|
مَراكش ؛ مَلكوت المُنشدين والمُتسكعين
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 2399 - 2008 / 9 / 9 - 10:02
المحور:
الادب والفن
1 ـ الدّرب ؛ ملاحَة البَصَر : على خلافٍ واضح من مشهد " الدار البيضاء ، المتبدّية من الجوّ كما لو أنها مغروسة في بيداءٍ لا نهائية ، فإنّ " مراكش " تجلّت لناظري من نافذة الطائرة ، المُحلّقة ، عروساً فاتنة ، مصبوغة الوجنة والبشرة بإحمرار حيي ومتوشحة بفستان مخضوضر ، مرقش بأحجارها الكريمة . هذه الحاضرة ، العريقة ، حقّ لها أن تفخر على أخواتها بنعت " مدينة المسرّة " ؛ وهوَ النعت ، المُحال إلى ساحتها الأشهر ، " الفناء " ، التي لا يدعها المنشدون تنام ، أبداً . وعلى كلّ حال ، فها أنا خارج قاعة المطار ، ألتفتُ حولي بحثاً عن سيارة أجرة . ثمة مغيبٌ ، منقط بغيوم رماديّة ، خفيفة المحمل ، مُضاءة من لدن شمس مستأذنة للتوّ في إيابها لملكوت ما وراء الأفق ؛ شمس ، لا بدّ أنها تولّت نهاراً صهرَ كلّ شيء بأتونها المُلتهب . عند محطة التاكسي ، المحاذية لقاعة إستقبال المسافرين ، خيّل إليّ ، لوهلةٍ ، أنّ مشادة ما بين السائقين ، كانت في ذروتها . ولكنني أدركتُ فوراً أنها مجرد مناقشة محتدمة بين هؤلاء الأشخاص ، الذين كانوا مترجلين من عرباتهم العتيقة ، والمركونة بالمقابل في نظام صارم ، يمتّ للحداثة والتمدّن : وإذاً ، عليّ كان أن ألمّ بإحدى الخصال الطريفة لأخواننا ، المغاربة ؛ ألا وهيَ التحدّث جَمْعاً وبصوتٍ عالي النبرة حدّ الصياح ! كانوا إذاً يتهاتفون بلغطٍ شديدٍ ، قبل أن يهدأوا دفعة واحدة ما أن حاذيتُ موقفهم . وبما أنّ النظامَ صارمٌ هنا ، كما سبقَ وألمحتُ ، فإنّ الشخصَ الذي تقدّمتُ منه أرشدني إلى عربة تقف في أول الطابور ، مُشيراً لي بإتجاه سائقها : " لا تنقده أكثرَ من مائة درهم .. ! " ، قالها وهوَ يُشيّعني متبسّماً .
ذلك السائق ، المُشار إليه ، كان لحسن حظي إنساناً خلوقاً ؛ ليسَ لأنه تمنع عن مجادلتي بشأن الأجرة المتوجّبة وحسب ، بل وخاصّة ً لما سيتجشمه من عناءٍ وصبر خلال طريقنا ، بحثاً عن عنوان النزل ، المُفترض أنه كائنٌ في جهةٍ ، معروفة ، بقلب المدينة القديمة . على أنني ، ومذ لحظة إنطلاقنا بالعربة ، كنتُ على إكتراثٍ ، كبير ، بكل ما يصدفه بصري من موجوداتٍ وكائنات . من جهته ، فالسائق وقد لاحظ إهتمامي هذا ، الموصوف ، فإنه راحَ في كلّ مرة يُشير بيده نحوَ هذه وتلك من المعالم التي نمرّ بها ـ كالبوابات التاريخية ، الفاغرة أفواهها خلل السور العريق . سبعة أفواهٍ لهذه الهولة العظمى ، إذاً ؛ شاءَ إحداها أن يزدردَ عربتنا الصغيرة ليسلمها ، من ثمّ ، إلى أخيه . عمائر عديدة ، توحي بالعظمة ، كان علينا أن نمرّ بها أيضاً . وإذ صادف نظري بناء في غاية الضخامة ، فإنّ السائقَ الدليلَ لم ينسَ وسمه بـ " المأمونية " ؛ متفاخراً بأنه أهمّ نزل الحاضرة : وكان عليّ أن أتفكر عندئذٍ ، ما لو أنه الفندق نفسه ، الفخم ، الذي إحتفى في سبعينات القرن المنصرم بتصوير مشاهد من " الحبّ الضائع " ؛ الفيلم الرومانسيّ ، الرائع ، المُتعهّد بطولته كلّ من سعاد حسني ورشدي أباظة .
سعياً بإتجاه مقصدنا ، ولجَتْ سيارة الأجرة خلل إحدى البوابات ، الكبرى ، المنبثقة عن السور العتيق . رأيتُ أنها على جانبٍ من السعة والجدّة ؛ بشكلها المقوّس ، الأنيق ، ولونها المؤطر بالبياض الناصع . " إنه باب دُكالة " ، قال السائقُ مُسمّياً هذا الأثرَ ، الذي عبرناه تواً . من جهتها ، فذاكرتي إستحضرَتْ الإسمَ مُحالاً إلى الحيّ نفسه ، المُتعيّن على النزل ، المطلوب ، أن يقع عنوانه في أحد دروبه . حيوية الذاكرة ، كان يجب أن يُنشطها أيضاً عنوانٌ آخر ؛ هوَ " دربُ الزاوية " ، الكائن بمقابل المَعلِم ، الكبير ، الما لبثتْ عربتنا أن توقفت أمامه : مقام " سيدي دُكالة " ، المُتمدد بطوله المديد ، كما بلونه الأخضر ، الزاهي ـ كتنين خرافيّ . والدرب هذا ، الموسوم ، كان عبارة عن زقاق ضيّق ( أو " زنقة " ، باللهجة المحلية ) ، ينفتح مباشرة على ذلك المقام الجامع . جادّة فرعيّة ، حافلة بضوضاء المارة والمتسكعين سواءً بسواء ، كانت تفصلُ مدخلَ دربنا عن الجامع . هذه الجادّة ، تتسع هنا تحديداً مثل ساحة ، رَحبةٍ نوعاً ، حيث تتناثر الحوانيت على جانبيها ، طبعاً بإستثناء الجهة اليمنى ، المُحتبية تجاليد الوليّ " دُكالة " ؛ هذا المُعتبَر ، كما علمتُ لاحقاً ، أجلّ الرموز الروحيّة في المدينة . مَدَدْ ، إذاً ، يا مولانا .. مدد .
دربنا الضيق هذا ، المتصلُ بالجادّة والمظللُ بالعقود الحجرية ، كان مرصوداً بالأبنية التقليدية ، المُرتفعة الجدران كما أسوار الحصون المهيبة . هنا وحالَ وصولي بمعيّة السائق الكريم ـ المُحتمل إحدى حقيبتيّ ـ رأيتُ أنّ الزقاقَ المطلوب يضمّ أكثرَ من نزل ( أو " رياض " ، بحسب التسمية الدارجة ) . في صدر المكان ينتهي الزقاق بنزل ذي مدخل واسع ، بهيّ الطلعة ، قد إستعارَ إسمه ، " الحمرا " ، من النعت الذي عُرفتْ به مدينة " مراكش " ؛ نسبة ً لتربتها ، المائلة للحمرة . وها هوَ نزلنا ، المقصود ، يحملُ بدوره إسم المدينة ذاتها ، ليُشكل هكذا توأماً سعيداً مع سميّه ؛ النزل الآخر : فيما بعد ، سيحيطني أحدهم علماً بأنّ هذا الإسمَ بربريُّ الجذر ( أو أمازيغيٌّ ، كما يُفضلون هنا القول ) ، وأنه مركّبٌ من مفردتيْ " مُورّا ـ كيش " ؛ أيْ : " إمض ِ بسرعة ! " . وسبب التسمية ، أنّ المدينة بالأصل كانت واحة نخيل ، مقفرة من الناس ، بإستثناء قطاع الطرق الذين إعتادوا زمنئذٍ الإغارة على القوافل التجارية . وبأيّ حال ، فبمحض المصادفة إنّ إقامتي المراكشية سيكون عليها التوزع بين ذيْنك الرياضَيْن ، الموسومين ، بما أنني قررتُ صرفَ النظر عن السفر إلى " الدار البيضاء " ، كما كان وارداً في خطة رحلتي ؛ بعدما جدَّ حدَثٌ ، يمتّ لشأن شخصيّ . بيْدَ أنّ هذا حديثٌ آخر .
2 ـ الرّياض ؛ دوحَة الراحَة : بابُ الرياض ، الخشبيّ والمُتقن الزخرفة ، آنَ له أن يستقبل الضيفَ المُضنك من السفر . رأيتني من ثمّ بمقابل شابّ بشوش الطلعة ، فارع الطول ، تلقاني بمزيدٍ من الودّ والترحاب . نبرته ، كانت أليفة لسمعي . وحينما سألته ، ما إذا كان هوَ من تكلم معي ، هاتفياً ، بشأن الحجز في النزل ، فإنه أجابَ إيجاباً مع ضحكةٍ مَرحة ، متطبّعة بخلقه الدّمث . الوقتُ عندئذٍ كان يتوغل في غلسة الغروب ، المفعمَة بموجاتٍ من الهواء الساخن . وجدتني في صحن الدار ، المُضاء بمصابيح خافتة الإنارة ، والمنبعث منه أصواتٌ عديدة وبلغاتٍ مختلفة . كان المكانُ مشغولاً بالنزلاء السيّاح ، العائدين ولا ريب من جولاتهم وتسكعهم عبرَ معالم المدينة وأسواقها ، وقد إقتعدوا الآن على أرائك وكراس من الحديد المطروق ، والمحدقة بطاولات مستديرة من المعدن نفسه . ما أن أخذتُ راحتي على أحد الكراسي ، حتى لفتَ نظري فوراً ذلكَ القوس العجيب ، الهائل الإرتفاع ، والمنحوت في الحائط الحجريّ ، المُصمّت ، المُشكّل أحدَ الأركان الأربعة للرياض . في قلب القوس ، ذي اللون الزيتونيّ ، ثمة إفريز أفقيّ ، دقيق ، تسيل منه مياهٌ رقراقة ، متحدِّرة بتدفق هيّن نحو حوض ضيّق ، مستطيل الشكل ، موجود بأسفل القوس . نخلتان يانعتان ، منبثقة كلّ منهما من آنيةٍ فخاريّة ، عملاقة ، قد إنتصبتا على جانبيّ الحوض ـ كحارسَيْن مهيبين . فيما فخاريات اخرى ، أقلّ حجماً ، محتوية تعريشات الياسمين والورود ، كانت تمكث عند قواعد الأعمدة الحجرية ، السامقة ، المُلبّسة بالسيراميك المُزخرف ، الأزرق اللون .
ـ " مرحباً يا أخي ، وأهلاً بكَ في وطنك الثاني .. ! " إتجهتْ إليّ بالقول إمرأة سمراء ، ثلاثينية العمر ، موشّحة الرأس بخمار كامد . كانت قد خرجت تواً من المطبخ الصغير ، الذي يقع خلف مجلسي مباشرة ، محتفية ً بي على الطريقة المغربيّة : بمزيدٍ من مفردات المُجاملة وبقدح ململم ، مذهّب ، من الشاي المُعَطر بالنعناع والمُحلّى بشدّة . شكرتُ حفاوة المرأة ، المُحتشمة ، القائمة على تدبير شؤون النزل ، فيما بصري يترصد ما يحيطني من أشياء . الرياض ، القائم على دور ثلاثة ، كان مربّع الشكل ، تهيمن السماء المنجّمة على صحنه الأرضيّ هذا ، المُعدّ باحته الوحيدة . ومفردة " رياض " ، هيَ ولا شكّ جمعُ " روضة " ؛ وعَجَبي من تبَنّي الجمع لا المصدر في قاموس موطن الأطلس ! على أنّ التسمية هذه ، كما طراز البناء ، ربما يمتّ كل منهما إلى أصل أندلسيّ ، أثيل . وبما أنّ أمويي دمشق ، طيّبي الذكر ، هم من تعهدوا بدءاً تلك الحضارة الحيّة أبداً ، التي عاشت قروناً في شبه الجزيرة الإسبانية ، فلا غروَ إذاً أن تتشابه العمارة الكلاسيكية للرياض والبيت الشاميّ : هذا الأخير ، بالمقابل ، يفترق عن أخيه بأكثر من ناحية ؛ كونه من دورَيْن فقط ، ويتمتع بحديقة حافلة ، فضلاً عن إنفتاحه على أكثر من باحةٍ ، داخلية وسماوية على السواء ، ودونما أن نسلوَ الإيوان الباذخ ، المُعدّ مكاناً مفضلاً لقاطني البيت الدمشقيّ في الربيع والصيف . ولكنّ الرطوبة ، العذبة ، التي تهيمن مساءً على صحن الرياض ، تجعل له نفس المهمّة ، المنوطة بالإيوان . " شتاءً أيضاً ، يجدُ المرء الدفء هنا ، بينما البرودة تكون مهيمنة خارجاً " ، تؤكد لي مدبّرة النزل . دقائق اخرى ، وهذه السيّدة تعودُ إليّ ثانية ً ؛ هذه المرّة ، مبتسمة ، وبيدٍ ممسكة الهاتف المحمول : " جماعتكَ على الخط ! وقد سبقَ لهم هذا اليوم أن سألوا مرتين عن موعد وصولك " . كانت الساعة قد دنتْ من منتصف التاسعة ، ولهذا تعذر اللقاءُ ليلتئذٍ . دونما مزيد من المُراغمة ، وافقتُ أخيراً وعلى مضض على تأجيل موعد لقائنا إلى ظهيرة اليوم التالي .
لهذا الصباح الألِق ، العَبق ، أُنيبَ أمْرُ كشفي لغزاً لغزاً سرَّ فتنة الرياض ، المراكشيّ . هنا ، كان عليّ أن أدركَ ذوقي ، وحالما راحَ البصرُ يُحلق خلل صفق نافذة حجرة النوم ، مرفرفاً فوقَ عارشة " البوغِنفيلا " ( أو " المجنونة " ، كما نسميها في الشام ! ) . هذه العارشة الأثيرة لديّ ، كانت ثمة بأوراقها الكثيفة وأزهارها الفاتنة ، الأرجوانية ، وقد أرختْ خصلها من سطح البناء نزولاً حتى الدور الثاني . مُنتشلاً نفسي من ورْدِها المُستحبّ ، تذكرتُ أنّ عليّ إدراك وجبة الفطور ، التي من الواجب إحترام توقيتها الصباحيّ ، المحدّد . كنتُ عندئذٍ في الشقة الصغيرة ، التي أشغلها بالدور الثالث ؛ في سريري ، الوثير ، المهيمن على معظم مساحة حجرة النوم ، والمرتفعة قلانسه الأربعة المُدبّجة ، الملوكيّة . إنتقلتُ أولاً إلى الحجرة الوسطى ، كيما أحضر ملابسي . وهذه الحجرة تعتبر بمثابة الصالون ؛ بأرائكها الوثيرة ، المطوِّقة منضدة ًعريضة من خشبٍ مزخرف ، وقطعتيْ بيرو قد حُفرَت نقوشهما بإتقان ورهافة . ثمة إكسسوارات عديدة ، تحفل بها الشقة ، وكلها على النمط المغربيّ ، المميّز . قبل شروعي بطقس الإغتسال ، قمتُ إلى باب الحمّام ، الخشبيّ ، فأغلقته تجنيباً لجسدي العاري من تيار المكيّف ، البارد ؛ وهوَ الجهازُ ، الصخاب ليلاً ـ كأنما يشكو من توحّد حداثته بين هذه الكلاسيكيات ! وإلى حوض الإغتسال ، إذاً ، المخوّل لنفسه الحقّ بإستحواذ ربع مساحة الحمّام ، والمبنيّ من الإسمنت المتماهي بالبورسلين ذي اللون الأزرق . موقع الحوض ، المركون بمقابل الباب ، يُحيلنا إلى ذكاء منشئه ، ورغبته في تنسيم المكان بالهواء العليل ، المُقتر صيفاً ، طالما أنّ عمارة ذلك الزمن كانت قد أسحقتْ بعيداً عن عصر الطاقة وملحقاته .
كما أنّ السيراميك ، الأزرق ، هوَ عنوان العمارة المغربية ، فالخزف يًعدّ طابعَها المنزليّ ، الغالب على كلّ ما عداه من مواد ؛ وبالأخصّ ، على المائدة : هنا في وجبة الفطور ، السخيّة ، شُرِّعَ الخزفُ أدواتٍ مختلفة الإستعمال ؛ مرطبانات دقيقة الحجم ، ذات لون بنيّ ، يفيض كلّ منها بأنواع المربى أو العسل ؛ أقداح كبيرة وصغيرة ، يغلب عليها بريق الأزرق الأطلس ، تؤرّجُ عبقَ الشاي والقهوة والحليب ؛ صحون عريضة المنكبين ، مهيأة لتطلب الشهية من أصناف الجبنة والزيتون والزبدة والبيض . الفطور هذا ، التقليديّ ، كان لا بدّ له أن يتداخلَ مع تعديل طفيف ، إفرنجيّ ، جلباً لذوق السائح ؛ من كأس عصير البرتقال ، إلى فطيرة الحلوى ، علاوة على الـ " بنكاكا " المُستجلبة من المطبخ الأوروبيّ . وإذاً ، ما أن أوفيتُ معدتي حقها ، وزيادة أيضاً ، حتى بدلتُ مكاني . الديوان الخشبيّ ، المصبوغ بالأسود ، أضحى منذئذٍ مجلسي المفضل صباحاً ؛ هوَ المنهمدُ بدِعَة في الجهة الأكثر رطوبة من صحن الدار ، المحاذية لمسيل المياه ، المنحدر من الجدار المقوّس : هنا ، خلفي تماماً ، يتصدّر الحوشَ جناحٌ على جانب من السعة ، له صلة وثيقة بالظلال ما دام محجوباً طوال النهار عن كرة الشمس ، الملتهبة . بعيدَ فراغي من قهوتي ، الصباحيّة ، ولجتُ رفقة فضولي إلى حرمة المكان هذا . كان الجناحُ عتماً قليلاً ، لولا بصيص النور المتأتي من نوافذه والمتناثر على الأثاث . ثمة أرائك وطاولات يزدحم بها المكان ، فضلاً عن عدد من الصناديق الخشبية ، الأنتيكية ، المحتوي بعضها كتبٌ ومجلات ، سياحية ، بلغات أوروبية غالباً . من بعد ، ستمسي بعض هذه المنشورات سلوتي ، الوحيدة ، في حنيني الدائب للقراءة .
توقٌ مُلِحّ ، كان يحثني على إرتقاء الدرج الحجريّ ، الضيّق ، المُفضي لسطح الرياض . في كلّ خطوةٍ رقيَةٍ كان ثمة فانوسٌ صغير ، من معدن الحديد المشغول بدقة ، يرافق صعود المرء إلى الأدوار العليا والمنتهية بالسطح ذاك : ربما هوَ تقليدٌ قديم ، يُذكّرنا بزمن ما قبل الإنارة الكهربائية . عند الدور الثالث ـ حيث شقتي الفارهة ـ توقفتُ لألملم أنفاسي ولكي أتملى من مشهد الترّاس ، المفصول عن الشقة بجدار واطيء ودرجتين عريضتين . هذا التراس يضمّ طاولة ً مستديرة ، محاطة بعدد من الكراسي ، وكذلك بعض شجيرات الزينة ؛ من مجنونة وياسمين وبوكسيا وجوري ، المتجاورة مع أصص الخبيزة ، المذهّبة الأزاهير . أصِلُ السطحَ أخيراً ، فيما الوقت ما زالَ غير حارّ بعد . ها هنا خطفَ بصري مشهدُ " مراكش " القديمة ، الساحر ، الممتدّ حتى مركزها ؛ حتى نجمته المنيفة ، الباسقة : منارة " الكتبيّة " ، أكبر مساجد المدينة وأهم معالمها الأثرية . هوذا الجامع الآخر ، " سيدي دُكالة " ، على مرمى حجر من موقفي ، يشمخ بدوره بمئذنته العالية وقد توارى عنه غموضه ، الذي أحاط عينيّ مساءَ أمس . أسعدني ، ولا ريب ، أن ألاحظ إهتمام الأهلين بالخضرة والزهور ، والمتجلي بالعديد من الأغراس والأشجار والتعريشات والصبّار ، التي تزمّل معظم منازلهم ؛ سواء أكانت فقيرة أم موسرة . لكأنما الإهتمام هذا ، الموصوف ، هوَ تعويضٌ عن إفتقاد تلك المنازل للجنائن ، والتي مبعثها ضيق المساحة المخصصة للبناء داخل أسوار المدينة القديمة . كنتُ أهمّ بمغادرة السطح ، بعدما دهمتني الشمس بسهام أشعتها النافذة ، لحظة وقوع بصري على سطح منزل عتيق ، مجاور : مأخوذاً ، تمعنتُ بأبهة أشجارالحمضيات والرمان ، اليانعة الأوراق والمزدهرة الثمار . لم يكن قد جازَ لعلمي بعد ، أنّ شقيقات الأشجار هذه ثمة ؛ في قلب " مراكش " وحواريها ، يزينّ الشوارع والجادات والدروب ، علاوة على المنتزهات العامّة . كنتُ على موعدٍ ، مُسبق ، مع الأماكن تلك ، بما أنني سأتوجّه من فوري إلى قلب المدينة ، الخافق ؛ إلى ساحتها ، الأشهر ؛ " ساحة الفناء " .
للرحلة صلة ..
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فلتسلُ أبَداً أوغاريتَ
-
ثمرَة الشرّ : جادّة الدِعَة والدّم
-
برجُ الحلول وتواريخُ اخرى : الخاتمة
-
العَذراء والبرج 4
-
العَذراء والبرج 3
-
العَذراء والبرج 2
-
العَذراء والبرج *
-
الطلسَم السابع 6
-
محمود درويش ، الآخر
-
الطلسَم السابع 5
-
الطلسَم السابع 4
-
زمن السّراب ، للشاعر الكردي هندرين
-
الطلسَم السابع 3
-
الطلسَم السابع 2
-
دمشق ، عاصمة للمقتلة الجماعية
-
الطلسَم السابع *
-
أسمهان : أيقونة وأسطورة 2 2
-
أسمهان : أيقونة وأسطورة
-
حَواريّو الحارَة 6
-
النصّ والسينما : بداية ونهاية لصلاح أبو سيف
المزيد.....
-
الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
-
اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
-
نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم
...
-
هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية
...
-
بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن
...
-
العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
-
-من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
-
فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
-
باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح
...
-
مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل
...
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|