أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاكر خصباك - كتابات مبكرة















المزيد.....



كتابات مبكرة


شاكر خصباك

الحوار المتمدن-العدد: 2517 - 2009 / 1 / 5 - 07:14
المحور: الادب والفن
    


شاكر خصباك



كتابات مبكّرة

























الطبعة الأولى 1995م


المحتويات
* دراسات أدبية
محمود تيمور والقصة العربية
نجيب محفوظ
رئيف خوري
* كتابات نقدية
القافلة الضالة
أشواق
فن القصص
ملاحظات نقدية
* كتابات اجتماعية
بحث في السجـــــون
مكانة المرأة في بلادنا
على هامش الغناء في البلاد العربية
حديث عن الفن
* كتابات عن تيمور
دفاع عن تيمور
دفاع عن تيمور أيضا
حواء الخالدة
كليو بترة في خان الخليلي
شفاه غليظة
مدخـــــل

هذه عينة من عشرات المقالات التي كتبتها في زمن مبكر من حياتي فيما بين عام 1945 و 1947م وهي ليست أفضل المقالات التي كتبتها حينذاك ولكنها ما استطعت الحصول عليه . وغرضي من نشرها توضيح معالم اهتماماتي الفكرية المبكرة في ميدان الكتابة الأدبية والاجتماعية .

شاكر خصباك
صنعاء 1995





















دراسات أدبية
محمود تيمور والقصة العربية ( )
لو تصفحنا تاريخ الأدب العربي منذ نشأته لألفيناه يوجه تام عنايته إلى الشعر والمقالة ويضرب عن القصة صفحا . والسبب في ذلك أن بيئة العربي لم تساعده على خلق الأسطورة فكان قليل القصص لما بين الاثنين من الرابطة . فقد استوطن البوادي المجدبة في بيوت من الشعر لا يعرف غير الرمال التي لا يحدها بصره , وغير الجمال والضأن التي تتألف منها ثروته .
فهذا المحيط لم يخلق فيه التخيل العميق كما هو في ساكن البقاع الجبلية حيث الغابات والكهوف والحيوانات الكاسرة والطيور الجارحة , التي تبعث فيه الخوف والرهبة, مما يدفعه إلى خلق الأسطورة ليصور بها عواطفه تجاه هذه الأشياء المفزعة .
أما مرجع عدم انتشار الأسطورة فيما تلى ظهور الإسلام فهو أن الأدباء الذين أنشؤا يترجمون الأدب الأجنبي لم يترجموا من الأساطير شيئا مذكورا نظرا لأنها كانت سجلا لذكر الآلهة العديدة , مما خشوا أن يؤثر هذا في عقيدة التوحيد لدى جمهور المسلمين .
كل ذلك كان باعثا على إهمال الأسطورة وبالتالي إهمال القصة , لذلك لم يعرف العرب منها غير : (مجنون ليلى , وجميل بثينة , وقيس ولبنى , وعنتر , والزير سالم , والصادح والباغم , وحي بن يقظان والإنسان والحيوان ) . وكانت هذه القصص خليطا من قصص الغرام وقصص البطولة والقصص العلمية .
وانتشر كذلك نوع آخر من القصص حوالي منتصف القرن الرابع الهجري , أطلق عليه اسم "المقامة" . وهو أن يتخذ المؤلف بطلا وهميا يأخذ على عاتقه قص ما سمعه وشاهده من حوادث ونوادر وأخبار . ولكن المقامة ـ كما يقول محمود تيمور "ليس لها أي قيمة قصصية , وإن كانت وضعت في القالب القصصي لأنها خلت من أهم مميزات القصة وهي الحادثة أو العقدة . وكذلك خلت من الشخصيات الروائية وتحليل نفسياتها ودرس أخلاقها " . وقد ابتدع هذا النوع من القصص بديع الزمان الهمذاني وألف فيه الزمخشري والحريري .
وأما كتب القصص المترجمة فكانت على نوعين : النوع الأول ؛ (كليلة ودمنة) والنوع الثاني ؛ (ألف ليلة وليلة ) التي أصابها كثير من التحريف والتغيير .
وكان هناك كتاب آخر في القصة , فريد في نوعه هو " رسالة الغفران " للمعري .
تلك هي الكتب التي بحثت في القصة والتي عرفها العرب إلى بداية القرن الرابع عشر الهجري , عدا بعض الطرف والحكايات المنتشرة هنا وهناك في مراجع الأدب العربي كالأغاني للأصفهاني والأمثال للميداني وغيرهما .
فنرى أن نصيب القصة من الأدب العربي ظل مهملا . ولكن ما أن شارف القرن العشرون الميلادي بمقدمه حتى ظهرت مدرسة الكتّاب السوريين , التي أصابت من النجاح قسطا وفيرا لمعالجتها بعض المشاكل التي تتصل بالمجتمع بأسلوب بسيط يفهمه الجمهور ويستسيغه . وكان منشئوها يقطنون أميركا , فتأثروا بالأدب الغربي واستحدثوا لنا أدبا جديدا .. جديدا في أسلوبه00 جديدا في معانيه00 جديدا في مادته . وهم بهذا قد أهملوا الأسلوب الذي شاع استعماله في كتابة القصة في مصر , في تلك الآونة وهو أسلوب المقامة.
وقد تركت تلك المدرسة أقوى الأثر في الأدب العربي المعاصر كما أنها رفعت من شأنه بين الشعوب المختلفة . وحسبنا أن نذكر جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة من أساتذة تلك المدرسة .
ولقد كان نجاح القاصين السوريين المنضمين لتلك المدرسة حافزا على ظهور الكتب التي تعالج القصة في مصر , غير أن تلك الكتب كانت مجرد محاولات ضعيفة في هذا الفن لم تصب من النجاح سوى اليسير وذلك لأنها لم تكن تلائم ذوق الجمهور أولا , ولأن أكثرها كان يرمي إلى الوعظ والإرشاد ـ بأسلوب جاف ـ ثانيا .
وكان المويلحي في مقدمة الكتّاب الذين نشروا في هذا الغرض فألف "حديث عيسى بن هشام" وهو نوع من المقامة غير أنه أرقى .
ونحى حافظ إبراهيم نحوه فألف "ليالي سطيح " . وتلاه محمد لطفي جمعة بكتاب " ليالي الروح الحائر" الذي كان نوعا من المقامة رغم أنه كان خاليا من السجع . وقد ترجم عثمان جلال قصة "بول وفرجيني" , في حين كان المنفلوطي يصوغ القصص المترجمة عن الأدب الغربي ـ والفرنسي على الأخص ـ بأسلوبه ويحدث عليها الزيادة والنقصان , بالإضافة إلى ما كتبه من عدد نزر من القصص القصيرة .
أما جرحي زيدان فقد أصدر مجموعة قصصية كبيرة سجل فيها التاريخ الإسلامي . وأخيرا ظهر الدكتور هيكل بقصة "زينب" التي تعد أول قصة مصرية توفرت فيها العناصر اللازمة للقصة الفنية .
وإذا لم يتوفق في تلك الفترة إلا كاتب أو كاتبان في معالجة القصة بمعناها الفني في مصر , فقد توفق بعد الربع الأول كتاب لا بأس بعددهم . وفي مقدمة أولئك الكتاب : محمود تيمور وتوفيق الحكيم وطه حسين وإبراهيم المازني ومحمود كامل ويحيى حقي ومحمد فريد أبو حديد .
ولا شك أن القصة المصرية قد بلغت شأوا بعيدا في التقدم على أيدي هؤلاء الكتّاب, كما أنها احتلت بفضلهم مركزا مرموقا في الأدب العربي المعاصر بعد أن كانت ملقاة في زاوية الإهمال .
وأود أن أتحدث عن أحد أولئك الكتّاب الذين رفعوا راية القصة عاليا حديثا خاطفا , ولعلني أعود إلى الحديث عنه في فرصة أخرى , وهو القاص الأستاذ محمود تيمور.
والتحدث عن محمود تيمور هو التحدث عن النهضة الأدبية لفن القصة في مصر . فقد ذكرت سابقا أنها كانت واهية ليس لها قيمة أدبية . وكان آنذاك الدكتور هيكل وطاهر لاشين ومحمد تيمور يجاهدون في سبيل رفع شأنها وإصلاح الأسلوب الأدبي . فأما الشاب النابغ محمد تيمور فقد قصر جهوده على ابتكار أدب جديد يعبر عن الحياة المصرية في ظروفها المختلفة أدق تعبير . واتجه محمد بجهود ناجحة لخلق ذلك النوع من الأدب فألف " ما تراه العيون" وكتبا أخرى , وركز على المسرح على نحو الخصوص , ولكنه لم يستطع أداء الرسالة التي حملها على عاتقه على الوجه الأكمل , وذلك أن الموت اختطفه ولم يزل في شرخ شبابه ففقد الأدب بموته أكبر نصير. ولكنه حصل على عوض بانضمام شقيقه إليه. أجل. عوّض بمحمود الذي كان متحمسا لآراء شقيقه أكبر التحمس فانطلق يكتب بجد حتى أمدّ الأدب العربي بثروة واسعة في فن القصة، وبذلك فقد شيّد أكبر دعامة يستند إليها الأدب في خدمة المجتمع ، وعد بحق رائد القصة المصرية والعربية.فأي أدب خلقه لنا تيمور يا ترى ؟؟!
إنه خلق نفس الأدب الذي حلم بخلقه شقيقة محمد من قبله 00 أي أنه خلق لنا أدبا واقعيا لا تمد بصرك إلى قطعة من قطعه إلا وتشعر أنها تفيض بالحياة وتزخر بالعواطف.. عواطف الشعب المصري على اختلاف طبقاته أفتشك أن تيمور عبر عما يحس به شعبه أصدق التعبير؟
لدينا مؤلفاته إذن ولنراجعها إن شئنا مؤلفا مؤلفا لنرى صفحة الحياة المصرية والمجتمع المصري منعكسا فيها تمام الانعكاس . لنتناول – أول ما نتناول – مجموعة الشيخ عفا الله ، فعلام تحتوي هذه المجموعة القصصية ؟ إنها تحتوي على عرض صادق وبحث عميق لحالة الفلاح المصري .
فلنتتبع قصص الكتاب قصة قصة ليتبيّن لنا أخيرا أنه ليس في الكتاب حديث مختلق عن الريف المصري أو مغالاة في وصف تعاسة الفلاح المصري الذي نستنتج أنه مسكين يعاني أشد ألوان الشقاء ، وأنه لم يرض أو يقنع بما هو عليه كما يدّعي المدّعون.
أفلم يصور لنا تيمور بمثل هذا الكتاب الحقيقة عن طبقة هي أكبر طبقة في المجتمع المصري؟ وإذا كنا نشك في صحة تلك الصور فهل لنا أن ننكر أنه عاشر الفلاحين زمنا كان يحضر فيه اجتماعاتهم في أوقات فراغهم وفي أوقات عملهم ؟
ومثل مجموعة عفا الله كانت مجموعاته القصصية التي أصدرها في أوائل احترافه التأليف (كالشيخ جمعة ) و (عم متولي ) و (الشيخ سيد عبيط) و (رجب أفندي ) و (أبو علي عامل آرتيست) و (الأطلال) فهي ليست سوى دراسة للطبقة الغالبة في المجتمع المصري ـ وهي التي وجه نحوها تيمور اهتماماته في دراسته لمجتمعه , دائما ـ فقد كانت عبارة عن عرض وتحليل نفسي عميق للطبقة الكادحة , حتى أنك لتشعر حينما تطالع تلك المجموعات أنك تعيش مع هذه الطبقة من المجتمع المصري جنبا إلى جنب .
فانظر لهذا الكاتب المخلص أيها القارئ العراقي الذي يكشف لك الحقيقة بحذافيرها ويطلعك على ما هو قائم في بلاده حقيقة , وبذلك تدرك أن في ذلك القطر كثيرا من المجلات والجرائد والأفلام تحاول ستر الحقيقة عنك بأن تطبل وتزمر عن مدى رقي المجتمع المصري في اقتصادياته وتعلم ـ بفضل ما يطالعك من الحقيقة فيما يكتب تيمور وأمثاله من المخلصين ـ أن ما تقوله تلك الجرائد والمجلات لا يتعدى التطبيل والتزمير وأن أخاك المصري لا يقل عنك تعاسة وأن الفلاح المصري خدين الفلاح العراقي في البؤس .
ولننتقل ـ بعد أن فهمنا ما عرضه لنا تيمور عن الطبقة ذات الكثرة الساحقة في المجتمع المصري ـ إلى مجموعات "مكتوب على الجبين" و "فرعون الصغير" والمنقذة وحفلة شاي لندرس مع تيمور نفسية الأرستقراطيين ـ ذوي القلة في المجتمع المصري ـ أولئك الذين يلقبهم "بالنفر المزيف " , وإني أسألك أيها القارئ , ألا يعبّر تيمور عن نفسية مجتمعه ـ ونحن نحكم على حالة المجتمع بنسبة الطبقة الساحقة فيه ـ حينما يطلق على تلك الطبقة الصغيرة في المجتمع المصري "بالنفر المزيف" ؟ وإذا كان الجواب لا , فأي لقب تظنه أيها القارئ يختاره الفلاح أو العامل لمن يسلبه ماله ليبدده على اللهو والبذخ في حين يقضي هو نهاره بالعمل المنهك ليعود أخيرا بخفي حنين ؟
وهكذا كلما تجولنا بين قصص هذه الكتب الثلاثة ـ والأخير منها رواية تمثيلية ـ تعرفنا إلى ألوان متعددة من الحياة الأرستقراطية وفهمنا نفسية تلك الطبقة وصور تفكيرها . ولعلك لا تعلم أيها القارئ أن تيمور خالط ـ ولا يزال يخالط ـ الأرستقراطية في حياته اليومية , بل إنه في الحقيقة واحد منهم ،وهو مطلع إطلاعا واسعا على طرق معيشتهم وعاداتهم وهو دارس لنفسيتهم دراسة مستفيضة . فكل صورة ترسم بقلمه إذن عن تلك الطبقة هي الواقع نفسه .
وأود أن ألفت نظرك أيها القارئ أيضا إلى أن تيمور لم يقتصر في أبحاثه على تصوير حالة مجتمعه بل تعداه إلى الغوص في نفسية الإنسان بغرائزها وميولها , واستخرج من صميمها كل ما هو خبيء00 وتلكما روايتي "قنابل" و "أبو شوشة والموكب" تشهدان على ما أقول .
وهذه رواية نداء المجهول كذلك تشهد لنا على قدرته في التحليل النفسي , وعلى مدى نبوغه الفني , وعلى براعته في الكشف عن خبايا النفس البشرية في مختلف حالاتها مما يدعونا إلى الاعتقاد أنه قد درس علم النفس دراسة مستفيضة .
فهكذا يبدو تيمور من خلال قصصه بشخصية المصلح الاجتماعي والفنان والعالم النفسي . وإني واثق أنه في كل تشكلاته هذه لا يبتعد بفنه عن الواقع .
فأدب تيمور إذن أدب واقعي لا أدب الأبراج العاجية , وذلك لأنه لم يتحصن في يوم من الأيام , كما يفعل بعض القاصين والأدباء المصريين في هذه الآونة , ببرج عاجي يشرف منه على المجتمع المصري ويسجل عنه ملاحظاته من بعيد , بل اختلط بالمجتمع وصور لنا حياتهم ذلك التصوير الدقيق , ودرس النفس البشرية من ملابسات الحياة اليومية التي يواجهها في كل حين وقدمها لنا في قصصه على طاولة التشريح ولذلك فما أحرى بنا أن نطلق على مؤلفات تيمور قاموس المجتمع المصري وتشريح النفس الإنسانية. وسيخلد تيمور , هذا الذي أفني حياته قربانا لفنه في سبيل خدمة المجتمع , بل إنه خالد ما خلد الأدب . أما عن أسلوبه الفني فلنا في ذلك دراسة خاصة .
ومن رأيي أن على أدبائنا ـ ونحن مقبلون على نهضة أدبية ـ أن يتخذوا هذا الأديب قدوة , فيخوضوا في عباب الواقع لا أن يتحصنوا في أبراج عاجية . ويسجلوا وهم يشرفون منها على المجتمع العراقي من بعيد لبعيد , القصص التي يتخيلونها غير مبالين بما يتخبط فيه , بؤس وفقر وتعاسة . ليهبطوا إلى قاع المجتمع ويغترفوا منه مادة لأدبهم إن شاؤا أن يخلد ذلك الأدب , فما يخلد من الأدب إلا الأدب الصادق .



















نجيب محفوظ ( )
تلمع في أفق الأدب العربي الحديث أسماء معدودة هي التي تكتسح الميدان الأدبي بمؤلفاتها . وإلى جانب تلك الأسماء أسماء خابية ليس لها من الشهرة إلا النصيب النزر ذلك لأن الأولى قد مضى عليها زمن طويل وهي تغمر الأسواق بنتاجها , في حين أن الثانية حديثة العهد بالإنتاج . ولكن بالرغم من حداثة الثانية فإن لها في ميدان الإبداع الأدبي نصيبا أوفر مما لبعض القديمة . ولعل أسماء هؤلاء الأدباء المغمورين هي السبب في قلة تقدير آثارهم . هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن ضعف شأن النقد عندنا وقلة النقاد ساعد على عدم الالتفات إليها . فلو كان هناك نقاد يعنون بمؤلفات أولئك الأدباء الجدد ويأخذون على عاتقهم تعريف جمهور المتأدبين بقيمتها لما ضؤلت الاستفادة منها.
ولعل الدافع الذي حفزني على كتابة هذا المقال ـ وآمل أن أستمر بكتابة مقالات أخرى عن هؤلاء الأدباء ـ هو ما لاحظته من إهمال لمؤلفاتهم . فلا يعنى النقاد بتناول آثارهم عند صدورها يعرفونها لجمهور القراء ويدلّون على ما حوته من طرافة وقيمة , في الوقت الذي يتهافتون فيه على آثار الأدباء اللامعين 00هؤلاء الذين يلجأ البعض منهم إلى خدع جمهور القراء بأسمائهم فيشيدون بها ويسرفون في الثناء عليها . في حين أن نزاهة الناقد تتطلب منه ألا يفرق بين أديب كبير وآخر صغير عند تناول مؤلفاتهم . فالأمر يجري في ميدان النقد لدينا معكوسا إذن . فإن تناول الناقد مؤلفا لأديب كبير حبر عنه الصفحات الطوال وإن تناول مؤلفا لأديب ناشئ، وقلما يكلف نفسه مئونة ذلك، كتب عنه بضعة أسطر لا تتعدى الإشارة إليه .
هذه مقدمة شرحت فيها سبب اهتمامي بدراسة هؤلاء الأدباء الجدد ـ ولو أنها دراسة مختصرة ـ لعلني أقوم بنصيب ضئيل في خدمة الأدب وأعوض عما أهمله النقاد من واجب .
وأديبنا الشاب الذي سأفتتح به هذه السلسلة هو القاص المصري الأستاذ نجيب محفوظ .
بدأ الأستاذ نجيب يكتب القصة في سنة ألف وتسعمائة وسبع وثلاثين . لكنه كان في ذلك الحين قليل الإنتاج . وكان ينشر قصصه القصيرة على صفحات مجلة "الرواية" المحتجبة التي كانت تصدر عن دار" الرسالة" في مصر . ورغم أنه لم يكتب آنذاك ـ كما ذكرت ـ إلا قصصا معدودة لكنها كانت تبشر بنبوغ قصصي . ولم يكن ينقصها سعة في الخيال أو تفوق في الأسلوب أو حسن اختيار للموضوع .
كانت قصصه قوية البنيان رصينة السبك لا يعوزها غير متانة اللغة . إذ أنه لم يتخير لها الألفاظ تخير المقتدر ، وأعني أنها كانت متوسطة في لغتها . وهذا ما لا يؤاخذ عليه الأستاذ نجيب فإن كل أديب مبتدئ عادة يقع فيما وقع فيه , فلا يعني بلغته بل يهمه قبل كل شيء المادة والأسلوب . وكانت تلك الأقاصيص تدل على أن له ميلا إلى معالجة الرواية , وإلى أن له مقومات النجاح . وقد صدق هذا التخمين أخيرا : فقد صدف الأستاذ نجيب عن القصة القصيرة وانصرف بكليته إلى الرواية . وإذا به يصيب في معالجتها نجاحا منقطع النظير يفوق نجاحه في القصة القصيرة .
وقبل أن أنتقل إلى الحديث عن رواياته يجدر بي أن أسجل هنا بعض ملاحظاتي عن قصصه القصيرة . فالبعض منها كانت عادية المعنى لا يقصد منها غير الفن والتسلية . وهذه أمثال قصة "الحظ" التي صور فيها شخصا فقيرا ابتاع بطاقة يانصيب وكان رقمه رابحا , ولكنه فقد ورقة اليانصيب فانهارت آماله وانتحر على إثر ذلك . وقد أبدع في تحليل شخصية بطل القصة وتصوير خلجات نفسه : في فرحها وترحها وبؤسها وشقائها.
وذلك موظف ـ في قصة "سرقة بغير سارق" خرج من غرفة عمله وإذا بجيبه عشرون جنيها . فحار كيف حصل عليها .. واتهم نفسه باللصوصية .. وانتابته شتى الأفكار المزعجة . وتصور أن هناك أعداء وضعوها في جيبه ليتهموه بالسرقة , ولكنه وجد أخيرا أنها لرئيس عمله الذي وضعها في جيبه عن دون عمد , عندما أراد أن يدسها في جيب سترته التي كانت معلقة على المشجب بجانب سترته . وهنا يجدر بي كذلك أن أنوه عن براعته في تحليل نفسية بطل القصة ووصف حالته واضطرابه . فهذه القصص إذن لم يكن يعالج فيها مشكلة اجتماعية ولم يستهدف نقد حالة خاصة . ولكن الذي لا سبيل إلى نكرانه أنه كان يبرع في تحليل شخوص أبطالها براعة عظيمة , وتوفق في وصف حالاتهم وشعورهم توفيقا كليا 0 وهذا ما يثير الدهشة ويبعث على الإعجاب , وعلى الخصوص أن المحلل النفسي المبدع أديب ناشيء لم يمض على خوضه ميدان الأدب إلا فترة قصيرة ..!!
ونعود إلى البعض الآخر من قصصه التي عالج فيها المشاكل التي تنتاب المجتمع المصري وتوفق في علاجه . وهذه أمثال قصص "المرض المتبادل " و "حكمة الموت" و "أول إبريل" و "موت الحب " و " الدهر المعلم" و "فتاة القصر" وغيرها .
وقد وجه الأستاذ نجيب في تلك القصص أكبر عنايته إلى ما ينتاب الشبان من مشاكل وما يحيق بهم من ظروف , وعالجها معالجة دقيقة . وقد وهب الناحية الجنسية نصيبا وافرا من اهتمامه , وأخذ على عاتقه إظهار ما لها من أثر بليغ في حياتنا .
تلك هي الاتجاهات التي توزعت قصصه القصيرة أجملناها بصورة مختصرة .
ولندرس المرحلة الثانية التي أنتقل إليها أديبنا وهي معالجته للرواية . وقد بدأ ذلك برواية تاريخية بعنوان "رادوبيس" وهي تصور العصور الفرعونية في قمة مجدها وكمال عظمتها . وقد أغرم الأستاذ نجيب في تصوير هذه العصور الزائلة التي خلدت لمصر تاريخا حافلا بجلائل الأعمال وعظائمها , والتي كان لها أكبر الأثر في تقدم الحضارة العالمية وارتفاع كعب المدنية في العالم .
وإن لغرام الأستاذ نجيب بتصوير هذه العصور معنى سام . ولست أشك أنه لا يصور تلك العصور لأجل التاريخ بل يهدف لإثارة الشعور القومي . فهو عندما يرسم بريشته مجد الأجداد يهتف لسان حاله مخاطبا الأحفاد : هكذا كان أجدادكم وهكذا أنتم الآن , فشتان بين مجدهم وانخذالكم , وعظمتهم وضعفكم , وسطوتهم وذلكم . هيا أيها الأحفاد إلى استعادة مجد الأجداد , حطموا كل قيد يغل أعناقكم ويقيد أيديكم ويصفد أرجلكم وتخلصوا من كل ما يقف حجر عثرة في سبيل تقدمكم"
هذا ما يهتف به لسان الأستاذ نجيب عندما يفرغ كل ما لديه من براعة في تصوير تلك العصور الذهبية وهو وأيم الحق أسلوب جميل ومثير جدا .
ونعود إلى الرواية فنذكّر القارئ أنها حافلة بكل ما يملك لبه ويستحوذ على إعجابه, وهذا أسلوب لجأ غليه الأستاذ نجيب ليقتنص القراء اقتناصا . فلا يكاد القارئ يبتدئ بقراءة قصته حتى يندفع في قراءتها اندفاعا بحيث يتعذر عليه أن يؤجل إكمالها إلى وقت آخر . وذلك لما يسيطر على قصصه من جو مشبع بالحوادث المتلاحقة الشيقة .
وهذا الأسلوب من أنجح الأساليب في كتابة القصة , لأنه لا يترك للملل سبيلا يتسرب إلى نفس القارئ . وليس بودي أن أتكلم عن رواية "رادوبيس" أكثر مما تكلمت . وقد ذكرت هدفه من كتابتها أيضا وهو استثارة الشعور القومي كي تندفع مصر في طريق التقدم لعلها تستعيد مجدها الغابر ومقامها الزائل . والرواية في ذاتها موضوعة في قالب فني ممتاز : بحوادثها وحوارها ووصفها .. وكل شيء .
وبعد مضي زمن قصير على رواية "رادوبيس" أصدر الأستاذ نجيب محفوظ روايته "كفاح طيبة" وهي رواية توفق فيها كل التوفيق . وكان أسلوبها شيقا وحوارها ممتعا وتسلسل حوادثها منتظما وتواتر حوادثها مثيرا لشتى العواطف والأحاسيس لدرجة تمتلك لب القارئ. ويبدو لي أن الأستاذ نجيب قد أفرغ في صبها عصارة فنه , وهي حقا أجمل ما أنتج على الإطلاق . وإني لأضعها في مصاف القصص التي يكتبها الأساتذة محمود تيمور وتوفيق الحكيم ومحمد فريد أبو حديد وغيرهم من أعاظم كتاب القصة في الشرق العربي .
والرواية من اسمها تبشر بنضال وكفاح في سبيل التخلص من الظلم , وهو نضال مستميت وكفاح مستديم للانطلاق من قيود الاستعباد وللتحرر من أصفاد وسيطرة الأجنبي . إنها طيبة تعاني من مظالم تجل عن الوصف على أيدي الهيكسوس" المستعمرين . فتناضل نضالا لا يعرف الهوادة واللين إلى أن تكلل هامتها بالنصر المبين وتطرد "الهيكسوس" من بلادها طردا أبديا لا أوبة بعده 0 وبذا تسترد حريتها المسلوبة وتستعيد سعادتها الضائعة.
فأنت ترى يا عزيزي القاريء بأن المؤلف قد رمى إلى هدف غاية في النبل والسمو . وبمجرد مقارنتك لحالة مصر الآن ولحالة "طيبة" قبل طرد "الهيكسوس" يتوضح لك وجه الشبه . فكما أن "الهيكسوس" قد استعمروا مصر قديما فقد استعمرها الإنجليز حديثا . فأما أولئك القدماء فقد بذلوا كل ما في جهدهم ليخرجوا المستعمر .. ثاروا مرات عديدة . كانت ثورتهم تفشل في كل مرة . ولكنهم ظلوا على ثباتهم بالرغم من أن بلادهم أصبحت قاعا صفصفا لما ألم بها من تهديم وتخريب نتيجة تلك الثورات حتى نجحوا أخيرا بطرد المستعمر عن بلادهم وإلى الأبد . فما على المصريين إذن إلا أن يستهدوا بسيرة أجدادهم فيبذلوا ما في وسعهم لطرد المستعمرين عن بلادهم كما قام بطرده من قبلهم أجدادهم القدماء .
والأثر الأخير للأستاذ نجيب محفوظ هو "خان الخليلي" وهي رواية شعبية قلبا وقالبا . فخان الخليلي ـ مسرح الرواية ـ حيّ قديم تسكنه الطبقات الفقيرة . أما موضوعها فقصة غرامية طريفة , ولكن المهم فيها ليس غرامياتها , بل ما فيها من وصف صادق للطبقة الدنيا البائسة التي تؤلف تسعة أعشار المجتمع المصري0 ففيها وصف لدورهم ولأسلوب حياتهم ولطريقة تفكيرهم , فيها وصف لعمالهم في أوقات عملهم وفراغهم , وفي أوقات جدهم ولهوهم , فيها وصف لما يعانونه من بؤس وشقاء ولما يقاسونه من متاعب وآلام للحصول على قوتهم . فيها تحليل دقيق لخلجات نفوسهم ولأحاسيسهم وعواطفهم . وباختصار فإنها عبارة عن دائرة معارف لكل من يود الإطلاع على حالة الطبقة الدنيا في مصر في شتى نواحي الحياة ومختلف نوازع التفكير .
وقد برع المؤلف في صب كل ذلك براعة فائقة . ولاحاجة بنا أن ننوه مرة أخرى بديع حواره وشيق أسلوبه وتسلسل حوادثه ومتانة شخوصه . فهذا طابع خاص يطبع به الأستاذ نجيب كل قصصه .
تلك هي آثار الأستاذ نجيب محفوظ التي تبشر بعبقرية قصصية مبدعة وبمستقبل أدبي عظيم . ولا ريب عندي أنه سيتحف الأدب العربي ـ بمرور الأيام ـ بآثار باقية تخلد اسمه للأجيال القادمة .



رئيف خوري ( )

إذا تحدثنا عن الكاتب اللبناني الأستاذ رئيف خوري فإنما نتحدث عن الإخلاص في الكتابة والعمق في الدراسة والجمال في الأسلوب والنشاط في الإنتاج . أجل . إن تلك السمات تتبادر إلى أذهاننا كلما صافح سمعنا أسم "رئيف خوري" .
فالإخلاص في الكتابة صفة يعرفها عنه كل مثقف مدرك . ولا شك أن لمقالات التي نشرها في مختلف المجلات اللبنانية وأخص منها بالذكر مجلة "الطريق" الغراء برهان ساطع على ما أقول0 فقد حفلت بروح وثابة سامية تتألم لهذه الأوضاع المزرية التي تلم بالشعوب العربية فتفسد حياتها وتنكد عيشها وتملؤه بالبؤس والشقاء . ولم يأل جهدا في رفع صوته مناديا بحقوق الشعب , مهاجما المبادئ المعادية للإنسانية , فاضحا أباطيل الاستعمار وأذنابه . وداعيا أبناء الشعب المستضعفين إلى الثورة على حكامهم الطغاة .
إذن فالأستاذ رئيف أديب قد عاهد نفسه على خدمة الشعب والنضال من أجله . والإخلاص في الكتابة ـ من أجل ذلك الغرض على الخصوص ـ دينه وديدنه . لا يخشى دون ذلك وعيد طاغ أو عقاب متجبر .
أما سمة العمق في الدراسة فتتجلى لنا على أوضح ما تكون في المؤلفات الدراسية التي أخرجها لطلاب الأدب . وهي أمثال "الدراسة الأدبية" و "امرؤ القيس" و "وهل يخفي القمر" ـ وقد درس في المؤلف الأخير الشاعر عمر بن أبي ربيعة ـ فقد برهن بهذه المؤلفات على أن له صبرا طويلا في التتبع والدراسة . ومما لا ريب فيه أن من تتوفر فيه هذه الصفة يتوفق فيما ينشئ عن شاعر أو كاتب أو رأي .. إلى آخره . ولا تخرج أحكامه سطحية مشوشة بل عميقة متزنة . وهذا ما أردت التأكيد عليه من خصال في الأستاذ رئيف 0 فقد وفقّته تلك الصفات إلى أن يتحف طلاب الأدب بدراسات عميقة بعيدة كل البعد عن "السطحية" في الأحكام والآراء .
والصفة الثالثة التي يتميز بها أديبنا ـ وأقصد بها "الجمال في الأسلوب" ـ صفة تظهر جليا فيما يكتب من أقاصيص قصيرة . ولا أعني بهذا القول أن ما يكتب من مقالات أدبية واجتماعية وسياسية مجردة من هذه الميزة , كلا . فالحقيقة أن عباراته الحلوة وأوصافه البارعة وألفاظه الموسيقية اللينة , وطريقته في سوق الأفكار , كل ذلك يسمو بأسلوبه ويطبعه بطابع من الجمال والجاذبية , لأي غرض استخدم ذلك الأسلوب .. أكان قصة أم مقالة اجتماعية أم دراسة أدبية أم حديثا سياسيا . ولكني أقول أن أسلوبه يبلغ غاية جماله فيما يكتب من أقاصيص تاريخية .
والصفة الرابعة التي يمتاز بها رئيف خوري ـ أعني النشاط في الإنتاج ـ معروفة عنه لغزارة مؤلفاته ـ بالنسبة لقصر المدة التي خاضها في ميدان التأليف0 فبالرغم من حداثة سنّه فقد أخرج جملة من المؤلفات هي :
حبة الرمان , وهل يخفي القمر , حقوق الإنسان , امرؤ القيس , مجوسي في الجنة, معالم الوعي القومي , مع العرب في التاريخ والأسطورة , ثورة بيدبا , التراث العربي , الفكر العربي الحديث , الدراسة الأدبية (و الأخير هو كتاب "النقد والدراسة الأدبية" الذي أخرجه في سنة 1939 مضيفا إليه فصولا طويلة أخرى ) هذا عدا المقالات والقصص الكثيرة التي نشرها على صفحات مختلف المجلات العربية .
وعلى هذا فلا مناص لنا من الاعتراف لأديب شاب أخرج كل تلك الآثار القيمة في ظرف مدة قصيرة ـ رغما عن مشاغله الخاصة ـ بالنشاط الجم وبغزارة في الإنتاج , وإذن فليس لنا إلا أن نكبر في أديبنا الشاب هذه الخصال التي يتميز بها والتي ترفع من قيمته إلى مصاف كبار الكتاب .
ولنعد الآن إلى البحث في هذا الإنتاج الغزير الرائع . من قائمة أسماء الكتب التي ذكرناها آنفا يتبين للقارئ أنه ـ أي الإنتاج ـ ينقسم إلى خمسة أقسام :
أولاً : الإنتاج القصصي .
ثانياً : الإنتاج الأدبي (وهي الدراسات الأدبية والمقالات) .
ثالثاً : الإنتاج الشعري .
رابعاً : الإنتاج الاجتماعي .
خامساً : الإنتاج السياسي .
ولست أود التحدث في هذه الدراسة عن تلك الأقسام الخمسة بأجمعها وإنما سأقصر دراستي على القسم الأول من إنتاجه وأعني به "الإنتاج القصصي" 0
ويسوقنا البحث في إنتاج الأستاذ رئيف القصصي إلى أن نذكر شيئا عن القصة التاريخية . ذلك لأن إنتاج أديبنا يقتصر على هذا النوع من القصص . والواقع أن القصة التاريخية لم تحظ بالعناية اللازمة من قبل الأدباء العرب في جميع أدوارها . وليس بقدرتي أن أحدد سبب ذلك الإهمال بالضبط . ولكن الرأي عندي أن القصة في حد ذاتها فن لم يحذقه العرب . وليس للعرب كتب قصصية بمفهوم القصة الصحيح . ولو تصفحنا تاريخ أدبنا لوجدناه حافلا بقصائد الشعر الرائعة وفنون المقالة الساحرة . أما القصة فخال منها خلوا يكاد يكون تاما . وإذا كان هناك بعض الحكايات المبعثرة هنا وهناك في كتب الأدب فهي أبعد ما تكون عن الفن القصصي الحق . ولهذا فإن فن القصة لم يظهر في البلاد العربية ويشتد ساعده إلا في الربع الأول نم القرن العشرين عندما ازداد الاتصال بين الشرق العربي والغرب . ومما لا شك فيه أن الغرب قد تبنى القصة منذ القرن الثاني عشر , حيث بزغت نجوم قصصيين عباقرة أمثال بوكاتشيو وسرفانتيس وشيكسبير وموليير . وكذلك ازدهرت القصة كل الإزدهار / منذ منتصف القرن التاسع عشر وذلك بظهور قصاصين بارعين أمثال موباسان وديكنز وتولستوي وأندريه جيد وويلز وغوركي وشيكوف وإيبانيز وبيراندللو00 إلخ00إلخ . ويعد الفن القصصي في بلاد الغرب الآن من أرقى الفنون وأوسعها انتشارا .
وبما أن صلة الشرق العربي بالغرب قد توثقت منذ بداية القرن العشرين وخصوصا بعد الربع الأول منه , فقد انتقل إلينا في جملة ما انتقل من معارف " الفن القصصي " . وبما أن القصة الغربية لم تعن بالتاريخ كل العناية فقد ورثنا عنهم هذا الإهمال لذلك النوع من القصص , ووجه قصاصونا جل عنايتهم إلى الأنواع الأخرى من القصص النفسية والرومانتيكية والواقعية .
هذا في ظني سبب انصراف الأدباء عن معالجة القصة التاريخية . ولكنها مع ذلك لم تعدم بين الكتّاب العرب من نصير . فقد تصدى لمعالجتها المرحوم الأستاذ جرجي زيدان فألف فيها سلسلة بلغت ستة عشر جزءا سجل فيها التاريخ الإسلامي . وبعد انقضاء فترة طويلة على وفاته ظهر الأستاذ محمد فريد أبو حديد فنهض بالقصة التاريخية نهضة جبارة. وتلى الأستاذ أبو حديد الدكتور طه حسين فأصدر كتاب على هامش السيرة بثلاثة أجزاء سجل فيها نصرا جديدا للقصة التاريخية . ومن ثم ظهر أديب حضرمي هو الأستاذ علي أحمد باكثير ألف في القصة التاريخية وأصاب قسطا وافرا من النجاح . وأخيرا برز الأستاذ رئيف خوري واقتحم هذا الميدان فرفع القصة التاريخية إلى مرتبة القصص الحديثة التي تعالج عقد النفس وعواطف القلب وشئون الحياة بعد أن كان معظمها مجردا من أكثر عناصر القصة الفنية .
(ملحوظة : البحث ناقص بسبب فقدان الجزء الآخر) .

















كتابات نقدية




















القافلة الضالة ... ( )
تأليف الأستاذ محمود كامل المحامي
للأستاذ محمود كامل المحامي باع طويل في القصة القصيرة , فقد أخرج منذ أن اقتحم هذا الميدان حتى الآن ما يقارب الخمسة عشر مجلدا , ضمت بين دفتيها عشرات الأقاصيص والقصص . هذا عدا الروايات الطويلة والقصص المسرحية التي احتوتها ثمانية مجلدات . فكتابه "القافلة الضالة" إذن ليس أول محاولة قصصية يقوم بها , وفي هذه الحالة يترتب علينا عدم الإغضاء عن أي ضعف في أسلوب أقاصيصه الحديثة أو تشويش في حوادثها أو ركاكة في لغتها . إذ لو وقع في مثل هذه الأغلاط التي تفقد القصة بعض مميزاتها الفنية قصاص مبتدئ لتسامحنا معه . أما والأستاذ محمود كامل قصاص قديم فسنلجأ إلى التشدد والصرامة في محاسبته على ما اعتور مؤلفه من أغلاط فنية كثيرة .
فلنتصفح الكتاب فقد افتتحه بقصة "موسيقار الطريق" . وملخصها : "أن نادية ـ وهي مدرّسة للموسيقى في إحدى المدارس الثانوية ـ سافرت إلى بلدة عتاقة فأحبت هناك موسيقارا شابا وأحبها , وتوثقت بينهما عرى الصداقة وقويت أواصر الود , ولكن ما كادت تمضي على لقاءاتهما ثلاثة أيام حتى فرت نادية عائدة إلى القاهرة . لماذا ؟! لأنها خشيت أن يتمكّن حب هذا الموسيقار من قلبها وخيل إليها أنه قد يكون شابا من هؤلاء الشباب الذين يقضون فترة خاطفة من الوقت على شاطئ البحر ليقتنص أثناءها فتاة من المصيفات يخدعها ويلهب عاطفتها ثم يفترق عنها ولا يعود يسعى إليها أو يسمع بها كأن أحدا لم يعرف الآخر !!
غير أن هذا الموسيقار تبعها إلى القاهرة وهو لا يعرف من عنوانها غير الشارع الذي تسكن فيه 0 فلجأ إلى أسلوب غريب (وغريب جدا) في البحث عنها 00 وهو أن يحمل أكورديونه ويجوب في ذلك الشارع ليلا متغنيا بقطعة غنائية كان قد غناها لها آخر مرة . واستمر على ذلك بعض ليال دون أن يبالي بصحو الجو أو اكفهراره , حتى أن الماء كان يتساقط من كتفيه في بعض تلك الليالي الماطرة . وأخيرا شاءت له المصادفة أن يعثر عليها فتم بينهما الزواج . وهكذا تنتهي القصة !!
وبعد , فهل سمعت يا قارئي العزيز من قبل أو من بعد أن محبا حمل آلته الموسيقية وانطلق يجوب بها الشارع الذي تسكن فيه حبيبته وهو يغني ويعزف كيما يستجلب انتباهها ؟! قد تكون سمعت بمثل هذا في أقاصيص العجائز الخيالية البعيدة عن الواقع , أو في أقاصيص بعض القصاصين الكلاسيكيين الغربيين أمثال شيكسبير وبوكاتشيو وسرفانتيس . وأما أن تقرأه في كتاب قصصي لمؤلف مصري معاصر يقول في مقدمة كتابه:" إن أقاصيصه عبارة عن مجموعة صور منتزعة من الحياة الاجتماعية المصرية"0 فالحق معك إن استغربت وأغرقت في استغرابك. إذ أن مثل هذا التصرف الشاذ بالنسبة لعادات وحياة المجتمع المصري بعيد كل البعد عن الواقع. وبما أننا نعني بـ"الصور الإجتماعية" الحوادث التي يتكرر وقوعها حتى تصبح من سمات المجتمع , فهذه القصة إذن قد فقدت طابعها الفني ـ باعتبارها قصة اجتماعية واقعية ـ ببعدها عن الحقيقة وإغراقها في الخيال , وأقصد ببعدها عن الحقيقة عدم واقعية تكرر حدوثها في المجتمع المصري ذاته , ولا يهمنا أن يحدث لأحدهم أن يحمل أكورديونه ويعزف عليه ويغني وهو يجوس في ظلمات الليالي في الشارع الذي تسكن فيه حبيبته في بلاد أخرى أو لا يحدث ما دامت القصة مصرية وليست أجنبية !
ويكفي هذا السبب للحكم على هذه القصة بالفشل , لأن تجوال صاحبنا في شارع وغناءه وعزفه كيما تسمعه حبيبته نادية وتخرج له حادث رئيسي في القصة ترتكز عليه حوادث مهمة ونتائج خطيرة . ومن هنا أطلق المؤلف عليها اسم "موسيقار الطريق"0 ولما كان هذا الحادث فاشلا ـ لافتقاره إلى الصدق والواقع ـ فإن ما ارتكز عليه من حوادث ونتائج فاشلة أيضا 0 فالقصة فاشلة بمجموعها إذن .
ونفرغ من القصة الأولى فنتناول القصة الثانية وهي "رسالة حب " . وفي ظني أنك لو قرأت يا عزيزي القارئ هذه القصة لما خرجت منها بشيء . وهذا ما حدث لي بالضبط عند قراءتها . فاستمع الآن إلى ملخصها لعلك تجد شيئا من الصحة فيما ذكرت :
فـ"ممدوح صادق طالب في كلية الهندسة 00 سافر مع أسرته في الصيف إلى الإسكندرية , فالتقى هناك بسنية في أحد الملاهي , وكانت هذه في صباها تسكن في نفس الشارع الذي تسكن فيه أسرته , لكن والدها التاجر أفلس فانتقل إلى حي آخر , ولم ير سنية منذ ذلك اليوم . فلما رآها الآن تملكه شعور قوي جذبه إليها , واضطر إزاء ذلك الشعور أن يتعرف إليها 0 ثم جلسا حول مائدة يتحدثان عن الماضي والحاضر 0 فعلم أنها قد أصبحت ممثلة , وعلمت هي أنه طالب في كلية الهندسة , ومن ثم اتفق معها على أن يبعث لها برسائل غرام عندما تعود إلى القاهرة , وذلك لأن أحد ناشري الكتب أوصاه بأن يكتب رسائل غرام حقيقية لينشرها له ـ وهنا يجدر بي أن أشير إلى أن لممدوح صادق ميلا إلى القصة , وقد نشر في بعض المجلات أقاصيص قصيرة ـ ولكنه لم يف بوعده بعدئذ , بل كتب الرسائل واحتفظ بها لنفسه عملا بوصية الناشر .
ومضت الأيام وإذا بخطاب يصله من سنية ذات يوم تبلغه فيه أن رسالته الغرامية التي بعث بها إليها مدهشة جدا جدا وأنها حازت على اعجابها , وأنها تأمل أن تراه قريبا . فدهش لأنه لم يبعث لها بأية رسالة , وظل فريسة للقلق والاضطراب إلى أن عاد إلى القاهرة مع أسرته . فسأل عن سنية وعلم أنها سافرت إلى إحدى قرى الريف لتصوير مناظر فيلم جديد .
وقصد ذات يوم إلى حلاق قريب من داره , فبدأ صبي الحلاق يؤدي عمله , وفتح الدرج الذي أمامه ليخرج (المسن) الجلدي , فلمح ممدوح صورة لسنية مقتطعة من صحيفة من الصحف ومحاطة بإطار أنيق , وسأل الصبي عن اسمه ولقبه فإذا هو "ممدوح أسعد" . وسأله عن علاقته بسنية فأخبره بأنه رآها مرة في حياته فأعجب بها أشد الإعجاب . وقد بحث عن صورتها طويلا فعثر عليها في إحدى الصحف واقتطعها منها , وأنه يكتب لها كلما شاء أن يفضي إليها بشيء . وأخبره أيضا بأنه أديب يكتب في المجلات بعض القصص والأزجال !
.. ومضت أيام على اجتماعه بذلك الصبي وإذا ببرقية من بور سعيد تصله من سنية تطلب منه فيها أن يوافيها إلى محطة القطار . وبعد تردد طويل أجاب طلبها . وما كاد القطار يبلغ المحطة حتى قفزت سنية من العربة وتعلقت به , وانطلقت تطري مقدرته الأدبية , ثم قدمت له مجموعة من الرسائل الأنيقة (الزرقاء) التي كانت موقعة بتوقيع (ممدوح أسعد) . ثم سألته عن سر هذا التبديل في اسمه , فأخبرها أن "ممدوح صادق" الاسم الذي يعرف به في المدرسة و"ممدوح أسعد" اسمه الحقيقي والذي يعرف به في عالم الأدب .
وبعد المقابلة عاد إلى المنزل مهدم الأعصاب وقد فهم السر . وفتح الدرج الذي اعتاد أن يحفظ به رسائله التي كتبها لسنية , وانطلق يتلوها في خيبة أمل ومرارة . وقبل أن يتم تلاوتها سمع صراخا وصوت احتشاد أقدام في الشارع . فلما استطلع الخبر علم أن الترام قتل الصبي ممدوح أسعد الحلاق . فاستغل هذا الحدث لصالحه ومزق رسائله وألقاها في الموقد , وذهب برسائل ممدوح أسعد إلى مجلة معروفة نشرتها له في أعداد متسلسلة . وبعد بضع أسابيع قرأ في نفس المجلة خبرا يتعلق بسنية التي كانت قد سافرت مع فرقة تمثيلية إلى مراكش وفاس مفاده أنها تزوجت بأحد تجار الجلود في فاس , وأنها اعتزلت التمثيل . ومنذ ذلك اليوم لم تعد إلى مصر ولم يسمع عنها ممدوح شيئا .
ومن ثم تنتهي القصة ! فبالله عليك أيها القارئ00 خبرني أي شيء استنتجته من هذه القصة المملة ؟! لا شك أنك ستجيبني بـ"لاشيء" ! إذن ما قيمة تلك الحوادث التافهة ليصاغ منها قصة تستغرق ثماني عشرة صفحة ؟! ثم ما علاقة تلك الخاتمة التي تنتهي بها القصة , وأقصد بها زواج سنية من تاجر الجلود , بحوادثها المتتالية الأخرى ؟! كأني بالمؤلف قد تورط في سوق الحوادث بغير حساب , ولم يدر كيف سينهيها , ثم بدا له أخيرا أن يختمها على تلك الصورة الغريبة ففعل ! وما هذه المصادفات العجيبة المسيطرة على جو القصة والتي لا تحدث في الواقع إلا نادرا ؟! فتلك الصدف تدفع ممدوح مثلا أن يخبر سنية أنه سيبعث لها برسائل غرام , ولكنه يضرب عن هذا العمل , وتجعل من ممدوح أسعد محبا لسنية أيضا حيث يبعث لها برسائل غرامه فتعتقد أنها من ممدوح صادق؟!
انظر إلى تلك المصادفات واعجب إذ يجعل منها قصاص قدير حوادث قصة منتزعة ـ على ادعائه ـ من صميم حياة مصر الاجتماعية !!
إن المصادفات في هذه القصة لتتوارد وكأن المؤلف قد أقحمها إقحاما , بل كأن أبطال القصة شخصيات آلية يحركها المؤلف بدلا من أن تتحرك من تلقاء نفسها ! وبهذا فقدت القصة عنصرا مهما من عناصرها الفنية هو عنصر حيوية الشخصيات !
وأخيرا , دعني أسألك يا عزيزي القارئ قبل أن أغادر هذه القصة : إن كنت قد ضحكت أم لا عندما أخبرتك في ملخصها أن الصبي ممدوح أسعد (الحلاق) الذي تخرج من الصف الثالث الإبتدائي أديب موهوب يكتب قصصا وأزجالا ينشرها في مجلات معروفة , ويكتب رسائل غرام تجعل من ممثلة تحتقر الأدب تقدس كاتبها غاية التقديس ؟!
وقصة الكتاب الثالثة" تمثال يتحطم "قصة تحليلية ممتازة . ولا أود التعرض لها بشيء , فليس فيها نقيصة , بل إن من واجبي يا صديقي القارئ أن أشركك بإعجابي بتحليلها النفسي الملذ الذي توفّق فيه المؤلف أعظم التوفيق .
أما قصة "شبح اللقاء" فهي قصة مفككة الحوادث باردة الأسلوب عادية المعنى . ولا أغالي إن قلت إنها أتفه ما في الكتاب من قصص . وهي تتلخص فيما يلي :
فـ"الأستاذ حمدي يحب فتاة اسمها راجية . وينافسه في حبها إبن عم لها اسمه سامي . إلا أن الفتاة لا تحب سامي بل حمدي , على الرغم من أن أهلها يعارضون في ذلك الحب . ثم أنهما اتفقا على الزواج , ولكن حمدي سافر إلى باريس لقضاء عطلته ولكي يمتع نفسه بمباهجها قبل أن يربط حياته بحياة راجية . وهناك تعرف براقصة فرنسية كانت قد اتفقت مع إحدى الملاهي في الإسكندرية على العمل فيه . فلما أراد أن يعود إلى الوطن صحبته تلك الفرنسية . وعند عودته علم أن راجية قد عقدت خطبتها على ابن عمها سامي فقرر أن ينتقم منها : وقد اغتنم ذات يوم فرصة وجودها في أحد المطاعم مع خطيبها فدخل إليه مصطحبا الراقصة الفرنسية . فتعشيا معا , ثم انقضت فترة قصيرة ؛ وعزفت الموسيقى تدعو للرقص . فأما راجية فأحجمت عن الرقص لئلا يتألم حمدي . وأما حمدي فقد نهض وتبعته الراقصة إلى حلبة الرقص ومضيا يرقصان, وكان هذا هو الانتقام الذي أعده لها (!!)
وفي صباح اليوم التالي تلقى حمدي من راجية رسالة تخبره فيها بانقطاع العلاقة بينهما إلى الأبد ... وبذا انتهت القصة !
أتمعنت في حوادثها الخطيرة يا عزيزي القارئ ؟؟!! تلك هي الصورة المنتزعة من صميم المجتمع المصري ..!!
ولا حاجة بي لأن أكرر الحديث عن ضعف أسلوب القصة وركاكته . ولا حاجة بي لأن أكرر الإشارة إلى حوادثها الاعتيادية ـ وأقصد بالاعتيادية تلك التي لا تصلح أن تكون مادة لقصة من القصص ـ وموضوعها التافه . والحق أنني أعجب لقاص شهير كالأستاذ محمود كامل أن يكتب أمثال هذه القصة . والواقع أننا يجب أن نطلق على مثل هذه القصص اسم "حكايات العجائز" لا اسم "قصص اجتماعية" . وكان الأحرى بالمؤلف أن يطلق عليها ذلك الاسم كي لا يكلف نفسه مئونة نقد النقاد . فبالله عليك أيها القارئ خبرني أي شيء جنيته من مطالعة تلك القصص المملة ؟!! وأي عبرة اعتبرتها من قراءتها ؟!! ومع ذلك فالمؤلف يفخر في مقدمة كتابه بأن قصصه هذه عبارة عن مجموعة صور اجتماعية انتزعت من صميم حياة مصر الاجتماعية .
والقصة الخامسة هي قصة "الجارة الراحلة" . وهي قصة نفسية جيدة وإن كان فيها شيء من الاستخفاف بنفسية المرأة لا نصيب له من الواقع . ولكنها على كل حال قصة فنية من مستوى قصة "تمثال يتحطم" .
وأختتم نقدي لهذا الكاتب بالإشارة إلى ضعف لغته ؛ فهي إن لم تكن في الدرجة المتوسطة فهي دونها . وقد لاحظت أن المؤلف قد استخدم كلمات في غير موضعها أمثال كلمة "الحياكة" ـ في قصة "موسيقار الطريق" ـ بدل "الخياطة" و "الحائك" ـ في قصة "المعلم حنفي" ـ بدل "الخياط" .









أشواق ( )
للأستاذ سهيل إدريس
صدق الأستاذ محمود تيمور إذ قال عن أولئك الذين مهدوا السبيل للقصة العربية , أنهم ليسوا عباقرة ولن يكونوا عباقرة , وإنما سيبزغ العباقرة في هذا الفن من الجيل الطالع بعد أن عبد لهم الطريق . أقول صدق في قوله هذا . فها هي بشائر النبوغ تبدو جلية في قصص بعض أدباء الشباب كآثار القصاص المصري الأستاذ نجيب محفوظ , والقصاص اللبناني الأستاذ سهيل إدريس , وغيرهما من القصاصين المبدعين . وقد أصدر الأستاذ سهيل مؤخرا باكورة تآليفه بعنوان "أشواق" , فبرهن به على خيال قصصي خصب ومقدرة فنية .
والواقع أنني لم استكثر على الأستاذ سهيل تلك القطع الفنية التي قدمها لنا في كتابه , وهو ذلك الناقد القصصي الممتاز الذي زود بذوق فني رفيع يؤهله للبراعة في هذا الميدان . فقد طالما نقد على صفحات "الأديب" الآثار القصصية التي تصدر بين حين آخر وحلل لنا نقاطها الفنية , فأجاد في النقد والتحليل أكبر الإجادة .
أما كتابه الجديد هذا فقد احتوى على عشر قصص طرق في كل قصة منها غرضا معينا وأبدع فيه , إلا أنه هدف قبل كل شيء إلى تصوير العواطف الجنسية وتحليلها0 ومن المعلوم أن للناحية الجنسية خطرا كبيرا في مجرى الحياة الإنسانية وتأثيرا بالغا في كيان الأسرة . وقليل هم أولئك القصصيون الذين تصدوا لمعالجة هذه الناحية وحللوها على خير ما يرام . أما الأستاذ سهيل فقد درسها ـ على ما يبدو لي ـ دراسة عميقة , ثم شيد كيان قصصه على ما توصل إليه من نتائج بعد تلك الدراسة . وقد لاحظت أن معالجة هذه الناحية قد شغلته نوعا ما عن التطرق في قصصه إلى معالجة مشاكل المجتمع الأخرى . ومع أن الناحية التي التزم تحليلها في معظم أقاصيصه ناحية حية كما ذكرت إلا أنني أؤاخذه على هذا الانصراف عن دراسة مشاكل المجتمع الأخرى , وآمل أن يعوض ما فاته من معالجة مثل نلك المشاكل في أقاصيصه اللاحقة . ويطول بي الحديث كثيرا إذا ما تصديت لكل قصة من قصص هذا الكتاب وحللت ما فيها من نقاط فنية . ولذلك فسأقتصر على تناول البعض منها بالتحليل المقتضب .
وعندي أن أبدع تلك الأقاصيص هي قصة "أشواق" . فلقد بذل الأستاذ سهيل في صوغها وتصوير العواطف التي تموج بها عناية فائقة ما جعلها تحفة فنية . ويتركز إبداعه فيها على تصوير عواطف بطلتها "سمية" ... تلك الفتاة الناهدة التي تفتح قلبها للحب فلم تشأ لها الظروف إلا أن تحب الشاب الأعمى الذي كان يعلمها الموسيقى .
وقصاصنا سهيل ينهمك في التعرض لعواطفها في دور نضوجها فيصور لنا أحلامها وآمالها وخلجات نفسها , ثم ما ألمّ بها من أحاسيس عندما عرفت أنه أعمى , وكيف تصارعت العواطف في قلبها حتى انقلبت حبا عنيفا لذلك المعلم .
وبعدئذ انصرف الأستاذ سهيل إلى تحليل عواطف بطل قصته الثاني وهو شفيق معلم الموسيقى .. ذلك الأعمى المسكين الذي وقع في حب تلميذته "سمية" فلم يجسر لسانه على البوح بذلك الحب , بل راح جسده يعبر عنه باختلاجات وارتعاشات تمتلكه كلما حدث سمية أو حدثته , وكلما دخل دارها أو خرج منها . ثم لم يجد أخيرا إلا أن يصوغ عواطفه في قطعة موسيقية أسماها "أشواق" عبر فيها عن حبه وألمه ولوعته أروع تعبير وأهداها لمن أوحتها له , ولكنه آثر أن لا يلتقي بها بعد ذلك مطلقا . وقرر أيضا أن يهجر تعليم الموسيقى وينصرف عن الدنيا وما فيها وأن يقتصر على مصاحبة كمانه ؛ لا لشيء إلا ليعزف به "أشواق" .
وهكذا ترى أن هذه النهاية لتلك القصة التحليلية الرائعة كانت في غاية الفن .. وليس فيها ما يشذ عن الطبيعة البشرية . ويتبين كذلك أن هذه القصة التي تموج بالعواطف اللينة الرقيقة طورا وتزخر بالأحاسيس المصطرعة الثائرة طورا آخر موفقة في كل مقوماتها , وفي لغتها الموسيقية وأسلوبها الرائع .
وتلي "أشواق" في القيمة قصة "صراع" . وهي قصة اجتماعية رائعة التصوير . فقد رسم لنا المؤلف فيها المزالق التي تهوي بالشاب إلى خضم الرذيلة ووفق في الرسم كما وفق في التحليل , وخصوصا تحليل ظروف بطلها "حسني" . ولولا أنه حشر فيها شخصية تلك الفتاة الطاهرة التي أحبها "حسني" وظل يحبها ويقدرها طيلة حياته ويعتبرها رمزا للطهر والعفاف مع أن معرفته بها لم تتعد حدود النظرات , ولم يكن قد رآها إلا مرة واحدة في حياته , أقول لولا حشر هذه الشخصية لتعالت القصة عن كل مأخذ . ومع ذلك فإن ما فيها من روعة تصوير لعواطف الشباب الزاخرة , وما فيها من سبك وانسجام يأخذ بالألباب , كل ذلك سما بها إلى مقام شاهق من الفن الرفيع .
ويعجبني في أسلوب المؤلف "البساطة" . إذ ترى أن كل حركة من حركات أبطالها حركة طبيعية . وهذا الأسلوب يجعل من قصصه أدبا زاخرا بالحياة . فلا يصطدم القارئ بشخوص قصة آلية يحركها المؤلف من وراء الستار ويدفعها إلى الحركة دفعا . وهذا هو منتهى الفن في القصة , إذ أن لحيوية أبطالها شأنا كبيرا في وقوعها موقعا حسنا من نفس القارئ , وفي تقريبها إلى الواقع في ذهنه.
وفي قصتنا المذكورة تعرض الأستاذ سهيل إلى وصف راقصة وإلى تصوير نفسيات جمهور المتفرجين تجاه رقصها , فصدق في الوصف والتصوير كل الصدق .
وفي قصة "ظامئات" بلغ تصوير أديبنا لعواطف الفتيات المتأججة منتهى براعته , ولكنه لم يكن يهول تصوير تلك العواطف إطلاقا , وإنما كان يعبر عنها أصدق التعبير ويرسمها أدق الرسم . وقد يري البعض من اضطرام عواطف الطالبات اللواتي أحببن الأستاذ ناجي ما يشككه في إخلاص الكاتب في نقلها , ولكن من درس تلك العواطف حق الدراسة لا يؤاخذ المؤلف على تصويرها بذلك العنف .
وهناك قصة طريفة جدا أراني ملزما أن أذكرها هي قصة "إمرأة" فقد سجل لنا فيها المؤلف درسا اجتماعيا طليا طالما أهمل الناس الأخذ به في كل بلد لم ينل حظا وافرا من الحضارة هو حرية الزواج . ومع أن القصاصين كثيرا ما طرقوا هذا الغرض في أقاصيصهم , إلا أن سهيل أبدع فيه أيما إبداع . فقد صور في القصة فتاة رائعة الجمال شديدة الحيوية في الثامنة عشرة من عمرها , اضطرتها أسرتها إلى الزواج من كهل قضى أربعين سنة من عمره يرتشف من مناهل الحياة ما كان حسبه حتى ارتوى فقدم يطلب في كنفها أن ينهي أيامه الباقيات في وداعة وسكون واضمحلال , في حين كانت الفتاة تمتلك في إهابها روحا تثور وقلبا يضطرم ودما يغلي . ومن أجل ذلك تعذبت أمر العذاب في مقتبل حياتها الزوجية وكرهت زوجها أشد الكراهية . ولكنها وجدت أخيرا أن أسلوبها هذا لا طائل تحته , فراحت تعذب جسدها حتى استطاعت أن تتغلب عليه . ورزقت طفلة فانصرفت إلى الحدب عليها, ومرض زوجها فانهمكت في العناية به , فساعدها كل ذلك على الانتصار على عاطفة جسدها المشبوبة .
وتتابعت الأعوام , فمات الزوج , ونمت الطفلة حتى باتت فتاة مكتملة النضوج . وجاء أخيرا من يخطب الفتاة فتم الاتفاق بين الأسرتين .
.. وراح الخطيب الشاب يتردد على دار خطيبته وأمها ترحب به أعظم الترحيب , حتى حل ذلك اليوم ... وكان الخطيب قد اختلى بخطيبته وداد في غرفتها , فدخلت عليهما الأم فجأة ورأته يقبلها . وهنا يتجلى إبداع الأستاذ سهيل : فقد استيقظت حينذاك غريزتها وشعرت بغيرة عمياء من ابنتها التي تتمتع بقبلات خطيبها الشاب الجميل . فانقضّت على ابنتها وأوسعتها لكما وضربا ورفسا . ثم تحولت إلى خطيبها سعيد فطردته من الدار شر طردة . وتكررت تلك الحادثة فضجر الخطيب وفسخ الخطبة أخيرا . وكانت وداد تحب خطيبها أعمق الحب , لذلك أدى بها خبر فسخه للخطوبة إلى الجنون . ولم يقتصر الأمر على إصابتها بالجنون , وإنما ألقت بنفسها في النهاية من شرفة الدار فتحطم جسدها .
وفي هذا الجزء من النقد سأمر على القصص الأخرى مرا سريعا :
ففي قصة "راحة الضمير" صوّر المؤلف العاطفة النقية البريئة ... عاطفة تلك القروية الساذجة التي أحبت ربيب بيروت , ولكن قسوة قلبه صرفته عنها فتناولت أبسط السبل إليها للتعبير عن خيبتها في حبها وتأثير تلك الخيبة في نفسها , وهو الإنتحار .
ولغة هذه القصة كانت أرقى من لغة باقي القصص وكانت مليئة بأوصاف رائعة للمناظر الطبيعية تسحر اللب وتنتزع الإعجاب .
وفي قصة "تفتح وردة" صوّر المؤلف عاطفة فتاة في مكتمل نضوجها قد تدافعت موجات الحنين عندها فصدق في تصوير إحساساتها , وساق لنا حادثة يتكرر وقوعها . ولولا أنه حلل هذه الناحية وعاود تحليلها كثيرا في أقاصيصه الأخرى لارتفعت القصة إلى مقام رفيع من الإبداع والطرافة .
وأما في قصة "تذكار ثورة" فقد رسم لنا صورة صادقة للوطنية الحقة متمثلة في بطلها "هاني" . وإنه لأسلوب رائع ذلك الذي اتبعه في قصته هذه لإيقاد الحماسة في قلوب شباب الوطن وللإهابة بهم إلى التضحية في سبيل البلاد .
وأما ما يتعلق بقصة "أمومة" فقد كانت تحمل روحا غير التي تحملها أقاصيصه الأخرى ... روحا تعتمد على المصادفات الشاذة والشبه العجيب بين شخص وآخر , وعندي أن أمثال هذه القصص تبتعد بمؤلفها عن الواقع وتشذ به عن الحقيقة . ولا يجدر بقصاص مقتدر أن يعتمد عليها لأنها تفسد فنه . ولولا أن قصة "أمومة" تعتمد على مثل تلك المصادفات في تشابه شخصين كل المشابهة وهما لا يمتان بأحدهما إلى صلة , لكانت القصة في المرتبة الأولى من القصص التحليلية , لأنه برع في تصوير عاطفة الأمومة أعظم البراعة وأجاد كل الإجادة .
ومما أؤاخذ عليه المؤلف في قصته" نداء الأعماق" الصورة التي تم بها تعرف ليلى بـ"يوسف" . فليلى فتاة متزمتة قد آلت على نفسها ألا تتعرف بأي شاب لئلا يفسد طهرها . فكيف يمكن ليوسف أن يذهب بها إلى داره في مدة قصيرة لا تتعدى إلقاء السلام ؟ ففتاة تحمل تلك العقيدة كليلى لا تصاد بهذه السهولة . ولكن هذه النقطة الضعيفة لا تمنعني من الاعتراف بأن حوادث القصة الأخرى ونهايتها كانت على جانب كبير من الروعة والانسجام , ولم يكن فيها شيء لم يوفق الكاتب فيه غير بدايتها .
وأما قصة "هي وكلبها" فلست أود التحدث عنها , لأنها ـ بعبارة مختصرة ـ غلطة من غلطات المؤلف 0فقد شاء أن يصور لنا عاطفة الحيوانات ـ عاطفة كلب ـ فتخبط من أجل ذلك في موضوع تافه , وسجل قصة تحمل اسمه , ولست أدري هل قلد الأستاذ سهيل أسلوبا غربيا من حيث تحليل نفسيات الحيوانات , أم أراد أن يمزج بين العلم والأدب فأتحفنا بدرس عن نفسية الكلاب ..!!
وأود أن ألفت نظر القارئ ـ قبل أن أختم النقد ـ إلى أن اللغة التي سجل بها الأستاذ سهيل أقاصيصه لغة على نصيب وافر من الرشاقة والجمال , إلا أنه استعمل بكثرة لفظة "أنحى" حتى كان بعض الأحيان يكررها بضع مرات في القصة الواحدة . وهي لفظة لا تلائم إسلوبا قصصيا رشيقا كأسلوبه , كما أنه استعمل بكثرة أيضا كلمة "زعيم" بمعنى "كفيل" , ونصيب هذه اللفظة من النجاح في فن القصة كنصيب أختها . على أنه ابتدع كذلك عبارات تنتزع الإعجاب انتزاعا .
ولا يسعني أخيرا إلا أن أقول أن مجموعة "أشواق" نصر كبير للقصة اللبنانية .





فن القصص( )
تأليف : الأستاذ محمود تيمور
اعتاد الأستاذ محمود تيمور أن يطلع علينا بين فترة وأخرى بمؤلف قصصي قيم يحلل فيه أدواء المجتمع المصري , أو يغوص فيه في أعماق النفس البشرية يكشف لنا عن أسرارها . غير أنه لم يتحفنا بكتابه الجديد "فن القصص" بمؤلف قصصي بل ببحث عن الفن القصصي .
وقد أصدرت الكتاب مجلة "الشرق الجديد" في عدد خاص من أعدادها , وقدّم له المؤلف بمقدمة ممتازة عن مشكلة اللغة العربية وذيّله بنخبة من أحدث أقاصيصه .
فأما المقدمة فقد بحث فيها الأستاذ تيمور في موضوع اللغة العربية بحثا مستفيضا . وملخص رأيه أن اللغة العربية لن تموت ما دام هناك قرآن وما دامت الأمة العربية حية ـ وهو يرد بهذا على تلك الطائفة التي دعت إلى كتابة اللغة العربية بالأحرف اللاتينية لتكون لغة حية ـ وفي الوقت ذاته عرض علينا خطة من شأنها تقريب الفصحى من العامية , وقد رمى من ذلك إلى جعل اللغة العربية لغة كلام وكتابة لتظل حية , وشأنها شأن اللغات الغربية الآن كالإنجليزية والفرنسية والألمانية وغيرها , التي تستخدم في ذات الوقت للكلام والكتابة .
وإني أسوق للقارئ ملخص تلك الخطة ليحكم بنفسه على صلاحيتها للغرض الذي اختطت من أجله :
أولاً : تنمية اللغة , وذلك بإحياء القديم من الألفاظ .
ثانيا : تبسيط اللغة , وذلك بهجر ما غرب من الكلام .
ثالثا : تيسير النحو , وذلك بالإبقاء على الجوهري من القواعد وهجر ما لا يتماشى والتطور الحديث للغة .
رابعا : تعميم الضبط وذلك بإشكال جميع الكلمات .
تلكم ملخص المقدمة التي ما نكاد نفرغ من قراءتها حتى نأتي على الحديث عن الفن القصصي الذي يسبقه المؤلف بتوطئة فلسفية عامة .
وقد رغب أن يبرهن لنا على أن النزعة المسيطرة على الوجود هي النزعة الخيرة , فتوفق في مراده كل التوفيق . فقد برهن لنا أولا على أن عاطفة الحب متعلقة بالجمال وأن الجمال متعلق بالفن وأن الفن ذاته خير 0 ثم انتقل بنا إلى البرهنة على أن كلما في الكون من كائنات فني في صنعه , فتوصل إلى أن (النزعة المسيطرة على الوجود هي النزعة الخيرة0 وهكذا أقنعنا أن نفسه أمّارة بالخير وأن نزعته إنسانية سامية .
وينتقل بنا المؤلف ـ بعد التوطئة ـ إلى البحث في نشوء القصة , وقصص العرب والقصص المصري الحديث . ثم ينساق بنا إلى تحديد نوع القصة الفنية وغير الفنية , فيسم القصة غير الفنية بالتجافي عن الصدق والواقع .
فهو إذن أديب مخلص لا مهرج ثرثار . إذ ما من شك أن الأمة المصرية في أمس الحاجة اليوم إلى أديب يصور لها واقع حالها الذي تتخبط فيه لتتيقظ وتشعر لعلها تتوثب بخطوات أوسع إلى الإصلاح , لا إلى أديب يلهيها بثرثرة لا طائل تحتها .
أما القصص الفني فقد بدأ بتقسيمه إلى أربعة أنواع : أولها الأقصوصة وثانيها القصة وثالثها الرواية ورابعها الحكاية , وقد شرح كل نوع من تلك الأنواع وذكر لنا مميزاته . ثم أورد لنا العوامل التي تمتاز بها القصة الفنية0 وقد أصاب في هدفه من النجاح قسطا وفيرا .
أما تلك العوامل فتتلخص فيما يلي :
1-ملاحظة الوحدة الفنية للقصة , وذلك بإبراز الفكرة الأساسية .
2-رعاية جانب التلميح في شرح الموضوع .
3-العناية برسم الشخصية والبراعة بالتحليل النفسي .
4-إظهار حيوية شخصيات القصة .
5-ستمداد القصة من الواقع المحيط بالمؤلف أو من صميم النفس البشرية .
6-البعد بالقصة عن قالب الموعظة والحكمة .
7-عدم خلو القصة من عنصر التشويق .
8-العناية باللغة والأسلوب .
والأستاذ تيمور يؤكد لنا أن نصيب القصة من مشكلات الواقع يحتل موقعا كبيرا جدا لديه 0 فهو يفسر لنا إنتاج القاص بأنه (يتأثر بالمجتمع الذي يعيش فيه فيترجم عن هذا التأثر ـ قبل أن يحسه سواه ـ بعمل قصصي .)
وينتقل بنا الأستاذ تيمور ـ بعد الحديث عن القصة ـ إلى الحديث عن المسرح والسينما , فيلوم أولئك الذين يقدمون للشعب تسلية رخيصة , ويقرر بأنه لا بد للقصة المسرحية أو السينمائية من فكرة ومعنى ومرمى . والحقيقة أننا أصبحن نرى على الشاشة البيضاء في الأفلام المصرية ـ ولست أدري ماذا يرى المصريون على مسارحهم ـ صورا من الحوادث والأحاديث لا أدري كيف يطلق عليها اسم رواية ! والذنب كل الذنب يعود على المنتجين , أولئك الذين اندفعوا وراء الربح اندفاعا أعمى بصائرهم 0 فانطلقوا ينتجون الأفلام التافهة الحافلة بالأحداث المكررة السخيفة غير مبالين بذوق الجمهور أن يفسد لكثرة ما يسمع من أغان لا تمت إلى فن الغناء بصلة ولوفرة ما يرى من الرقص الخليع .. والمناظر المزعجة الأخرى !! فما أجدرهم بأخذ نصائح تيمور ليخدموا الفن والوطن.
وقد حضّ الأستاذ تيمور كذلك أرباب المسرح والسينما على التقليل من اقتباس الرواية الغربية وإيثار الرواية المصرية المبتكرة . وأرفق رأيه ببرهان مقنع جدا . فقال بأن:" الرواية المقتبسة رواية مؤلف أجنبي بعيد عن العقلية الشرقية والطابع الوطني بتقاليده وعاداته وخصائصه ."
وقد فضل تيمور كذلك في لغة المسرح والسينما العامية على الفصحى واستثنى من ذلك الرواية المترجمة أو المؤلفة للقراءة والمسرحية التاريخية التي تصور عصرا من العصور .
ولا شك أن القارئ يتفق معي على أن تفضيل تيمور العامية على الفصحى في الرواية المسرحية أو السينمائية ـ فيما عدا ما ذكر ـ أمر بديهي . فالمسرحية أو القصة السينمائية كتبت لتلقى على مسامع الجمهور . لذلك فإنها إذا ما كتبت بلغة يصعب عليه فهمها فشل المؤلف في إيصال الغرض من روايته ... وبذلك يذهب جهده في تأليف الرواية هباء .
ومن البحوث التي احتوى عليها هذا الكتاب القيم بحث كتب تحت عنوان (شخصية الفنان) . وفيه كشف لنا تيمور عن شخصية الفنان الذي قد يتصوره القارئ أنه أرقى من مستوى الإنسان العادي ـ فيستنكر صدور بعض الهفوات منه , في حين لا يستنكر صدورها من الشخص العادي ـ ويفهمنا أنه لن يكون الفنان كذلك إلا في حالة (الإستيحاء) . وأنه (حين يخرج من بيئة الإلهام ويمضي لطيه تهيمن عليه نزعاته الذاتية وتسيره أهواؤه النفسية . )
وفي البحث التالي يشرح لنا تيمور عوامل النجاح في تنشئة القاص فيجيد الشرح 0 ويسدي إلينا درسا من أفيد الدروس في كتابة القصة . ومما لا ريب فيه أن ذلك الدرس المفيد مقتبس عن حكمة وتجربة ومران طويل . ورغبة منا في أن نكمل فائدة القارئ نجمل له بعض من تلك النقاط فيما يلي :
أولا : وقوف الناشئ على كثير مما كتبه النقاد الذين تناولوا أهم الآثار القصصية وتحدثوا في مذاهب القصة شرحا وموازنة .
ثانيا : تخيره لقصة من القصص يقرأها قراءة عابرة ثم ينسخها ويعاود تلاوة النسخة بإمعان , ثم يتركها بضعة أيام ويحاول بعدها أن يسجلها كفكرة جديدة مرت بخاطره .
ثالثا : توسيع مداركه بالإطلاع الدائب على شتى مناحي الثقافة والمعرفة مع مطالعة الصحف اليومية واقتحام معتركها ليستفيد من تجاربها .
رابعا : عليه بالمران الطويل المصحوب بعدم التسرع والاستيئاس .
ويختم الأستاذ تيمور بحثه المستفيض عن الفن القصصي بكلمة موجزة عن مستقبل القصة . فيؤكد لنا أنها ستكون ـ بعد أن خمدت نار الحرب الكبرى: " صفحة تختلج فيها مظاهر الروح الجديدة " .
أما القصص التي ذيل بها الكتاب فكانت بالغة الروعة . فالقصتان الأوليتان هما قطعتان من الأدب الزاخر بالحيوية الذي نلمسه باستمرار في محيطنا وهما "على المشنقة" و "إحسان لله" . والقصة الثالثة أسطورة فرعونية رائعة قصد من ورائها المؤلف غرضا من أسمى الأغراض لا أظنه يخفي على قارئها .
وبعد فكل هذا سجله لنا أستاذنا تيمور بأسلوب لين ساحر , ذلك الأسلوب السهل الذي يبدع فيه تيمور أيما إبداع !! ولا شك أن كل قارئ يدرك بأن هذا الكتاب هو أول كتاب من نوعه يبحث في الفن القصصي في اللغة العربية . وفي الوقت نفسه فمؤلفه يعد بحق رائد القصة العربية وعميدها .



ملاحظات نقدية ( )
اطلعت على المقالات التي نشرها الأستاذ جاسم محمد الرجب في هذه الصحيفة والتي كانت نقدا لكتاب (نهضة العراق الأدبية في القرن التاسع عشر ) تأليف الدكتور محمد مهدي البصير أستاذ الأدب العربي في دار المعلمين العالية .
ولا أريد التعرض في هذا المقال القصير إلى كتاب الدكتور البصير كما لا أريد أن أناقش الأستاذ الرجب في صحة النقاط التي ذكرها أو عدمه , وقد أفعل ذلك في فرصة أخرى . ولكن ما أريد بيانه الآن هو بعض الملاحظات عن الأسلوب الذي اتبعه الأستاذ الرجب في نقد الكتاب المذكور .
والواقع أنه كان أسلوبا غير علمي وفيه كثير من العواطف والانفعالات التي ما كنت أتوقع أن يقع فيها ؛ لأن مثل ذلك الأسلوب لا يتفق والصفة العلمية التي أكد عليها الأستاذ نفسه في مقالاته . هذا إلى أنه يؤدي في النهاية إلى إساءة سمعة من يتبعه . وهذا ما لا نرضاه لصديقنا الأستاذ الرجب .
ولبيان ما ركن إليه الأستاذ الرجب من أسلوب ينافي الصفة العلمية القويمة أقتطف من مقالاته تلك العبارات التي يشم القارئ منها روح العداء التي كمنت في نفسه ـ كما يبدو ـ تجاه الدكتور البصير والتي كان يجب أن يحول دون ظهورها حبه للنقد النزيه وولعه بالبحث العلمي الدقيق . وهاكم بعض من تلك العبارات :
( -ولا بد أن يكون قد أرضى أستاذيته في دار المعلمين العالية ومنهج الدراسة والبحث في جامعة مونبليه .
-وهذا خلط لا يجرؤ عليه أجهل الناس .
-أفلا تعجب معي أيها القارئ من أستاذ في مدرسة عالية يخرج بهذه النتائج العمياء ؟! أما أنا فأستهزئ بطالب في المتوسطة يقول بمثل هذا دون أن أتهجم أو أبالغ!
-لا أدري كيف استجاز لنفسه أن يتخبط بمثل هذه النتائج ...
-وهل هناك إنسان له شيء من ذوق يرجح الحبوبي على ابن أبي ربيعة مثلا والسيد حيدر على جميل بثينة والتميمي على كثير أو جرير ؟ لقد قال أولو الذوق والمعرفة بالشعر بأن شعر العصر الثاني أعذب الشعر وأصفاه , ولكن الدكتور لا يدري , فماذا نصنع معه ؟! وأنا واثق لو أن الحبوبي وحيدر والتميمي سمعوا مثل هذا الجهل لضحكوا منه واستهزؤا به .
-لأن الدكتور لا يفهم شعر حمادي ولا يفهم شعر ابن الفارض طبعا ... على أن الدكتور لم يخلق ليبحث أو على الأقل لم يخلق ليبحث كما يبحث أستاذ أو طالب في مدرسة عالية , وإنما خلق ليبهر العامة وأشباه العوام وإن كان أستاذ الأدب في العراق , فكم من شيء عندنا وضعناه في غير محله ؟
-كل هذا يبرهن للقارئ على أن الدكتور لا يفهم الشعر ولا يدري ما هو ) .
هذه عبارات مقتضبة اقتبسناها من مقالات الأستاذ الرجب . والخلاصة التي ينتهي إليها القارئ من هذه العبارات هي أن الأستاذ الناقد جرد الدكتور البصير من المعرفة والذوق والقدرة على البحث والتمييز بين الأشياء الصحيحة وغير الصحيحة . واتهمه بالخلط ووضعه في موضع يقل عن الموضع الذي يحتله طالب متوسطة . فهل صحيح حقا كل هذا الذي اتهم به الدكتور الأستاذ الرجب ؟!
هذا سؤال لا يحق لي الجواب عنه وأهيب بالقارئ الذي قد يدفعه الإخلاص إلى التنقيب عن آثار الدكتور الأدبية ـ من شعر ونثر ـليتوصل بنفسه إلى الحكم الصحيح .لكنني لابد أن أشير إلى أن الدكتور البصير قد أرّخ للأدب العربي بما يقارب العشرين كتابا بدآ بكتاب "بعث الشعر الجاهلي" وانتهاء بكتاب "نهضة العراق الأدبية في القرن التاسع عشر" 0 وله أيضا خمسة دواوين شعرية من أروعها ديوان"البركان"0 وإني لأتساءل ما عدد مؤلفات الأستاذ الرجب الأدبية يا ترى؟
و أود أن ألفت نظر الأستاذ الرجب مرة أخرى إلى هذا الأسلوب الخاطئ في النقد , فهو علاوة على كونه ل يتلاءم مع الروح العلمية فإنه ينافي الضمير والوجدان .
فمما لا ريب فيه أن مهمة الناقد مهمة خطيرة , إذ عليه أن يضع الكتاب في ميزان الحق والعدالة ؛ وعلى ضوء ذلك يصدر أحكامه بعد مراجعتها مرات ومرات ليثق من صدقها ومطابقتها للحق والواقع , وبذلك يكون قد أدى ما عليه من واجب تجاه الأمانة الأدبية . أما أن يتناول الكتاب وغرضه قبل كل شيء تحطيم شخصية مؤلفه بوصمه بالجهالة وفساد الذوق والخلط والخ , فهذا ما لا تقره قوانين النقد الصحيح المبني على النزاهة .
والحقيقة أن الناقد إن كان مخلصا في نقده عمد إلى إيضاح نقاط القوة والضعف في الكتاب ـ مع البرهان على رأيه ـ ليخرج أخيرا برأي نهائي بعد موازنة تلك النقاط فيما إذا كان الكتاب يستحق التقدير أم لا .. لا أن يفعل ما فعل الأستاذ الرجب بذكر مواطن الضعف فقط أو بالأحرى الإشارة إليها دون البرهنة عليها مهملا نقاط القوة ثم الخروج برأي في النهاية لا سند له سوى كلمات الشتائم للحط من قيمة المؤلف .
كما أود أن أذكر نقطة أخرى أيضا فيما يخص تفضيل الدكتور البصير أولئك الشعراء على الشعراء القدامى . فقد كان الأجدر بالأستاذ الرجب أن ينتقي قصائد من شعر الطرفين ثم يبين مواطن الضعف والقوة فيها ليستطيع أن يحكم أخيرا لهذا الشاعر على ذاك . لا أن يكتفي بالقول بأن أولو الذوق والمعرفة بالشعر قد قالوا بأن شعر العصر الثاني أعذب الشعر وأصفاه ؛ وبأن الحبوبي وحيدر و التميمي لو سمعوا مثل ذلك الجهل لضحكوا من الدكتور واستهزؤا به , ثم الحكم أخيرا بأنه ليس للبصير أي شيء من ذوق أدبي . فالواقع أنه ليس في كل هذا أي برهان على أن شعراء العصر الثاني أفضل من الشعراء الذين ذكرهم الدكتور ! وحتى لو سلمنا بذلك جدلا فإن ذلك لا يعني أن يجرد الأستاذ الرجب الدكتور البصير من الذوق بل كان باستطاعته الاكتفاء بإظهار تلك الحقيقة بأسلوب علمي . فمن حق أستاذ وشاعر كبير كالبصير أن يكون له رأيه الخاص في الشعر .
ولكن الأستاذ الرجب على ما يبدو قد تبنى لنفسه خطة التهديم والتخريب . ولا أدري ما معنى هذا التطرف وما عسى أن تنفع هذه الخطة في مرحلة نحن أحوج ما نكون فيها إلى أسلوب اللين في الهداية والإرشاد .











كتابات اجتماعية



















بحث في السجون ( )
في الواقع أن هذه الصفحات القلائل التي سأعرض فيها لمشكلة السجون لا تفي بحق ذلك الموضوع المتشعب الأطراف المتوزع النواحي ... ولكنها وقفات قلم تعبر بإيجاز واقتضاب عن تلك المشكلة . ومما لا شك فيه أننا عندما نرسم هذه الصورة للسجن النموذجي فلا نفعل ذلك من أجل المتعة , وإنما نطالب المسؤولين بتنفيذ بعض ما نورده من الأسس التي يمكن تطبيقها في هذه المرحلة . وقبل أن أخوض في هذا البحث أود أن أقدم له بمقدمة قصيرة عن نشأة السجون 0
كيف نشأت السجون ؟
كان البشر في فوضى عامة قبل أن تنظم الحكومات وكان الشخص إذا اعتدى على الآخر فلا أحد يعاقبه على ذلك الاعتداء ما لم يعاقبه الشخص نفسه . وإذن فللشخص القوي وحده حق الاعتداء أما الضعيف فليس له أن يفعل ذلك لأن للقوي قدرة على الوقوف في وجهه . ولما تحضر البشر شعروا بحاجة ملحة إلى جماعة منظمة منهم تدير شؤونهم وتنقذهم من تلك الفوضى .وإذن فلا بد لتلك الجماعة المنظمة التي دعيت باسم "الحكومة" أن تضرب على أيدي المعتدين وتوقف حدا لاعتداءاتهم وهكذا فقد راحت الحكومة تجرب شتى الأساليب لعقاب المجرمين ـ وأقصد بهم المعتدين ـ فاستخدمت أول ما استخدمت العصي للتعذيب . والحقيقة هي أن العصي كانت أقرب شيء عقابي لعقل الإنسان 0 ولكن لما حينما ظهر أن ذلك الأسلوب لا ينجح تمام النجاح اخترعت طريقة أخرى للتأديب وهي السجن .
فنرى من هذا إذن أن الفكرة التي بنيت عليها السجون هي الفكرة العقابية .
كيف تطورت فكرة السجن ؟
لقد كانت السجون القديمة بطبيعة الحال سجونا غاية في الرداءة , لأن هذا يتفق والفكرة العقابية التي أنشأت من أجلها . ولذلك كانت الحكومات قديما تتباهى بضخامة سجونها ومناعتها 0 فكان هناك سجن الباستيل والتامبل في فرنسا اللذان كانت غرفهما غاية في الضيق وانعدام الشروط الصحية . فإن لم يمت السجين في مثل هذه السجون من رداءة الطعام والملبس وسوء المعاملة فإنه يموت من رداءة وضعها الصحي .
قلت إن وضع تلك السجون كان يتفق والفكرة العقابية التي أنشأت من أجلها . وبما أن الحضارة قد أصابت من التقدم شأوا بعيدا ؛ ولذلك فإن الفكر الإنساني لم يبق يغض الطرف عن سوء المعاملة التي ينالها هؤلاء المعتدون لأنه أدرك أنهم لا ذنب لهم في ذلك الاعتداء وإنما هو ذنب العوامل الطبيعية والاجتماعية متجمعة : من حاجة إلى عادة إلى عاطفة .
وقد رأت الحكومات الصالحة أن الفكرة العقابية تجاه السجن فكرة مغلوطة . وعلى هذا فقد رأت أن من واجبها إصلاح البيئة الاجتماعية لكي يتلاشى الإجرام . ولكي تنقذ هذه الحكومات الصالحة المجرمين عملت جهودها لتوفر في السجن الراحة للسجين . ولهذا ترى السجون اليوم في أميركا والدول الأوربية وبعض البلاد المتمدنة الأخرى مشيدة على أسس صحية تكفل للمسجونين حياة طيبة بين جدران غرف صحية مزودة بوسائل الراحة . وفي هذه السجون يدرس السجين شتى العلوم ويتقن مختلف الحرف والصناعات وتحل عقده النفسية التي تسوقه إلى الإجرام . ومن هنا تحولت الفكرة العقابية إلى فكرة إصلاحية ولكن هذه الفكرة الإصلاحية لم تتبع إلا في بعض الأمم التي قطعت شوطا بعيدا في ميدان الحضارة .
وعلى أية حال فإن الفكرة العقابية لا زالت مطبقة في سجوننا , ولذلك نرى بناياته من أسوء البنايات , وكذلك الطعام واللباس والمعاملة ... وجميع النواحي التثقيفية الأخرى التي تمس صميم حياة السجين .
السجن النموذجي الذي نريده :
قلت في مكان آخر من هذا المقال أن وجود السجن أولا وآخر يدل على خلل في النظام السياسي والاجتماعي في البلاد ولكن ذلك لا يعني ترك السجون على ما هي عليه من مساوئ 0ولذلك فإن على الحكومة الصالحة أن تدخل على السجن الإصلاحات اللازمة التي توفر للسجين الراحة وتكفل له عدم العودة إلى ارتكاب الجرائم .
وإصلاح السجن يجب أن يتناول جميع النواحي : من إصلاح ثقافي , إلى اجتماعي, إلى صحي .
أولا : الإصلاح الثقافي :
مما لا ريب فيه أن معظم المجرمين الذين يدخلون السجون أميوّن 0ومما لا ريب فيه أيضا أن للثقافة باعا طولى في تهذيب الشخص وصقل نفسه , وعلى ذلك يلزم أن تحتل الثقافة مكانها اللائق في السجن لتصقل وتهذب نفوس المجرمين . ولكننا نرى أن سجوننا لا تعيرها أي اهتمام . أنا لا أقول أن سجوننا خالية من التعليم خلوا تاما فالحقيقة أن هناك في كل سجن بضعة معلمين لهم راتب شهري زهيد جدا , كما أن هناك لوحة يستعملها أولئك المعلمون للكتابة وطباشير يكتبون به .. ! ولكن الذي يجدر ذكره أن هؤلاء المسجونين التلاميذ لا يتمتعون بما يتمتع به التلاميذ العاديون من مقاعد دراسية وما شابه ذلك وإنما يتربعون على الأرض في وقت الدراسة0 وهذا لاشك امتياز خاص حظي به هؤلاء المحظوظون لم يحظ به التلاميذ الآخرون ! أما الدراسة فتقتصر على الابتدائية ؛ فهم يتعلمون الكتابة والقراءة ومبادئ الحساب وشيئا من الجغرافية والتاريخ 00 ذلك كل ما يتعلمونه !! فهل يكفي هذا يا ترى لتثقيفهم الثقافة بمعناها الصحيح ؟ كلا بالطبع فنحن لا نقصد بكلمة" تثقيفهم" تعليمهم مبادئ القراءة والكتابة فحسب بل نقصد تزويدهم بالعلوم التي يدرسها سائر التلاميذ في المدارس الثانوية وكذلك إنشاء بعض المعاهد التقنية . فالمحكوم عليه بخمسة أو ستة عشر عاما يمكنه أن يخرج من السجن حاملا شهادة تقنية فيكون بذلك عضوا فعالا في المجتمع بدلا من أن يكون مشلولا .
كيف ننمي الثقافة بين السجناء ؟
ولكي نساعد على تشجيع السجناء ثقافيا يجب السماح لهم بإصدار نشرات وجرائد ثقافية , فتلك النشرات وهذه الجرائد تكون لسانا لحالهم يعرضون فيها مشاكلهم ويبسطون شكواهم , هذا إلى أنها تشجع فيهم روح الكتابة والبحث العلمي بما ينشر فيها من مقالات علمية وأدبية . وبالإضافة إلى كل ذلك يلزم تزويدهم بمكتبة تحوي شتى الكتب من علمية وأدبية واجتماعية لتنمو ثقافتهم . كما يلزم أن تشترك هذه المكتبة أيضا في المجلات والجرائد والنشرات العلمية والأدبية والسياسية ليطلعوا على ما يدور خارج عالمهم من حوادث سياسية وأخبار أدبية واكتشافات علمية . فبواسطة هذه الكتب وتلك الجرائد والمجلات يكونون على اتصال دائم بالعالم الذي حرموا منه .
والنقطة التي لا سبيل إلى إهمالها في هذه الحالة هي تأليف لجان منهم لإدارة الأمور التثقيفية وما يتصل بها من الأمور الأخرى عن قرب أو بعد , كأن تؤلف مثلا لجنة لإدارة المكتبة وأخرى لإصدار النشرات وثالثة لتحرير مجلة أو جريدة ورابعة لتنظيم محاضرات تلقى من قبل المسجونين أنفسهم أو من قبل بعض الشخصيات ذات المكانة الأدبية أو العلمية بدعوة من اللجنة نفسها . كأن تدعو ـ على سبيل المثال ـ أحد الأطباء النفسيين لإلقاء محاضرة عن الجريمة وأسبابها والسبيل إلى الوقاية منها , والمجرم ودوافعه وكيفية القضاء على الجريمة،وتدعو عالما ليحدثهم عن الاكتشاف (الفلاني) وأديب رابع يحاضر لهم عن إحدى اتجاهات الأدب أو عن مذهب من مذاهبه أو عن إحدى شخصياته اللامعة , وهكذا..
لجنة الرياضة :
وتتصل بالشؤون التثقيفية الشؤون الرياضية . وللشؤون الرياضية خطر كبير إذ أن لها أكبر الأثر في فعاليات الجسم . ولهذا يجب أن يتاح المجال لمزاولة مختلف الألعاب كلعبة كرة الطائرة وكرة السلة وكرة القدم وكرة المنضدة , وشتى الألعاب والفعاليات الرياضية الأخرى . ولابد من تأليف لجان مختلفة لتلك الفعاليات , فلجنة للعبة كرة الطائرة وأخرى لكرة السلة وثالثة لكرة القدم ... وإلى آخره . وعلى تلك اللجان تنظيم الحفلات والمباريات : كأن يقام سباق في كرة الطائرة أو في الركض أو في القفز العالي أو القفز العريض أو غيره , ومن المعلوم أن لتلك الألعاب أكبر الأثر في صقل نفوسهم وتهذيبها ؛ وهي ولا شك تبعد شبح الجريمة عن أولئك الذين اعتادوا امتهانها.
الإصلاح الاجتماعي :
قلت إن السجن كان قد تأسس طبقا للنظرية العقابية ولكن هذه النظرية مخطوءة كما بينت فيجب ان نتعامل مع السجن إذن طبقا للنظرية الإصلاحية , ولبيان السبب في ذلك يجب أن أشرح بعض الحقائق عن دوافع المجرم .
دوافع المجرم :
هناك نظريتان في تحليل دوافع المجرم :
1- النظرية المادية : تقول هذه النظرية إن دوافع المجرم إلى الجريمة مسببة عن "العوز"0 فالمجرم الذي يسرق مثلا لا يقوم بتلك الجريمة لأنه مغرم بالسرقة ولأنه يجد فيها لذة , بل لأن الحاجة دفعته إلى ذلك التصرف . ومن ثمّ قد يعتاد على ذلك0فقسوة ظروفه إذن هي التي دفعته ليس بمجرم بالفطرة بل هي إلى الإجرام 0 وتترتب على هذه النظرية النظرية الإصلاحية . فبما أن الظروف المحيطة بذلك المجرم قد دفعته إلى الإجرام فيجب إصلاح هذه الظروف لينصلح المجرم , إذ أن الذنب ليس ذنبه ويجب الرفق به.
2- النظرية النفسية : أما هذه النظرية فتنفي تأثير الظروف المادية التي تحيط بالمجرم وتقول أن هناك عقدا نفسية لدى المجرم تبلورت خلال حياته وتربيته هي التي تدفعه إلى الإجرام , وعلى هذا يجب أن نحل تلك العقد لينصلح المجرم0
والحقيقة أنني أثق بالنظرية المادية أكثر مما أثق بالنظرية النفسية , فتأثيرها في رأيي أشد من تأثير العقد النفسية عليه أو قل أعم .
وعلى أية حال فالذنب لا يقع على من تدفعه ظروفه أو عقده النفسية إلى الإجرام . ومن المحتم على "العدالة" أن تنبذ النظرية العقابية . بل هناك من المصلحين من يرفض عقوبة الإعدام حتى على مرتكبي جرائم القتل0
أنواع المجرمين :
ولا يقتصر الأمر على ما ذكرت فيما يخص المجرم , فهناك نوعان من المجرمين: مجرم بالصدفة ومجرم معتاد .
1- مجرم بالصدفة : فالمجرم بالصدفة مثاله الذي يقتل قريبة له بدافع أخلاقي , فهو حين يرتكب هذه الجريمة يعتقد بأنه يبتر عضوا فاسدا من أعضاء أسرته ولا يتعمد إراقة دماء نفس بريئة . فهذا المجرم يختلف عن المجرم الذي اعتاد على السرقة والقتل .
2- مجرم معتاد : ومهما يقال في شأن هذا المجرم المعتاد فهو يختلف عن المجرم بالصدفة , فقد اعتاد هذا المجرم السرقة أو القتل نتيجة الظروف السيئة التي أحاطت به أولا وأخيرا , أما المجرم بالصدفة فقد ارتكب الجريمة وهو واثق أنه قد قام بعمل حسن . إذن فالمجرم بالصدفة لا يتعمد جريمته بخلاف المجرم المعتاد .
وجوب تفرقتهما :
وبما أن الفرق بين طباع هذين المجرمين بعيدا البعد كله عن بعضهما بعضا0 فيجب فصل الأول عن الثاني , إذ قد ينتج عن اختلاطهما تأثير الأول على الثاني تأثيرا نفسيا وبذا يجره إلى حظيرته .
طبيعة السجن :
لقد تطرقت في بحث الإصلاح الثقافي إلى وجوب إنشاء مدارس ومعاهد لا تفيد من الناحية التثقيفية فقط بل تصحبها فائدة عملية أخرى هي خلق مهنة للسجن . ومما لا ريب فيه أن أكثر المجرمين المعتادين ليس لهم مهن , فإذا ما خرجوا من السجن فإنهم يعودون إلى ارتكاب السرقة والجرائم الأخرى كيما يقوّموا أودهم لعدم توفر مورد للرزق لهم , فإذن بتعليمنا لهم تلك المهن يمكنهم أن يكسبوا بواسطتها عيشهم عندما يغادرون السجن .
و يتبين للقارئ أن من المحتم على إدارة السجون أن تنشئ معملا للنجارة ـ مثلا ـ لتعلم المسجونين مهنة النجارة , وكذلك معملا للميكانيك والنسيج والزجاج والصناعات الأخرى .
ومما لا شك فيه أن السرقة ليست بالعمل الهين المريح , ولذلك فإن المجرم سيتركها إذا ما غادر السجن وهو متسلحا بمهنة من المهن . ولا جدال في أنه يفضل العمل الحر على السرقة والإجرام , إذ من الذي يود أن ينفق عمره بين أربعة جدران ؟!
الإصلاح الصحي :
في كل موسم نسمع بأن في السجن الفلاني قد تفشى مرض التيفوس أو التيفوئيد , وإلى آخره من هذه الأمراض الخطرة , وفي كل حين تخرج هذه الأمراض خارج السجن وتصيب خلقا كثيرا , فإذا ساءلنا أنفسنا عن سبب انتشار تلك الأمراض في السجون علمنا أن مرجعها إلى إهمال النظافة وسوء التغذية . فبناء السجن غير صحي , وهذا أمر مسلم به , أما فيما يخص النظافة فنتيجة لتحرياتي علمت أن المسجونين لا يستحمون في معظم السجون إلا كل ثلاثة أشهر مرة , بينما الواجب أن يستحموا كل أسبوع مرة ـ في الشتاء ـ وكل أسبوع مرتين على أقل تقدير في الصيف .
ونحن نعرف أن كثيرا من الأمراض تنشأ من القذارة . وحيث أن القذارة متوفرة في السجن , فالأمراض تجد لها مرتعا خصبا بين المسجونين . وهكذا نرى لكل موسم مرضه في السجن , حتى لقد بات السجن بؤرة الأمراض في بعض المدن . وبما أن نظام (القواويش) هو الذي يطبق في السجن فإن المرض ينتشر انتشارا سريعا بين المسجونين في أقل وقت , ثم ينتقل منهم إلى أهالي البلد .
نظام القواويش :
يشتمل السجن على بضعة قواويش (قاعات) حسب اتساعه و يكدس المسجونون يكدسون في هذه القواويش تكديسا , ولذلك ما يكاد أحد المسجونين يصاب بمرض حتى تنتقل العدوى إلى رفيقه . فماذا يجب أن نفعل لتلافي ذلك ؟
نظام العزل :
ولكي نتلافى ذلك النقص يجب أن نتبع نظام العزل , وإلا فمهما تتخذ من تدابير فإن الأمراض تستمر في انتشارها . ويكفي أن نتذكر أن مجرد رقاد الشخص جنب المصاب بمثل تلك الأمراض معناه سريان المرض إليه , أما عن طريق العطاس أو الكلام أو استخدام الأدوات المشتركة0 فنظام العزل إذن ألزم شيء إلى السجن .
تنظيم النظافة :
ومن الأمور التي تتصل بالإصلاح الصحي نشر النظافة،أي الاهتمام بنظافة القواويش ،و ضبط أوقات الاغتسال , والاهتمام بنظافة ملابس السجين0ويجب ان تستبدل بغيرها على الدوام لتحتفظ بأناقتها وجدتها ونظافتها0
إصلاح بنايات السجون : ومما صلة وثيقة بالصحة إصلاح بنايات السجون ، وينبغي أن تشيد غرف السجن على طراز صحي يكفل التهوية الصحية كما يجب العناية بنظافة الغرف والأدوات التي يستعملها السجين .
نظرة الحكومة إلى السجن :
لقد ذكرت أن الحكومة في بلادنا ترى في السجن وسيلة لعقاب المجرم , فهي تشغله طول النهار كأن لها ثأرا عنده تود أن تنتقم منه لأجله . هذا بالإضافة إلى أنها تقدم له من اللباس أخشنه ومن الطعام أسوأه0 أما المعاملة السيئة من قبل المسؤولين عن السجن فحدث عنها ولا حرج .
واجب الحكومة نحو السجن :
لابد للحكومة أن تكفل للسجين ما يلي :
أولا : أن تقدم له غرفا وأثاثا نظيفا كما بينا ذلك آنفا .
ثانيا : أن تعتني براحته عناية كلية , وكذلك أن تقدم له طعاما جيدا , أو طعاما يستسيغه الذوق .
ثالثا : أن تسمح بزيارة أقارب وأصدقاء السجين له , كما يجب أن تسمح بانفراد الأزواج بزوجاتهم .
رابعا :ضرورة محاربة ظاهرة الشذوذ الجنسي المتفشية في السجون وهي ظاهرة خطيرة تؤدي إلى الإخلال بالأخلاق العامة وتخلق من السجين شخصا مريضا بعد مغادرته السجن .
خامسا : أن يفحص الطبيب في كل أسبوع على الأقل المسجونين ويعالجهم وأن يمنح المرضى عطلة للترفيه عنهم .
سادسا : أن تعين الحكومة راتبا كافيا لأهل السجين الذي لا يعيل أسرته غيره .
وأخيرا :أما واجب الحكومة الأخير نحو السجن فهو أن تطرد منه من موظفيها أولئك الذين يتصرفون تصرفا مسيئا وأن تبدل الهيئة الانضباطية للسجن بآخرين من ذوي الكفاءة والثقافة .















مكانة المرأة في بلادنا ( )
أعتقد أن المرأة في هذا البلد المسكين أشقى من أي مخلوق آخر يسكن أرضه ويعيش تحت سمائه . ولا أقصد بهذا الكلام بنات الطبقات الأرستقراطية وزوجاتهم فإن الحرية التي حصل عليها أمثال أولئك النساء رفعتهن دركات عن مستوى المرأة العراقية العام . ولكني أقصد بنات وزوجات الطبقة المتوسطة والدنيا .
فأما مكانة المرأة في الطبقة الفقيرة فحدث عنها ولا حرج . وحسبك أن تتكلم مع رجل من تلك الطبقة فيأتي ذكر المرأة في حديثكما عرضا حتى ترى الرجل يسارع بتقديم كلمة "تكرم" قبل لفظ المرأة . بل إن الرجل منهم يخجل أن يورد لفظ "زوجتي" أو "امرأتي" ويرى أن العار في ذكر أمثال هذين اللفظين . ولذا فإنه يستعيض عنهما بلفظ ما أقبحه من لفظ هو كلمة "حرمتي" !
وأما نصيب الأخت فإنه أفضل من نصيب الزوجة من جهة الاحترام والتقدير . ومع ذلك فإن لفظ "الأخت" و "الشقيقة" لفظ وقح لا يستعمله إلا المتمدنون 0‍ وحسب الرجل تقديرا لها أن يستعيض عن ذينك اللفظين بلفظ "رضيعتي" ‍
وأما الابنة فقد حصلت على نصيب الزوجة والأخت من الحطة والإحتقار , وحسب الرجل احتراما لها أن يقول لك "عبدتك" عندما يرد في الحديث ذكر ابنته ‍
تلك هي مكانة المرأة عموما في بلادنا ليس لها غير الدار مقرا والاحتقار مكانة . وطالما فكرت في حالة المرأة في بلادنا وعجبت كيف لا يحرك أحد ساكنا لإصلاحها . أليس من الظلم أن تحرم المرأة من نور الشمس وبهجة الحياة في حين يتمتع بها الرجل بمفرده ؟ أليس من الإجحاف أن يقبع عقل المرأة في قوقعة من عظام لا ينفذ إليه شعاع من الثقافة والمعرفة في حين تفتح سبل التعليم أمام الرجل بأبوابها الواسعة ؟
.. تلك حقيقة ثابتة لا يرقى إليها شك . لن ترتقي البلاد ما لم تساهم المرأة بنصيبها في النهوض بها . ولن يتسنى للمرأة أن تشارك الرجل في ذلك ما لم تخرج من الدار ,وما لم تقبل على الدراسة والتثقيف . بل إني لأذهب إلى رأي أبعد غورا فأقول : إن الثقافة وحدها ليست كافية للتقدم بالمرأة في مدارج الرقي , ثقفوا المرأة , ولكن ما نفع الثقافة إذا حبست المرأة وراء جدران أربعة وحبست ثقافتها في قوقعة من عظام لا ميدان لها للتطبيق ؟ ولا شك أن القارئ الكريم يعلم أن الثقافة لا تستمد من الكتب وحدها وأن للحياة نصيبا وافرا في التثقيف , بل إنها مدرسة قائمة بذاتها . فإذا حرمت المرأة من ثقافة الحياة إلى جانب حرمانها من ثقافة الكتب فإن من غير الممكن بل من المستحيل أن تخطو البلاد شوطا بعيدا في ميدان التقدم والرقي . يجب أن نعلم المرأة الحياة . ولن يتسنى لنا ذلك إلا إذا علمنا الرجل احترام المرأة 0 ولن يتوفر لنا ذلك إلا إذا علمنا المرأة احترام الرجل لا الخوف منه . إن المرأة في ظرفنا الحاضر تنظر إلى الرجل كمارد جبار , وتعلم علم اليقين أن إطاعة أوامره فرض لازم عليها . فهي تطيع أوامره وتتجنب مخالفته لا لعلمها أن في طاعته مصلحة لها بل لثقتها بأنها تتعرض لبطشه إن جرؤت على تنكب الطريق الذي يرسمه لها . وعندي أن هذه النقطة هي البلاء الأول الذي جعل من المرأة ضعيفة النفس خاملة لا تؤدي واجبها كما يجب . فليس هناك عدو للنفس كالضعة0 وليس هناك محطم للشخصية كالاستعباد . وما دمنا نريد أن نستعبد المرأة فعلينا ألا نطمع في تنشئة جيل مهذب يقدر المسؤولية الملقاة على عاتقه تجاه بلاده . وعله ذلك واضح0 فالرجل ينفق معظم يومه في السوق أو الوظيفة مقبلا على القيام بمهام عيشه , في حين تترك المرأة في الدار تشرف على شؤونه وتقوم بتربية الأطفال . فما رأيك يا قارئي الكريم بامرأة تجمع كل صفات السوء من ضعة في النفس وسخف في التفكير وضيق في العقل وانحطاط في العادات وانعدام لأساليب التربية الصحيحة , تأخذ على عاتقها أجلّّ مهمة في المجتمع وهي تربية الطفل ؟ لا ريب أن الطفل ذا النفسية المتهيأة للتأثر بما يحيط بها من مؤثرات ستعتاد على صفات أهونها العادات الرديئة والعقلية الضيقة والجبن والضعة والخور وفقدان الشعور بعزة النفس والكرامة , إلى آخر ما هنالك من مقومات الشخصية الحقة التي يتصف بها الرجل الكامل .
وفي ظني أن كل فرد يعلم أن الجيل المهذب الكامل الصفات لا يتوفر للبلاد إلا إذا منحت المرأة الحرية الكافية في الحياة العملية كحرية اختيار الزوج، وإلا إذا تثقفت ثقافة صحيحة، وإلا إذا سمح لها بالخروج من دارها إلى نور الشمس لتتمتع بالحياة الزاهية ولتزاول شتى الأعمال مع الرجل جنبا إلى جنب وإلا إذا منحت المرأة حق الانتخاب وحق التمثيل , وإلا إذا تساوى الرجل والمرأة في جميع الحقوق والواجبات .
إن الرجل مهما رقت عواطفه ومهما اتصف بصفات الرحمة والإنسانية فإنه لن يحسّن حالة المرأة إلا قليلا ولن ينقذها من البؤس ما لم تحاول هي نفسها إنقاذ نفسها من ذلك الانحطاط . ولن يتسنى لها ذلك ما دامت تحت سيطرة الرجل الإقتصادية . فالاستقلال الاقتصادي هو الشرط الأول الذي ينبغي على المرأة أن تنشده إن شاءت أن تنهض بشؤونها نهضة حقة . وآنذاك لا يستطيع الرجل أن يصيح في وجهها :" أيتها الحقيرة .. امكثي في الدار حيث أنت حتى يوافيك الأجل فتدفني تحت الأتربة غير مأسوف عليك "!
أجل يجب أن تنال المرأة حقوقها كاملة 0فالألفاظ الرحيمة لن تنفعها على الإطلاق . وإن حديث الرجل عن المرأة بلهجة إنسانية رحيمة , وإن تباكي الكتّاب على حالة المرأة في بلادنا لن يغني فتيلا ما لم يخفّوا إلى إنشاء المرافق التي تهيء للمرأة سبل العيش , وما لم يمهدوا السبيل للأفكار العائمة في الجماجم إلى أن تأخذ مكانها من التطبيق . ولكن الرجل مهما أخلص لقضية المرأة فإنه لن يخلص إخلاص المرأة لها . وكم وددت لو قامت جريدة الطليعة الغراء بتوجيه الدعوة إلى المثقفات النابهات من النساء لتحرير هذا العدد الخطير بدلا من أن توجه الدعوة إلينا نحن الرجال من الكتاب , فلست أعتقد أن الإخلاص الذي سيعالج به الكتاب قضية المرأة والحلول التي يعرضونها لها هي عين الإخلاص والحلول التي تعرضها الكاتبات من النساء لو منحت لهن الفرصة.



على هامش الغناء
في البلاد العربية ( )
موضوع الغناء موضوع حيوي لما له من أثر محسوس في حياتنا . فنحن نستمع إليه كلما خلدنا إلى الراحة ليبعث البهجة في نفوسنا ويثير النشوة في قلوبنا . ولكن الغناء يجب أن لا يقتصر على إثارة البهجة , بل يجب أن يستخدم في التوجيه ويستغل استغلالا صالحا . وهذه نقطة لم يعرها أحد المطربين ـ إلا القلائل ـ اهتماما , إذ أننا نرى أن جلّ الأسطوانات والطقاطيق والأشرطة لا تتحدث إلا عن العشق والغرام والحب والهيام . وقد لا تلجأ الأغاني للتعبير عن هذا العشق في بعض الأحيان إلى اللغة المهذبة عندما تقصر هذه عن التعبير عن المعاني المقيتة , فتلجا إلى اللغة البذيئة !!
فالمطرب فريد الأطرش مثلا لا يجد مانعا من أن يذيع في أغنيات يسمعها آلاف الشبان والشابات أنه يزور عشيقته بعد منتصف الليل ليعبث وإياها . فيقول :
"أفوت عليك بعد نص الليل لما تنامي "!!
وحقا إنه توجيه جميل للشباب . ولا شك أنها نصيحة مشكورة تلك التي يسديها فريد الأطرش للعشاق في أن "يفوتوا" على عشيقاتهم بعد "نص الليل" عندما يتهيأن للنوم!!
أما محمد عبد الوهاب ( ) فتمتلئ أغانيه بالمغالطات ... فبينما يغرق الفلاح المصري إلى أذنيه في البؤس والشقاء , يرفع صوته عاليا قائلا :
" محلاها عيشة الفلاح مطمئن وقلبه مرتاح"!!
حقا إنها سعادة تلك التي يتمتع بها الفلاح المسكين هذا الذي ابتلى بحشرات آدمية تمتص دماءه , وأخرى تضج بترديد أساطير وخرافات عن سعادته الموهومة !
ثم ما أعظم عبد الوهاب عندما يغني أغنية (يا دنيا يا غرامي!)00 هذه الأغنية التي إن دلت على شيء فإنما تدل على توجيه غاية في السوء وأقصد به توجيه الشباب إلى حياة اللهو والعبث وصرفهم عن حياة الجد , فاستمع إليه يقول :
"اشرب كاس التهاني
وارقص على الأغاني
ده بكره كل فاني
يا دنيا كلها فاني" ؟!
فلا تكافح في ميدان الحياة أيها الشاب , فالكفاح لا يجدي نفعا , لأن كل شيء سيفنى غدا . ولا تدع فرصة اللهو تفوتك فالدنيا كلها فانية . وعلى غرار تينك الأغنيتين تستطرد أغاني محمد عبد الوهاب ليس بينها أغنية ترمي إلى معنى سام أو غرض نبيل يخدم الأمة والوطن ويوجه المجتمع توجيها صحيحا اللهم إلا أغنية "دمشق" التي لحنها في أيام ثورة الشقيقتين سوريا ولبنان على المستعمر الطاغي , وأغاني قليلة أخرى .
أما الآنسة أم كلثوم فبالرغم من أنها تسبح دائما في بحر الغرام المتلاطم إلا أن لها بعض الأغاني الوطنية أمثال أغنية "يا شباب النيل" وأغنية "فرحة الشوق" وغيرهما . ومهما يكن الأمر فإن أم كلثوم لم تؤد حق الوطن عليها بقدر ما أدت ما للغرام من حق عليها...
ويظهر أن الشاغل الوحيد لمطربينا ومطرباتنا هو الغرام كأن لا شعب هناك يعاني ألم الجوع والحرمان والاستبداد والطغيان .. وكأن بلادنا العربية لا ترزح تحت نير الاستعمار وواجبنا الأول سحقه .
وإني أسألهم : ألدينا الفراغ الكافي لنشغل بالحب والحب وحده , على حد تعبير محمد عبد الوهاب عندما يقول : "الحياة الحب والحب الحياة" .. وهل بلغت درجة انشغالنا به حدا لا يمكن عنده أن ننساه ـ أو نتناساه على الأقل ؟!
هذا في مصر . أما في العراق فالمطربة سليمة مراد تعاني أقسى الآلام ـ ويا لها من مسكينة ـ لأن عشيقها قد هجرها . فتقول مخاطبة إياه :
"آه لو تدري بحالي جان حن كلبك علي وصفا لي"
والواقع أن كل مغنية لدينا لا تخاطب إلا عشيقها عندما تقف أمام "الميكرفون" . فهذه مطربة مسكينة أخرى تعنف عشيقها لأنه خانها فتقول :
"ياحيف ضيعت التعب ما ينفع وياك العتب"
"هجرك على الكصة انكتب يا حيف ضيعت التعب"
"إلمن أشتكي هجرك وأنت بالهجر ظالم
مجبور امتثل أمرك كتلي بالعشك راحم "
وهكذا نرى أن خطاب مطرباتنا موجه إلى عشاقهن دائما .
ونعود إلى الغناء في سوريا ولبنان وفلسطين فنقف معجبين بمطربيهم ومطرباتهم. ومهما يقال عن كثرة أغانيهم في العشق والغرام فإن لهم جولات مشكورة في ميدان الوطنية . فهذا الأستاذ سلامة الأغواني يخاطب رجال سوريا طالبا منهم التكتل ضد المستعمر وترك التنافر والتضارب , وذلك في أغنيته التي مطلعها :
"إنتو جماعة منظومين ونحن منكم ممنونين"
وذاك الأستاذ خليل الأغواني يتحدث عن مشكلة الزواج وغلاء المهور . فيدعو إلى تسهيل أمور الزواج بتقليل مقدار المهر كيما يتمكن الشباب من الإقدام عليه فتحل المشكلة بذلك .
وهناك الأستاذ صبحي الطرابلسي يدعو إلى وحدة عربية وسيادة قومية فيقول في أغنية له :
"بدي وحدة عربية بدي سيادة قومية"
"بدي أيادي قومية تطالب بالاستقلال"
وهناك الأستاذ عمر أبو الترك يحض على نهضة كبيرة لمساعدة فلسطين التي اغتصبها الصهاينة . فيقول في إحدى أغانيه :
لسّانا قاعدين ولا واحد مهتم وشعب فلسطين خايض بالدم
عار كبير عال ينوي الهرب والموقف خطير وكليتنا عرب
يا أهل العروبة جان الطلب قوموا يا رجال عينوا أولاد العم
شعب فلسطين خايض بالدم
ثم إليك الأستاذ عبد الغني الشيخ يستنكر أن يكون أحد المواطنين جاسوسا لدى المستعمرين ومأجورا يبيعهم بلاده , فيقول في أغنية يشترك بها مع الأستاذ عمر أبو الترك :
"كيف تبيح لنفسك أن تكون جاسوسا في صفوف من أرادوا انتهاك حرمة بلادك المقدسة . ألم تر بأم عينيك ماذا يفعلون .. ألم يخالجك الريب وتوبيخ الضمير حين رأيت نفسك تخاصم بني قومك الذين يستميتون لرفع شأن بلادك عاليا .."
وهكذا يطول بنا المقام إذا توغلنا في تعداد هذه الأغاني الوطنية مما لا يتسع له المجال .
وأختتم أخيرا مقالي هذا موجها الخطاب للمطربين والمطربات فأقول: إن الغناء الذي يقتصر على العشق والغرام والتأوهات والحسرات غناء لا نفيد منه ولا نستفيد . نريد غناء يعبر عن أماني شعوبنا . نريد غناء يعبر عن حاجات شعوبنا . نريد غناء يثير الحماسة في نفوس شعوبنا لمقاومة المستعمر . نريد غناء يعالج المشاكل التي تنتاب شعوبنا من اجتماعية واقتصادية وسياسية . وأخيرا نريد غناء يصور واقع شعوبنا لا غناء كله مغالطات وافتراءات .
وأخيرا نريد غناء توجيهيا صحيحا . هذا ومن الطبيعي أن يصحب كل هذه الأنواع غناء يتحدث عن الحب . هذا الغذاء النفسي الذي لا يمكن الاستغناء عنه . ولكن الغناء الذي يبحث في مشاكلنا هو فوق كل اعتبار .
هذا هو الغناء الذي نريده .

حديث عن الفن ( )
منذ ما يقارب العامين ثارت ضجة بين الأدباء وحمي وطيس الجدل بينهم بشأن موقف الفنان من المجتمع . ويتلخص النقاش في : "هل يجب أن يكون الفن خالصا للفن أم أنه يجب أن يسخر لخدمة المجتمع ؟" وانقسم الأدباء إلى فريقين : فنادى الفريق الأول بأن "الفن للفن" ونادى الفريق الثاني بأن "الفن لخدمة المجتمع" .
وتلك الضجة لم تكن الأولى ولا الأخيرة من نوعها , إذ سبق أن أثير البحث في هذه النقطة وامتد الجدال بين الطائفتين وطال , هؤلاء يتشبثون برأيهم وأولئك يصرون على صحة مذهبهم .
وهكذا لم يتوصل أحدهم إلى إقناع الآخر بصواب مذهبه . فذهب الفريق الذي يعتنق فكرة "الفن لخدمة المجتمع" يتهم الفريق الذي ينادي بفكرة "الفن للفن" بأنه بعيد عن الشعب بروحه , لا يريد أن يخلص في خدمته ولا يود أن يعمل لصالحه . في حين أن الفريق الثاني يرمي الفريق الأول بفساد الذوق الفني وفقدان الحاسة الفنية .
وفي هذا المقال أود أن أبرهن على خطأ حكم الفريقين على بعضهما فهما في الواقع يؤديان خدمة جلّى للشعب على صعيد واحد بالرغم من اختلاف مذهبيهما .
ولنأتي على ماهية مذهب الفريقين : فأما الفريق الأول ـ أصحاب مذهب الفن لخدمة المجتمع ـ فيرون أن الفنان يجب أن يوجه فنه توجيها واقعيا , كيما يخدم المجتمع بنقل هذا الواقع وتصويره تصويرا دقيقا .
فعلية إذن أن يصور بؤس المجتمع الذي يعيش فيه إن كان هذا المجتمع بائسا , لا أن يصور مجتمعا غارقا في حياة كلها ترف ونعيم , ومجتمعه لا يعرف من النعيم إلا إسمه . إذ أن هذا التصوير الأمين الذي يقوم به الفنان يكون عاملا مساعدا في بعث الشعور الميت لدى الجمهور فيحاول الخلاص من بؤسه وشقائه والانتقاض على مستغليه والمستبدين بأمره , وبذا يكون الفنان قد أدى واجبه على أحسن صورة وأصلح وجه .
أما أصحاب مذهب "الفن للفن" فيرون أن الفنان يجب ألاّ يلهي نفسه بمعالجة مشاكل مجتمعه , فالفن الذي يعتمد على تلك المشاكل يكون فجا لا حلاوة فيه ولا لذة ولا إبداع . على الفنان أن يحلق في أجواء الخيال ويطلق العنان لذهنه الخصيب وحسه الدقيق , يتخيل من الصور أروعها وينحت من التماثيل أبدعها , ويخلق من القصص ألذها , وإلى آخره من صور الفن التي تثير الاستمتاع في نفس القارئ .
لقد ذكرت أن الطائفة الأولى تتهم أمثال هؤلاء الفنانين بأنهم بعيدون عن خدمة المجتمع . والرأي عندي أنهم باتهامهم هذا يغمطون حقهم إذ من الظلم أن نجردهم من خدمة مجتمعهم وهم يبذلون أعظم الجهود في سبيل فنهم الذي يؤدي ـ على أية حال ـ في النهاية إلى خدمة المجتمع بما يوفره له من متعة0 لكن الذي لا أشك فيه أن خدمة الفريق الأول أجلّ من خدمة الفريق الثاني , فالذي لا سبيل إلى إنكاره أن الفن الذي يوقظ الجمهور ويبعث في نفسه الشعور الصحيح ويحضه على تحطيم قيود بؤسه وعبوديته وشقائه , ويخلق فيه الطموح إلى حياة الرفاه والحرية والسعادة هو الفن الذي يقوم بخدمة المجتمع أعظم الخدمة . ولكن المجتمع الذي يحتاج إلى الفنانين الواعين يحتاج كذلك إلى الفنانين الآخرين أيضا . غير أن احتياجه للنوع الأول من الفنانين هي أضعاف احتياجه إلى النوع الثاني . فالكادح الذي يقضي طول نهاره في العمل المجهد يحتاج إلى سويعات يغيب فيها عن عالمه الصاخب المليء بالمزعجات ليصيب قسطا من الراحة التي يجدها في أحضان الفن الخالص . ومن هنا تتجلى خدمة أمثال هؤلاء الفنانين : فبقصصهم البديعة وتماثيلهم الجميلة وصورهم الفنية وموسيقاهم المطربة ينقلون هذا المجد المتعب من عالم الجد والتعب إلى عالم المسرة والبهجة فيؤدون إليه بفنهم هذا خدمة جليلة .
إذن فكما أن أصحاب "مذهب الفن لخدمة المجتمع" يخدمون المجتمع , كذلك أصحاب مذهب "الفن للفن" يخدمونه أيضا , وإن كان هناك تفاوت في الخدمة .
وفي رأيي أن هؤلاء الذين ينادون بأن "الفن للفن" مخطئين في ندائهم , فالفن لا يكون خالصا للفن بأي شكل كان , وهو مسخر لخدمة المجتمع كيفما كان .
وإذن فأصحاب مذهب "الفن للفن" مخطئين بتشبثهم بهذا الإعتقاد فلا فن هناك يخدم الفن ذاته , ولا فنان هناك بعيد عن خدمة المجتمع . ولكن مجتمعنا المتخلفة أحوج إلى الفنانين الواقعين منه إلى الفنانين الآخرين .









كتابات عن تيمور





















دفاع عن تيمور( )
يأخذ علي صديقي الأستاذ جاسم محمد الرجب تعلقي بالقاص المصري محمود تيمور وإعجابي به . والواقع أنني لم أعجب بتيمور بمجرد قراءة كتاب أو كتابين له , كما هو شأنه , بل أقبلت على مؤلفاته أشبعها درسا وتمحيصا . ثم خرجت بعد تلك الدراسة برأي نهائي هو أن الأستاذ تيمور رسول من رسل الإنسانية ووطني يناضل في سبيل إسعاد أمته وشعبه .
ومنذ ما يقارب العام اتصلت به بالمراسلة فكانت بيننا صلة مودة تمكنت بواسطتها أن أتعرف إلى آرائه عن كثب . ومع أنني كنت واثقا كل الثقة بصحة الرأي الذي كونته في دراستي لكتبه قبل التعرف به , إلا أنني شئت المزيد من الثقة فاختبرت رأيه في المذاهب الحديثة . فكان كما توقعته يتفق معي ومع الأستاذ الرجب ومع أي شخص متحرر منفتح في الرأي . إلا أن الأستاذ الرجب ظل متشبثا برأيه وراح يحارب تيمور كما يحارب العقاد . والحق أن هذا إجحاف بحق الأستاذ تيمور ومن الظلم أن نحاربه وهو ذلك الرجل المناضل الذي ظل يجاهد في سبيل عقيدته الثابتة حوالي العشرين عاما . وكفاه فخرا أن ينذر نفسه خالصا للأدب الذي مرماه خدمة المجتمع .
ونعود إلى وعد الأستاذ الرجب بأن يبرهن على صحة رأيه في تيمور بكونه كاتب رجعي0 فقد وفى يجزأ منه فنشر بضعة مقالات حاول أن يبرهن بها على رجعية تيمور0 ولكنه لم يف بجزء وعده الآخر وهو أن تكون براهينه مما لا سبيل إلى دحضها0 فقد كانت في الواقع أوهى من خيوط العنكبوت . ولا يخفى ضعفها على أي قارئ عرف تيمور بقراءة بعض كتبه .
أول ما يؤخذ على الأستاذ الرجب حكمه على تيمور من كتاب واحد بينما تربو مؤلفاته على الأربعة والعشرين مؤلفا . فمهما يكن أمر ذلك الكتاب وما حواه من أفكار غير مقبولة في رأي الأستاذ الرجب فليس بإمكاننا أن ننكر فضل ثلاثة وعشرين كتابا تتبين فيها أراء تيمور على أوضح ما تكون , لنتهمه بالرجعية والخيانة وحقن الشعب بالمورفين ...
لنتناول أول كتاب لم يعجب الأستاذ الرجب وهو "أبو شوشة والموكب" . فقد قال عنه أنه بارد الأسلوب عادي المعنى فاتر الحياة !! ومن هذا القول يظهر لنا أنه فاقد القدرة على فهم مثل هذه الروايات النفسية . فروايتا "أبو شوشة والموكب" مبنيتان على أحدث النظريات النفسية , وخصوصا نظريات العالم النمساوي الكبير (فرويد) . وهما عبارة عن تشريح لكياننا النفسي الذي يتألف من العقل الظاهر والعقل الباطن , وتبيان ما لهذا التناقض والتعقيد الذي ينتج من تصرفاتنا والذي سببه ما يتناوب عقلنا من تيارات يحار في تفسيرها عقلنا الواعي .
وعلى هذا فالروايتان اللتان ضمنتهما دفتا كتاب واحد ليستا باردتين إلا في رأي من يقرأهما قراءة عابرة دون أن يتمعن فيما يعرض له من تصرفات الأبطال , ودون أن يكلف نفسه مؤونة فهم نفسياتهم وتحليل أقوالهم والتوصل إلى حل ما في شخصياتهم من عقد نفسية .
ولنأخذ الكتاب الثاني وهو "عطر ودخان" . وهنا يجب ن أقرر حقيقة هي أن هذا الكتاب كان الوحيد الذي شذّ فيه الأستاذ تيمور عن خطته بالنسبة لمؤلفاته الأخرى 0 غير أنني لا أتفق مع الأستاذ الرجب من أنه يبرهن على رجعية شديدة , وغاية ما أقوله أنه كتاب للتسلية لا أكثر .
وعندي أن مقدمته المعنونة "الرجعية الحميدة" أثمن ما فيه . والواقع أن عنوان المقدمة يوحي إلى القارئ بأفكار مقيتة : لكننا يجب أن لا نتبع الأسلوب الذي سلكه الأستاذ الرجب بنبذ المقال بمجرد قراءتنا لكلمة رجعية ونعتبره سخيفا دون أن نطلع عليه 0 وفي هذا قال الأستاذ الرجب : "إ، العنوان وحده ـ يقصد عنوان المقدمة ـ يقرر مصير تيمور" . وهذا خطأ واضح . ويكفيني إثبات الجزء الأخير من المقال هنا ـ وهو عبارة عن ملخص له ـ حتى أدلل على خطأ ما ذهب إليه الأستاذ الرجب . قال تيمور في ختام مقدمته : وقصارى ما ندعو إليه ألا نفصم العرى بين ماضينا وحاضرنا بوصفنا أمة يجب أن يكون لها طابع مستقل وسمات متميزة0 فإذا استهدينا الحضارة الجديدة من أمم الغرب فلنحتفظ مع ذلك بدعائم الشخصية وشئون الحياة . وإنه لحتم علينا أن نمضي مع الزمن قدما , نقطع شوطا بعد شوط , ولكن هذا لا يصرفنا بين الحين والحين عن أن نلتفت إلى الوراء لفتات نستفيد منها بما تعيد إلى أذهاننا من تجارب وذكريات لها أجلّ الأثر في تسديد خطانا إلى الأمام ...
أيدل هذا على رجعية شديدة كما يدعي الأستاذ الرجب ؟ إن الاستفادة مما حسن من ماضينا , وعدم نبذ الحسن القديم لأنه قديم وكفى يسمى في نظام تيمور "رجعية حميدة" . فكلمة رجعية هنا لا تعطي معناها الحقيقي من جمود وتشبث بكل ما هو قديم وإلى غير هذا من المساءئ التي تقرن بكلمة "رجعية ".
ولأعد إلى الكتاب ثانية ولأكرر مرة أخرى أنه لم يكتب إلا من أجل التسلية . وما هو في الحقيقة إلا مقالات متفرقة نشرت قديما في "مجلة الاثنين" : وهي مجلة لا هي بالأدبية ولا بالعلمية بل مجلة للتسلية .
وعلى هذا فمواضيع الكتاب لم يقصد من ورائها تخدير الشعب المصري وحقنه بالمورفين كما ذكر الأستاذ الرجب بنقداته , بل هي مواضيع تتضمن آراء شخصية في بعضها شذوذ عن المألوف . ولكن الذي لا ريب فيه ـ رغم ذلك الشذوذ في بعض تلك الأفكار ـ هو أن الأستاذ تيمور لم يسلك أسلوب التخدير الذي سلكه زكي مبارك وعباس العقاد وأحمد حسن الزيات وتوفيق الحكيم وأحمد الصاوي ومن لف لفهم من أدباء مصر والأقطار العربية بل كان دوما هو نفس الكاتب المجد المخلص في خدمته للشعب والأدب. ولو كان هدفه تخدير الشعب المصري وحقنه بالمورفين ما صور له حالته السيئة وشقاءه الفظيع , ليثير فيه الشعور بوجوب التخلص من وضعه المنحط هذا , وأكبر برهان على ما أقول كتبه العديدة 0 وما على من يود استقصاء الحقائق إلاّ مراجعتها ليستشف من مطالعتها مقدار الصدق في ادعائي . وتلك الكتب هي : الوثبة الأولى وتحتوي على , الشيخ جمعه , وعم متولي , والشيخ سيد عبيط , ورجب أفندي . ثم الحاج شلبي وأبو علي عامل أرتيست , والأطلال والشيخ عفا الله وقلب غانية وقال الراوي وحفلة شاي وألخ .. الخ , تلك الكتب التي رسم فيها تيمور حالة الطبقة الدنيا والوسطى من الشعب المصري , وصور ما هي عليه من انحطاط في اقتصادياتها وعيشها , وصور لنا كذلك الطبقة الأرستقراطية وما هي عليه من رفاهية وعيش رفيع .
والحقيقة أنني غير قادر على تلخيص كل هذه الكتب هنا للتدليل على كلامي , فالمجال لا يتسع لهذا : ولكنني ذكرت تلك الكتب التي اعتمدت عليها في حكمي , فإن شئت يا أستاذ رجب أن تحكم حكما صادقا بعيدا عن كل تحيز وعاطفة , فاقرأها ثم أحكم بعد ذلك على تيمور لا أن تتناول كتابه "عطر ودخان" الذي عرف عنه أنه لا يقاس بمؤلفاته لتفاهة قيمته , بل قد يشك البعض أنه من مؤلفاته , والذي ما كتب إلا لغرض التسلية فتحكم عليه حكما صارما مجحفا . فمواضيع : المرأة ولفافة التبغ , ودنيا الصحافة , ودنيا المرأة , والجنة كما أتخيلها , وكيف تأسرين قلب الرجل , وكيف تأسر قلب المرأة , وغيرها كلها مواضيع تسلية لا تتضمن أية آراء اجتماعية أذاعها تيمور في كتابه هذا لتثقيف القاريء.
ثم إنك قلت أن تيمور ينفث ولا شك نفس هذه الآراء التي ذكرها في كتابه هذا في سائر كتبه القصصية الأخرى . فقل لي يا أستاذ : ما علاقة مقال" كيف تأسر قلب المرأة" بقصص تتناول تصوير المجتمع المصري وتحليل نفسيات أفراده ؟!!
أما فكرة مقال "السعادة لمن يشقى" ففي اعتقادي أنها فكرة شاذة فعلا لا يمكن أن يتقبلها أحد . ويبدو لي أن تيمور كتب ذلك المقال تحت تأثير نظرية نفسية ـ قد أفاض هو نفسه بشرحها في مقاله ـ فالأستاذ تيمور متأثر بعلم النفس تأثرا كليا . وكذلك حال مقال "الغباوة نعيم الأزواج" فله نصيب مقال "السعادة لمن يشقى " من الشذوذ . ولا أدري ما قصد الأستاذ تيمور من كتابتهما 00 وهل كان جادا أم هازلا ؟! ولكنني على ثقة أنه لم يكن يقصد من كتابتهما خدمة الرجعيين , ولكنها آراء شخصية محضة لا تمت بصلة إلى أي مذهب من المذاهب , وأعتقد أنه لم يكتبهما المؤلف لخدمة مذهب من المذاهب . ولا شك عندي أن تيمور عدو لدود للطبقة الأرستقراطية الرجعية وما تكتنف حياتها من مفاسد ورذائل . ولعل أسطع برهان على اعتقادي هذا روايته "حفلة شاي" التي يسخر فيها من تلك الطبقة سخرية ما بعدها سخرية !! هذا عدا ما تبعثر من قصص قصيرة في كتبه الأخرى التي طعن فيها بأسلوب حياتهم أشد الطعن .
وبما أنني عاجز عن تحليل جميع قصصه وتلخيصها هنا لذلك فإنني أحيلك يا أستاذ رجب ـ وكل قارئ لم يقتنع بأدلتي ـ إلى كتاب (محمود تيمور رائد القصة العربية) تأليف نزيه الحكيم فهو يغنينا عن كتابة المقالات الطويلة 0 ففيه شرح واف عن اتجاهات تيمور وبرهنة عليها .
ولا أظن أن مثل مقالي القصير هذا يكفي للبرهنة على فضل محمود تيمور ـ رائد القصة الحديثة ـ على الأدب المصري الحديث خصوصا والأدب العربي عموما .
ولقد طرق كثير من الأدباء هذا الغرض قبلي ووافوه حقه , منهم : الدكتور أ. شادة , المستشرق الألماني الكبير , والدكتور طه حسين , والدكتور محمد مندور والأستاذ محمد أمين حسونة والأستاذ سلامة موسى , والأستاذ محمود المنجوري , والأستاذ نزيه الحكيم وغيرهم .. وغيرهم , ممن بينوا فضل تيمور على الأدب العربي الحديث , وعلى الإنسانية المعذبة المتمثلة في طبقات الشعب المصري التي أخلص تيمور في وصفها وأصدق في تصوير حالتها .
وعلى هذا فإنني أكتفي بهذا المقال القصير الذي لاشك أنني لم أوف بكتابته حق الأستاذ تيمور على كل أديب عربي .


















دفاع عن تيمور أيضا( )
هذه همسة في أذن ذلك الذي نصب من نفسه ناقدا وهو لا يعرف من أسلوب النقد غير الشتائم المقذعة فقد ظن أن النقد تهويس فسهل عليه الأمر . وشمر عن ساعد الجد , وتناول في يده اليمنى قلمه السيال وفي يده اليسرى بلطة يتشدق بذكرها دوما وهي بلطة "التقدمية" وجعل يفلق بها رأس كل من تحدثه نفسه بمناقشته أو الرد عليه : وذلك بأن يلصق في جبينه كلمة "رجعي" .
رويدك يا سيدي الناقد ! أتظن أن من السهولة بمكان أن تهدم بجرة من قلمك الجريء جهودا بذلها المؤلفون قد تستغرق أحيانا الأعوام الطوال , لإخراج كتبهم إلى حيز الوجود ؟؟! أم تظن أن التأليف لعبة من السهل تحطيمها بخبطة من هراوة غليظة؟؟!
لا يا سيدي لا . رفقا بعقلك من هذه التصورات ! عليك وأنت تقرأ الكتاب أن تقدر له ما يناسبه من الجهد الذي بذله المؤلف في تأليفه , ثم حكّم بعد ذلك عقلك في مدى صلاحه . أجل يا سيدي الناقد ! على ضوء جهود المؤلفين فلتحكم لتكون أكثر روية في حكمك وأكثر اتزانا .
أصغ إليّ أيها الأستاذ . لقد صعب علي أن تتوغل في هذا "التهويس" ولا من رادع يردعك , فوددت أن أهمس في أذنك هذه الهمسة لعلك تهجر أسلوبك الخاطئ . فلقد تناولت فيما تناولت الأسلوب في الأدب العربي وأعملت فيه هدما وتخريبا دون أن تراعي فيه نقاط القوة ! ثم استدرت نحو الدكتور طه حسين والدكتور عبد الرحمن بدوي والدكتور محمد مهدي البصير , وحاولت أن تحط من شأن مؤلفاتهم ـ بلا مبرر ـ بشتائم لا رأس لها ولا ذنب 0 ولما رأيت أن القليل من يتصدى لردك لما في مقالاتك من ضعف ظاهر وفي نقدك من تحامل , اتجهت إلى القصاص المصري محمود تيمور تحاول أن ترفعه عن عرش القصة الذي بناه بيده حجارة حجارة لتنصب مكانه من تشاء .
يخيل إليّ أنك تتصور أنه بمجرد قولك بأن محمود تيمور أديب فاشل وأنه رجعي تحطمت مكانته في نفوس القراء وهبطت قيمته لدى مؤرخي الأدب العربي !ولكن فاتك أن من أنفق نصف عمره في الكتابة والتأليف النافع ومن بنى مجده شاهقا من صخر صلد لا يتحطم بالسهولة التي تتصورها , وعلى الخصوص أن هذا المحطم لا يتعدى القلم الواهي الذي حملته منذ عام لا غير !!
أنا لا أريد أن أدافع هنا عن محمود تيمور , فهو معروف لدى قراء العربية أجمع ولدى كثير من قراء اللغات الغربية ـ من هواة الأدب طبعا ـ هذا إلى أن الأديب عبد المجيد لطفي قد كفاني مؤونة ذلك بمقاله الذي نشر على صفحات مجلة الهاتف , ولكنك قد ارتكبت جريمة كبرى بحقه ,والواجب عليّ أن أبيّن وجه الجريمة . فقد نسبت آراء بعض أبطال قصصه إليه , وهذا خطأ فاحش لا يجوز الوقوع فيه . إذ يجب أن لا ننسب آراء بعض أبطال القصة ـ عند نقد قصة من القصص ـ إلى المؤلف , ما دام هناك ردود عليها أقوى منها حجة تصدر على لسان أبطال القصة الآخرين . هذا من جهة , ومن جهة أخرى فإننا لا يمكن أن ننسب آراء شخصية ضعيفة في القصة يرسمها القاص كمثال للهزء والسخرية إلى المؤلف ذاته , بينما نهمل الأخذ بآراء الشخصيات التي يسبغ عليها صبغة الإحترام والتقدير والتي ترد على آراء الشخصيات الضعيفة الخاطئة . إن هذه لإساءة كبرى بحق المؤلف يا ناقدنا الكبير ـ هذا إذا كنت تجهل معنى ما قلته ولكنك اتبعت ذلك الأسلوب الخاطئ عامدا ـ فحذار من اللجوء إلى أمثال هذه المغالطات .
وإني آمل ألاّ أجدك مرة أخرى تقول عندما تعرض لنقد قصة من القصص : "فاستمع إلى رأي زين السيوف باشا ـ كما ذكرت في نقدك لرواية كليوبتراة في خان الخليلي مثلا ـ أو رأي تيمور على الأصح في .. الخ " في حين أن المؤلف قد رسم هذه الشخصية كمثال للسخرية , وآراؤها لا تمثل آراءه إطلاقا .
ثم هناك ملاحظة أخرى أود أن ألفت نظرك إليها هي الأمانة في التلخيص . ويبدو لي أنك تنسى الأمانة عندما تلخص كتابا لمؤلف لا يعجبك , فليس من اللياقة أن تشوه قصة أو كتابا أو مقالة بتلخيصها تلخيصا أبعد ما يكون عن الواقع . وإنك إذ تسلك هذه السبيل فإنما تجني على نفسك , إذ لا بد أن تظهر هذه الحقيقة للقراء عندما يقرؤون ذلك الأثر فيفقد نقدك قيمته .
هذه همسة دفعتني غيرتي على النقد والأدب أن أهمسها في أذنك عسى أن تجد فيها نصيحة مخلص يرجو أن تهجر ذلك الأسلوب الفاشل , والسلام عليك .



حواء الخالدة( )
لا يشك من يقرأ مسرحية "حواء الخالدة" أن تيمور عبقري من عباقرة القصة لا يدانيه في ميدانها أي قصصي عربي آخر .
وهو إذ طلع علينا اليوم بهذه القصة فقد أتحفنا بطرفة فنية رائعة . فيها من التحليل للنفس الإنسانية ما عظمت قيمته وجل قدره . والقصة هذه ليست غريبة علينا في بابها , فموضوعها حب عنترة وعبلة ... ومن منا لم يسمع بذينك العاشقين ؟! فلقد لاكت قصتهما ألسن العرب طويلا ورواها قدماؤهم في مجالس سمرهم كثيرا , حتى انتقلت إلينا أبا عن جد .
لكنني ألفت نظر القارئ إلى نقطة مهمة هي اختلاف قصة تيمور عن القصص الأخرى التي رويت عنهما . فلا يظن القارئ أنه سيقرأ فيها محاورات غرامية بين عنترة وعبلة , وأخبارا مدهشة عن وقائع عنترة , بل سيجدها زاخرة بالشخصيات الحية التي تطالعنا صورها في مجتمعاتنا هذه بالرغم من أن القصة قد حدثت قبل ألف عام وأربعمائة بالتقريب . والسبب في ذلك أن غرائز الإنسان ثابتة لا تتغير من عصر لعصر , وحوادث القصة مبنية على تلك الغرائز .
وملخص القصة أن عبلة ـ البطلة ـ كانت فتاة جميلة أحبها عنترة وأحبته . لكن ذلك الحب لم يكن يمنعها من أن تكلفه بقضاء أشق الطلبات . وقد طلبت منه ذات يوم أن يجلب لها جلد ضرغام كان يهاجم الحي , دون أن تخشى عليه من الموت , وذلك لكي تتباهى به على صويحباتها ! ولم يكن بوسعه إلا إطاعتها فضرب لها موعدا لإجابة طلبها , لكن الوقت المعين مضى دون أن يعود 0وشاع نتيجة لذلك نبأ تغلب الضرغام عليه. وترامى الخبر إليها وكانت حينئذ في خبائها مع الأمير عمارة الذي حل ضيفا عندها . أتدري ماذا حدث أيها القارئ ؟ حدث أنها لم تضطرب ولم تحزن بل انصرفت إلى إغراء الأمير عمارة ليقع في حبائل غرامها . والحق معها .. فكيف تفقد قلبا دون أن تكسب غيره ؟!
غير أن عنترة ما لبث أن عاد ومعه جلد الضرغام ! أجل عاد ولكن ما كان له إلا أن يعّرض نفسه لأخطار أخرى لأن عبلة تريد أن تظهر سيطرتها عليه بأي وسيلة كانت . ولذلك فقد بعثت به إلى أقاصي البلدان ليجلب لها حجر زبرجد أصيل .
ولم تكد تمضى بضعة أشهر على رحلته حتى خطبها الأمير عمارة فلم ترفض خطبته . ومن يدري ؟ لعل عنترة قد ذهب بلا عودة , فلم تخسر الخطيبين ؟!!
ولكي تمتحن حب الأمير لها وسيطرتها عليه طلبت منه مهرا قدره ألف ناقة من النياق العصفورية . وتلك النياق عزيزة المنال نادرة الوجود , يتطلب جمعها ضربا في البلاد وغيبة تستغرق الشهور الطوال .
ولقد كان حبها متمكنا في قلب الأمير لدرجة أنه وافق على المهر بالرغم من صعوبة تحقيقه , وقد لحق بندّه عنترة , وضرب من أجل حبه في عرض البلاد يجمع النياق العصفورية .
ومضت أشهر , وللمرة الثانية شاع نبأ نعي عنترة فحزنت عبلة وتألمت , وخلدت إلى مغزلها تناجيه ويناجيها . لكن النعي كان كاذبا : فقد عاد عنترة بعدئذ ووفاضه ملأى بروائع الأمتعة وغوالي التحف وبدائع الحلي . فهرع إليه فتيان الحي يستقبلونه بالحفاوة والترحاب , وحذت حذوهم فتيات الحي , إلا عبلة فقد وقفت في باب خبائها صامتة تنتظر أن يقدم هو إليها وأن يبدأها بالتحية قبل أن تبدأه بها . وهل تظن أيها القارئ أن على الحبيب أن يستقبل حبيبه بعد غيبة عامين بذلك البرود ؟! ولكنه الكبرياء يقف في سبيل الحب !!
وكان أن قدم عنترة وبدأها بالتحية ـ كما شاءت ـ لكنها كانت تحية فاترة خيبت أملها . وقد أفهمها في ذات اللقاء ـ بالتلميح ـ أن حبه القديم لم يكن سوى عبث أطفال .
ولم تكن عبلة تتصور أن جحود حبها يبلغ به إلى هذا الحد , فكانت صدمة عنيفة لها , وكان جرحا عميقا لكرامتها . وإذن يجب أن تنتقم منه شر انتقام .
وقد هداها ذهنها المتوقد إلى انتقام آذى شعوره كثيرا . فقد تظاهرت بعدم الإكتراث إلى حجر الزبرجد الذي قدمه لها .. هذا الحجر الذي تعرض من أجله لكل الأخطار , تهمله إهمالا ذريعا !!!؟
وطال الحديث بينهما في لقائهما الأول . ولكنه حديث كله جفوة . وإذ كانا يتحدثان إذا بالأمير عمارة قد عاد ـ بعد غيبة ستة أشهر ـ تصحبه النياق الألف العصفورية .
وما كاد يراهما في خلوتهما تلك حتى هاج وماج ظنا منه أنهما قد عادا لحبهما القديم .ولكنها أسرعت فقدمته لعنترة بأنه خطيبها الجديد , وهل كان باستطاعتها أن تفعل غير هذا ما دامت قد فقدت قلب عنترة ؟!!
وقد تمت مراسيم الخطبة وقدم المهر , فهل اكتفت عبلة بذلك وتركت عنترة وشأنه دون أن تكتشف إن كان قد نسي حقا غرامه القديم بها أم أنه يتظاهر بنسيانه ؟! كلا 00إنها ظلت تحاول أن تستل ذلك السر من قلبه . وقد استخدمت لذلك شتى الخدع منها : أنها كانت تبعث إليه الفتى سيف ـ وهو فتى يحسن الغناء ـ يترصده ويغني على مسمعه ـ حين يخلو بنفسه ـ شعره القديم في وصف جمالها وتصوير هيامه بها .
لكنها لم تكتف بذلك . بل كانت تبعث الفتى نفسه بأعواد البخور , يتسلل إلى خيمته ليلا ويرميها في نار المبخرة ـ وكان عنترة قد اعتاد أن يطلق البخور كل ليلة في خيمته بعد عودته من فارس ـ والأعواد تلك كانت من نفس الأعواد التي كانت تطلقها فيما سبق حينما تتواعد معه على اللقاء في خبائها .
وهاتان الخدعتان لم تكونا كل ما في جعبتها . فقد كان عنترة يتخذ من الطريق الذي يعرج على خبائها سبيلا إلى خيمته , فكانت تتطيب بطيب خاص بها كانت تستعمله فيما مضى في مواعيدها الغرامية معه , وتجلس أمام خبائها في وقت أوبته ليراها ويشم هذا الطيب الذي كان محببا إلى نفسه .
ولم تكن تتطيب بذلك الطيب عبثا , فقد كانت على ثقة أن : (للأطياب خصائص عجيبة ... فهي تغلغل في شعاب القلوب وتبلغ أعماق السرائر , فتبعث من مرقدها غابر الذكريات , وتلهب ما خمد من كامن العواطف .. كل ذلك في لطف وعذوبة ولين ) !!!؟؟
وكانت تتخذ أيضا على جبينها عصابة لا تستبدلها بغيرها لأن عنترة كان قد أهداها لها قبل أن يرتحل 0 فمن الواضح أنها حين تتخذها تود أن تعلمه بأن ذكريات حبها القديم عزيز لديها !
ولم تكتف بتلك المحاولات لإثارته . إنها تريد برهانا قاطعا يشفي ما بها من غليل في الإطلاع على خبيئة نفسه (أرجو أن لا تنس أيها القارئ أنها خطيبة عمارة) . وقد لجأت أخيرا إلى حيلة طريفة : أعلنت للفتيات أنهن يجب أن يقمن حفلة خاصة بهن بعيدا عن أنظار الرجال . وأبلغت في الوقت نفسه عنترة بخبر تلك الحفلة بصورة غير مباشرة . وفي تلك الحفلة أظهرت مفاتنها لكي تغري عنترة الذي كان مختبئا يشهد الحفلة دون أن يعلم به أو يراه أحد .
وبذلت عبلة كل ما لديها من حذق ومهارة لكي تفتنه . وقد استطاعت أن تملك لبه فاعترف لها بمغالطته وأكد لها حبه القديم .
أتدري أيها القارئ ماذا حدث بعد تلك الحفلة ؟! حدث أن عبلة زفت بعد أيام قلائل إلى الأمير عمارة . وفيما كانت ـ يصحبها الأمير ورجاله ـ في طريقهما إلى مضارب بني زياد , قبيلة الأمير , حدثت مشادة بين رجال عنترة ورجال الأمير ـ وكان عنترة في طريقه إلى عزو بني فهد ـ ونتج عن المشادة أن طلب الأمير من عنترة منازلته , فتغلب عليه هذا وقتله , ثم أخذ معه إلى الغزو عبلة التي أصبحت أسيرة له رغما عنها .
ذلكم هو ملخص القصة . لكنني أستميح الأستاذ تيمور العفو إن كنت قد أغمطت حقه في هذا الملخص . والحقيقة أن القصة أعظم من أن تلخص بتلك الصفحات القلائل .. ولعلني قد أقدمت على التقليل من قيمتها الفنية بهذا التلخيص , فهي قصة مسرحية لا يمكن للقارئ أن يقدر قيمتها الفنية ما لم يقرأ حوارها : ليستطلع دخائل نفوس أبطالها وليستعرض بنفسه فكرتها العميقة وتحليلها الدقيق . ولا يفوتني أن أشير في الختام إلى أن قاصنا قد أصاب من النجاح أعظمه في قصته الخالدة تلك , ولا ريب أنها من أعظم وأبدع ما أنتج .

كليو بترة في خان الخليلي ( )
تفضل صديقنا القاص المصري الكبير الأستاذ محمود تيمور بك فأهداني نسخة من كتابه الجديد (كليوبترة في خان الخليلي) . وقد أقبلت على مطالعته بشغف فسرني أن ينحى الأستاذ تيمور منحى جديدا هو منحى الرواية . فيكمل بذلك ما بدا به من طرق أبواب الفن القصصي الأخرى . والحقيقة أن رائد القصة العربية قد برهن على أنه أهل لهذا اللقب , فقد طرق جميع أبواب هذا الفن من أقصوصة وقصة ورواية , وأصاب في جميعها نجاحا لم يصبه أي قاص عربي آخر .
ومما يبعث على الدهشة والإعجاب هذا النشاط البالغ الذي لازمه في المدة الأخيرة . فقد أصدر منذ مدة قريبة مسرحية "حواء الخالدة" التي بلغ فيها ذروة الفن , وها هي "كليوبترة في خان الخليلي" شاهد على عبقريته القصصية 0 وله الآن كتاب آخر تحت الطبع هو" شفاه غليظة وقصص أخرى" الذي سيصدره بعد أيام .
والحقيقة أن تلك الرواية غاية في طرافة موضوعها وسياق حوادثها . فقد استهدف الأستاذ تيمور نقد ما يجري بين ألدول من دبلوماسيات في المؤتمرات والاجتماعات , إلى جانب ما أمدنا به من آراء حديثة في سياسة الدول واتجاه الشعوب وفي تحليل بعض من عادات البشر ونفسيتهم .
وقد أجرى الأستاذ تيمور الرواية على لسان محي الدين فريد الموظف في وزارة الخارجية المصرية , على شكل مذكرات كتبت بقلمه , فصور لنا خياله ـ في تلك المذكرات ـ مؤتمرا دوليا عاما غايته سن دستور السلام في العالم . وهذا المؤتمر الذي يسمى مؤتمر "المدينة الفاضلة لدعم السلام" قد عقد في القاهرة واشترك فيه : مندوب اتحاد أوربة الشمالية ومندوب اتحاد الشرق الأعلى ومندوب البلاغة الدولية ووزير المناطق الجنوبية السبع ومندوب الجبهة العليا للمحاربين القدماء ومندوب جمعية الرغيف الأسود وكليوبترة وتيمورلنك والعالم الروحاني . وهي كما ترى شخصيات من داني الشرق وقصي الغرب بعضها المعاصر وبعضها الذي عاش قبل مئات الأعوام .
وقد ساق الأستاذ تيمور حوادث الكتاب على ألسنة هؤلاء الذين اختلفت أجناسهم وأزمانهم , بالإضافة إلى سكرتير المؤتمر محي الدين فريد وأنطونيو ومارتن الأمريكي وعبد العال حاجب المؤتمر الظريف .
وكان أسلوبه في عرض الأحداث وإجراء الأقوال على ألسنة أبطال الرواية غاية في السخرية الممزوجة بالفكاهة .
فهذه كليو بترة التي هبطت إلى الأرض في ثوب ملاك خلعته أخيرا وارتدت ثوب الغانية التي لا همّ لها إلا العبث بالقلوب واكتساب الإعجاب !!
وهذا تيمورلنك الذي ساءه أن يلقبوه أولا بالفاتح العظيم والذي فضل أن يلقبوه بتيمور الأعرج , استولى على رئاسة المؤتمر أخيرا بدكتاتورية ما بعدها دكتاتورية وأرغم الأعضاء على الموافقة على كل اقتراح يعجبه ساء أم حسن !!
ثم إليك المؤتمر الذي عقد عشرات الجلسات دون أن يتوصل لوضع مادة واحدة لدستور السلام , وشغل وقته بمناقشة كلمة "حرب" ومناقشة الاقتراحات الخاصة بحضور الحفلات التكريمية , وبتمثيل فلم غرضه نشر مبادئ السلام , والذي من أجله اضطروا أخيرا إلى إلغاء جلساتهم ليتدربوا على التمثيل !!
والحقيقة أن الرواية حافلة بالشخصيات الطريفة الأخرى وكان لزاما عليّ إن شئت الإفاضة أن أعقد الصفحات الطوال , وهذا مما لا يتسع له المجال .
ولكنني أكتفي بذكر ما أصابه الأستاذ العبقري محمود تيمور من التوفيق في تصوير تلك الشخصيات المختلفة الأجناس والعناصر المتباينة الأوطان والأزمان . وهذا ما ينتظر طبعا من ريشة ماهرة كريشته التي رسم بها تلك الشخصيات , والتي كأنك وأنت تقرأ هذه الرواية الشيقة تعيش معها ... لا بل على صلة وثيقة ومعرفة قديمة . بشخوصها .
ولا يفوتني أن أنوه بأسلوب الرواية الشيق , إلى جانب ما امتازت به من ظرافة في النكتة وحلاوة في التعبير وموسيقية في الألفاظ .
ولا يسعني أخيرا إلا أن أشكر الأستاذ تيمور على ذلك الأثر القيم الذي أتحف به قراء العربية .














شفاه غليظة ( )
صدر في الأشهر الأخيرة للأستاذ محمود تيمور بك كتابه الأخير "شفاه غليظة وقصص أخرى" . وقد ابتهجت به ايما ابتهاج , إذ سنحت لي الفرصة للمرة الثانية في هذا الموسم لأن أطلع على تحفة فنية جديدة من تحفه 0 فلقد عودنا الأستاذ تيمور أن يطلع علينا في كل موسم بدرة ثمينة يحلّي بها تاج أدبنا القصصي , ولكنه خالف عادته في هذا الموسم وهي مخالفة عادت على الأدب القصصي بأجزل النفع فأخرج تحفتين عوضا عن تحفة واحدة وهما "كليو بترة في خان الخليلي" و "شفاه غليظة " .
والواقع أن مجموعة "شفاه غليظة" القصصية طرفة فنية حقا ، إذ أن الفن القصصي العربي لم يبلغ درجة من الرقي كما بلغ في هذه المجموعة التي احتوت على كل طريف وشيّق 0 فأما الأسلوب الذي عولجت به قصصها فلا حاجة بنا أن نتحدث عنه , فأسلوب تيمور الرفيع معروف لدى جميع قرائه بجزالته وطرافته وحلاوته وأخيرا غموضه المحبب , ذلك الغموض الذي يربط القارئ بالقصة برباط متين ويضطره إلى التفكير فيه مدة طويلة , إذ يشعر أن شخصيات القصة وحوادثها تهمه كما تهم باقي أبطالها , ويشعر أنه قد قضى فترة من الزمان بصحبتهم فلا بد أن يعرف التطورات التي تحدث على حياتهم لآخر لحظة .
فأسلوب تيمور هذا إذن يتميز عن أساليب القصاصين الآخرين بأنه يشرك القارئ في ابتداع نتيجة القصة ويفسح له فرصة ليعمل ذهنه في تصور ما يحدث لشخوصها في طورهم الأخير00 ذلك الطور الذي يقف الأستاذ تيمور عند تخومه في قصصه , ويترك إكماله للقارئ وبذا يربطه بالقصة بأوثق رباط 0 وقد حاول بعض أدباء العرب تبني هذا الأسلوب ولكنهم لم يصيبوا من النجاح ما يشجعهم على الاستمرار فيه فهجروه أو كادوا يفعلون على الأصح ..!
أما لغة الأستاذ تيمور في هذا الكتاب فقد بلغت منتهى الجمال0 ولست أغالي إن قلت أنها انقلبت شعرا لفرط موسيقيتها وجمالها 0 وإذا حدثك الكاتب يا صديقي القارئ مثلا عن بستان عظيم بنافورات وجداول وقناطر تتهدل عليها الأغصان تهدل الشعور على مناكب الحسان , شعرت كأنك تجوس في هذه البستان مع بطل القصة فتستمتع معه بمنظر النافورات وهي تقذف بمائها عاليا فيسقط على الحشائش النضرة رشاشا كقطرات المطر , وتشم أنفاس الزهر الفواح وهي تهب ندية رطبة , فتملأ خياشيمك برائحتها العطرية ... أجل . على تلك الصورة تستطرد لغة هذا الكتاب الأخاذة ... لغة تستثير فيك شتى العواطف والأحاسيس التي يود الكاتب أن يثيرها فيك ـ استكمالا لفن القصة ـ كيفما كانت هذه العواطف .
ثم أن الكتاب إلى جانب هذا مليء بأوصاف بديعة جدا وددت أن أورد منها نماذج لولا ضيق المجال , ولكني مع ذلك ألفت نظرك إلى أن قصة "حكام من السماء " تموج بتلك الأوصاف البالغة الروعة 0 وهناك عبارات رائقة حلوة ابتدعها الأستاذ تيمور نفسه ,وهي كثيرة ولكني اكتفي بذكر بعضها مثل : "ضحكة صافية" و"ابتسامة مهملة" و"قهقهة راعدة" .
ونعود إلى استعراض بعض قصص الكتاب , فقد احتوى على عشر قصص 0 وأروع تلك القصص هي قصة " حكام من السماء "0 هذه القصة الفنية التي حلّق فيها الأستاذ تيمور في أجواء الخيال وطار بين الكواكب والنجوم ثم هبط إلى الأرض وإذا بنا نستيقظ من نشوة ما أعظمها من نشوة ولذة ما أبدعها من لذة ..! الواقع أن الأستاذ تيمور قد خلق فيها جوا فنيا كتلك الأجواء التي برع في خلقها القصاصون الرومانيون واليونانيون القدماء في قصصهم الخيالية الفنية العظيمة . ولم يكن غرض الكاتب في هذه القصة الفن الخالص بل استهدف أيضا البرهنة على عدم إمكان استغناء المرأة عن الرجل أو الرجل عن المرأة . وقد أجاد في خطته للتوصل إلى ذلك البرهان .
والقصة التي تلي حكام من السماء في الروعة هي قصة" شفاه غليظة"0 و هذه القصة قد تكون قصة من صميم المجتمع المصري . فكثيرات تلك الفتيات اللواتي تدفعهن الحاجة فيهوين في تيار الحياة الضالة . فذات الشفاه الغليظة مثلا ـ بطلة القصة ـ اعترضت حياتها ظروف سيئة حوّلت مجرى حياتها من فتاة طيبة القلب طاهرة الذيل إلى فتاة رخيصة . وهذا بالطبع يعود إلى سوء وضع المجتمع واضطرابه . وقد عالج الأستاذ تيمور هذه المشكلة في قصته , ولكن الناحية الفنية طغت فيها على الناحية الاجتماعية فالقصة غاية في الفن . وإنك لتقرأها مرة ومرتين وثلاث دون أن تمل قراءتها أو يشبع نهمك من روعتها . على أني أود أن أذكر الأستاذ تيمور أن للعلاج الذي أراد أن يعالج به بطل القصة ـ الشاب المحامي ـ ذات الشفاه الغليظة علاج فاشل ولا سبيل إلى نجاحه بأي حال من الأحوال . ولا يمكن أن نعتمد هذا الأسلوب في إصلاح الأفراد بل علينا أن نصلح المجتمع بكليته لا أفراد معينين. وأؤكد هنا إلى أن تحليل نفسية بطل القصة كان غاية في الإبداع . ولعل أسلوبها أوضح مثال على أسلوب تيمور الغامض المحبب الجذاب .
وهناك قصص لم تكن ذات مواضيع شديدة الحيوية أمثال :" أبو علي وزجاجة الكونياك " وقبلة الساق إلا أنها لم تخل من حوادث طريفة وتحليل ملذّ . ولا يفوتني في ختام هذا التعريف القصير أن أشير إلى ما أصابه الأستاذ تيمور في قصته النفسية الرائعة "البديل" من نجاح . وأكرر ثانية إلى أن هذا الكتاب أضاف جوهرة أخرى إلى أدبنا القصصي . فشكرا للأستاذ تيمور وألف شكر







#شاكر_خصباك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مسرحية -الغرباء-
- عالم مليكة
- البهلوان ومسرحيات اخرى
- هيلة
- مسرحية-القضية-
- اوراق رئيس
- مسرحية -الدكتاتور-
- الهوية
- الاصدقاء الثلاثة
- عهد جديد....مجموعة قصصية
- السؤال؟!!
- الشيء مسرحية من ثلاث فصول
- تساؤلات وخواطر فلسفية
- حكايات من بلدتنا
- دكتور القرية
- بداية النهاية
- حياة قاسية
- صراع


المزيد.....




- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاكر خصباك - كتابات مبكرة