أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - كمال الجزولي - يَا لَبَرْقِ السَّلامِ الخُلَّبْ!















المزيد.....


يَا لَبَرْقِ السَّلامِ الخُلَّبْ!


كمال الجزولي

الحوار المتمدن-العدد: 2344 - 2008 / 7 / 16 - 10:53
المحور: حقوق الانسان
    


لم يكد الرئيس الزيمبابوي روبرت موغابي يهنأ بإعلان نفسه رئيساً للبلاد لدورة جديدة، عقب انتخابات الرئاسة التي جرت في 27 يونيو المنصرم، والتي (فاز!) بها هو، حتى انفجرت في وجهه فضيحة بجلاجل من حيث لا يحتسب! فقد نشر الموقع الإليكتروني لصحيفة (الغارديان) البريطانيَّة، (وهي كلمة انجليزيَّة تعني، في ما تعني، "الحارس" .. أيضاً!)، ومن ثمَّ تناقلت وكالات الأنباء العالميَّة، أوَّل البارحة (السبت، 5/7/08)، خبر تسرُّب شريط فيديو يفضح الطريقة التي (زوَّر!) بها (رجال الرئيس) تلك الانتخابات!
ورغم أن الكاميرا التي التقطت تلك المشاهد كان مقصوداً منها، بالأساس، تصوير سيرة الحياة اليوميَّة بالسجن، إلا أن أمر الفضيحة لا يعود، مع ذلك، للصدفة وحدها، أو لسوء طالع موغابي! فالشريط الذي تبلغ مدَّته 10 دقائق و38 ثانية، والذي التقطته، ببساطة، كاميرا صغيرة كان خبَّأها، لحساب (الغارديان)، شيبرد يودا، (حارس) السجن المركزي في هراري، هو مجرَّد قطرة في محيط زاخر بالأشرطة والأقراص المدمجة المحتوية على ما لا حصر له من صور وفيديوهات فضائح التعذيب والتزوير وغيرها من الانتهاكات والعمليات القذرة التي ترتكبها الكثير من الأنظمة القمعيَّة، والتي كان الحصول عليها، في السابق، متعذراً أحياناً حتى على الجواسيس، فأصبحت ميسورة، الآن، للصبية والهواة ولكلِّ من هبَّ ودبَّ، ويعجُّ بها ما لا حصر له أيضاً من المواقع المتاحة للمشاهدة على الشبكة العالميَّة!
الشريط ـ الفضيحة يظهر أحد عملاء موغابي من مسئولي السجن، واسمه شامبيرا، يسلم مرءوسيه، ومنهم يودا نفسه وعدد من زملائه، مظروفاً يحتوي على اللوازم الانتخابيَّة للتصويت بالمراسلة، ويستلم منهم بطاقات هويَّاتهم، ثم يأمرهم بالتصويت أمام ناظريه، وتحت مراقبته، بينما يقول رجل يرتدي زي حراس السجن لبقيَّة زملائه: "شامبيرا يراكم تصوِّتون بالتأكيد .. لا يمكنكم الاختباء"! ويضيف قائلاً: "كنت أظن أن بإمكاني التصويت عندما يشيح بنظره .. لكنه يراقب كالصقر"!
يودا صوَّر شريطه على مدى 6 أيام قبيل الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسيَّة التي قاطعتها المعارضة في زيمبابوي، ثم فرَّ من البلاد، منذ ذلك الوقت، مع زوجته الحبلى وأطفالهما، إلى جهة غير معلومة. ولا شكَّ أنه (ينعم) الآن بمكافأة (الغارديان) السخيَّة، التي لا بُدَّ تساوي مرتبه لعقود، فذلك هو ميراث (الوطنيَّة) في (جحيم) الأنظمة الفاسدة!

الثلاثاء
بالأربعاء 25 والسبت 28 يونيو المنصرم، ومن منبره نصف الأسبوعي المرموق بصحيفة (الرأي العام) الغراء، تفضل د. عبد الله علي ابراهيم (ومرغم أنا، لا بطل، في هذه المخاطبة الجافة التي وجدتها، في حوارنا هذا، بالذات، تروق، فجأة، لـ "صديقي القديم"، على غير ما اعتاد كلانا من كلينا!) بالتعقيب على ما كنت تناولت به، في رزنامة 16 يونيو، ذمَّه (مذكرة صناع الرأي) عن (حادثة العاشر من مايو 08)، في مقالتيه بتاريخ السبت 31 مايو والأربعاء 4 يونيو.
أولاً بالتبادي سأغضُّ الطرف عن مسألة (مذكرة كمال) التي وردت، مراراً، في سطور د. عبد الله، فهي "تهمة لا أردُّها وشرف لا أدَّعيه"! وسأنفذ، مباشرة، إلى ما تكرَّر في ذينك التعقيبين، ثانيهما بالأخص، مِمَّا كان استدعى، أصلاً، تعليقي الأوَّل، وهو دمغه لتلك المذكرة "بالزيغ والعوج والدغمسة"، كونها "لم تأخذ بناصية الفتنة من أطرافها، فتلقي القول الثقيل عليها بمقدار خطأ كلِّ طرف وتبعته .. لردِّ الأمور إلى نصاب السلم والسياسة والحسنى"، أو كما قال. فلقد استغربت، مثلما في أوَّل مرَّة، إصراره على استخدام هذه (المعايير المزدوجة)، حيث سبق له، هو نفسه، في كتابه (الماركسيَّة ومسألة اللغة في السودان)، أن تناول، بسداد ونفاذ بصيرة، "فتنة" الثاني من يوليو 1976م، ملقياً "القول الثقيل عليها"، لكن ليس بمقدار "خطأ وتبعة" كلٍّ من طرفيها، أو الانشغال بـ (شراكتهما) معاً في (إثمها)، مِمَّا يدعونا إليه الآن، وإنما فقط بالتركيز المطلوب على أخطر جوانبها، وأكثرها فداحة، جرائم (النميري) ورهطه السياسي والاعلامي، آنذاك، فيها؛ وبدرء (الزيغ والعوج والدغمسة) بإبداء الحدب المحمود على "زغب حواصل" كانت، وأحسبها ما تزال، وما ظننتني مخطئاً، موضع (همٍّ مشترك) بيننا! وأعجب كيف انقلب عبد الله يلومنا، الآن، وقد اتبعنا ذات النهج حين عادت ذات القوى الاجتماعيَّة والسياسيَّة، بعد نيفٍ وثلاثين سنة، سيرتها الأولى .. حذوك النعل بالنعل؟!
حيَّرني، في المرَّة الأولى، كون عبد الله لم ينتبه، على غير عادته، للتناقض الضاجِّ في منطقه هذا! أما الآن فيؤسفني، بالحقِّ، أنني عجزت، على قدر ما بذلت من جهد، عن شراء محاولته تبرير هذا التناقض بعامل (الزَّمن)، أو بما رماني به من "تعثر في الاستدلال .. مثل الذي يقارن التفاح بالبرتقال!"، قائلاً إن ذلك (الشق) من كتابه "جنس أدبي غير المذكرة"، وإنه إنما كتبه "بمهل وبعد فوات أوان الحادثة بزمن"، وأنه أراد به "صناعة الرأي العام، ولكن (لطويلة)، بجمع النصوص السياسيَّة والثقافيَّة وتحليلها بعارضة قويَّة تنفذ إلى (القارئ الفرد) متى كان وحيث كان، فتحسن (تربيته) في احترام الآخر، أما مذكرة صحبة كمال فهي جنس كتابي وقتي يريد صناعة الرأي العام وتحشيده لتدارك عقابيل (موقف مشاهد) .. أمام أعيننا!" (الرأي العام، 28/7/08).
وحتى ندقق مع د. عبد الله فهم فكرته هذه، ونختبر مدى حظها من السداد، دعونا نرفعها إلى مقام التعميم: فهل (الموقف) يساوي (تفاحاً) حين يكون بإزاء الآني، الحال، المشاهد، ثمَّ ما يلبث أن يساوي (برتقالاً) حين يمضي عليه (زمن)؟! أفهذا هو، حقاً، (الاستدلال) الصائب الذي يدعونا إليه عبد الله؟!
لنمض قدماً في هذا التدقيق، فليس عبد الله مِمَّن يُكتفى بمناقشة أفكارهم بمثل هذا الاقتضاب. ولنسلم، جدلاً، لمصلحة الحوار، بأنه كتب ذلك (الشق) من كتابه عن (حادثة الثاني من يوليو 1976م) بعد فوات أوانها. لكن يجدر، إن جاز لنا استلاف مصطلحات أهل القانون، أن نحصر، أوَّلاً، (نقاط الاتفاق والنزاع) في ما بيننا.
هكذا يمكننا حصر (نقاط الاتفاق) في أن كلا (كتابة) عبد الله عن (حادثة الثاني من يوليو 1976م)، و(كتابة) أصحاب المذكرة عن (حادثة العاشر من مايو 08) هي، بالضرورة، تعبير عن (رأي)، عن (موقف)؛ وأن أيَّة (كتابة/رأي/موقف) إما أن ترد (أوان الحادثة)، حالة كونها (آنيَّة) و(حالة) و(مشاهَدة)، أو أن (تعقبها بزمن)، ونستثني هنا، بطبيعة الحال، ما يستبقها، كاستقراء أو تحليل للتوقع؛ وأن عبد الله كتب (الشق) الخاص (بحادثة الثاني من يوليو 1976م) في كتابه، كما قال وسلمنا معه، (بعد فوات أوان) تلك الحادثة، بينما أهل المذكرة كتبوها (أوان حادثة العاشر من مايو 08).
ثم ننتقل، بعد هذا، لحصر نقاط الاختلاف في أن عبد الله أعفى نفسه من أن (يعيب) على (الطرف الآخر)، في (حادثة الثاني من يوليو 1976م)، اعتماده العنف في الصراع، بحُجّة أنه أثبت (كتابته/رأيه/موقفه) بعد مرور (زمن) على الحادثة. يعني أنه لولا مرور ذلك (الزَّمن) لكان (عاب) على (الطرف الآخر) عنفه!
ومع أننا لا نتفق معه في رجحان هذه (الحُجَّة)، إلا أننا نطرح سؤالاً نراه مشروعاً تماماً، إذا اعتمدنا منطقه نفسه في هذا التقسيم (الزَّمني) للمواقف: ما الذي حال دون أن يثبت (كتابته/رأيه/موقفه) حول عنف (الطرف الآخر) أوان تلك الحادثة؟!
ومن نقاط الاختلاف، أيضاً، قول عبد الله إنه أراد (بكتابته/رأيه/موقفه)، بعد فوات أوان الحادثة، صناعة "الرأي العام، ولكن (لطويلة)، بجمع النصوص السياسيَّة والثقافيَّة وتحليلها بعارضة قويَّة تنفذ إلى (القارئ الفرد) متى كان وحيث كان، فتحسن (تربيته) في (احترام الآخر)، أما مذكرة صحبة كمال فهي جنس كتابي (وقتي) يريد صناعة الرأي العام وتحشيده (لتدارك) عقابيل موقف (مشاهد) .. أمام أعيننا!" (الأقواس الكبيرة من عندنا).
لكن عبد الله لم يقل لنا أيَّة (صناعة رأي عام) لا تكون (لطويلة)؟! فكلُّ (كتابة/رأي/موقف) إنما هي وسائل يُتوسَّل بها لإحسان (تربية) كلِّ (فرد) على فضيلة ما، ومن ذلك (تربيته) على احترام (الآخر) في أو في غير مجتمعه، (متى كان وحيث كان). وفي هذا الإطار فإن الفرق جدُّ كبير بين تناول أيَّة (حادثة) في (أوانها) أو (بعدها)، بالتركيز على (أفدح) جوانبها حتى لا تضيع أو (تتدغمس)، من جهة، وبين العشم، من جهة أخرى، في أن (يصنع) هذا التناول (رأياً عاماً) في ذات الاتجاه الذي ترمي إليه (الكتابة/الرأي/الموقف). ويقيني أن عبد الله عميق الإلمام، فلا يحتاج لتذكير، بأن معارك (صناعة الرأي العام) إنما تدور في مستوى (البنية الفوقيَّة) للمجتمع، وأن استثمار المراكمة فيها تجري، أصلاً، (لطويلة)، وببطء، فلا يعشمنَّ كريم في أن يحصد، في التوِّ والحين، ثمار معركته ضد الاستعلاء باللغة، أو العرق، أو الثقافة .. الخ. يصدق ذلك على عبد الله في (الماركسيَّة ومسألة اللغة)، كما وعلينا في (المذكرة)! وهكذا تنهار حُجَّة (التقسيم الزَّمني) للمواقف من أساسها!
تتبقى مسألة أخيرة لفتت انتباهي بشدَّة، وكدت لا أصدق صدورها من عبد الله، بالذات، في سياق نبشه الذي بدا لي محموماً، لسبب ما، عن (معايب) المذكرة، وأعني إشارته للعنف ضد الأطفال الذي قال رآه في القرص المدمج المعروض على الشبكة العالميَّة، ووصفه، عن حق، بالسوقيَّة، لكنه استدار، فجأة، لـ (يعيب) على المذكرة أنها "حجبت نظرنا وذائقتنا عن زغب حواصل الغزوة .. الذين أواهم مركز التأهيل النفسي والاجتماعي كما ورد في تحقيق صحفي مثالي .. وهذه نبالة ومهنيَّة .. تسع الوجع. ولا أزال أطمع أن يزور قادة الرأي هذا المركز استدراكاً (لغفلتهم) عن الخير الذي انطوى في الشرِّ كما قال المجذوب"!
خير انطوى في الشر؟! تحقيق صحفي مثالي؟! نبالة ومهنيَّة؟! مركز تأهيل؟! غفلتنا؟! إيه العبارة؟! ما الحكاية بالضبط؟! ماذا جرى في هذه الدنيا؟! هل، حقاً، يريدنا عبد الله البحَّاثة، المحلل، المفكر، المدقق، المنتبه، الشديد، اللضيض، الواقع من السماء سبع مرَّات، أن نلغي عقولنا، ونسقط كلَّ معرفتنا الوثيقة به، وبقدراته، لنصدِّق أنه يمكن أن يبتلع (الطعم) بمثل هذه السلاسة؟!

الأربعاء
حدثني المترجم الصحفي أبو بكر مجذوب المكي، أحد أبناء المجاذيب، أهل طيِّب الذكر المرحوم العالم والشاعر والأديب البروفيسير عبد الله الطيِّب، والذي كان كثير الملازمة له، قال: ذات نهار قائظ من يوليو، أوائل تسعينات القرن المنصرم، كنت مع المرحوم بمكتبه بمبنى مجمع اللغة العربيَّة، وكان التيار الكهربائي مقطوعاً، ودرجة الحرارة تلامس أرقاماً فلكيَّة، فخلع جلبابه، واضطجع متأففاً، بادي الضيق، يتصبَّب عرقاً، على إحدى أرائك المكتب، بالعراقي والسروال المصنوعين من قماش الدموريَّة الشعبي. لكن ساعة النحس تلك جلبت معها شاعراً متنطعاً كان المرحوم يستثقله لكونه كان كثير التملق له! دخل علينا يرفل، برغم ذلك الجوِّ الحار، في بزة أفرنجيَّة ثلاثيَّة كاملة من الصوف الأسود، مع ربطة عنق قانية الحمرة، وبيمناه حقيبة من جلد البقر السميك، والدهن يكاد يسيل من شعره على صفحتي وجهه الصقيل!
بانحناءة متعمَّلة سلم على المرحوم، وسلم عليَّ، وجرَّ كرسيَّاً جعله قبالة المرحوم، وجلس عليه بلا استئذان، ثمَّ ما لبث أن انطلق يفاقم من لزوجة الجوِّ بأسفار من تراثيات عتيقات يخرجها، كما الحاوي، من حقيبته، ويعرضها تباعاً على المرحوم، مصحوبة بكلام مملٍّ، طويل، يزيده إملالاً وطولاً تعمُّده تحشير قاموسيات أوابد في ثنياته، بينما المرحوم يزفر سأماً، ويحاول أن يصرفه عمَّا هو سادر فيه بشتى السبل، لكن لا حياة لمن تنادي!
فجأة، بلا مقدِّمات، وبحنجرة مسرحيَّة الهدير، بلاستيكيَّة الوقار، سأل المرحوم:
ـ "يقولون، يا بروف، الشعراء أربعة: شاعر يجري ولا يُجرى معه، وآخر يصول وسط المعمعة، وثالث من حقه أن تسمعه، ورابع من حقك أن تصفعه، فأين تصنفني بين هؤلاء يا بروف"؟!
فما كان من المرحوم إلا أن ردَّ عليه، فوراً، وروحه تكاد تثب من حلقومه:
ـ "إنت ياخي ولا واحد من ديل .. إنت أركب وشِدْ البردعة"!

الخميس
يختزن الذهن الرعويُّ العام من (الأوهام) حول مهنة المحاماة أكثر مِمَّا يختزن من (الحقائق). فالمحامي، لدى هذا الذهن، هو ذلك الشخص الذي يخرج من بيته كلَّ صباح، ليمارس، في مكتبه أو في المحكمة، لعبته الأثيرة بـ (البيضة والحجر)، حتى المساء! وهي ذات النظرة المتخلفة التي عبَّر عنها، قديماً، سيرفانتس، مؤلف (دون كيشوت)، بقوله: "المحامي هو ذلك الشخص الذي يحوِّل الأبيض إلى أسود، والأسود إلى أبيض، بقدر ما يتقاضى من أتعاب"!
وبالطبع لا يمكن لأحد أن يماري في وجود مثل هذه النماذج في مهنة المحاماة، مثلما لا يمكنه أن يماري في وجود النماذج الشاذة في أيَّة مهنة أخرى. غير أن المحاماة، بحسب تيَّارها الأصيل، مهنة تتسم بالعراقة، والنزاهة، والنبل. ولعلَّ هذا بعض ما سعى النقيب الموقر، والمحامي العالم، الأستاذ ميرغني النصري، أطال الله عمره ومتعه بالصحَّة، للإحاطة به في ورقته القيِّمة بعنوان (المحاماة: دورها ومشاكلها)، والتي قدَّمها أمام الندوة التي نظمتها (نقابة المحامين السودانيين) في إطار موسمها الثقافي لسنة 1981م، أيام كانت للنقابة مواسم ثقافيَّة! فالمحاماة، كما عرَّفها لورد سايمون، بحسب العلامة هارفي في مؤلفه (متاعب المحامي)، وفي نطاق التقريرات الأنجلو ساكسونيَّة، هي "فن الإقناع الذي ينبغي أن يُمارس وفق ميثاق شرف دقيق".
راكمت المهنة قيمها العالية، ومبادئها الرفيعة، عبر قرون من الممارسة الشريفة، وفي إطار مختلف الحضارات العريقة. فالحضارة الفرعونيَّة، مثلاً، ومع أنها لم تعرف المحاماة كنظام للترافع أمام القضاء، إلا أنها عرفتها في شكل إعداد المرافعات، كتابة، عن المتقاضين، كون التقاضي، في النظام الفرعوني، كان يقوم، أصلاً، على المرافعات المكتوبة، لا الشفهيَّة. لكن الحضارة السومريَّة، السابقة على الحضارتين البابليَّة والآشوريَّة، عرفت نظام الترافع عن الغير أمام القضاء قبل ما يناهز الألفي سنة قبل الميلاد. كما شهدت الحضارة الإغريقيَّة ازدهار فن المحاماة تبعاً لما شهدته من ازدهار لفن الخطابة. واعترفت الحضارة الرومانيَّة بالمحاماة كمهنة ذات تقاليد وتنظيم نقابي منذ العام 450 ق م. أما الحضارة الإسلاميَّة، فعلى الرغم من أنها، في عصورها الأولى، لم تعرف المحاماة كمهنة، إلا أن مصادرها المعرفيَّة والقيميَّة، السنة بالذات، قد أرست الكثير من أصولها الأساسيَّة، على صعيد آدابها وأخلاقياتها، مِمَّا أتاح اعتمادها في العصور اللاحقة. فعلى سبيل المثال جاء في الحديث الشريف: "من مشى مع مظلوم حتى يثبت له حقه ثبت الله قدميه على الصراط يوم تزل الاقدام"، وفي الحديث الآخر: "فضل لسانك تعبِّر به عمَّن لا لسان له صدقة". وقد جاء الفقهاء، لاحقاً، ليرخصوا (وكالة الخصومة) التي تبيح الترافع في مجالس القضاء نيابة عن الآخرين.
أما تاريخ المحاماة المعروف في السودان فيعود إلى مملكة الفونج، ما بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، حيث اتخذت شكل الاستشارات التي درج الفقهاء على تزويد المتقاضين بها. وهكذا كان الوضع، أيضاً، خلال الحكم التركي. أما في إطار الدولة المهديَّة فتكشف بعض الكتابات والمذكرات، كمذكرات الشيخ بابكر بدري، أن التداخل في وقائع بعض المحاكمات كان متاحاً حتى لغير الفقهاء. لكن الشكل الحديث للمحاماة لم يكن معروفاً قبل صدور مرسوم الحاكم العام لسنة 1906م، مع بواكير الحقبة الاستعماريَّة. ومنذ ذلك التاريخ تواصل تطوير المهنة، عبر سلسلة من القوانين التي توالى صدورها، لاحقاً، بغرض تنظيم ممارستها، وكان أوَّلها عام 1935م.
مع الزَّمن تشعَّبت أشكال العلاقات الاجتماعيَّة في كثير من بلدان العالم، وارتقت كثير من المجتمعات إلى مراحل أعلى في سلم التطوُّر، فتراجعت سطوة الذهن الرعوي فيها، وتعززت مواقع كثير من المهن، وفي مقدِّمتها المحاماة التي يعتبرها الأستاذ ثابت المدلجي المحامي، في مقالته (المحاماة والحياة)، بمجلة (المحامون) السوريَّة، ع/5/1975م، "فن الحياة، لأنها الأوثق ارتباطاً بكلِّ ما في الحياة، ولم تكن .. إلا عندما كان الإنسان، وتنظم في مجتمع". ويعرِّفها الفقيه جون منكمان، في مؤلفه (فن المحاماة) بأنها "فن الإقناع .. في كثير من جوانب الحياة، كعلاقات التجارة والمال والعمل والسياسة، فضلاً عن القانون .. فن توجيه الدعاوى .. من خلال الجدل القانوني .. لإقناع المحكمة أو المحلفين، بحسب الحال". كما يعرِّفها السير مالكولم هلبري، في مؤلفه (الواجب والفن في المحاماة) بأنها "فن معقد .. يقتضي مواهب مسرحيَّة، وحاسَّة موسيقيَّة تأثيريَّة، ويتطلب إتقان الجدل المنطقي .. وفن الخطابة .. وإحسان التخطيط".
هكذا ترسَّخ مفهوم المحاماة، تاريخياً، في الضمير الإنساني، واقترنت المهنة بتطوُّر المجتمع البشري، وتبوَّأت مكانتها اللائقة في الوعي الاجتماعي العام في البلدان المتقدِّمة، كمفهوم وثيق الارتباط بالحياة نفسها، وكحائط صدٍّ عن أرواح الناس وكرامتهم وحريَّاتهم، وكحرز تؤتمن عنده أموالهم وممتلكاتهم وحقوقهم الأخرى، مِمَّا يستلزم، لممارستها، نسج شبكة ضخمة من المعارف الموسوعيَّة الشاملة التي لا تقتصر على الإحاطة بالقانون والفقه، فحسب، بل تمتدُّ خيوطها لتأخذ بشتى النواصي في مختلف حقول الاقتصاد، والاجتماع، والسياسة، والفلسفة، والمنطق، والدين، والتاريخ، والجغرافيا، والهندسة، واللغة، والشعر، والأدب، والطب، والكيمياء، والفيزياء، والأحياء، والتشريح، ووظائف الأعضاء، وعلم النفس، وعلم الأخلاق، وعلم الجمال، والعلوم المصرفيَّة، وإدارة الأعمال، والعلاقات الدوليَّة، وفنون المسرح، والسينما، والتشكيل، والتصوير، وغيرها.
ولئن كان شرف المحامي، كقضاء واقف، يتبدَّى، بإزاء القضاء الجالس، في التزامه بمساعدته على الوصول إلى قرار عادل في الدعوى، فإن شرفه، بإزاء نفسه، يتبدَّى في أعلى مستوى من احترامه، هو نفسه، لنفسه، قبل توقع هذا الاحترام من غيره، وفي شدَّة تمسُّكه باستقلاله المهني، قبل مطالبة الآخرين بمراعاة هذا الاستقلال، وذلك بدلالة تسلحه في أداء واجبه بأقصى درجات الشجاعة، والجرأة، والقدرة على الجهر بكلمة الحقِّ كما يراه هو، لا كما يراه موكله، دون خوف، أو رهب، أو رغب، أو أدنى استكانة لمؤثر خارجي، أو ضغط سلطوي. فالمحامي، على حدِّ تعبير النقيب الفرنسي هنري روبير، "مستقل في فكره، وعمله، وتصرفاته .. فلا هو يخضع لموكله يجاريه في دفاعه ولو كان باطلاً، ولا هو يمتثل لقاضيه يجاريه في رأيه ولو كان خاطئاً، ولا هو يحابي زميله فيلبي رغبته ولو كانت ضارَّة، ولا هو يضعف أمام الحكام ويخضع لهم ولو ظلموا"!
ولعلَّ أوَّل اختبار حقيقي لمدى احترام المحامي لنفسه، وصونه لاستقلاله المهني، يكون لحظة ورود القضيَّة إلى مكتبه، قبل أن يكون ساعة ظهوره أمام المحكمة. فقبول المحامي للوكالة أو اعتذاره عن هذا القبول ينبغي أن يخضع، أوَّلاً وأخيراً، لمدى اقتناعه أو عدم اقتناعه هو بالحق المطلوب منه الدفاع عنه، وثقته في توفر أو عدم توفر القدرة (المعرفيَّة) لديه على تقديم هذه الخدمة لموكله، بالإضافة إلى وجود أو عدم وجود عامل شخصي أو أسري أو اجتماعي يغري بهذا القبول أو يحول دونه؛ لكن، في كلِّ الأحوال، ينبغي ألا يتأسَّس (قبوله) على محض (الإغواء) بمصلحة ماديَّة أو أدبيَّة يحققها له، أو أن يتأسَّس (اعتذاره) على مجرَّد (الخوف) من خطر متوقع يدرأه عنه، حالة كون الخصم سلطة باطشة!
قدر المحاماة في بلادنا أن تشق طريق تطوُّرها من فوق صعوبات لا حصر لها، على رأسها سطوة العقل الرعوي الذي ما زال ينظر إلى المحامي كمجرَّد تابع لموكله، كمحض ترس في آلة قضيته، يقوم معه ويقعد معه، إن بالحق أو بالباطل! على أن الأكثر إيلاماً، وجلباً للحزن والأسى، هو شيوع هذا النظر الرعوي حتى بين قطاع من الممارسين أنفسهم، مِمَّن تراهم يصدرون بيانات الإدانة والتحريض ضدَّ زملاء لهم، لمجرَّد أنهم تصدُّوا للدفاع عن ثلة مهزومين أوان ضعفهم، فقد كتب على أهل هذا القطاع ألا ينفتحوا على فكر أكثر وثوقاً حول نبل هذه المهنة، أو على معرفة أكثر دقة بتاريخها، وقيمها، ومبادئها، بعيداً عن جفاء المواد، وشكلانيَّة الممارسة!

الجمعة
حين قلنا، يوم توقيع اتفاق (أبوجا)، إنه وليد ناقص الوزن، معتلُّ الصحَّة، بائن الشحوب، وإن فرصته في الحياة مرهونة بـ (حاضنة دنيويَّة) و(معجزة إلهيَّة) .. كذبونا، ومضوا يغنون له، ويقولون الشعر فيه، فلذنا بحكمة "اللهم قد بلغنا .. ألا فاشهد"!
وحين حذرنا من مغبَّته، وقلنا عدمه أفضل من وجوده، كونه لم ينتج عن تلاقح إرادات حُرَّة، بل عن مباراة غير متكافئة في (عضِّ الأصابع)، الخاسر فيها ليس من يصرخ أولاً، فحسب، وإنما سلام دارفور نفسه، بل الوطن بأسره، وقد جرت في (مُولد) زائط بالسحرة، والحواة، والمهرِّجين، من كلِّ شاكلة ولون، كما وبشتى صنوف الضغط، والتهديد، والوعيد، على كلِّ الأصعدة المحليَّة، والإقليميَّة، والدوليَّة .. قالوا: مغرضون، حاقدون، موتورون، ثمَّ انطلقوا يرتبون للمناصب، والحقائب، والامتيازات، ويرقصون على شهيق برق السلام الخلب!
والآن، ما كاد يحول حول (أبوجا) الثاني، حتى اختفى مني أركو، (كبير!) مساعدي رئيس الجمهوريَّة، من مكتبه بالقصر، ليظهر، بعد حين، في الفضائيات والصحف، بلباسه العسكري، ووسط جنوده، ينذر من مكان لا نعلمه، الله يعلمه، بأنه "سيتدخل تدخلاً (خشناً) حال عدم إبداء شريكه في الاتفاق جديَّة في التنفيذ!" (قناة الشروق، مساء 11/7/08).

السبت
نادر جداً، في عالم اليوم، أن يخلو بلد من أزمة وطنيَّة، قديمة أو جديدة، هنا أو هناك، وعلى نحو أو آخر. سوى أن الفارق الجوهري بين خصائص حركة سياسيَّة في بلد، وبين خصائص غيرها في بلد آخر، هو قدرتها على تقديم التنازلات اللازمة لإحداث الإنفراج المطلوب في هذه الأزمة أو تلك.
بالأمس اتفق فرقاء الحركة السياسيَّة اللبنانيَّة على إحداث الاختراق المرغوب فيه لتجاوز الأزمة التي ظلت ناشبة هناك ردحاً من الزمن. أنجزوا مساومة تاريخيَّة قدَّم بعضهم لبعض، بموجبها، من التنازلات ما سمح بالتوافق على رئيس جديد للجمهوريَّة، وتشكيل مجلس جديد للوزراء نالت الأكثريَّة فيه 16 مقعداً، والمعارضة 11 مقعداً، أو (النصيب الضامن)، بينما خصصت لرئيس الجمهوريَّة 3 حقائب.
هكذا (تراضى) الجميع، وطابوا نفوساً .. فما نيل المطالب بالتمنِّي، وما كلُّ ما يطلبه المرء يدركه!
لكن، قبل أن نتشهَّى حال لبنان، علينا أن ندرك كلمة السِّر فيه: توازن القوى!

الأحد
أورد ياقوت في (معجم الأدباء) أن أبا العيناء سُئل، مرَّة، عن والي الجزيرة، وقتها، مالك بن طوق، فقال: "لو كان في بني إسرائيل حين نزلت آية البقرة لما ذبحوا غيره"!



#كمال_الجزولي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نَزِيهْ جِدَّاً!
- نضمي .. نضمي .. نضمي!
- أنَا .. عَبْدُ المَأمُورْ!
- عَنْ شَرَاكَةِ الحِصَانِ وصَاحِبِهِ!
- سِيكُو!
- مِزمَارُ الحُلمِ الهَشِيم!
- الحَنْجُورِي!
- وَلا صِرَاخُ العَالَمِ .. كُلِّهِ؟!
- القَدَّال: كَثُرَتْ تَوَاريخُ المَرَاثِي!
- وَدَاعاً .. يَا حَبيبْ! إِرُونْ جَنَّقْ تِيرْ فِيَّام
- كُنْ قَبيحَاً!
- جَثَامِينٌ فِي حَشَايَا الأَسِرَّة!
- قُبَيْلَ حَظْرِ التَّجْوَالْ!
- قَانُونٌ .. دَاخلَ خَطِّ الأَنَابيبْ!
- أَلاعِيبٌ صَغِيرَةْ!
- النَيِّئَةُ .. لِلنَارْ!
- أوريجينال!
- يَا لَلرَّوْعَةِ .. أَيُّ نَاسٍ أَنْتُمْ؟!
- وَمَا أَدْرَاكَ مَا .. حَدَبَايْ!
- كَابُوسُ أَبيلْ!


المزيد.....




- مسؤول في برنامج الأغذية: شمال غزة يتجه نحو المجاعة
- بعد حملة اعتقالات.. مظاهرات جامعة تكساس المؤيدة لفلسطين تستم ...
- طلاب يتظاهرون أمام جامعة السوربون بباريس ضد الحرب على غزة
- تعرف على أبرز مصادر تمويل الأونروا ومجالات إنفاقها في 2023
- مدون فرنسي: الغرب يسعى للحصول على رخصة لـ-تصدير المهاجرين-
- نادي الأسير الفلسطيني: الإفراج المحدود عن مجموعة من المعتقلي ...
- أمريكا.. اعتقال أستاذتين جامعيتين في احتجاجات مؤيدة للفلسطين ...
- التعاون الإسلامي ترحب بتقرير لجنة المراجعة المستقلة بشأن الأ ...
- العفو الدولية تطالب بتحقيقات دولية مستقلة حول المقابر الجما ...
- قصف موقع في غزة أثناء زيارة فريق من الأمم المتحدة


المزيد.....

- مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي / عبد الحسين شعبان
- حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة / زهير الخويلدي
- المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا ... / يسار محمد سلمان حسن
- الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- نطاق الشامل لحقوق الانسان / أشرف المجدول
- تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية / نزيهة التركى
- الكمائن الرمادية / مركز اريج لحقوق الانسان
- على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - حقوق الانسان - كمال الجزولي - يَا لَبَرْقِ السَّلامِ الخُلَّبْ!