدَاً سَيَخْرُجُوْنَ إِلَىْ سَمَاْءٍ وَاْحِدَةٍ !
الَّذِيْنَ قَضَّواْ شَطْرَاً مِنْ سَنَوَاْتِهِمْ فِيْ بُرْجِ دَبَّاْبَةٍ
خَاْئِفِيْنَ مِنْ فِخَاْخِ الأَرْضِ
وَالَّذِيْنَ عَاْشُوْهَاْ فِيْ الْحُفَرِ الضَّيِّقَةِ ،
وَمَنْ وَقَفُواْ عَلَىْ تُرَاْبِهَاْ مُتَهَيِّئِيْنَ لِعَاْصِفَةِ النِّهَاْيَةْ
الْقَتْلَىْ وَقَاْتِلُوْهُمْ ،
وَالَّذِيْنَ تَعَاْنَقُواْ فِيْ الْمَقَاْبِرِ دُوْنَ مَعْرِفَةٍ سَاْبِقَةٍ
فَحَرَثُوا السَّبِخَةَ بَكِيْميَاْءَ هَيَاْكِلِهِمْ
غَدَاً تَحْتَ سَمَاْءٍ وَاْحِدَةٍ وَوَحِيْدَةٍ ،
عَلَىْ تُرَاْبِ أرْضٍ لاْ يَعْرِفُوْنَهَاْ
كُلُّهُمْ سَيَتَسَاْءَلُوْنَ :
مَتَىْ يَأتِيْ الْبَرَاْبِرَةْ ؟

جذر وحيد يلامس يأس الشجرة
مختارات من محمد النصَّار
سيرة ابداعية :
ولد محمد تركي النصار في عام 1961 الناصرية- العراق
تخرج في جامعة بغداد . بكلوريوس أدب انكليزي عام 1987
عمل في الصحافة الادبية والتدريس لمدة تزيد على عشرة أعوام
غادر العراق عام 1994 الى الأردن التي عاش وعمل فيها حتى عام 1998 حيث سافر الى كندا التي يقيم فيها منذ ذلك الحين .
صدرت له المجموعات والأعمال التالية :
1 - السائر من الأيام بغداد 1992
2 - تنافسني على هذه الصحراء { فازت بالجائزة الأولى لمسابقة دار الشؤون الثقافية لشعر الشباب في عام 1992 }
3 - حياة ثالثة . المؤسسة العربية للدراسات والنشر . بيروت 1996
4 - قصائد في { ديوان الشعر العراقي } منشورات البزاز . عمّان 1994
5 - قصائد في مجموعة { خمسة شعراء عراقيين } دار الجندي . دمشق 1998
6 - نشرت له دراسات كثيرة في الشعر العربي والعراقي ، ومقالات في شؤون ثقافية مختلفة .
ترجمت له في مناسبات مختلفة قصائد الى اللغة الانكليزية .

1
اذا كانت الوظيفة الأساسية للغة هي التصالح مع الموت والألم والسأم في الوجود ، فانها في تجربة محمد النصار تبدو قاصرة ولا تكفي للتعبير عن كل الأشياء المربكة والمسببة للخواء والضجر والاغتراب والفقدان والنفي في هذا العالم الشرس الذي يستلب الانسان في كل حين ، ولئن كان النصار وهو من مرضى الوجود كما أعرفه ، يحاول دائماً عبر الاخلاص لقصيدته ، أن ينأى عن الآني واليومي والزائل ، فانه عبر محاولاته الدؤوبة والمستمرة في الكشف عن الأسرار والنزول الى الهاوية ، والحيرة والخواء الذي يكتنف وجودنا في العالم . حاول دائماً ألغوص عميقاً من خلال رؤيا تأملية أن يقدم قصيدة لا تشبه قصائد الآخرين . ومن خلال نظرة فاحصة لمجمل عمله الشعري ، سنكتشف أنه معني ومهموم في الكشف عن الأشياء السرية في الوجود عبر محاولات تعريتها والقاء المزيد من الأضواء عليها لتجاوزها ، ومحاولة التعايش معها وجعل العالم أكثر رحمة ومغفرة .
2
سعى النصار دائماً بسبب عجز اللغة وفقرها أمام المحنة الكبيرة لحياة الانسان المقذوف وحيداً في العالم . أن يمنح لغته طاقات جديدة وخطرة من خلال ازاحة دلالاتها وأنساقها البنيوية والسيميائية التي تعودت عليها بحكم الأنظمة المعرفية السابقة والتقاليد والعادات الموروثة ، ومعلوم أن الاندفاعات والتموجات في لغة العمل الشعري ، لا تأتي إلاّ من خلال اجتراح مفردات ودلالات وعلامات مغايرة لما هو سائد في الحياة اليومية . أن سعي النصار الدائم هذا منحه ميزة خاصة به في صيانة قصيدته ضد كل ما هو آني وزائل طوال السنوات الماضية التي استمثرها في التأمل والقراءات العميقة والتجريب المستمر .
3
يتأمل النصار العالم من خلال نظرة مأساوية واضحة ، وتبدو الوحشة التي يزيح الأقنعة عنها راسخة ومدمرة لحياة الانسان عبر تجذرها وتكرارها والسأم الذي تتركه في كل الأشياء . هل يكون الشعر هنا بمثابة البلسم الشافي لآلام البشر وهم يواجهون العدم والفناء وآمالهم المحطمة في دورات لا تنتهي من التحول والصيرورة في الطبيعة وفي الحياة ؟ :
هذا النسر
يميل الى تكرار جناحيه .
شهوته في الطيران
تساوي موت الكائنات الأخرى ،
ولأن ميتتاتنا كثيرة
وذكرياتنا جدران محطمة .
لم نعد نخرج من منازلنا
الى ساحات القتال .
قصيدة { موت الكائنات الأخرى }
خلال مراجعتي لمجمل عمل النصار الشعري . لا حظت تكرار صيغ { ذكريات جدران محطمة } و { حطام جدران ومدن العالم } التي ترد في قصيدة { سهواً ... على مصطبة الظلام } وفي غيرها من القصائد ، ولا يكتفي الشاعر هنا في هذه القصائد في الكشف عن الأشياء المحطمة ، بل يزيح الستار عن قوى الاستلاب في الوجود وفي الطبيعة أيضاً . ليس في الحدائق التي يتحدث عنها الشاعر فراشات وزهور وعنادل مغردة . بل الأمراض وهي تتكاثر :
تتكاثر وسط الحدائق
وتمتمات الآباء والبنين
ولا تحجبها ارادة
وحين تضيق ذرعاً
تنتشل واحداً من أحبائنا
من أحضان الحياة .
قصيدة { أمراض } .
أما في المدن التي يتحدث عنها في قصيدة { جاذبية } وهي مدن تتكاثر فيها الأوبئة ويفقد فيها البشر طمأنينتهم ، فلا ينتج التجانس الظاهر سوى عدم جذاب الى حدّ ما كما يصرح الشاعر . ولكي لا أثقل على القارئ في الاستشهادات ، اكتفي هنا في الاشارة الى قصيدة { العمى } حيث ليل الانسان المظلم في العالم يخلو من أي بصيص للضوء ، ولا نعمة من الطبيعة :
المصابيح عزلاء
تتخفى خجلة قرب
الجبال ولا تحب الظهور .
4
في مواجهة الانسان لقوى الاستلاب في قصيدة { أشجار } وهو يواجه التحدي والصلف من هذه الأشجار المريبة التي تمدح بعضها وترقص بأمان تحسد عليه . تتدخل هذه القوى الغامضة وتسرق الأشجار التي تطلق الشتائم كالحمامات . ماالذي نفعل لنجدة هؤلاء السكان الريفيين ؟ يتساءل الشاعر بعد أن سرقت الوحوش البيض التي قدمت من كوكب آخر هذه الأشجار واحدة واحدة . في قصيدة { قطيع الأحلام } تبلغ المأساة ذروتها حيث { لكل وقت ذريعتان . الجسد بينهما يذبح كل لحظة } وبعد أن يحترق هذا الجسد وينهض ويحترق مرة أخرى . تكون النجوم الشاحبة صحراء تقود قطيع الأحلام الى الدوار . لا نعمة ولا طمأنينة في أحلام الانسان هنا كما في قصائد أخرى .
في قصيدة { أكاذيب في محبرة } لا يكون الألم عادلاً إلاّ حين يجتاز مدناً عديدة :
كم مدينة يحتاج الألم
ليكون عادلاً
حينما يجتاز بحيرات الدم الخرساء
وتسوِّد وجوهنا
أكاذيب الرياح ؟
لكن الحياة وهي أفعى مريضة في هذه القصيدة . تسبح في دموعنا باحثة عن خطأ ناقص وأمل مجروح . لا يريد النصار هنا التصالح مع العالم عبر تقديم قصيدة تخفي فضيحة وهشاشة وجودنا . انه يتحدث ويعبر عن الفجيعة المترسخة لوجودنا منذ الأزل بكلمات وأسئلة تستبطن محنة الانسان في سعيه للخلاص بعيد المنال .
5
تنفعل اللغة ويتفجر غضبها بقوة في قصيدة { بلاد ما بين اوانين } حيث يلجأ الشاعر في مواجهة الفوضى والخراب الى نحت واختراع مفردات ودلالات جديدة في وصف ونعوت أشخاص وأشياء معينة بطريقة تبدو غريبة للوهلة الأولى ، لكن القراءة المتأنية لهذه النعوت والأوصاف ومحاولة ارجاعها الى أصولها اللغوية . تجعلنا نكتشف المعنى الحقيقي الذي أراده الشاعر . ما الجديد في وصفنا للشخص الجلف بقولنا انه كركدن ؟ أو وصفنا للشخص النذل بقولنا انه نذل ؟ هل تكفي هذه الكلمة لتفريغ طاقة غضبنا ضد التصرفات العدوانية والحمقاء للناس الأجلاف والأنذال وهم يعكرون صفو حيواتنا من خلال تصرفاتهم العدوانية ضدنا ؟ يستخدم النصار في نوبات غضبه ضد هذه الأشياء وهؤلاء الناس ومواجهتهم وفضحهم والسخرية منهم مفردات وكلمات مثل : { وسدى يتنجنجون . فالحسك أبيقر والأصلخ بطرير بشهادة الهوبر } أو { هذا الطربال الأملح } و { اعتكال الأصلخ } آمل أن يتم اعتقال هذا الأصلع بأسرع وقت وتقديمه الى المحاكمة لتسببه في الاساءة الينا وازعاجنا دائماً . وتبلغ السخرية ذروتها هنا في قوله { واذا أخذنا الوروار على عواهنه ، فالأمير بشهادة الرعابة . ملحادة . يبحث عن فجر ويفتض الجرة ليسكر كالخذروف } . يقدم لنا النصار هنا جلاوزة هذا الأمير المرعوبين وهم يدلون بشهادة كاذبة ملحدة عنه . فهو يبحث عن فجر ليسكر ويغدو كالخروف . ويقول في مكان آخر في وصف سقط المتاع والأوباش هؤلاء وأمثالهم من البشر العضاريط الذين هجاهم المتنبي في أحدى هجائياته لكافور : { العمارضة سرقوا القاقوم } و { برغم الوطاويط التي هاعت حتى تنيحت في حضن القهقور المهجور } .
6
محمد النصار منذ أن عرفته في بداية الثمانينيات من القرن الماضي ، يكتب الكثير وينشر القليل . شاعر متألم في وجوده وحريص على تطوير تجربته ولا تهمه مسائل الشهرة والظهور وأضواء الاعلام . أقدمه هنا في هذه المختارات التي لا تمثل تجربته الشعرية كاملة وأمنح القارئ فرصة التعرف على تجربة مهمة لشاعر يسعى بدأب واخلاص لمنحنا السلوان في ليل حيرتنا أمام الأشياء التي تستلبنا وتستلب وجودنا في صراعنا ضد الحتميات المتعددة في العالم وفي الطبيعة .
موت الكائنات الأخرى
هذا النسر
يميلُ الى تكرار جناحيه .
شهوته في الطيران
تساوي موت الكائنات الأخرى .
من سطر فارغ
الى سماء تجتر نجومها
ثمة مداخن
نضربها بأجنحتها
ونشعل الفتن
في الفضاء الحرّ
خالطين الأزمنة
بضباب أزرق
لا يشبه اللهب .
ولأن ميتاتنا كثيرة
وذكرياتنا جدران محطمة
لم نعد نخرج من منازلنا
الى ساحات القتال
لكننا ننزف دموع البؤس
مباعدين بين الأفاعي التي تشبه الطين
وهذه الأشلاء المتساقطة
لنسر متداع
أنهكته شهوة الطيران .
عسل أسود { مقاطع }
كلمات الأسلاف
كسّر الأعمى سراجها ورتاجها
لينام في أوراقها ويغط في اللعبة .
ضع المنديل
على دمعة التمثال
وقّرب الأنثى من القنديل
وحركهما لتتأكد
أن في النهر حياة تستحق العناء
وآمالاً تكفي لدمعة التمثال
والقنديل أيضاً
وضع هذه الاصبع في النار
لتعثر على جذع وحيد
يلاطف يأس الشجرة .
*** *** ***
عسل يدب على حافة النهر
عسل يدب على ركبتيها .
اتركوها وحيدة :
قالت أختها للصوص
يفتشون عن أعيادها
بين رمل الخزائن .
اتركوها : قالت
فأنجبت النوافذ
حشداً من الشعراء .
لماذا يختصر الفجر في صياح الديكة
وتمحى الوردة
بين ذهب داعر
وكلاب مربوطة للنهر
لماذا ؟ .

أمراض

تتكاثر وسط الحدائق
وتمتمات الآباء والبنين
لا تحجبها ارادة
وحين تضيق ذرعاً
تنتشل واحداً من أحبائنا
من أحضان الحياة .

******

لا شيء مؤكداً
الأجراس تكذب
والطيور تصاب بالجنون
والمراكب تخترق نشوة الماء
تشب البنايات
لكن الأمراض سادرة في غيها
واللصوص اللامعين ينشطون
فيسرقون الحدائق في غفلة منا .
أتكون الكتابة ردعاً
أم تكون الأمراض شهوة
يدخرها الموتى
ليوم آخر وأخير ؟
لا الذهب
لا الدم
ولا الأنهار
بين الرمال
لا الأصدقاء
لا النبات
لا الهبات
كلها أقل مما يطمع به هذا الدم الأخرس
كلها استدرجتها فخاب فألي
وعدت منها خالي الوفاض .
اذا كانت الأمراض لها هذا الجبروت
لماذا لم نبن لها قباباً وكنائس ؟
لماذا نذبح النجوم والقرابين لها ؟
لماذا لم نقم دونها القلاع
ونحصن
ديارنا ضد جندها العتاة ؟
فقدت ما يكفي لأن أؤمن بها
. مما أؤمن بالنهر والنهار أشد
أقمت جسراً بعدها
الليل والنهار بين
ولم انتم لأي منهما .
يا لهذه الزهرة الذليلة
يا لأبي الذي اختطف الأعياد مني
يا للنفق الذي تفوح منه رائحة
العظام .
مجداً لك
أيتها الامراض العالية .

أشجار
تمدحُ بعضها
هذه الاشجار
وتخفي سعادتها
عن سكان هذا الريف .
تخفيها بالسواد الساحر
وتطمئن .
تنام مطمئنة
وتأكل
وتشرب
وترقص بأمان
تحسد عليه ،
وسكان هذا الريف
ينظرون بارتياب
لهذه الأشجار ،
وحين يضجرون
يطلقون النار عليها
لكن الأشجار
وقد احترق سوادها الساحر
تطلق الحمامات
كالشتائم
في وجوه السكان المذعورين .
لا أحد
يفضّ الاشتباك
بين السكان والأشجار
لكن الجميع اذعنوا
وبين كرٍّ وفرٍّ
استمروا
على هذه الحال .
ذات يوم
تسللت وحوش بيض
من كوكب آخر
وحوش لا ترى
ولا يسمع لها زئير
وسرقت الأشجار
واحدة واحدة
من هذا الريف .
فما الذي يمكن أن نفعل
لنجدة هؤلاء السكان الريفيين ؟
قطيع الأحلام
لكل وقت ذريعتان
الجسد بينهما يذبح
كل لحظة .
ينهض
يحترق
ينهض
يذبح فضاء دمه
والنجوم الشاحبة ،
صحراء تقود قطيع الأحلام
الى الدوار .
غيبوبة تقود الصحراء
الى الرأ س الطافي
فوق الأمواج .
خيول
لدى هذه الخيول الرابضة خلف الجدران المتقاطعة
متسع من الصهيل لاستدراج الذكريات .
لتلقي اليقظة كحادثة طارئة تستحق التأمل
ولديها عدد كاف من الأسابيع . أسابيع
الفكاهة ، والعزلة أيضاً
اذ تتهيأ لتأويل القش بازاحته
فوق تل الأيام الفائضة .
ولديّ ما يجعلني سائس هذه الخيول
ومقلّب الجدران على وجوهها
لاستئصال الورم القديم ،
ورم الأعضاء غير المنظورة
حيث الجسد مستودع للسنابل الشاحبة
والدموع والظلام القديم .
سواد الشمس الجارح .
جاذبية
لا أظن
أن نهراً يحتال على ملاك
بل أن الجحيم
لا وقت لديها
لتفقد بطولات
وسجالات بالية .
أتكلم
عن المدن
التي تتكاثر فيها الأوبئة هناك
أما هنا
فينتج التجانس الظاهر
عدماً جذاباً الى حد ما
وتتصافى الأضداد
في تعريفاتها الرخوة
اذ ثمة للخارج ضوء واحد
يغير جلده باستمرار
والسماء لا تبالي
لأن الطبيعة مزاجية
فالزمن عملي جداً
و لم يسأله أحد
يوماً عن اله
أو كتب بائرة في الكنيسة .
يد واحدة قد تصفق هنا
للمطر
الذي لايحضر كثيراً
في قصائد الشعراء
والقطار سيعتذر حتما للثلج
لأنه سيتوارى
في الأنفاق
أما أنا
فقد حاولت مراراً
أن أتداول أيامي
بالتصفيق الحار
لغائب معتل المسالك
هارباً من عري المرايا
الى الألوان
التي لاتندبها الحيطان المدللة
في لوحات
لرسامين ابيقوريين
وفي مرات كثيرة
كنت حائلاً مميزاً
بينها
وبين تاجر أعمى
يقوده
كلب الحضارة الحنون .
لا مبالاة
لا خليفة لهذا الضوء
لأن صوتاً ساحراً يأتي
من جهة الشرق
سيثير الاستغراب حتماً .
فالسماء التي تسخر لديها الفراغ العميق
للتشفي من الأيام
ستدعي
على قبر
العاطفة المهجور .
بين ضوضاء
المدن
الذي تتجاهله نشرات الأخبار
غالباً بسبب الكوارث الشرقية
وغبار تندر طويلاً
بسحر اخناتون .
أرى المعري
يتصفح
قصائد عبد الصبور
بينما تنعب
غربان سود
في الضفة الأخرى
من النهر
ليس بعيداً تماماً
عن ساحة الاعدام .
الى كافافي
كانت الصور
أشخاصاً
يمشون
في شوارع اللغة
موسيقيين اغريق .
ساسة مهرجين .
غلمان يقرزمون
ومهندسين
ليسوا اسكندريين
يتأملون المشهد
بمحض الهواء جمعوني
واحداً ذاهلاً هناك
ولم يفرقوا الحشد
لذلك
لم يبق أمامي
إلاَّ التأتأة
وقد صعقت
لدرجة انني تخيلت
أن المنتظرين
كانوا برابرة أيضاً .
حوار آخر
خارج فضاء الحقل الأول
يرزح هذا القلم
تحت نير
تتراكم عليه
كتل الصقيع
التي صارت تصدأ
بمرور الأعوام
وتعبث
بمصير النار المرتبكة .
الغاز تتطاير من مدخنة
أما السكان الاصليون هناك
فما يزالون
يبحثون
عن اللقى
التي تتجاذب أطراف الحديث همساً
تحت تلال القش اللامعة .
سهواً .. على مصطبة الظلام
الى { س . ك }
في النظرة تتحاشى مرآتها
في الرماد يتلمظ
داخل جمجمة الضحية
في الفراع ينخر ثعبانين
مثل سيفين من الذهب
يبكيان ، في البلاد البعيدة .
في الشبّاك الثمل
في طيش البنت تغرز نهدها في رمال الأفق
في خزائن طينية
في دمعة تنمو مع العشب والأعياد
في مكتب شتائي
في قيلولة الكلب
في عرين الشوارع
تبحث عن أسد لبابل
هشمته ريشة النار الفاسقة .
في الماء الذي يرثي السبايا
في زقورة الدم
في ريش الحمام
يتعثر بين النخيل البعيد
في القصب يسوّد
كأغنية
وعصفورين مشنوقين
تحت شجرة شبقة من شدّة الخراب
في الجملة التي لم يقلها الغائب
فسقطت من لحاء اللغة
في كل هذا
وفي يدي التي تتهجى اللغات
يختفي فجر أخرس من شدّة السواد .
في ما تبقى من صرخات ربيع مكسور
يطوف كالمعتوه
بين الجبال
في طواحين السرى
في الرغيف الأسود
في كبرياء فئران يائسة
تحت الأسرة تقرض صور الكلام
في الفانوس يحفر القلب حفراً
وفي القدرة الفائقة على النسيان .
في الخوف الشاهق مثل سيد
وفي السيسبان الدامع
يختفي فجر أخرس من شدّة السواد .
في بذرة المستقبل
نخرتها أرضة الماضي
في الحروف
تبعثر كينونتها
فوق هامة الضحية
فتستحوذ على انتباه الغياب .
في الأكاذيب التي تلمِّمع دهاقنة الطريق
في المفاتيح نُسيت في براري الجمال
في طيات خريطة
مدفونة تحت الصدأ
في ترابي الذي
يهرسه نهر متوحش
يتمطى كالأفعوان في المرايا
في لجاجات الشعوب البائتة
في زمن الحلم
يختفي فجر أخرس من شدّة السواد .
في الخطط
تتلفت كثعالب تصلي في حشود الضباب
في الأفواه تحفر قيعانها مسامير
وتستلقي كأفراد القطيع
على دكّة حمراء .
في غربة العشب التي تستولي على دهشة الراعي
وفي غربة الرائي الذي لا يُرى .
في قبضة اللاعب المطرود .
في كبسولة الهلاك .
في المواخير تتهدمُ كالغيوم
في حرير كصهيل
يحفر غابة سوداء
من الذهب القاتل
والألسن العرجاء .
في مزارع السم
في سيوف المنفى
في التضاد المحبوس
يغرز أشواكه
في توابيت الهواء .
في الجلوس الواقف سهواً
على مصطبة الظلام .
في زعانف العصا .
في أرجل المحارات
تراقب شمساً ترهن ميزانها المقلوب
وتتسول في زنازين الصقيع .
في كل هذا
يختفي فجر أخرس من شدّة السواد .
في المقبرة البعيدة رأيته مطرقة بأسنان صفر
تشبه المدن المحطمة .
رأيت عظاماً مثقوبة
تأكل كفي الراعشة
وتشرب حبري الذي تتساقط فوقه القذائف
والبروق العمياء .
وبصبر مجنون
وشجاعة ميت
كنت أفسح قلبي للأيام
لتكمل سيرها المرقط
في بحيرتي الحمراء .
مصاباً بعاهة الكلام
خالعاً من اللغة أقفالها
ومن الأبواب انتظارها الأملس
أتشبث بعكاز الموتى
وأشدُّ طبلاً فارهاً
كالوجود
لقوس تبكي
قرب ملهاتي الدامية
مصغياً لشهاب النبوءات
يخترق عالمنا فجأة .
عجولاً
يقايض دارة سقطتُ خارجها
بوحشة حجرية
تستند الى قطن الكلام
وبأزميلٍ منسيٍّ في حفرة تشبه حياتي
أرمم روحاً منخوبة بالطلقات
واربِّت على كتف حيوان يائسٍ قربي
وأتماثل للطيران .
أكاذيب في محبرة
كان يلزمني حبر نظيف
ونار تحرس يقظتي
لكي أقود فلول الغيوم
بعصاي
ماراً بصخرة تنهشها الأمطار
بالصرخات الممزقة ،
بالعزاء المنخور ،
منادياً عليّ : أيها الأمس
كم مدينة يحتاج الألم
ليكون عادلاً
حينما يجتاز بحيرات الدم الخرساء
وتسوِّد وجوهنا
أكاذيب الرياح .
وأنت أيتها الأفعى المريضة
أيتها الحياة
تسبحين
في دموعنا
باحثة عن خطأ ناقص وأمل مجروح
عند أبواب الجحيم ،
ابوابنا الساخطة .
وتخلدين بمهارة ناعمة
الى نومنا البارد
تلدغينه بضوئك السام
وتسحلين الفريسة
متنقلة بها
من طريق يشبه اصبعاً مبتورة
الى جبل منكسر ،
الى متاهة تجترُ طمأنينتها .
وحين تتعبين
تتخفين
أيتها الأفعى
فكل مدينة من رمل وخداع
مزار آمن لك
فدوري به
دوري
واصنعي تمثالاً شامخاً ، باقياً
لهذا الدوار .
العمى
الليل الذي يتدفق من مكان خفيٍّ
يسترخي
قرب جبال
تحرس مصابيح عزلاء
تتخفى خجلة هناك
لا تحب الظهور
لكنها أحياناً
وفي غفلة من الضجيج
تخترق صمتنا الأبله
وتلقي التحية علينا
بنظرة خاطفة
وتسرع
وتسرع
هاربة
خوف أن يصيبها سهم الكلام .
الآن وبعد زمن طويل
على اكتشاف وحشة هذه المصابيح ،
لماذا أعوّد نفسي
على احترام رغباتها السرية ؟
لماذا لوثت أصابعي بدموعها
وشوهتها بدمي الفاسق ؟
كم تكلفنا حماقاتنا متاهات ٍ
وكم تستحثنا أدغالنا الوعرة
للظهور والمكوث
وسط سكان غرباء
لا يمتّون باية صلة
لمصابيحنا العزلاء ؟ .
بئر الدماء
في علبة الكبريت
نهر من النار
وشيطان لجوج
على مقربة
من يدٍ راجفة تثير البكاء .
وفي مرآة التراب
ضباب احمر
وشفاه صفر
وبقايا خطى .
بقايا دموع ، على مسدسه اللامع
أو على سيفه الصدئ .
*** *** ***
في خيمة القصر .
خيمة الأمير
وفي شهوة القيصر
سعال الرمل
وعلى مقربة من سورة الكلمات
أرى وطناً بثياب ممزقة
ورهط مجانين .
*** *** ***
بعد ألف من السنوات
سوف يذكر الأحفاد
قصة هذه البئر التي تنزُّ منها
الدماء .

كل شيء أسود في حديقة الشيطان
مختارات من صلاح حسن
الشاعر في سطور
من مواليد بابل ــ العراق عام 1960.
خريج أكاديمية الفنون الجميلة ـ بغداد عام 1984.
نال جائزة الشعر العراقي عام 1992.
نال جائزة الشعر الهولندي عامي 1996 و 1998.
ترجمت دواوينه الي الانجليزية والالمانية والهولندية.
في الشعر والمسرح صدر له:
المحذوف في عدم اتضاح العبارة
خارج ببوصلة عاطلة
بقايا الطوفان الأخير
أوهام
حب في أوروك
الصفعة
السر
النوم في اللغة الأجنبية
جزع بابلي



1

تحاول لغة صلاح حسن بانتهاكها للأعراف البلاغية ومنظوماتها في { التناقض المنسق للغة والكلام } التعارض دائماً مع اللغة المعيارية { لغة النثر } من أجل خلق شعر ينأى عن الشعرية القديمة والراهنة . ولا يعني التوازي عنده ، التشابه في فاعلية الكتابة . لا نستطيع أن نضع التوازيات عند صلاح ونصنفها ضمن أنساق ومتواليات معينة ، ولا تتحدد الخصائص الأسلوبية في نصوصه عبر التقنيات والقوانين والتعادلات التي تختزل ثيمات وشفرات النصوص في لحظاتها المتوترة دائماً عبر الدلالات واشاراتها التقليدية ، ذلك لأنه يسعى دائماً الى زحزحة قوانين اللغة من أجل استخدامات أكثر حرية وتجريبية في خلق نصوصه . واذا كانت الوظيفة الأولى للشعر عند ياكوبسون هي : { اسقاط مبدأ التماثل الخاص بمحور الاختيار على التأليف } فأنها عند صلاح مع تعسفنا في تأطيرها ضمن اطار معين عنده . لا تهتم بالإرث الشعري وفي ما أنجز من قبل ، وترسخت أنماطه وأساليبه وأنساقه ، بل تسعى بدأب الى ازاحة هذا الإرث ومحاولة خلق نص مغاير يسعى الى أن يؤسس له شعرية مغايرة لما هو سائد في الشعرية العربية الآن .



{ مقدم النشرة الجوية كذاب

غداً الطقس مشرق وجميل }

ولكنها دائماً تمطر كالشتائم .

لذلك قررت أن أتابع الطقس

كل يوم بنفسي .

انها العاشرة صباحاً

والستائر مسدلة .

فتحت الكومبيوتر

وطلبت منه أن يقدم لي

حالة الطقس .

ظهرت بعض الغيوم على الشاشة .

طلبت منه أن يزيل الغيوم

وأن يضع بدلاً منها شمساً صغيرة

بمجرد أن ظهرت الشمس

وضعت ملابس السباحة

في كيس نايلون

وانطلقت بأقصى ما أستطيع

الى البحر .

قصيدة : { صيف هولندي }

2

لا يلغي صلاح الوظيفة الاشارية للغة ، بل يضخمها من أجل إيصال اللحظة الشعرية في النص الى الذروة ، وهنا ينبغي القول أن اللغة عنده ليست لغة اشارية فقط وانما هي { لغة شعرية عالية } .



3

ما الذي يمكن أن يقدمه لنا نص صلاح ونحن نعيش الآن في عصر تهيمن عليه التقنية بشكل كبير ؟ ليس بوسعه سوى الامساك بجوهر وسر الفعل الشعري الأصلي وإيصال الكينونة ولحظتها المتوترة الى العلو دائماً ، عبر المخيلة وإزاحة الدلالات والشفرات والأنساق المتوارثة حتى يتسع المجال للتأويلات والتفسيرات المتعددة داخل النص . الميزة الرئيسية لنصوص صلاح وهي تتحدث عن ماضي حياته وانكساراته وتجليات لحظات سروره وتوتراته وأشياء أخرى ومن ضمنها مناخات وذكريات الحروب التي تهيمن على مزاجه وتفكيره في الكثير من النصوص ، ويعالجها عبر التداعيات النفسية والمونولوج بمهارة عالية . هذه الميزة تكمن أهميتها في انها تقدم لنا النصوص في احتدامها وتضادها في لغة حرّة وقوية ، لا تتكئ على لغة الوقائع واليوميات والسيرة ، وهي في مسعاها الأصيل لكشف حضور الأشياء في العالم ، فأن اشاراتها وشفراتها ودلالاتها . لا تتوارى خلف الأنماط والأنساق البلاغية الموروثة وانما تحاول دائماً ازاحتها بقوة من أجل تثويرها واعادة استخدامها من جديد .





4



لا يمكنني هنا في هذه المقدمة الموجزة ، اعطاء فكرة محددة عن كل عمل صلاح حسن الشعري المستمر باخلاص وحنو منذ سنوات طويلة ، وهو عمل بالغ التعقيد وشديد الكثافة عبر تنوع أساليبه ومناخاته التي تستوحي الكثير من الدراما التي درسها صلاح في أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد ، ومن التاريخ وقراءاته الأخرى ، ومن تقلبات ومتاهات حياته في الحب والموت والنفي والأحلام . في عالم تدمر حروبه ومفاهيمه وتقنياته حياة الانسان المعاصر في كل آنٍ .



المختارات



الكائن مع مخطوطته

الى سعدي يوسف



بأبجدية لا تشبه الأقفاص
يأسر البرق .
بقواميسه اللاهبة
يقول للجهات أنا اسطرلابك .
بشباكه التي تشبه النسيان
يلم الظلال المنهوبة
ويتكدر خلف بياض زنجي .
بهبوبه وقبائل أمواجه
بطيلساناته وهمهمات أباريقه
يرشق البداهة فتتبعه .
يأخذ الريح رهينة من سعادتها
وينسى أسلابه على شجر متواطئ .
لا ينابيع في قلبه
ولكنه أخضر
لا يقبل القسمة
ولا يتراجع .
سادر وطليق
كأنه لا أحد .
بمرآته التي لا تشبه الكلام
يعلن النهار أبجدية للوقت .
بأسراره وأحابيله
بوحدانيته التي هي الدفء
يدخل الماء الى البداية
ويخرج من نهايته
كأنه الماء في البداية
والنهاية في الماء
ولكنه لا يشبه الماء
وليس البداية
ولا النهاية .
لا ينابيع في قلبه
ولكنه أخضر
لا يقبل القسمة
ولا يتراجع
سادر وطليق
كأنه لا أحد .
بمهاميزه وصولجاناته
بمهرجيه وأفاعيه
بسلحفاته وسفرجلته
بزمرداته وجواريه
يحتل المطر
ويأمر الغابة بالمخاض .
يده لا تصدق أحلامه
يقود خرافاته من زنانيرها
ويطلق الكهنة والمهرجين لنهبها
والمصورون بآلاتهم وأحجيتهم
يلّمعون فخاخه وقممه .
في عيد رعوي . بلا أبوات . بلا أمومات .
يوم لا ينابيع في قلبه
ولكنه أخضر
لا يقبل القسمة
ولا يتراجع
سادر وطليق
كأنه لا أحد .
بنواميسه وشرائعه وهيمناته
التي هي مخطوطاته وأطماره
التي هي الأول الذي لا ينتهي .
يمهر الشرارة والموسيقى
ويقول لها أيتها الانسكلوبيديا
يا هباتي وولولاتي .
الشمعدان لا الكركدن
المخطوطة لا الكنز
أهبك أيها الكائن .
أهبط الخرائط والحبال
أهبك البروج والفلزات
أيها الكائن . يا كائناً
لا ينابيع في قلبه
لكنه أخضر
لا يقبل القسمة
ولا يتراجع
سادر وطليق
كأنه لا أحد .



Second hand حياة



هذا هو حاضري
شاغر وللايجار .
هذا فجري العبد
هذه صورتي الأجنبية
وهذا تابوت وضعت فيه بلادي
ولم يمتلئ .
أريد أن أصل الى حياتي
ولكنني كلما تذكرته
يزداد نسياني وضوحاً
كمن يفكر بامراة ويرسم شرطياً .
دائماً أقدم المتأخر
ولكنه لا يصل الى كيميائه
كالله لا يساوي معناه .
أريد أن أصل الى حياتي
ولكن حبالي لا تملأ الماضي
فأنقش فيزياء مستورة
لأن الحبر لا يمحو الخيانة
ووجهي لا يغنيني ولا هاء الكنايات .
أريد أن أصل لى حياتي
- أتهجرني وكنت في رفرف أعلى .... ؟
لقد كسروا رباعيتي
لقد أعدوا لي تابوتاً
وفاء بين الكاف والنون
ولأن الجنون انقلاب على الذات
أنا مذنب أسرق من صلاتي .
أأنت عابر الرؤيا ؟
أأنت سيره الوهم ؟
تتمرغ في الساكسفون
وتهلوس في البرق .
كيف تكون مجنوناً ولا تعرفك المدينة ؟
أكتمل بموتك .
لماذا تركت الكاف مكسورة ؟
لا تدخل بين – باء – أكبر ورائه ألفاً
فالبدء مع الألف
والهيبة مع اللام .
هذا كلي وأنا بعضه
أنا منه وليس مني .
أريد أن أصل الى حياتي .
منذ أزل قبل منذ
أجرّ ورائي بلاداً
لا تركبها العبارة
والاشارة لا تصلها
تموت ولا تكتمل
وحين تجوع
تأكل أحلامها
كعاهرة تتفل على فرجها .
أريد أن أصل الى حياتي
ولو ميتاً
لأعرف كم عنكبوتاً تدلى فوق قبري ؟
ولكي أبالغ في ضم هاء الله .
توكلت ولم أر وجهك
في صورتي الأجنبية
فعرفت
انني أخون نفسي .
أي هاملت
اعطني نصفك المعذب
وخذ نصفي المشوش
تصرف بنصفي كما لو كنت قديساً
لا تشعل حرباً
ولا تتزوج
ولا تقترب من الشعراء
والآن
دعني أمضي الى الجحيم .



قابيل



إيه قابيل
اطعن هذا الزمن بمعناه
انتف ريش العنقاء
ولا تحلم بجناحين قويين
افترض الله ولا تتقلب في الليل
فأنا مثلك هذبت الشوكة وفتحت التابوت .
أيتها الفكرة
انتحلي اسمي .
يا وجهي المتكسر في الريح
انكسرت مرآة الوردة .
انكسري .
في جسدي جرس يتكسر .
انكسري يا عربات .
- هكذا أيها الغامض
نتحد ........
- لنفرق أشكالنا
يا ظلي المترهل
- لنراهن :
الشهوة لي وضلالك لك
ولنطمر هذي الشمس بلطخة طين
هي ذي أحلام الخفّاش .
إيه قابيل
اسحق أنثاس الوردة
وارفق بالقدم الرثة
فأنا مثلك بيدي
هدمت نهاري .
إيه قابيل
- اخلط المعادن النبيلة بالكروموسومات
والضمير الفذ وشيئاً من أوكسيد
الجمال
وانفخ الخليط في أشيائك المنتقاة
فأنا مثلك خرجت أبحث عن الله
فوجدت نفسي .
إيه قابيل
يا ظلي .
فلنتكسر رغم الايقاع
اذ تغني الطبيعة
نحشو عيونها بالرماد
ونخشخش ونعربد
فأنا مثبك بيدي
هذبت الشوكة وفتحت التابوت .

من مجموعة { جزع بابلي }
الهروب من العائلة
لم تكن فكرة سيئة
حين حلمت ببيت وسكنته
لم تكن فكرة سيئة
حين حلمت بأمرأة وتزوجتها
لم تكن فكرة سيئة
حين رسمت أربعة أطفال وأنجبتهم
لم تكن أيضاً فكرة سيئة
حين رسمت باباً خلفياً للبيت
وهربت منه .
لاهاي 1999
تمثال الشاعر
إني أنا
تفرجت على الملائكة
ورأيتهم يرقصون
حول تمثالي .
رأيت الحمائم
ينقرن في فتحة في القميص
ويبنين عشاً قرب قلبي
سمعت المجانين يقولون ..
الشاعر كائن هارب الى يقينه
ويضيفون :
الجنون قفزة ناقصة الى المستحيل .
رأيت النساء الأرامل
يبحثن في وجهي
عن رجال ذهبوا الى الحرب
ولم يرجعوا منها
رأيت رجالاً
يبحثون في التراب عن نجمة بددوها
أنا رأيتهم
يطوفون حولي بلا أجنحة أو غناء
رأيت المصورين
بآلاتهم التي تؤرق المكان
يفتشون عن سبب الحزن
في ضحكتي
أني أنا
في آخر الليل
تفرجت على السكارى
ورأيتهم يبولون
على تمثالي .
لاهاي 1998
جغرافيا مؤجلة
تقدمي أيتها الانثى
يا روح الغابة .
جسدك الرطب
بروائحه وطراوته
يوقظ في دمي
حشداً من الطرائد
ويدعوني لنصب الشراك
وتحسس أسلحتي .
تقدمي أيتها الانثى
جسدك بأقواسه وانحناءاته
يوقظ في مخيلتي
آباء بدائيين
مشدودين الى ضراواتهم
ومهيأين الى الانقضاض .
آباء وحشيين
يصطادون العواصف
ويصنعون منها وشاحاً
لفرائسهم .
تقدمي أيتها الأنثى
جسدك
بثماره التي أنضجتها
شموس البراري
وضوء النجوم البعيدة
يوقظ في ذاكرتي
طوطماً
ينبغي أن أرقص حوله
كل يوم
كي لا أموت .
تقدمي أيتها الأنثى
يا مرح العافية
كيف تحزن هذه الجغرافيا
وجسدك قارب فيها ؟!
لاهاي 2000
بغداد
بغداد
أأنت وطن أم ساحة للرماية ؟
أأنت مشهد ينبغي تحطيمه
أم سلم لاضاحٍ
لاتشبع من حتفها ؟
بغداد
أأنت سلة تغرق
ولا تمتلئ
بغير الحياة ؟
أهذا عيدك
أم موتك ؟
أهذه الحلوى من النار
لأطفالك الميتين
أم لحفل ذبحك
هذا الاخير ؟
اذن لتموتي
ولنعد من حيث جئنا
للصحارى واللازمان
بأنتظار نبي جديد .
لاهاي 1998
العاب نارية من أجل الرجل الحزين
احضروا الرجل الحزين
الى البحر
دون أن تزعجوه
هيأنا له كرسياً على الشاطئ
والعاباً نارية
سيهبط الظلام بعد قليل .
الرجل الحزين ظل صامتاً .
وصل الماء الى قدميه
ولم يتحرك .
توهجت الألعاب النارية
فوق رأسه
ولم يبتسم .
غنى له السيد بوجل
أغنية عن الضوء
ولم يلتفت .
فجأة نهض الرجل الحزبن
وقال :
شكراً لكل الذي فعلتموه
والآن أرجو أن تتركوني وحيداً .
لاهاي 2001
حفل استقبال
بمكياج قديم أعرفه
كشخصية شكسبيرية
يتعقبني موتي مضطرباً .
رغم مظهره الصارم
واعتنائه بالتفاصيل
تبدو خطوته قلقة
لسبب غامض
ربما بسبب الحذاء الجديد
مؤلم أن أراه مرتبكاً
هكذا .
ولكي أجعله يستريح
سوف أدعوه هذه الليلة
كي يشرب معي .
سوف أغمض عيني
كي أدعه يضع السم
في كأسي .
سوف أتذرع بالذهاب
الى الحمام
لااريد رؤية يده المرتجفة –
لكي أدعه يتم مهمته .
لقد فشلت حياتي
لا أريد لموتي أن يفشل .
أنا أعرف موتي
في الحرب .
كان يتبعني مثل ظلي
كمتطوع في فرق الاعدام .
في السجن .
كان يعلق في زنزانتي
صوراً لخيول البراري القصية .
وهنا في المنافي
صار كهلاً .
سوف أدعوه هذه الليلة
شيء لا مفر منه
وأرجو أن يتم مهمته
بأسرع ما يستطيع .
أريده أن ينتصر على ضعفه
وينقذني من حياتي
التي فشلت .
هذه المرة
لا أريد له أن يتراجع .
لاهاي 1999
بطل حياتي
أحب جنونك ياعقلي لك ما تريد
سأهجر نفسي سأعبر قبل أن يصل المطر الى ظله
قبل أن يفصح الألم عن صوته النحاسي لكي أرى حياتي
وأسقط في شراكك جسداً باسلا
كضحية تعانق حتفها أو أراك تجسد ظلي
لأعرف اننا مختلفان في قسمة الواحد الذي يتكرر
دون أن نتكرر كعادة محلية
مثل حروف اسمائنا كحقيقة تزينها الشبهات
أنا بطل حياتك وأنت بطل حياتي
أعيرك يدي كي تشير الى موتي أستعير يدك كي تشير الى حياتي
أنت سجني وأنا أحلامك
أنا قارب فيك أيها الأطلس
أبصرك ولكنني لا أراك كظل يشير الى صورته .

لاهاي 1997
ملاحظة : هناك اربعة مستويات لقراءة هذا النص ..
1. يقرأ العمود الايمن كنص منفرد . 2- يقرأ العمود الايسر كنص منفرد.
2. يقرأ العمودان أفقيا كنص . 4- يقرأ العمودان بالتتابع كنص.

صيف هولندي
مقدم النشرة الجوية كذاب
{ غداً الطقس مشرق وجميل }
ولكنها دائماً تمطر كالشتائم .
لذلك قررت أن أتابع الطقس
كل يوم بنفسي .
انها العاشرة صباحاً
والستائر مسدلة .
فتحت الكومبيوتر
وطلبت منه أن يقدم لي
حالة الطقس .
ظهرت بعض الغيوم على الشاشة .
طلبت منه أن يزيل الغيوم
وأن يضع بدلاً منها شمساً صغيرة
بمجرد أن ظهرت الشمس
وضعت ملابس السباحة
في كيس نايلون
وانطلقت بأقصى ما أستطيع
الى البحر .
لاهاي 2000
اميرة اليقظة
نم ياحبيبي
ستحرسك زهرة الليل
وضوء النجوم البعيدة .
الظلام سرير الريح
سيأخذك الى الفجر
على قارب الدقائق
التي لا تعرف النعاس
وسيمد الجبل يده
الى شمس عينيك
لتقول للصباح
استيقظ أيها الفرح .
نم ياحبيبي
لا فرق بين الليل والنهار
سوى اللون
ولون عينيك أعمق منهما .
نم ياحبيبي
المطر الذي ينقر
على نافذة الغرفة
بهذا النبل .
في هذه الساعة المتأخرة
يوصيك بالفراشات الهائمة .
اترك لها قمرك الأزرق
على الشرفة
الوحدة تقتل الرفيف .
نم ياحبيبي
النهار الذي سيطلع
بعد حلم وقبلتين
أعد لك قدحاً من الحليب
وحبة من الشوكولاته
ولكنه يرفض أن يغادر الغرفة .
لاهاي 2001
شموع
ابتعدي عني أيتها المرأة
أنا لست عاشقاً
لست شاعراً أو فارساً
ما أنا سوى صيحة .
ما انا سوى شمعة .
***
واصلي النوم أيتها المرأة
لم تتحطم النافذة
ولا آنية النرجس
انها أجراس جسدي
التي بدأت تتكسر
لان شمعتك بدأت تذبل .
لاتقبليني ايتها المرأة
***
لست حبيبك .
انا شمعته .
***
أريد أن أقبلك أيتها الشمعة
ولكن أين هو فمك ؟
***
أين شمعتك أيها العاشق ؟
***
أيتها المرأة
الامومة شمعة
وليست كيساً من اللبن .
***
لايهمني عدد الأخوة
ما يهمني هو
كم شمعة فيهم .
***
حقاً أنت مدهشة وجميلة
وتستحقين المديح
ولكن أين هي شمعتك ؟
***
أترين ذلك الرجل الكهل .
منذ خمسين عاماً وهو شمعة
انه معلم الأبجدية .
لاهاي 2000
الليل
الليل .
يجيء بلا موعد
نجمة بعد نجمة
وبشباكه الرصاصية
يصطاد النعاس
ويدس الأحلام والكوابيس
في نومي .
الليل .
يلبس الريح حذاء
ويتنفس الدقائق
لكنه لا يعرف الشيخوخة
وحين يغادر على قوارب الضوء
نجمة بعد نجمة
لايقول وداعاً
يعيش بأسطورته التي هي الظلام .
الليل .
فراغ أسود
لاتملأه العواصف ولا الحكمة المضيئة
الليل .
لون نائم
لا توقظه الصلوات ولا الموسيقى النبيلة .
كل يوم يجيء
بهوائه المعتم الثقيل
ويقودني من يدي
الى سرير الوحدة البارد
يدس الأحلام والكوابيس
في نومي
ثم يتركني وهو يمضي
نجمة بعد نجمة
جسداً بلا ذاكرة .
امستردام 2001
تيه
بملابسنا الرثة
وصلنا متأخرين الى المدن النظيفة .
هل أشرقت شمس
حين كنا في الغابة ؟
وهذه الأيدي البيضاء
التي تقودنا من معاصمنا
هل فكرت بالعتمة ؟
يا إلهي كم وصلنا متأخرين .
هل كنا مرتبكين أمام الثلج
بأصواتنا الغريبة
وذكرياتنا الصحراوية ؟
يا إلهي لقد وصلنا
ولكننا مازلنا تائهين .
لاهاي ‏2002‏
بيت الابرة
بأنتظار الخروج الثالث
بيني وبيني حرب أهلية
* * *
انها حربي وحدي
سوف أغسل الكلام
وأعبر الحاجز اللغوي
سوف أستقيل من الوظيفة
الشفوية
وأكتب اسمي في مخطوطة الفناء.
سوف أصفك أيتها الحرب
يا حربي .
من سماء القحط واللامبالاة
سوف ألقي على أطلس الدم
نظرة طائر
كصقر يتنفس العواصف
لأن الأحمر الحار
يغمر الخارطة.
صحتي شمعة
ولكن الرياح
هي التي أنجبتني .
ليست الحقيقة حرة
ولا الخطأ عبداً
سوف أخرج من بيت الابرة
لأحرر الأفق من شبابيكه
واترك الرعد يثرثر
حتى يفيض الفرات
ويغرق الزقورة والآلهة .
هذا هو شعبي
ليس من العالم
ولكنه عابر فيه
ذاكرته مقبرة .
غريب عن سعادته .
لا يحلم
لأنه لا ينام
واذا نام
ففي تابوت .
سوف أصفك أيتها الحرب
يا حربي .
سوف أكتبك .
سوف أرسمك .
سوف أحنطك .
سوف أترجمك .
سوف أغري بك التجار . المغامرين .
العصابيين . الاوديبيين . السايكوباثيين .
لكي تكتملي .
أريدك أن تخرجي من لغتي
كي أستطيع أن أكتب نصاً
خالياً من الرعب .
* * *
انه المضارع المستمر .
ملوك يتسلقون الزقورة
ويسرقون اسطورة الخلق
واللغة السومرية .
جنود يرشقون الغيب بخوذاتهم .
انه المضارع المستمر .
برق يرشد الطوفان
الى مواكب منهوكة .
ظلام راكض يتعقب
الجسد المر والذاكرة .
سوف أصفك أيتها الحرب
يا حربي .
بالكتابة السوداء
أو بالكتابة البنفسجية .
سوف أحرث حقول الغامك
بالحروف المسمارية
أو بعظام قتلاك .
هذة رقمي الطينية
كلها مثلومة .
لا آلهتك .
لا ملوكك .
لا كهنتك .
لا طوفاناتك استطاعت
أن تمحو الدم عنها .
انها لغة مهدومة
ولكنها تتنفس من جرحها .
* * *
نموت ولا تقف الحرب
ويمشي أبناؤنا
فتقف على ظلالهم .
يموت أبناؤنا
ولا تقف الحرب
ويمشي أبناؤهم
ولا تقف
ويمشي أبناؤهم
ولا تقف
ويمشي أبناؤهم
ولا تقف ….
لاهاي 1997
صيرورة
أبدأ الآن
اكنس البلاد التي علمتها كيف تنحني
أخيّط ثوباً
وأنام عارياً تحت قوسي
الشمس جرح في جبهتي
اكشطه وأطرز الريح
في عباءة الريح
الله نهر أردمه
ولا أردم النهر
أسلخ جلد الفصول
وأبصق في لحمها العاصفة
أعقد النار بالهاوية
هذا أنا ليس لي لون
ولكنكم تعرفونني
أدحرج الأرض تفاحة في تخومي
أذيب الصفات الوراثية
والكائنات الضعيفة في حامضي
وأنفخ في الحجارة
جيلاً بحجم الحقيقة
بضوئي تستحم الينابيع
لخطوي تصلي المسافة
وفي قشوري تنام النجوم
هذا أنا ليس لي لون
في كل خطو صلاة
أعلّم الظلال كيف تخطو الى حتفها
وأترك نفسي تتعثر بالخليقة
هل ستعثر ؟
قد تعثر
ولكنني أدحرج الأرض تفاحة
واكشط الشمس جرحاً في جبيني
لم أذق طعم الهزيمة
ولم أعرف الانتصار .
القمر قوسي . أكسره
لأحرر الطرائد من ندمها
هذا أنا ليس لي لون
بذرية المطر وكهوف الحريق أكون
بحشرجة الضوء وابتهال الرعد أكون
من أخطائي
أحرر أبجدية
لكل المجانين
من أفاعي الرؤى
أبعثر للمبتلين الفاليوم
شمعة من رقاد
من جراثيم البراءة
والسماء المهدمة
أبعث رمحاً من الماس فراشة
لكل الواقفين على أبواب أحزانهم صامتين
من إرضة القوى وقانون التآكل
أبني سجناً لحريتي
وأقول لها : أيتها النكرة .
من تجبر الموت وسلطان التفسخ
لكل الخليقة
أضع الله في المقصلة
وأقول له أيها المقصلة
هذا أنا ليس لي لون
لم أكن واحداً ولن أكون اثنين
بحجم أسراركم أنا .
قد تعثر الروح
هل ستعثر ؟
قد تعثر
ولكنها رمح من الماس شاسع
أتزوج الأرض
فتنجب قاتلي
هذا أنا ليس لي لون
ولكنكم
كل شيء خرزة في رقاب الخفافيش
كل عنكبوت مصباح على أوهامنا
فلتمصي أيتها الكلمة
الشبق الذي يعوي كالقطارات
في كرياتنا المحكمة
وأنت أيتها الأم
لا تلدي ذكوراً
فقد يرثون أسرة آبائهم .
بعيد هو البحر
وأبعد منه عنقاؤنا المقبلة
تمر الفجائع من تحت البيوت
وتترك فضلاتها على براميلنا.
هو البحر خاتم
والأرض تفاحة
والشمس جرح في الجبين .
بغداد 1984
لم نكن قليلين
إلاّ سائق العربة
دمه أصفر ويداه باردتان .
لم نكن قليلين
رجل ينحني لليسار
وامرأة لها رائحة العشب
علامتنا في المساء البطيء .
لم ينغص سعادتنا
سوى شخصين
قال : لم تلمس يدي ثديها
ولكن مت ذات يوم
بدأت أفكر .
ماذا سأفعل بأصابعي الان ؟
كان أولهم وهو ثرثار .
علامتنا في المساء البطيء
كان ثانيهما :
لم أكن أنحني لليسار
عندما كان دمي أصفر
ويداي باردتين
هذا الذي ينبغي أن تعرفوه
اننا الآن صامتون
فأسمحوا لي أن أطيل
قبل أن يبددنا سائق العربة
في المشهد البارد .
هكذا تذكرت
انني لم أكن وحدي في الظلمة
منذ عشرة أيام
أو ربما عشرة أعوام
لم يظهر القمر
ولم تظهر الشمس
هل أنا مخطئ ؟
أنت يا صاحبي .
هل رأيت من قبل الطريق ؟
من معه ساعة يخبرنا بالمكان
منذ عشرة أيام
أو ربما عشرة أعوام
لم تكن لي رغبة في أي شيء
حتى التي ترقد الى جانبي
لم أفكر في مداعبتها .
من معه ساعة ليفكر في صمتنا
لماذا لا أرى غيمة أو شجرة
لماذا لا أسمع صوت الرصاص .
أنت الذي ينحني لليسار
قل لنا من ذا الذي قادنا الى مشهد بارد
ولماذا لا تحرك أغصاننا الريح
أين اختفى سائق العربة
دمه أصفر ويداه باردتان .
امرأة لها رائحة العشب .
المساء البطيء
منذ عشرة أيام
أو ربما عشرة أعوام
لم ينغص سعادتنا سوى ثلاثة
كيف لا يسقط السقف المعلق من حولنا ؟ قلت .
لم نكن قليلين
غير أن الذي يجمع ما بيننا
السقف وأحذية ثقيلة
وأصدقاء لهم علامات لامعة
مثل عيون الذبيحة
ومكان اليف .
من أين يخرج هذا الصوت ؟
يداي الى جنبي
قلبي في حذائي
قدماي ممدودتان
من أين يخرج هذا الصوت ؟
ألم تسمعوا شيئا ؟
بلى كل يوم نسمع صوت الفأس
في التراب
ولكن لا نرى أحداً .
في المساء البطيء
لم يكن يفكر بامرأة لها رائحة العشب
ولم تكن امرأة لها رائحة العشب
تفكر في المساء
ولم يفكر رجل كان ينحني لليسار
بالسقف والأحذية الثقيلة
لم نكن نفكر بالأشياء
لم تكن لنا رغبات
منذ عشرة أيام
أو ربما عشرة أعوام
كنا نفكر بأحد يجيء .
جاءنا رجل
دمه أصفر ويداه باردتان .
هكذا تذكرت
أن البذور كانت تسقط من فمي
وكنت أحسبها أسناني
وتذكرت بعد موتي
أن الذي زجني في الفراغ
نسي أن يقص جناحي
فسقطت على جهة لا أراها
وتذكرت بعد موتي
أن الذي سرق الكمنجة من قلبي
لم يسرقها
ولذا أئن
منذ عشرة أيام
أو ربما عشرة أعوام .
من أين يخرج هذا الصوت ؟
ألم تسمعوا ما أفكر فيه ؟
من معه ساعة ليفكر في الفروقات
بين البذور وأسناننا
بين اليمامة والسقف
بين اليوم والفأس
بين العام والصمت
من يفكر . دمه أصفر ويداه باردتان
من لا يفكر يسمع ما أفكر فيه .
رجل ينحني لليسار
وامرأة لها رائحة العشب
من معه ساعة ليذكرنا بالماء
من معه . ليعيد لنا الذكريات
من معه … ليحرك أغصاننا
من معه… ليخبرنا بالمكان
منذ عشرة أيام
أو ربما عشرة أعوام
كنا نسمع صوت الفأس في التراب
وكنا ننتظر أحداً يجيء
كثيرون جاءوا
ولم يجئ أحد غريب .
السليمانية 1987
أعبر قوس الظلام وأومئ للنهار بعكازي
الى سامر حدادين
من حاضر معاد
وفي لحظة مجرمة
أعبر قوس الظلام
الى مستقبل أحدب .
أومئ للنهار بعكازي
وأكسر قنديله بالنعاس
ثم أمحو السماء بنسيانها
لكي أتذكر تلك الشموس
التي تسرق الليل من حنجرة الكلاب .
هي ذكرى :
الغد السكران بأحلامه المستعملة .
ذكرى .
موتي الذي سينجز بعد عامين .
ذكرى .
لتمتحني أيتها البداهة
حياتنا التي تقف على أصابعها .
كل ما أريده
أن أؤجل كل شيء
الى أجل لا يسمى .
1. البارحة ؟ : أرملة تتسلى بالغياب .
2. اليوم ؟ : زجاجة في مستنقع البارحة .
3. الغد ؟ : نسيان يرعى الخديعة
في شرفة اليوم .
ولي كل هذا الظلام
أبيعه
واشتري ما يروق لغيري .
ضيق هذا الحذاء
ولكنني أرتديه .
كظل يقود يدي الى سعادة ليست لها .
كما تفعل الحرب بفراغ ناقص .
كغريق بملابس رسمية .
كرجل يستمني على زوجته النائمة الى جواره .
أبيع الظلام
وأمنح تابوتي فرصة
كي ينام الى ساعة متأخرة
من أجل نزهة في مقبرة جماعية
قرب سريري .
أبيع الظلام
من أجل فزاعة
تشتهي أمسي المعلب بالعناكب .
أيها الوهم لقد فسدت .
هي ذي حياتنا تمتحن المخيلة .
كيف لا نتعفن حين ننام ؟
وكيف سنجد الأرض اذا غابت الشمس ؟
أبهذه الحواس المعطلة
كيد ثالثة .
أرمم حاضراً رهينة ؟!
كيف سأحيي الشجرة
بهذه الكف المقطوعة .
بماذا الّوح للغيمة .
وتلك المرأة لن تقبّل جبهتي
بعد الآن
لأنني لص .
أيتها الخرافة
براميلنا مملوءة
أبحثي عن زبائن آخرين
في الخرائب المجاورة .
من أين أجلب عنقاء لشمسك يا بلادي ؟
هكذا يكسرون الهواء
في ضمير الشجرة
كسهم يشخر في مخيلة الطريدة
يسرقون القمر من الحكاية
كأرملة تنتظر القيامة في الاسطبل .
مريرون كميت يتذكر أخطاءه
في القصف .
صف لنا أيها القاتل
كيف تكون الشظية
عذراء بين الجنود ؟
بنصف رغيف
أوزع نصف رغيف
على عشرة غائبين
وأشكر الله
على حضوره الدائم في المقبرة
وأقول لأمي لقد رأيته
فتقول : بالعين أم بالعقل ؟
فأقول : رأيته بالفيديو
وهو يطلق النار على أبقارنا السود .
تستطيعين أيتها الأم المصابة بالروماتزم
أن تسألي هاملت
ذاك الذي توقف عن الضحك .
جوليانه :
ماذا تفعلين في السليمانية ؟
تطردين الذباب عن الله .
حسنا . قولي له
نحن الموقعون أدناه – حطب القيامة –
ننتظره في متنزه الكارثة .
تلفاكس : وحده . وحده . لا شريك له .
وحده . أحد . أحد . وحده .
مقابل الأرض المعذبة .
جوليانه : انتبهي .
هنالك شيء يحترق
على الشاشة .
لا تخافي .
انها أعصابي
كطفل يطفئ مصباحاً .
ابتعد عني أيها القديس
عد الى صليبك قبل أن يسرقوه
ودعهم يثقبون خيالي
بمستقبل القسوة
لست محتاجاً الى معجزة
أنا بحاجة الى سكين
لأقتل حبي .
دعني أيها القديس
لا أريد سلاحاً أو صلاة
أريد سيجارة وكاميرا
السيجارة لي
والكاميرا لك
دعني أيها القديس
لانهم سيدنسون الهامك .
أيها القديس
ابق من أجلي
سأعبر قوس الظلام
وأومىء للنهار بعكازي .
عمان 1994








#نصيف_الناصري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كتاب { خديعة السنبلة . شهادات } في شؤون وشجون اللحظة الراهنة
- كتاب { معرفة أساسية . الحرب . الشعر . الحب . الموت }
- أشياء ما بعد الموت
- مرثيتان
- ما ينشده الشيوخ المحقى
- كتاب صوت سنبلة قمح لم تولد
- مرضعات الموتى
- العتمة اللامتناهية للفناء
- يموت الدكتاتور ويبقى الشاعر
- سهر الشجرة وعطورها المنذرة
- أجمل العيش ، عيش التشاؤم والشقاء
- للخلاص من رطوبة السنوات التي عشناها
- عندما ارتعد عدي صدام من قصيدة دادائية
- حوار السيد والعبد
- قصيدتان
- صلوات الكاهن الغجري الى السيدة الشفيعة المعشوقة والفانية
- كتاب الحكمة الغجرية
- 3 قصائد
- 4 قصائد
- عبد الرحمن الماجدي في مجموعتيه الشعريتين { أختام هجرية } و { ...


المزيد.....




- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نصيف الناصري - كتاب { الأنهار الكبيرة المتعرجة } ردّات واندفاعات الشعر العراقي