أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حكمت الحاج - المرأة والحداثة والتفكيك والجندر في العالم العربي في حوار مع د. رجاء بن سلامة















المزيد.....



المرأة والحداثة والتفكيك والجندر في العالم العربي في حوار مع د. رجاء بن سلامة


حكمت الحاج

الحوار المتمدن-العدد: 2108 - 2007 / 11 / 23 - 11:58
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


تُدَرّس د. رجاء بن سلامة نظريات “التّفكيك” Deconstruction مطبّقا على الدّراسات العربيّة في كلّيّة الآداب والفنون والإنسانيّات بالجامعة التونسية، وتدرّس الخطاب عن المرأة وعن الجندر في العالم العربيّ في نطاق “ماجستير الدّراسات النّسائيّة” بالمعهد العالي للعلوم الإنسانيّة، تونس. تنشر مقالات عن القضايا الدّينيّة وعن وضعيّة المرأة العربيّة في عضو هيئة تحرير مجلّة Transeuropéennes التي تصدر بفرنسا. عضو هيئة قراءة مجلّة إيبلا (معهد الآداب العربيّة) بتونس. حاصلة على دكتوراه الدّولة في اللّغة والآداب والحضارة العربيّة، أستاذة محاضرة بكلّيّة الآداب والفنون والإنسانيّات، منّوبة، تونس، عضو في جمعيّة "الفضاء التّحليلنفسيّ الفرنسيّ التّونسيّ" ، عضو مؤسّس لجمعيّة "بيان الحرّيّات بفرنسا" . التقيناها بتونس للحديث عن الحداثة والحداثة العربية وما بعدها، ونظرية التفكيك، والشأن النسوي في العالم العربي، فكان هذا الحوار:

* ما هو “التفكيك”؟ وكيف نستعمله في الإجراء النقدي، وخاصة حين النظر إلى التراث؟ إلى النصوص عامة؟
- لا أجرؤ على تقديم تعريف بالمعنى التّقليديّ للتّفكيك، وعلى الذي ينطلق من موقع التّفكيك أن يقاوم إغراءات المفهوم والمعرفة الشّموليّة الميتافيزيقيّة. وإذا عدنا إلى النّصّ الوحيد الذي فصّل فيه جاك درّيدا دوافع اختياره للّفظة الفرنسيّة déconstruction عنوانا لتجربته الفكريّة، وجدناه يلحّ على التّعريفات السّلبيّة للتّفكيك، بحيث أنّه ليس هدما وليس نقدا وليس تحليلا… الخ.. وإن كان فيه شيء من كلّ هذا. إنّه تجربة مختلفة ومتموقعة ومعرّضة إلى الاختلاف، وهو لا ينبني على جهاز مفاهيميّ بقدر ما ينبني على “حزمة” من الكلمات المفاتيح التي يردّد بعضها صدى بعض ومنها: النّابتة والتّناثر والأثر والفرماكون والكتابة والاخـ (ت)لاف… ومع ذلك، فقد اضطررت في تدريسي للتّفكيك أن أقدّم بعض الإحداثيّات التّوضيحيّة التي أحاول أن أكون فيها وفيّة لهذا الفكر المفارقيّ والرّاديكاليّ، كأن أقول إنّه ليس الهدم وإن كان يحمل شيئا من الهدم تدلّ عليه الكلمة الفرنسيّة، وإنّه بحث غير مستقرّ عن المفاهيم والدّوالّ والآليّات التي تكوّن المنظومات الفكريّة، ومحاولة اكتشاف لكيفيّة بنائها، وللممكنات التي أحكمت إقصاءها لكي تتأسّس وتنغلق، ولقسط اللاّمفكّر فيها، وللمنفعة غير البريئة التي ترمي إليها. وتفكيك النّصوص الأدبيّة يخضع خاصّة إلى مسار اكتشاف الكتابة باعتبارها تكمن في البصمة الفريدة، وباعتبار أنّ المهمّ في النّصّ الأدبيّ شبيه بالمهمّ في الحلم الذي نحاول تأويله: إنّه الرّاسب الذي يستعصي على العقلنة والبقيّة التي تبقى بعد أن قمنا برياضات الفهم واستخراج البنية. ويضيق المجال عن ذكر تجذير درّيدا للكتابة وانطلاقه منها لمراجعة الأوهام المثاليّة ومراجعة ثنائيّة الدّالّ والمدلول. وعلى سبيل المثال، لتجربة التّفكيك فاعليّة كبرى في اكتشاف مفترضات الخطابات السّلفيّة المعاصرة وتعرية ضروب الدّور والتّسلسل والمغالطات الذي تنبني عليه، وعنف بنائها للموضوع قبل الشّروع في الحديث عنه.

* انطلاقا من كتابك الصادر قبل مدة قصيرة، ما النتائج التي توصلت إليها عبر هذا النوع من المنهجية النقدية، في تحليل مفهوم العشق وعلاقته بالكتابة؟
- هذا سؤال مثقّف كسول لا يريد قراءة الكتاب ويريد مع ذلك معرفة ما فيه.

* كلا، أبدا، إنه سؤال صحفي يهتم بقرائه قدر شغفه بأطروحة جامعية ضخمة وصعبة، كالتي أقدمت على نشرها مؤخرا، والتي هي مدار حديثنا هذا.. لذا اسمحي لي أن أعيد طرح السؤال مجددا..
- سأحاول إجابتك متجنّبة تلخيص الكتاب لأنّه لا يوجد كتاب قابل للتّلخيص، وسأحاول إجابتك انطلاقا من المسافة التي تفصلني حاليّا عن هذا الكتاب. كانت الأسئلة التي حفزتني على كتابة هذا البحث بسيطة: لماذا جنّ المجنون، مجنون ليلى، لماذا أنتجت قرائح العرب ذلك الكمّ الهائل من موتى العشق، إلى حدّ أنّ المعجم الوحيد الذي ورثناه في هذا المجال هو معجم في “من استشهد من المحبّين”، لماذا ارتبط الحبّ بالمرض والحزن، ولماذا ارتبط بالمسّ وبالامتلاك واعتبرت الغيرة فيه فضيلة؟ كتبت هذا الكتاب محاولة الاستفادة من التّحليل النّفسيّ المعاصر ومن التّفكيك معا، فقمت بعمليّة ترجمة للّغة التّراثيّة، هي مظهر من مظاهر التّفكيك ومن مظاهر تحويل الميتافيزيقا إلى ميتاسايكولوجيا كما يقول فرويد: فالحبّ العذريّ يصبح عصابا ثقافيّا دالاّ على العجز عن الحبّ، والعفّة التي تنبني عليها أسطورة هذا الحبّ تصبح تنظيما لمنع حبيبة تلتبس صورتها بصورة الأمّ، والتّقوى التي تجعل العاشق يعصي رغباته تصبح متعة بالمازوشيّة الأخلاقيّة، وموت العاشق على قبر حبيبه الميّت يصبح علامة على رفض الحداد وعلى ابتلاع الحبيب الميّت ومحاكاته في موته كما سبقت الإشارة..الخ فالعشق إلى حدّ الجنون أو الموت ليس دليلا على شدّة العشق بل على العجز عن العشق والعجز عن قبول واقع الانفصال، إنّه رفض للإخصاء الرّمزيّ وتعويض له بالحرمان الخياليّ، إذا أردنا أن نستعمل مصطلحات التّحليل النّفسيّ اللاّكانيّ [نسبة إلى جاك لاكان]. ففي هذا النّوع من العشق يصبح الشّوق اعتلالا يهدّد وحدة الجسد ويصبح المعشوق الممنوع جنّيّا يصرع العاشق، وتصبح كتابة العشق شكوى وبكاء لا نداء وطلبا للوصل المحيي. يستغني العاشق عن المعشوق، وتستغني كتابة العشق عن العالم. وهناك نوع آخر من العشق القاتل يظهر في صور الذين عشقوا “بين يدي الأب”، فقدّموا لنا صورا غير أوديبيّة، الأب فيها ليس مقتولا بل قاتل… وفي هذا البحث تحدّثت عن صورتين عشقيّتين بدا لي أنّهما تمثّلان إمكانيّتين من إمكانيّات تحقيق الذّات في العالم العربيّ: صورة شخص خرج من الوهم وأدرك الواقع، وصورة شخص تمسّك بوهمه ولجّ في جنونه.الصّورة الأولى يمثّلها موسى، كليم اللّه الذي أدرك استحالة رؤية وجه اللّه عندما صعقه نور اللّه من وراء الجبل، فأدرك أنّه من المستحيل الاتّصال المباشر بالذّات الإلهيّة، وعاد إلى الواقع، والصورة الثّانية هي صورة مجنون ليلى الذي يغمى عليه ثمّ يفيق ولا يدرك المستحيل بل يلجّ في ملاحقته كما يلجّ في الجري وراء الظّباء، يظلّ باكيا وهمه مبتنيا المدينة في قلبه، معوّضا الفعل بالانفعال، مستمرّا في بكاء الأطلال على نحو مخالف لما كان يفعله القدامى: فقد كانوا يقفون على الأطلال ويبكونها ثمّ ينصرفون لقضاء حاجاتهم وقد أدركوا أنّ الماضي لا يعود.

* هل يمكن لأي منا أن يتحوّل إلى ناقد تفكيكي؟ وكيف؟
- سؤال طريف وساذج. أوّلا يجب أن أنبّهك إلى أنّ التّفكيك وإن كان يعتني بالكتابة الأدبيّة، فهو ليس نقدا أدبيّا، أو ليس نقدا أدبيّا فحسب، بل هو تفكير وتجربة تبحث في مختلف المنتوجات والأنشطة الثّقافيّة، ومع ذلك فإنّ الأدب يحتلّ مكانة هامّة في فكره لأنّه من الهوامش التي يفتح عليها درّيدا الفلسفة لكسر الانغلاق الميتافيزيقيّ، فالأدب يمثّل ربّما ذلك “الجنون الذي يسهر على الفكر”. الذي يريد أن ينطلق من التّفكيك للتّفكير في النّصوص والمنظومات عليه في رأيي أن يتخلّص من هيمنة قواعد المنطق الأرسطوطاليسيّ، وأيسر سبيل للتّخلّص من هذه الهيمنة هو قراءة فرويد وخاصّة كتابه في “تفسير الأحلام”، لاكتشاف تعقّد الذّات البشريّة، ذات اللاّوعي، فمفاهيم التّكثيف والتّحويل والازدواج والكبت والإنكار… أقدر على تعريفنا بالإنسان وبمنتوجاته الخياليّة من مبادئ الهويّة وعدم التّناقض والثّالث المرفوع. وعليه أن لا يدّعي السّيطرة على النّصوص والأشخاص وأن يحاول اكتشاف غيريّة كلّ مختلف وغرابته بدل جرّه إلى شبكات فهمه الخاصّة. وعليه، وهذا الأهمّ أن يتعلّم ويقرأ نصوص نيتشه وفلاسفة الاختلاف ونصوص جاك درّيدا بنفسه ولا يكتفي بما ينشر هنا وهناك من تعريفات شوهاء أو مجتزأة.

* هل يمكن أن أكون تفكيكيا من دون أن أعتمد مرجعية غربية؟ بمعنى هل يمكن أن أكون سلفيا تقليديا وفي نفس الوقت ناقدا تفكيكيا، كما هو الحال عند بعض نقادنا العرب في المشرق العربي خاصة؟
- التّفكيك فكر تحرّريّ وراديكاليّ وإنسانيّ، ولذلك تتناقض منطلقاته مع كلّ سلفيّة وكلّ إيديولوجيا انتماء قوميّ أو دينيّ. ولكنّنا في العالم العربيّ وكما سبق أن قلت، ننتج كلّ الخلطات العجيبة والممكنة. ترجم فكر جاك درّيدا إلى كلّ لغات العالم، وهو يدرّس في القارّات الخمس، وأعتقد أنّ المثقّفين والنّقّاد العرب، باستثناء بعض المحاولات القليلة، ما زالوا غير مستعدّين لقبول هذا الفكر وفهمه. ولذلك تقرأ أشياء عجيبة عن هذا الفكر لدى أبرز النّقّاد العرب وتتساءل هل يتعلّق الأمر بالتّفكيك أم بأوهام وتصوّرات عن التّفكيك. عوض أن ينكبّ الباحثون العرب على تثقيف أنفسهم ومحاولة قراءة نصوص هذا المفكّر يبادرون إلى الاستغاثات والعاطفيّات، فيشبّه بعضهم التّفكيك بـ”الثّور الهائج في حانوت العاديات” ويسارع إلى الإعلان عن إفلاسه وهو لم يفهم ولم يعرّف على الوجه الصّحيح بأيّ مفهوم من مفاهيمه، وهناك من يحاول إرجاع هذا الفكر إلى اليهوديّة والحال أنّ التّفكيك هو تفكيك لكلّ أنطولوجيا لاهوتيّة، والحال أنّ درّيدا يقول عن نفسه إنّه يهوديّ لايهوديّ في الوقت نفسه، أي أنّ انتماء آبائه إلى هذه الدّيانة لا يعني أنّه يتّخذها مرجعيّة أو مصدرا للتّفكير... وعلى كلّ، فإنّ ما حصل في القاهرة سنة 2000 عندما دعي درّيدا والتفّت حوله مجموعة من المفكّرين العرب لمحاورته له دلالة على منزلة هذا الفكر من ثقافتنا، وعلى المستوى الفكريّ لمثقّفينا، فقد اضطرّ درّيدا إلى أن يقول لهؤلاء: اقرؤوني أوّلا ثمّ ناقشوني. المشكل ليس كامنا فقط في إساءة الفهم وفي ردود الفعل الثّقافويّة والقوميّة المتناقضة مع قواعد القراءة ومع ضرورة نقل المعارف الحديثة، بل في وجود كتّاب عرب مشهورين يتّخذون إساءة الفهم وإساءة القراءة وإساءة التّرجمة منهجا، ويتّخذون أوهام الهويّة والأصالة فلسفة. والمشكل ليس في وجود أشباه المثقّفين والمفكّرين والمترجمين هؤلاء، بل في تحوّلهم إلى نجوم ثقافيّين، وفي وجود مؤسّسات راعية للأدب وللثّقافة تسند الجوائز لمن يبرعون في هذه الخلطات العجيبة، أو لمن يهاجمون المعارف النّقديّة الحديثة، أو لمن يكتفون بإعادة إنتاج المعارف التّقليديّة الباهتة، ويجب أن يكتب تاريخ هذه المؤسّسات والدّور السّلبيّ الذي لعبته في إعاقة عمليّة التّحديث الفكريّ عندنا.

* درّست مادة “قصيدة النثر” في الجامعة التونسية: كيف كانت آفاق تلك التجربة؟ هل أصبحت قصيدة النثر موضوعا مرضيا عنه إلى درجة أن يدرس في الجامعات العربية؟
- درّست قصيدة النّثر من باب الرّغبة في سدّ الهوّة الفاصلة بين المؤسّسة الأكاديميّة المحافظة بطبعها والممارسة الأدبيّة الحيّة والمعاصرة. وازداد حرصي على تدريسها عندما اندلعت سنة 2001 تلك المعركة بين خصوم قصيدة النّثر وأنصارها إثر مقال نشره الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي في الأهرام يشكّك فيه في “شرعيّة” هذا الشّكل، فهذه أيضا معركة أخرى من معارك الحداثة لا تقلّ أهمّيّة عن المعارك السّابقة. وازداد حرصي على تدريسها عندما جابهتني المؤسّسة الأكاديميّة بالرّفض، وتأكّدت أنّ معركة قصيدة النّثر مرتبطة بقضيّة المرأة وأشكال التّسلّط الذّكوريّ. ليس هذا مجال عرض كلّ الملابسات التي حفّت بهذا الرّفض الذي جابهني، والذي كان منعرجا في حياتي المهنيّة والفكريّة، ولست أدّعي لنفسي بطولات خارقة للعادة. ولكن أكتفي بالقول إنّ أحد النّقّاد البارزين في السّاحة العربيّة وممّن يدّعون الدّفاع عن الحداثة الشّعريّة كان من المعارضين لهذا التّدريس، وأنّ من الحجج التي قدّمها لي الرّجل المسيّر لقسم اللغة العربيّة آنذاك ناسبا إيّاها إلى عَلَم كبير من أعلام الشّعر العربيّ هي أنّ هذه القصيدة ليست نثرا ولا شعرا، فهي إذن “خنثى” غير جديرة بالدّراسة. وهو ما يدلّ، بما أنّنا كنّا نتحدّث عن الجندر، أي النوع الاجتماعي، على أنّ “النّظام الجندريّ” الذي يحكم ترتيب الفوارق بين ما هو ذكوريّ وما هو أنوثيّ ويقصي ما هو غير مكتمل الفحولة لا يقتصر أمره على النّواحي الاجتماعيّة بل يتعدّاها إلى الأنشطة الفكريّة، وهو ما يدلّ على أنّ نظام الإقصاء الذّكوريّ يأخذ تلاوين كثيرة، وعلى أنّه نشيط في كلّ عصر، يطرد من مدنه الفاضلة النّساء والخنثاوات والضّعفاء والمجانين، ولكنّه يطرد أيضا كلّ الأشكال الإبداعيّة التي تتجلّى فيها حرّيّة المتخلّصين من عبادة الأصنام. وهو ما يعني أخيرا أنّ قصيدة النّثر ليست مَرْضيّا عنها في الجامعات العربيّة كما تقول، رغم وجود حركة نقديّة جديدة حولها. على كلّ حال، نجحت في تدريس هذا الشّكل في مؤسّسة أخرى غير المؤسّسة العريقة التي أنتمي إليها، في قسم كانت تديره امرأة، فاهتممت بموضوع الرّقابة التي واجهها الشّعراء الذين التفّوا حول مجلّة “شعر” البيروتيّة، فلا ننسى أنّ مجموعة “لن” لأنسي الحاج، التي صدرت سنة 1960 قد صودرت في الكثير من البلدان العربيّة، وقد وجدت في أعداد كثيرة من هذه المجلّة صدى للمشروع التّحديثيّ الذي جوبه بالرّفض آنذاك. ثمّ كان عليّ أن أفكّر في أدوات المقاربة التي لا بدّ أن تكون جديدة. فالنّقد العربيّ القديم ومنظومة البيان بصفة عامّة منظومة ميتافيزيقيّة تقوم على ثنائيّة المعنى واللّفظ وعلى مفهوم قضيبيّ رمزيّ هو “عمود الشّعر”، أي القواعد التي قنّنها الأجداد وخضع إليها الفحول، لا يمكن طبعا أن يكون أداة للمقاربة، والمتّهمون للشّعر الجديد بالغموض لهم في الحقيقة منطلقات بيانيّة لا تهيّئهم لتقبّله. ولكنّ المناهج البنيويّة والسّيميائيّة التي تجرّد النّصوص من كتابتها وتخرج منها بهيكل عظميّ لا يخصّص أيّ نصّ لم تكن ذات جدوى بالنّسبة إليّ، لأنّني لن أنسى درس فرويد في تحليل الأحلام: لون منقار العصفور قد يكون أهمّ من العصفور ذاته ومن الحلم بأكمله. هذه القصيدة الغريبة اليتيمة، التي لا تبحث عن اعتراف الأجداد وتعرض عن مرافئ الأمان القديمة والجديدة: مرافئ الوزن والقافية والمعنى والرّومانسيّات المستهلكة والأسطورة والصّوفيّات، وجدت في التّفكيك والكتابة أدوات لمقاربتها. فالنّقد أيضا يجب أن يتخلّص من مرافئه القديمة وأشيائه المعبودة: معتقدات التّعبير والمحاكاة والمعنى المتحدّد والجملة المفيدة والبنية المتحدّدة والدّلالة الكلّيّة… وفي الحقيقة لا يقتضي التّعامل مع القصائد الجديدة الغريبة منهجا بقدر ما يقتضي وضعيّة قيميّة جديدة، وهيئة نفسيّة أخرى تحترم غيريّة النّصّ وغرابته ولا ترى فيه مجرّد مرآة عاكسة لهواجس القارئ، ولا تريد أن تجرّه إلى شبكات قراءة تقبض على النّصّ كما تقبض العنكبوت على فريستها. إنّها وضعيّة تواضع تكتشف تناثر الدّلالات وتتعجّب من وتعجب بأجراس الدّوالّ، وتقف على “اللاّمتقرّر”، وتريد أن تعرف لماذا وكيف يلفّ الشّاعر كلماته بصمت الفراغ الطّباعيّ. لم يكن من السّهل تعويد من نشأ على البنيويّة والمناهج الواثقة من نفسها أن يقول في أعقاب عمليّة شرح النّصّ: ربّما وربّما…، وأن يتخلّى عن عبادة الأشياء النّقديّة وأن يتخلّى عن وهم السّيطرة على النّصّ… ولكنّها كانت تجربة ممتعة ومفيدة فيما أعتقد.

* من منظور التفكيك أيضا، أرجوك أن تعطينا وصفة جاهزة لقصيدة النثر بوصفها موقفا من العالم واللغة والتاريخ الأدبي؟
- لا يمكن تقديم وصفة جاهزة للنّقد فما بالك بالشّعر. ولكن يمكن أن أرسم لك صورة عن الشّاعر الذي ينهض دون ادّعاء بأعباء الحداثة بما هي تجربة يُتْم وتجربة حرّيّة. إنّه لن يسدّ الباب أمام ضيوف الشّعر الثّقلاء أحيانا: الجنون والغرابة والتّداعيات الحرّة والشّطح غير الصّوفيّ، والمحال أو المستحيل، ومع ذلك فإنّه سيظلّ يفكّر بالصّورة ورغم الصّورة. إنّه سيكون سليل الهائمين في أودية الكلام، المطرودين من مملكة المركزيّة العقليّة القضيبيّةّ، ولن يرضخ إلى مقرّرات أجهزة السّلطة النّقديّة التي تعقلن وتغلق أبواب الجنون الخلاّق، وسيبتعد عن اللّغة الخشبيّة الشّعريّة التي يستملحها عامّة المتقبّلين والنّقّاد، ولكنّه مع ذلك لن يكون سجين أيّ صورة مرآتيّة يقدّمها له الآخرون. سيبرح دائما الأمكنة التي حدّدت سلفا، وسيكون شاعرا دون أن يلعب دور الشّاعر. قصيدة النّثر هي هذا التّناقض الإبداعيّ الذي يجعل الشّعر لا يدّعي أنّه شعر، هي نفسها تفكيك لكلّ الثّنائيّات والمعبودات الأدبيّة، قبل أن تكون نصّا قابلا للتّفكيك.

* في معظم كتاباتك النسوية نحد تلك الفكرة المحورية وهي [اسمحي لي بتلخيصها ولو على شكل قد يخلّ بمعناها] إن المرأة في مجتمعاتنا العربية تولد وهي آثمة بل ومؤثمة، إن صحّ التعبير، فإلى أي حد علينا أن ننظر بتفاؤل إلى وضع المرأة ومشاركتها في الحياة العامة؟
- إنّ تطوّر أوضاع المرأة العربيّة نحو المزيد من الحرّيّة والفعل الواعي في الواقع، أي “صنع القرار” أمر تسير المجتمعات العربيّة في اتّجاهه، رغم العوائق ورغم التّفاوت بين مختلف البلدان العربيّة في هذا المجال. إلاّ أنّ المشكل يكمن في بطء هذه السّيرورة في العالم العربيّ عامّة، إذا ما قورنت بالتّدنّي اللاّفت للنّظر لكلّ المؤشّرات التي يمكن أن نقيس بها هذه الحرّيّة المسؤولة التي نسمّيها “صنع القرار”. فالبلدان العربيّة مثلا تأتي في المرتبة قبل الأخيرة من حيث مقياس تمكين المرأة، وتأتي في المرتبة الأخيرة من حيث نسبة تمثيل النّساء في البرلمانات العربيّة في البلدان التي توجد فيها هذا الهيكل التّمثيليّ الدّيمقراطيّ (فهي لا تعدو خمسة فاصل سبعة بالمائة). إنّ ما نقيس به تاريخ الشّعوب غير ما نقيس به أعمار الأفراد التي هي قصيرة مهما طالت. وإذا نظرت إلى المسألة من وجهة نظر الأفراد شعرت بالانقباض. فالكثير ممّا طالبت به النّساء والرّجال منذ ما يزيد عن القرن لم يتحقّق لا سيّما في مجال الأحوال الشّخصية رغم تعاقب عدّة أجيال منذ بذور حركات التّحديث والحركات النّسائيّة الأولى. معنى ذلك أنّ شرائح كبيرة من النّساء العربيّات ستطوى أعمارهنّ دون أن يطالهنّ هذا التّطوّر نحو المزيد من الحرّيّة والمسؤوليّة والمزيد من “صنع القرار”.. وفيما يتعلّق بتجربتي الخاصّة جدّا كامرأة جامعيّة تونسيّة، وكزوجة وأمّ، أقول إنّ الشّروط الموضوعيّة للمساواة من تشريعات وتكافؤ للفرص يمكن أن تتحقّق للمرأة، وتظلّ مع ذلك البنى الفكريّة والعقليّات الذّكوريّة فاعلة بصمت في اتّجاه مخالف للمساواة. فالمرأة الحاملة للشّهائد العليا تظلّ متّهمة بعدم الكفاءة لأنّها امرأة، وعليها دائما وباستمرار أن تثبت العكس، وعليها أن تعمل أضعاف ما يعمل الرّجال، وعليها أن تقاوم باستمرار اختزالها في الأنثى وأن تذكّر دائما بأنّها إنسان متعدّد الأبعاد، فهي الأمّ والزّوجة والمواطنة والكائن البشريّ في نفس الوقت.. وعليها أن تثبت أنّ ما حقّقته من نجاح قد حقّقته بجهدها وعنائها. المرأة في بلداننا، ومهما كان مستواها الاجتماعيّ والعلميّ، تولد آثمة وتظلّ طيلة حياتها تحاول إثبات العكس.

* ما موقفك الكامل والواضح من قضيّة “الحجاب” ومعركته، سواء أكان ذلك في فرنسا، أو في العالم العربي والإسلامي؟
- يجب أن أوضّح أوّلا أنّ كلمة “حجاب” قد تطوّرت، فمعناها في القرآن ولدى روّاد النّهضة غير معناها اليوم، ومعركة الحجاب والسّفور في النّصف الأوّل من القرن العشرين غير معركة الحجاب اليوم. الحجاب بالمعنى القديم هو المؤسّسة الأبويّة التي تقتضي الفصل بين المجال الخاصّ والمجال الذي تلزمه النّساء الحرائر، أي “ربّات الخدور”، والمجال العامّ الذي يتحرّك فيه الرّجال، باعتبارهم قوّامين على النّساء، أي يكتسبون ويتولّون الولايات العامّة إضافة إلى الخاصّة. ولكنّ المسألة لا تقتصر فحسب على مجرّد “هندسة الفضاء الاجتماعيّ”، إنّها أعمق بكثير : فالمجتمع الأبويّ الذي دعّمته الأديان التّوحيديّة ومنها الإسلام، يقوم على أنواع من التّبادل أحدها تبادل النّساء، والرّجال هم الذين يتبادلون النّساء الحرائر في نطاق مؤسّسة الزّواج، وهذا التّبادل كان بضائعيّا ورمزيّا في الوقت نفسه، أي أنّ الرّجل إذا أراد الزّواج كان يدفع ثمنا لوليّ المرأة هو المهر، ولكنّ المرأة لم تكن مجرّد بضاعة بشريّة، لأنّ الزّواج تبادل ذو طبيعة رمزيّة. فالزّوجة الحرّة هي التي تضمن حفظ الأنساب وتساهم في الرّأسمال الرمّزيّ للرّجل، الذي يسمّى الشّرف أو العرض. فالحجاب باعتباره فصلا بين النّساء والرّجال كان يضمن الحفاظ على الأسرة الأبويّة وكان آليّة من آليّات الفصل والتّمييز بين الذّكور والإناث، ولذلك ارتبطت مؤسّسة الحجاب الفضائيّ بما سمّيته بالحجاب الثّوبيّ، وهو في القرآن الخمار والجلباب، والحجاب الثّوبيّ آليّة أخرى من آليّات التّمييز ومن آليّات مراقبة جسد المرأة والتّحكّم في مقدار ظهوره، وخاصّة عندما تضطرّ المرأة المحجوبة إلى مغادرة الخدر. مؤسّسة الحجاب وما ترتبط به من آليّات مراقبة كانت تخصّ صنفا واحدا من النّساء أي النّساء الحرائر، ولكن وجد في المجتمعات الإسلاميّة القديمة صنف آخر من النّساء هنّ الإماء اللاتي يمثّلن بضاعة بشريّة يتمّ تبادلها تجاريّا لا رمزيّا، وهؤلاء النّساء لم يكنّ معنيّات لا بالحجاب ولا بالخمار ولا بالجلباب ولو عدنا إلى كلّ التّفاسير القديمة للآيات التي ذكر فيها الحجاب لوجدنا أنّها تستثني الإماء من هذه الآليّات، فالخمار كان وسيلة للتّمييز بين الحرائر والإماء، حتّى إنّ الخليفة عمر بن الخطّاب كان يضرب بسوطه الإماء اللاّتي يتشبّهن بالحرائر ويحجبن كامل أجسادهنّ، وذهب الكثير من الفقهاء إلى أنّ عورة المرأة الحرّة تختلف عن عورة الأَمَة، فعورة الأَمَة كعورة الرّجل موضعها ما بين السّرّة والرّكبتين، وقد أباح الفقهاء تعرية الأَمَة بلْ ولمس أعضائها الجنسيّة لمن يريد شراءها. فالأمة لم تكن معنيّة بحفظ الأنساب وبالشّرف، إلاّ إذا تغيّر وضعها من أَمَة إلى “أمّ ولْد”. هذه المعطيات التّاريخيّة، وخاصّة اختصاص النّساء الحرائر بالحجاب دون الإماء هي التي يتمّ تغييبها اليوم من قبل الدّاعين إلى الحجاب، فهم يقدّمونه على أنّه أمر إلهيّ لاتاريخيّ ، غير مرتبط بالنّظام الطّبقيّ والأبويّ القديم، ويقدّمونه على أنّه فرض أتى به الإسلام، والحال أنّه موجود قبل الإسلام كما تبيّن الكثير من الدّراسات، إنّما ألحّ عليه الإسلام النّاشئ لأسباب منها ما يتعلّق بحياة النّبيّ الخاصّة جدّا، وبتقلّبات علاقته بالنّساء. في العصر الحديث كان لا بدّ من خروج المرأة من خدرها، أي من الحجاب الفضائيّ، ولكن كان لا بدّ أيضا من رفع شعار السّفور أي تعرية الوجه، ولذلك قاومت النّساء العربيّات النّقاب وثارت عليه هدى الشّعراويّ وثريّا الحافظ ونظيرة زين الدّين وغيرهنّ، فقد اعتبرن النّقاب رمزا للحجاب ولعدم إمكان مساهمة المرأة في الحياة العامّة. ثمّ خرجت المرأة إلى العمل وطلب العلم، وتضاءل دور الأحجبة التّقليديّة، وإذا بالحجاب يعود في شكل آخر “معولم”، في شكل الزّيّ الإسلاميّ الذي يقوم خاصّة على الخمار، وظهر نموذج المرأة العاملة والنّاشطة ولكن المحجّبة في الوقت نفسه…

* فهل يتناقض هذا الحجاب الأثوابيّ مع حرّيّة المرأة والمساواة رغم أنّه لا يحول دونها والعمل والحركة؟
- جوابي واضح، وهو أنّ الحجاب مهما تجدّد شكله واستعماله يتناقض مع المساواة والمواطنة والكرامة. إنّه يذكّر بأنّ المرأة كائن من نوع خاصّ يجب التّحكّم في ظهوره وتحرّكه، يذكّر بأنّها موضوع تبادل بين الرّجال، مباح لمن يمتلكه وممنوع على من لم يمتلكه. ثمّ إنّ الحجاب يفترض اختلافا جوهريّا بين الرّجل والمرأة أساسه هو أنّ الرّجل ناظر والمرأة منظور إليها، فلا شيء أكثر اعتباطيّة من الحكم على المرأة وحدها بأنّها مصدر فتنة، ومن تغييب وجهة نظر المرأة التي تجعل الرّجل أيضا مصدر فتنة، إن أردنا أن نساير هذا المنطق الأخلاقيّ الذي يتّهم الأجساد ويعتبر الرّغبة أمرا فاسدا وخطيرا. والحجاب يتناقض مع المواطنة، لأنّ المواطنة انتماء للدّولة لا للدّين، وهو متناقض مع المواطنة أيضا لأنّ المواطنة مشاركة في الحياة العامّة والحجاب يرتبط بكوكبة من السّلوكيّات الهوسيّة التي تتناقض مع هذه المشاركة، أقصد رفض المصافحة ورفض الاختلاط والخلوة…، وكلّها آليّات رقابة قديمة لم يعد من مبرّر لها. والحجاب يتناقض مع مبادئ المسؤوليّة والكرامة، لأنّه يفترض أنّ الرّجل لا يمكن له التّحكّم في غرائزه والمرأة كذلك، ويفترض أنّ المرأة وسيلة لا غاية، وسيلة لحفظ الشّرف وللإنجاب وليست غاية في حدّ ذاتها.
* هذا فيما يخصّ الخمار، فماذا تقولين عن “النقاب”؟
- أمّا النّقاب فإنّه ينبغي في رأيي أن يصنّف ضمن “المعاملات المهينة” والمتنافية مع أبسط حقوق الإنسان، فما معنى أن تكون المرأة بلا وجه، وأن تتحرّك في الفضاء العامّ وكأنّها شبح من عالم الجنّ لا يعرف ولا يُرى ولا يَرى؟ وقد سبق أن اقترحت على النّاشطين في مجال حقوق الإنسان أن يتحدّثوا عن حقّ لم ينتبه إليه محرّرو الإعلان العالميّ، وهو الحقّ في الوجه. ويكفي أن نعود إلى كتاب نظيرة زين الدّين عن “الحجاب والسّفور” لكي نكتشف العنف الذي تعيشه امرأة يكمّم وجهها الذي هو “مجتمع الحواسّ” لدى الإنسان، والمميّز بين إنسان وآخر. أمّا خطاب الذين ينادون بالحجاب باسم الحرّيّة الشّخصيّة، فإنّه ينبني على نفاق أساسيّ : إنّهم يستغلّون النّموذج الدّيمقراطيّ الحديث للدّفاع عن قيم قديمة منافية للدّيمقراطيّة، ثمّ إنّ هؤلاء المدافعين عن الحجاب أنفسهم يتفنّنون في تجزئة المبادئ الدّيمقراطيّة، فدعاة الحجاب في فرنسا مثلا لا يقبلون مبدأ حرّيّة المعتقد ولا يقبلون حقّ الإنسان في الخروج من دين آبائه أو تبديله. وفي خطاب بعض المثقّفين الفرنسيّين المدافعين عن حقّ النّساء المسلمات في الحجاب أيضا نزعة ثقافويّة عنصريّة تؤول إلى احتقار المسلمين واعتبارهم غير جديرين بحقوق الإنسان والدّيمقراطيّة : إنّ هذا الخطاب يخوّل للآخرين استعباد آخريهم، يخوّل للرّجال المسلمين الحقّ في خصوصيّة استعباد نسائهم.

* هل تدافعين عن استصدار قوانين تمنع الحجاب؟ ألا يتنافى هذا فعلا مع الحرّيّة الشّخصيّة؟
- قلت إنّني لا أرى معنى لحرّيّة المرأة في اختيار قيدها، كما لا أرى معنى في حقّ الإنسان في بيع جسده مثلا. المرأة التي تبيع جسدها لا حرّيّة لها ولا كرامة، ولا يمكن للمثقّف أن يدافع عن حقّها في هذه العبوديّة، والمرأة المحجّبة امرأة تستبطن القيم العتيقة التي تعتبر المرأة آثمة إلى أن تثبت العكس، وتعتبرها حريما ممنوعا، ولذلك فلا أرى معنى للدّفاع عن هذا الحقّ، حقّ المرأة في هذا الاستثناء التّمييزيّ. ثمّ إنّني لا أعتبر الحجاب لباسا، بل شطبا لجسد المرأة، الدّليل على ذلك أنّ أشكاله وأنواعه تتعدّد ولكنّ المهمّ فيه هو وظيفة التّغطية والمنع التي يؤدّيها. أمّا أن تلبس المرأة الحجاب وتكون مع ذلك مزيّنة وتتفنّن في اختيار الألوان الزّاهية على الطّريقة المصريّة خاصّة فذلك لا يغيّر شيئا، بل هو دليل تناقض وعدم تحمّل لمسؤوليّة الحرّيّة وعدم نهوض بعبء الرّغبة، أي بأن يكون الإنسان راغبا ومرغوبا فيه وأن يتحمّل مسؤوليّة اختيار الشّريك ووضع الحدود لنفسه وللآخرين. وفيما يخصّ استصدار القوانين، أقول إنّ ما حقّقته المرأة من مكاسب يجب المحافظة عليه، وقد أثبتت التّجربة أنّنا نحتاج إلى قوانين لحماية الفئات المستضعفة، نحتاج مثلا إلى قوانين تحمي الطّفلات من العنف الذي يسلّطه عليهنّ الآباء عندما يفرضون عليهنّ الحجاب ويمنعونهنّ من حرّيّة الحركة واللّعب ويفرضون عليهنّ قبل الأوان ما لا طاقة لهنّ به. نحتاج إلى قوانين تحمي النّساء من عنف إكراههنّ على الحجاب، كما نحتاج إلى قوانين مدنيّة تحمي الكتّاب والمفكّرين من الاتّهام بالرّدّة مثلا. إلاّ أنّ استصدار القوانين لا يكفي، فلا بدّمن فتح منابر الحوار، ولا بدّ من نشر الثقّافة المدنيّة وثقافة حقوق الإنسان، لمواجهة الإيديولوجية الإسلاميّة والقوميّة، فكلتاهما تعتبر المرأة راية الأمّّة، وتماهي بين جسدها وجسد الأمّة الخياليّ ولذلك تكون المرأة أوّل من يدفع ثمنا للأمجاد الوهميّة والطّوباويّات.

* كيف ترينَ إلى موضوع “الجندر” أو النوع الاجتماعي من زاوية العلاقة مع حقوق الإنسان من جهة، والنضال النسوي من جهة أخرى؟
- البحث في الجندر يندرج ضمن اتّجاه عالميّ هامّ في البحث يعود خاصّة إلى السّبعينات من القرن المنصرم، والجندر مقولة ثقافيّة وسياسيّة تختلف عن الجنس باعتباره معطى بيولوجيّا، وتعني الأدوار والاختلافات التي تقرّرها وتبنيها المجتمعات لكلّ من الرّجل والمرأة. وهذا التّوجّه في البحث مهمّ لأنّه يمكّننا من تعويض الماهويّة البيولوجيّة بالبنائيّة الثّقافيّة، بحيث يتبيّن لنا أنّ الاختلاف بين الرّجل والمرأة مبنيّ ثقافيا وإيديولوجيّا وليس نتيجة حتميّة بيولوجيّة. فالانطلاق من وجهة نظر البنائيّة الثّقافيّة يمكّننا من مواجهة الخطاب السّلفيّ الذي يريد إيهام النّاس بوجود فوارق “فطريّة” وبيولوجيّة أساسيّة بين النّساء والرّجال. حجّة الطّبيعة والفطرة هي التي يخرجها السّلفيّون والتّقليديّون عامّة لتبرير اللاّمساواة، وهذه الحجّة قديمة ولكنّها متجدّدة، قديما كانوا يقولون إنّ المرأة ناقصة عقلا، واليوم يقولون إنّها مختلفة فطريّا عن الرّجل، أو إنّها سلبيّة والرّجل إيجابيّ ، والنّتيجة هي نفسها، فالمرأة كائن له خصوصيّة، ونحن قوم لنا خصوصيّة، وباسم الخصوصيّة الثّقافيّة نتحفّظ على مبدإ الكونيّة، كونيّة الحقّ الإنسانيّ : هذا ما يقوله العرب للعالم اليوم، من خلال تحفّظاتهم الكثيرة والمخجلة على كلّ الاتّفاقيّات الدّوليّة الرّامية إلى إقرار المساواة. ولكن على المنطلقين من وجهة النّظر هذه أن يستفيدوا من النّقد الذي تمّ توجيهه إلى مفهوم الجندر، وهو على نوعين : نقد ينبّه إلى عدم كفاية مفهوم الجندر كمحدّد للهويّة الاجتماعيّة، فلا بدّ من مراعاة محدّدات أخرى كالطّبقة والعنصر والوضعيّة المدنيّة… ونقد آخر يحذّر ممّا قد يؤول إليه اعتماد الجندر من وقوع جديد في فخّ جوهرة الفوارق بين النّساء والرّجال، وهو ما يعوق إبداع أشكال الحياة والرّغبة، فلكلّ شخص أن يبتدع أشكال أنوثته أو ذكورته أو غير ذلك. وهناك من يرى أنّ مفهوم الجندر لا يتلاءم مع متطلّبات الحركات الجديدة التي تطالب بحقوق الأقلّيّات الجنسيّة والأصناف التي تعتبر نفسها خارج التّصنيف الجندريّ، وخارج الأقدار المسطرة سلفا.

* شاركت مؤخرا في مؤتمر مؤسسة تحديث الفكر العربي الذي عقد ببيروت أواخر شهر نيسان المنصرم وجاء تحت شعار “الحداثة والحداثة العربية” صحبة جمع من المفكرين والمثقفين العرب.. هل ما زلنا نتحدث عن مفاهيم مثل الحداثة والحداثة العربية، والحال أن البشرية تخطو الآن في مجاهل القرن الحادي والعشرين؟
- إذا كانت الحداثة موقفا تأويليّاً ونقديّاً من الماضي والحاضر، وتوقاً إلى الخروج من وضعيّة القصور التي تجعلنا نفضّل الطّاعة على التّفكير، ونفضّل التّعويل على سلطة السّلف بدل تحكيم العقل، وإذا كانت الحداثة محاولة تجاوز للفكر الميتافيزيقيّ الذي يعتمد على “الهويّة” بدل “الاختلاف” ويردّ المُخْتَلف إلى المُؤْتلف، والحاضر إلى الماضي، ولا يقبل اختلاف الذّات عن نفسها، وإذا كانت الحداثة تعني أيضا تعريض كلّ المسلّمات إلى الانهيار، وتعرية أو وعيا بتعرّية البنى اللاّمرئيّة التي تتحكّم في منظوماتنا الرّمزيّة التّراثيّة وتتحكّم فينا و تعوقنا عن الحرّيّة، وإذا كانت الحداثة في بعدها الإنسيّ التّنويريّ تعني أيضا الإقرار بفكرة الإنسان باعتباره قيمة في حدّ ذاته، بقطع النّظر عن جنسه ودينه ومعتقده ولونه، وبأنّه غاية في حدّ ذاته لا وسيلة، إذا كانت الحداثة الفكريّة تعني كلّ هذا، فإنّها ما زالت مشروعا غير مكتمل، وما زالت وعدا نسعى إليه، وخاصّة في عالمنا العربيّ الذي ما زال يلهج بالهويّة وفي أحسن الأحوال لا يعي بالاختلاف إلاّ في معناه السّطحيّ الذي يعني التّعدّد ولا يعني اختلاف الواحد عن ذاته، وانشطار كلّ هويّة. فالمجتمعات العربية خضعت إلى عمليات تحديث في الكثير من بناها الاجتماعية والسّياسيّة ومنظوماتها القانونية لكنها ما زالت ترفض الحداثة باعتبارها خروجا وقطيعة مع دواعي القصور والاتّكال على السّلف.

* لكن حدث شئ في فترة النهضة والإحياء.. أوائل القرن العشرين.. فكر أو ربما نظرات إلى الموروث والى العالم الجديد المعاصر…
- لقد كان فكر النّهضة حداثة متعثّرة باهتة، لأنّ النّهضة كانت عودة وإحياء ولم تكن خروجا ووعيا بضرورة الخروج والقطيعة. وهذا ما جعل فكر النّهضة ينتج توليفات باهتة وإجابات مأساويّة في تردّدها، أهمّ مثال عليها قضيّة المرأة، فالكثير من روّاد النّهضة دعوا إلى تعليمها وخروجها من الحجاب، ولكنّهم حافظوا على كتل أساسيّة من كتل التّقليد أهمّها مبدأ قوامة الرّجال على النّساء، وهو مبدأ ما زال إلى اليوم يهيمن على أغلب المنظومات القانونيّة العربيّة في جانب الأحوال الشّخصيّة منها خاصّة، وما زال يهيمن على تصوّراتنا للشّرف والأخلاق.

*ولكن أليست القطيعةُ ارتماءاً في المجهول، قد لا نسيطر على نتائجه؟
- لست أدري لماذا يخاف المفكّرون العرب المدافعون عن الحداثة أنفسهم من فكرة أو صورة الخروج والقطيعة، والحال أنّها شرط أساسيّ لبناء الذّات وللفعل في الواقع، أي لصنع الحدث والإحداث الذي تحيل إليه كلمة “حداثة”. فالطّفل الذي يخرج من بطن أمّه ليس أمامه من خيار سوى الخروج، وليس أمامنا من خيار سوى قطع الحبل السّريّ الذي يربطه بالأمّ، ثمّ ليس أمامه خيار سوى الانفصال تدريجيّا عن هذا الأصل الذي تمثّله الأمّ، هذا لا يعني مع ذلك أنّه سيلقي بأمّه عرض الحائط وسيتجاهلها، بل إنّ بناء كيانه يستدعي هذا الانفصال، وأخطر الاضطرابات النّفسيّة المرتبطة بالنّفاس تعود إلى عدم تحقّق هذا الانفصال أو عدم اضطلاع هيئة ثالثة بتحقيقه، وهو ما يؤدّي إلى البقاء في دائرة لحمة ثنائيّة مستحيلة ينجرّ عنها رفض الواقع والهذيان. ما ينطبق على الطّفل البشريّ يمكن أن ينطبق على الذّات الجماعيّة العربيّة في علاقتها بالأصل، فلماذا نخاف من كلمة القطيعة والحال أنّها شرط ضروريّ لبناء الكيان لا يعني إلغاء للماضي بل انفصالا مسؤولا عنه؟ قلت إنّ المجتمعات العربية خضعت إلى عمليات تحديث في بناها ومنظوماتها، بل تعرّضت إلى قطيعة جعلتها علاقتها بعالم التّقليد تهتزّ، وجعلت أساطيرها الكبرى عن أصل العالم وعن طبيعة الإنسان فيه تهتزّ، و لكنها مع ذلك لم تنتج الفكر المسؤول الذي يعي بهذه القطيعة ويعي بضرورة الخروج، بل أنتجت بالأساس ثقافة تعيش على أرضيّة التّحديث وترفض الحداثة، ومن هنا الانفصام الذي يسم الثقافة العربيّة والذّات العربيّة، والذي يشير إليه الكثير من المثقّفين العرب، منهم من نقرأ لهم على صفحات إيلاف” على سبيل المثال.

ـ هل جاء هذا المؤتمر استجابة لحاجة ملحة في مسار الفكر العربي، أم هو ترف فكري أكاديمي لأناس بعيدين عن الواقع؟
- إنّ اجتماع عدد من المثقّفين والمثقّفات العرب للإعلان عن قيام مؤسّسة فكريّة مستقلّة عن الحكومات العربيّة والهيئات الحكوميّة الإقليميّة العربيّة، تحمل شعار التّحديث الفكريّ حدث هامّ، يستجيب في رأيي لحاجة ملحة إلى مواجهة ما سمّيته بثقافة رفض الحداثة في العالم العربي، وهي ثقافة ماضويّة تكتسح الإعلام كما تكتسح منظوماتنا التربوية وتظل فاعلة في منظوماتنا القانونية. والمؤسسة التي دعت إلى انعقاد هذا المؤتمر تطرح بوضوح إشكاليّة التّحديث لأنّ من الأهداف التي ينصّ عليها ميثاقها تطوير الفكر التّقدّميّ والإنساني في العالم العربي، وقلما نجد مؤسسة ثقافية عربية تطرح هذا الهدف بوضوح. إضافة إلى كلّ هذا، يترأس هذه المؤسّسة مثقّف كان ضحيّة رفض الحداثة في أبشع مظاهرها فقد اتّهم بالرّدّة وسلّطت عليه أحكام الحسبة بسبب أرائه وشرّد، وتضمّ هيئتها مثقّفين عرب عرفوا بمواقفهم التّحديثيّة المواجهة للتّعصّب والانغلاق. وربّما قامت هذه المؤسّسة بدور مهمّ هو دور الوساطة بين عالمين منفصلين: عالم الناشطين العرب في مجال حقوق الإنسان، وعالم المثقّفين العرب، فما ألاحظه دائما هو وجود هوّة تفصل بين العالمين، وانعدام الثّقافة الحقوقيّة الإنسانيّة لدى قطاع عريض من المثقّفين العرب، ممّا يسم تفكيرهم في القضايا الرّاهنة بالمزايدات العاطفيّة واللاعقلانيّة. وقد شعرت في هذا المؤتمر بوجود شعور عامّ بأنّنا وصلنا إلى حالة قصوى لم تعد محتملة، كما شعرت بوجود رغبة ما في الخروج من وضعيّة الصمت، وبإطلاق الكلام والتّفكير في قضايا يلفّها الصّمت عادة، وقد اتّسمت بعض الورقات المقدّمة والكثير من النّقاشات فعلا براديكاليّة ووضوح في الطّرح قلّما يتوفّران في المنتديات والمهرجانات التي تنعقد على النّطاق العربيّ، والتي تشعر فيها بأنّ المؤدّين لطقوس الاستعراض الكلاميّ متّفقون ضمنيّا على خطوط حمراء لا يتخطّونها. لا يمكن أن نتنبّأ بمصير هذه المؤسّسة وبما ستنجزه من عمل ثقافيّ، ولا يمكن أن نطلق أحكاما مسبقة على مسار ما زال في بدايته ولكن يمكن اعتبار المعطيات التي ذكرتها عوامل إيجابيّة تبعث على الأمل وتجعل من هذه المؤسّسة بادرة تستحقّ الانتباه والمشاركة النّقديّة.

* كانت مشاركتك في هذا المؤتمر تعقيبا على مداخلة الأستاذ عزيز العظمة، فهل بإمكانك تقديم فكرة إجماليّة لنا عن الورقة الفكرية التي قدّمتها ؟
- لقد كانت مداخلة الأستاذ عزيز العظمة ثريّة وصريحة. وإضافة إلى التّعقيب الذي قدمته، ركزت الحديث على حركة رفض الحداثة في العالم العربي من حيث أنّها تفاعلت مع الفكر التحديثي لكي تنتج جانبا من العناصر المكوّنة للمأزق الرّاهن : وضعيّة النّكوص أو ما عبّرت عنه بالصّمت والغمغمة والتعاويذ وقصدت به آليّات رفض للتفكير في بعض القضايا ذات الأولوية وآليّات رفض الإفصاح، والتّوليفات العجيبة التي جعلت العرب المسلمين مثلا “يتحفون” العالم أجمع بـ”إعلان إسلاميّ لحقوق الإنسان” أساسه إلغاء فكرة الإنسان وفكرة الحقّ. كما حاولت في هذه الورقة تفكيك الخطاب النهضوي العربي الذي أنتج كما قلت فكر عودة لا فكر قطيعة، وفشل في إثبات قيمة الإنسان في حدّ ذاته بقطع النّظر عن جنسه ودينه ومعتقده ولغته وأيّ شكل من أشكال انتمائه. أكتفي بالإشارة إلى محاولة تتبّع الأثر التي قمت بها للبحث عن الممكنات الحداثيّة التي تمّ إقصاؤها لصالح ممكنات أخرى تحقّقت. هناك لحظات فريدة تم إلغاؤها من الذاكرة الحية وإحلالها وتجميدها في أرشيف منسي ومهمل. وهذه اللحظات أو الممكنات المقصاة تمثل الوعي الفكري بالحداثة باعتبارها قطيعة وخروجا. ففي مجال إمكانيّات الإصلاح الديني، ذكّرت بانطلاق محمّد إقبال من فكرة ختم النبوة للإعلان عن انفتاح عهد تعويل الإنسان على عقله بدل تعويله على الشّرائع الموروثة، بحيث أنّ النبوة تحمل في ذاتها صيرورة إلغائها. ومن تلك اللحظات المنسيّة أيضا رفع بعض المثقفين المصريين ومنهم علي عبد الرازق في بداية القرن العشرين لشعار السفور باعتبار انه لا يعني فقط خروج المرأة من حجابها، بل وخروج المجتمع بأكمله من الحجاب. وقد اعتبرت أنّ الحداثة العربية كان يمكن لها أن تسمى سفورا وان تعني في الوقت سفور المرأة كما تعني السفر خارج الذات لاكتشاف الآخر كما تعني التعرية، تعرية الوجه وتعرية البنى الرمزية اللاواعية التي تحكم علاقتنا بالأصل وتحكم الأنظمة الاجتماعية الموروثة عن السلف. ومن هذه اللحظات أيضا الانطلاق من عملية حداد على الماضي بكل ما تحمله كلمة حداد من معنى نفسي عميق. فالحداد كما يقول لنا فرويد عمل ضروري يمكن الذات من الانفصال عن موتاها وإحلال هؤلاء الموتى في قبور يتحوّلون عبرها إلى رموز بدل أن يكونوا أشباحا حاضرة غائبة، لان الموتى الذين لا يدفنون يتحولون إلى كائنات ملازمة ومؤرقة وباعثة على التّأثّم والبؤس. عدم الحداد على الموتى وعدم فقدان وهم بقائهم على قيد الحياة يؤدي إلى وضعية الماليخوليا باعتبارها عجزا عن فقدان الوهم ورغبة في الموت وفي محاكاة الموتى. فهي عجز عن قبول الواقع، واقع الانفصال والقطيعة والمستحيل. ومن المفكّرين المنسيّين الذين يمكن أن نقدمهم مثالا على إمكانية عيش الحداثة باعتبارها قطيعة وحدادا على الموتى منصور فهمي الذي طرد من الجامعة المصرية بعد أن أصدر بحثه الأكاديمي عن أحوال المرأة في الإسلام سنة 1913. هذا البحث الرّائد لم يستسلم فيه منصور فهمي إلى النّمذجة الطوباوية لعصر الرسالة بل حلل وضعية المرأة في الإسلام بكل وضوح ونزاهة، علما بان كتابه هذا لم يترجم إلى العربية إلاّ مؤخرا. واللحظة الأخرى الفريدة التي تم نسيانها أيضا بل وتنظيم نسيانها هي اللحظة التي نادى فيها بعض رواد ورائدات الحداثة بضرورة تنظيم مجالات الدين والدنيا والفصل بينهما. فالكاتبة السّوريّة نظيرة زين الدين مثلا أشارت سنة 1929 إلى ضرورة الفصل بين العبادات والمعاملات على أن المعاملات والأحكام الفقهية التي تنظمها خاضعة للتاريخ فيجب أن نزيل عنها طابع القداسة. كل هذه اللحظات الفريدة تم إقصاؤها لبناء صرح فكر النهضة في روايته الرسمية التي درسناها في المعاهد والجامعات وهي رواية تلفيقية توفيقية تبقي على أهم معاقل التقليد في ما يتعلّق بالحرّيّات الفرديّة وبالأقلّيّات الدّينيّة وغيرها. فكر النّهضة بما هو فكر عودة وإحياء هو الذي مهد لظهور مقولة “الشريعة صالحة لكل زمان ومكان”، وهي مقولة جديدة تم تلقيننا إياها في المدارس، وأدّت إلى حالة الانفصام التي نعيشها: نقبل التّحديث في بعض الأمور ونتمسّك بخصوصيّات التّخلّف في بعضها، نستعمل أحدث الأجهزة ووسائل الاتصال ونتمسك على نحو هذياني بأنماط علائقية عتيقة عن الفرد والأسرة والعلاقة بين النساء والرجال. نستعمل الانترنت لنشر فتاوى تحرم القول بكروية الأرض ودورانها حول الشمس أو لنشر فتاوى تدعو المرأة إلى الحجاب، بل إلى النقاب وانعدام الوجه. أو على نحو آخر: نتمسّك بالنّموذج الدّيمقراطيّ لنطالب بحقّ المرأة في أن تكون محجّبة، ونحوّل الحفاظ على اللاّمساواة بين النّساء والرّجال إلى حقّ في الاختلاف.

*هل يعني هذا أننا ما زلنا ننشد الحداثة وأننا لم تصل إليها بعد في الوقت الذي غادرها غيرنا إلى ما بعد الحداثة؟
- أعتقد أن لبعض الباحثين العرب تصورا مشوّها لما يسمى بما بعد الحداثة ولما يفضل بعض الغربيين أنفسهم تسميته بالحداثة المعاصرة. فما بعد الحداثة ليست إلغاء لفكر الأنوار وللموقف الحداثي من العالم بل هي امتداد نقدي وتأويلي للتنوير يعي بحدوده ويستشرف ممكناته الجديدة. فما أستغربه دائما هو تشكيك بعض الرافعين العرب لشعار ما بعد الحداثة في الديمقراطية وفي حقوق الإنسان، على نحو لا نجده لدى المثقّفين الغربيّين أنفسهم، باستثناء بعض أنصار اليمين المتطرّف ربّما. يوجد مثقفون غربيون يطالبون بتطوير التصورات السائدة عن الديمقراطية والمؤسّسات التي تجسّدها، ولكن لا يوجد على حدّ علمي من يطعن في المبادئ الدّيمقراطيّة في حدّ ذاتها، أي مبادئ المساواة والفصل بين السّلط وضمان الحقوق المدنيّة والسّياسيّة… يوجد مثقّفون فرنسيّون يطالبون مثلا بـ”علمانية” مفتوحة أو حيّة ولكن لا يوجد، على حدّ علمي مثقّفون جادّون يطعنون في مبدإ العلمانية في حدّ ذاته. وفي عالمنا العربيّ المتخلف من الناحية السياسية والحقوقية لا يؤدّي مثل هذا التّشكيك إلاّ إلى تأجيج الجنون الدّينيّ الرّافض للحداثة وتأبيد الأنظمة الرجعية.
(انتهى)
________________________________________________
رجاء بن سلامة في سطور
حاصلة على دكتوراه الدّولة في اللّغة والآداب والحضارة العربيّة، أستاذة محاضرة بكلّيّة الآداب والفنون والإنسانيّات، منّوبة، تونس، عضو في جمعيّة "الفضاء التّحليلنفسيّ الفرنسيّ التّونسيّ" ، عضو مؤسّس لجمعيّة "بيان الحرّيّات بفرنسا" . أصدرت مجموعة من الكتب ونشرت العديد من المقالات والدراسات بالعربيّة والفرنسيّة نذكر منها:
- نقد الثّوابت، دار الطّليعة، بيروت 2005
- بنيان الفحولة، دار بترا، دمشق، 2005
- العشق والكتابة: قراءة في الموروث، كولونيا، دار الجمل، 2003
- صمت البيان، القاهرة، المجلس الأعلى للثّقافة، 1999؛
- الموت وطقوسه من خلال صحيحي البخاريّ ومسلم، تونس، دار الجنوب، 1997.
- الشّعريّة، لتزيفتان تودوروف، ترجمة بالاشتراك مع شكري المبخوت، الدّار البيضاء، دار توبقال، 1987، طبعة ثانية سنة 1990.
Les Mots du monde : Masculin –féminin : Pour un dialogue entre les cultures, collectif sous la direction de Nadia Tazi, Paris, La Découverte, 2004
مقالات أخرى:
المرأة ذات "الفرج المقلوب": بحث في نظريّة هواميّة غريبة
للذكر مثل حظ الأنثيين
الجدال مع الإسلاميّين: وقفة تأمّل
لماذا تريد المرأة أن تكون زهرة؟ ولماذا تُقطع أكمامها؟
كيف تنال تونس رضا الإسلاميّين المعتدلين والأقلّ اعتدالا وكيف تحقّق المصالحة الوطنيّة والإسلاميّة؟
تاريخ لم يكتب وعنف لم يوصف
من يمتلك الجسد البشريّ؟
الإرهاب والانتماء والنّقد المزدوج
ضحايا دارفور ليسوا من "بني جلدتنا"
المرأة ذات "الفرج المقلوب": بحث في نظريّة هواميّة غريبة
للذّكر مثل حظّ الأنثيين
عبوديّاتنا المختارة
للذكر مثل حظ الأنثيين
عن العلمانيّة باعتبارها مبدأ توحيد ومساواة بين المختلفين
لماذا قطعوا أكمام النّساء في القرن الثّامن الهجريّ؟
فرويد والعرب : المتّهم الذي لن تثبت براءته
حول الفتاوى الهاذية: تعفن الاجتهاد
حول فتوى إرضاع المرأة زميلها في العمل: جنون العودة إلى ما قبل الفطام
ملاحظات حول آراء وفاء سلطان: العلمانية ليست ديانة جديدة
الإخصاء ورفضه
الحجاب ليس قطعة قماش ولا "قل للمليحة في الخمار الأسود"



#حكمت_الحاج (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حتى نارك جنة.. الوطن بين رضا الخياط وشكري بوزيان
- الكلامُ المُسْتَعَادُ
- فن الشعر في ملحمة گلگامش
- Marcella
- ذكرى أبي القاسم
- مفاهيم سبتمبرية جديدة حول الإرهاب والحروب الإستباقية وحقوق ا ...
- د. الطيب البكوش: إن مساعدة الشعب العراقي أعسر تحت الاحتلال، ...
- بين الهندسة والبستان: قصيدة نثر طويلة عن المساءات الخمسة عشر
- غرفة في فندق الراحة أو مديح العذراء كريستينا ستوكهولم السعيد ...
- المفكر التونسي د. فتحي بنسلامة في حوار مع حكمت الحاج
- سبعُ قصائد
- البيت قرب البحر كالمجهول باهر وساطع
- التّحليل النّفسيّ على محك الإسلام
- حساب الغبار
- كلام عن سينما ما بعد الحداثة
- لا تذهَبْ أبداً
- بدم بارد
- إنصاف
- مائة وهم حول الشرق الاوسط أم مائة اكذوبة؟
- كاسيت لأغاني سليمة مراد


المزيد.....




- مراهق اعتقلته الشرطة بعد مطاردة خطيرة.. كاميرا من الجو توثق ...
- فيكتوريا بيكهام في الخمسين من عمرها.. لحظات الموضة الأكثر تم ...
- مسؤول أمريكي: فيديو رهينة حماس وصل لبايدن قبل يومين من نشره ...
- السعودية.. محتوى -مسيء للذات الإلهية- يثير تفاعلا والداخلية ...
- جريح في غارة إسرائيلية استهدفت شاحنة في بعلبك شرق لبنان
- الجيش الأمريكي: إسقاط صاروخ مضاد للسفن وأربع مسيرات للحوثيين ...
- الوحدة الشعبية ينعي الرفيق المؤسس المناضل “محمد شكري عبد الر ...
- كاميرات المراقبة ترصد انهيار المباني أثناء زلازل تايوان
- الصين تعرض على مصر إنشاء مدينة ضخمة
- الأهلي المصري يرد على الهجوم عليه بسبب فلسطين


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حكمت الحاج - المرأة والحداثة والتفكيك والجندر في العالم العربي في حوار مع د. رجاء بن سلامة