أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هشام بن الشاوي - النصف الآخر















المزيد.....


النصف الآخر


هشام بن الشاوي

الحوار المتمدن-العدد: 2012 - 2007 / 8 / 19 - 05:54
المحور: الادب والفن
    



1

كما يجدر برجل وحيد ، وبائس تغفو إرهاقا ، والحافلة تمخر عباب الإسفلت ، في ظلمة المغيب الشاحبة ...
تنتبه إلى أن تلك الفتاة المحجبة تشبه امرأة سكنتك ، ذات شقاء ، على الأقل هذه تتطلع إليها بحرية ، وأنت تدرك تمام الإدراك أنك رجل غير ناضج عاطفيا ، وتطارد سراب استقرار عاطفي ":آه . يا هند !يا جرحا وشم في القلب .. !! " .



كانت أجمل ما أبصرت عيناك - يومها - وكانت تصدك، وأنت بكل الضعف الإنساني ، الذي يختزله الحب اليائس تطاردها ،وهي مدججة بكيرياء مراهقة ، رشيقة ، شهية ، حلوة ، بشفتين قرمزييتين ، وجه كالقمر، وعينين قاتلتين ، حتى لو رمتك بنظرات احتقار .
اعتقدوا أنها مجرد نزوة ، كان رفاقك وأقاربك يسخرون منك ..
صديقك الكهل استعرض مغامراته ، هازئا منك في إشفاق .. أوهمك أنه بطل من أبطال الميلودراما الهندية ، فاز بقلب معبودته، متحديا كل الصعاب ... فكرت في ما يقال عنه، وهو يسلم راتبه الشهري لزوجته ، التي تتكفل بكل أعباء البيت المادية ، ويأخذ منها ما يبتاع به سجائر محدد عددها كل يوم !!




كلما التقيت هندا – صدفة – قريبا من محيط الحي ، رمتك بنظرة تتجاهلها . تحدق فيك لوهلة .. باحثة عن وجه الشبه بينك وبين الذي كنته ، مستعيدة شيئا مفقودا .. حتى الأصدقاء اندهشوا حين التقوك بعد سنوات ، وقد تخلصت من بعض نزقك ...
لا تستغرب ، حتى مشاعر النساء تتبخر، كتلك التي كتبت إليك ، في بداية غرقكما العاطفي :
Je t aime , à la folie…

(أحبك حتى الجنون) .
كان أول مسج وصلك منها . لم يكن تعارفكما حبا من أول نظرة ، وإنما وليد لقاءات قصيرة ، ثم صرت (نسيا منسيا) ، يا قلب !
دائما تضيع كل الأشياء الجميلة باستبدادك العاطفي ، بمحاكمة لماضي حبيباتك ، بكلماتك الأشبه بالخناجر ، وأنت تحب بسادية وتغار بطريقتك الهوجاء ...
- لن أنساك إلا في حالة واحدة :زواج أحدنا . لا أستطيع أن أنساك .. لكن سأحاول !!
تستند برأسها إلى فخذك : لن أحب أحدا بعدك ، بسبب ما كابدت معك ، ماعدت أنام .. من قبل كنت أغوص في النوم ، بمجرد وضع رأسي على الوسادة . الآن أبقى شاردة ، أفكر فيك ساعات !
قابلتها بعد إصرارها على لقائك ، ذلك المساء ، في تلك الخلوة ، وهي تتهمك أنك صرت تتجاهلها ،ولا تحبها ..
كنت حزينا ومتعبا ..
تخنقك بقبلاتها ، لا تستطيع أن تجاري شفتيها ، تضحك مبتهجة ، تمد يدا متكهربة إلى سروالها .. تهتف متضاحكة : إنه موصد بمائة قفل ..!
تضيع كل محاولاتك سدى ، تجثوعند قدميها ، تتسكع يدك فوق صدرها ..
وفي لهفة ، تساعدها في رفع ثوبها ، كاشفة لك عن نهدها الأيسر...
ولأنك كنت تحلم بها زوجة تبادلك الحب ، كتبت إليها في رسالة قصيرة معتذرا ، رافضا أن يبتذل حبكما شبقا ، رغم النداء الملح ، الصارخ في الأعماق :" أن أعاملك كالأخرين ، كرجل وامرأة .. فهذا جرم لا يغتفر، يا حبي الأخير !!" .


ولكي تحطم كل شيء ...
كتبت لها أنك مع عاهرة ، كنت مدفوعا بقوة غريبة ، وحتى لا تتألم أكثر مما يتحمل جسدك الواهن ، و تتخلص من عذابات حب ، حكم عليه بالإعدام من طرف الآخرين ، كعادة كل قصص الحب الرائعة .. كتبت لها أن العاهرة كانت حائضا، وأنك (... ) من الخلف، وتخيلتها مكانها .....!!
كنت (كاذبا ) في تخيلك حبيبتك في ذلك الوضع ، لكن كنت تحتاج إلى أن تكرهك ، بأية طريقة !!
في مكالماتها الأخيرة ، صارحتك أنها ماعادت قادرة على تحمل تعذيبك اليومي لها ، بكلامك الجارح والبذئ .. وباسم الحب والغيرة !


لم تكن نبرة صوتها حزينة كما في السابق ...
هو الفراق حان أوانه : "هناك من اتصل بي ، طالبا مني أن أبتعد عنك ".
إذا، فلترتشف دمعك وحيدا .. !!

ليلتها ..
تركل كل ما في طريقك ، تسب الأطفال الذين يلعبون الكرة قرب البيت :
- ابتعدوا ، يا أبناء ال ...
يتحداك أحدهم بلامبالاته ، ترفعه من فوق الرصيف ، و تدرك عواقب أن ترميه أرضا، تدعه يلامس الأرض بقدميه ..
تحس أنك في أمس الحاجة إلى هدوء تام ، وألا تكلم أحدا ...



في أزمور ، تلك المدينة الأطلسية، الصغيرة ، ببيوتها البيض ، ونوافذها وأبوابها الزرق ، اعترض سبيلك طفل مشرد يتسول دراهم ، يشتري بها لصاق (السليسيون ) ، فقذفت في وجهه بذاءاتك المعهودة :
- سير عند القحاب في للا عائشة البحرية !


في الحافلة الزرقاء رقم 3 ، المتجهة من أزمور إلى " للا عائشة البحرية" ، أصرت فتاة مجلببة على أن تقف أمامك ، لم تكن جميلة بما يكفي لإثارتك .. حتى مفاتنها غير بارزة بشكل شهواني ..
فقط ، و بطريقة آلية ، ودون أدنى استمتاع ، وتعبر عن امتنانها ، باستكانتها وتجاهلها .. لم تلق نظرة متوعدة ، ولا مستزيدة .. كما يجدر ببدوية محاصرة بالصبار، وأعين لا تنام ...
لم تكن في جمال تلك الثلاثينية ، التي هيجتك ، حين لمحت ثوبها الداخلي القصير(البرميدة) ، غير منتبهة إلى أن جلبابها - وهي مع الجالسات في انتظار حافلة أزمور- قد ستر ما ستر، وكشف ما كشف .
كان جمالها عاديا غير فتان ، وترتاح إليه العين ، فتشتهي أن تلعق بلسانك بطن فخذها المشع بياضا .
تعمدت الشابة البدوية أن تجعل أمها وأخاها ، يقفان في الزحام أمامها ، وقد استكانت يدها إلى دفء ملمس أصابعك في ما يشبه الاحتضان .
لم يحدث أي التحام .. هو بعض الدفء في الزحام .
تدخل ساقك في تجويف جلبابها مابين ساقيها المنفرجتين، تلامس ساقها ، وتجعل فخذك يلامس ردفها ، تحاول لمس كتفها في ما شبه الاستناد، تحول يدك إلى خصرها، معبرا عن امتنانك لتجاوبها المحايد .
دون أن تجرؤ على لمس فاكهة صدر ، في حجم قبضة اليد .
لم تكن جميلة ولا قبيحة أيضا ، لكن حاجتها ملحة إلى ... من يتهجى أبجديات جسدها المشتعل خلف ثياب محتشمة ، يحدثك قلبك : " لا تعرف فيم تفكر بنات حواء في مثل هذا الموقف ، ربما يقلن :يا لك من غبي !!
لا تتوقع من امرأة (حتى لو كانت بغيا ) أن تقول لك : إني أريدك .. إني أشتهيك!! إن الجسد يجرنا دوما إلى الخطايا ، وأن الخطيئة امرأة شهوانية لعوب"!! .



تلسعك أشعة الشمس ، تحس بامتعاض من تلك الطقوس ، ومن نسوة لا يفكرن إلا بما بين أفخاذهن ..
بجوار ضريح للا عائشة البحرية ، نصبت خيام مهترئة ، على شكل مطاعم ، ومزارات دجالين وعرافات ، وعبر ممر ضئيل يتدفق جدول ماء عكر، وقدر كبيرمفحم ، ملئ ماء تغتسل به (زائرات) الضريح للتبرك ، بعضهم يبيع شموعا وبخورا . يثيرانتباهك اللون الأخضر لمناديل وأعلام تبيع الوهم .. تلمح إحداهن تسوي ساعتها ، وحذاؤها على الأرض ينتظر أن تنتعله ، شعرها لازال به بلل ، وإلى جانبها رجل أنيق في ريعان الشباب .. تتهجى كتابات بالحناء على الجدران البيضاء للضريح : أسماء شباب وشابات يحلمون بالنصف الآخر ، وديكين ضئيلين . يأتيك هاتف من الأعماق " : ماعلاقة سواد لون هذين الديكين وخضرة الحبل الصغير، الذي ربطا به إلى حجرة ؟ لم تصدق النساء تلك الخرافات ، التي تتعلق برجل يودن تقييده بحبل شرعي ؟ أي عبث أحمق أن يبحثن عن ضالتهن عند رجل يحتاج إلى رجل ، عنذ ذلك المجذوب المخنث - والعهدة على البائع المتجول- الذي يرى الطالع، وأشياء أخرى لا تعنيك لكنها تعني الكثير الكثير لنساء ، يلهثن وراء ظل رجل وفراش دافئ ، ولا يرين أبعد مما تحتهن ... ؟؟".
تفكر بصوت مرتفع : لو أجري أي استطلاع تلفزيوني عن الضريح ، هل سيسمح بتصوير ذلك الكم الهائل من الثياب الداخلية ، والتي أغلبها أبيض اللون، وسط الأشواك والنفايات البشرية .. ثياب يتخلصن منها بعد الاغتسال ، كأي شيء منحوس ؟ هل يمكن تصوير امرأة ، وهي تتبول بين أشجار الشوك ؟ أم ستركز الكاميرا على بعض الأزبال المتناثرة هنا وهناك ، على الرمال ، و نهر أم الربيع ، وهو ينساب في هدوء تفتقده الدواخل ، معانقا المحيط الطلسي على إيقاع الدفوف والأهازيج الشعبية ، وعربات (الكارو) التي تجرها الأنعام ، مؤثتة مشهدا سياحيا رخيصا .. ؟؟




يحكى أن لالة عايشة قدمت من بغداد في رحلة عبر البحر، للبحث عن الولي الصالح مولاي بوشعيب الرداد الذي انتشرت أخبار زهده وكراماته، وكانت قد تعرفت عليه أثناء مقامه في بغداد ، حين كان يتابع دراسته لأصول الشريعة الإسلامية ، فتعلقا ببعضهما البعض ، غير أنهما فوجئا برفض زواجهما ، فعاد مولاي بوشعيب يجر أذيال خيبته إلى قريته بأزمور ، وما لبثت لالة عايشة أن عقدت عزمها على لقاء الحبيب حين شدت الرحال إليه، ولما بلغت أطراف الشاطئ بمصب وادي أم الربيع أدركها الموت غرقا ، دون أن تنال حظوة اللقاء به ، فدفنت هناك ليشيد ضريحا أسطوريا على قبرها، وأصابت مولاي بوشعيب الحسرة ، قرر بعدها أن يعيش باقي حياته عازبا .



تبصق على الأرض ، وتغادر المصطاف كئيبا ، بعد تناول السندويش وبعض (الدردشة) مع البائع ، وتندفع في اتجاه الحافلة .
في أزمور، تحاول أن تستمع بوقتك ، بالتيه في فضاء زمكاني جديد .
تتوصل بمكالمة هاتفية من صديقك الفاسي محمد ، يعاتبك على أنك لم تعرفه على منتجع سيدي بوزيد ، تتخيل أنه سمع عنه الكثير هناك .. تجيبه : إنك في أزمور ، الآن بعيدا عن مدينتك البغي ... بشواطئها .






في فندق صغير بسيدي بوزيد (عرفت من المعاشي أن صاحبه مسؤول كبير في مدينة أخرى!) تندهش ، عند رؤية علامة خمر شهيرة علقت على المدخل ، وقراءة أسعار خيالية لخدماته المعروضة ، وقد كتبت على لوح دعائي صغير ، طالبت المعاشي بأجرة مضاعفة .. فرد : إنه يأخذ ما يشاء من شراب روحي في حضوره .
فوق سطح الفندق ، وزعت - بانتظام - كراس وطاولات بلاستيكية تحمل شارة البيبسي كولا ، ومظلات ، ومغسلة صغيرة ، ثلاجة معطلة ، مزهريات فخمة ، وأعلام ملونة ترفرف فوق الواجهات الثلاث للمبنى ، تلمح رجلا وامرأة ، وبنات يلعبن تحت مظلات شمسية ، تتطلع إلى بقية الفيلات التي لا يفصلها عن البحرسوى خطوات ، تتداعى الصور والأحاسيس ، تتذكر قيظ المطار المهجور ، حيث تختبئ العصافير والحشرات زوالا ، فلا تصادف - في طريقك - غير نفايات المكان وأشواكه ، وحجارته ، وأكياس بلاستيكية بالية .
يطلب منكما أحد الموظفين - أنت وزميلك - ألا تحدثا أية ضجة ، و أن تؤجلا عملكما حتى لا توقظا النزلاء ، تكتم مشاعرك الغاضبة ، تزأر أعماقك في صمت: " يٍِِلعن (...)، يا ابن القوادة ! " .


في انتظار المعاشي ، تبذر توترك متسكعا ، تلمح شابة تغادر الفندق ، بثياب تبرز مفاتنها ، وفتاتين تتأهبان لركوب سيارة فخمة ، شبه عاريتين .. تفكر: إن عبارة (مجتمع عربي مسلم ) ، أسوأ كذبة سمعتها !
يبدو زميلك مستمتعا بما حوله ، تغالب غليانك الداخلي ، وهو يسألك عن رأيك في إحداهن ، ترد عليه بجفاء : " لا أحب العاهرات ال (خمس نجوم )! (تنفخ غيظا ) هذا الخراء لمعاشي تأخر..." !!






تلفظك حافلة أزمور، تحس بألفة غريبة حين تطأ قدماك أرصفة مدينتك ، تدرك أنك تحبها ، رغم كل عيوبها ، يهتف قلبك : ما أغرب الطبيعة الإنسانية !
يتضاعف تعبك ، تمني النفس ألا تتأخر الحافلة رقم 3 .. تلمح تجمهرا بشريا ، وسيارة الشرطة عند مدخل أحد الأزقة ، يلتهمك الفضول .. يحوقل شيخ ، تلطم إحداهن خدها ، تسري في جسدك رعشة ، حين تعرف أنه عثر على رضيع ، متخلى عنه في سلة ، ينام قرير العين . تردد حيزبون : إن النساء لا يجدن غير رفع أرجلهن ، دون التفكير في العواقب، تتساءل : " هل سيعرف أي شيء عما تخبئه له الأيام ، و إن صار ملاكا - في حال وفاته - ربما سيطلب الغفران لأبويه ، حتى لو أخرجاه إلى هذه الحياة ، بطريقة غير شرعية . الحياة جميلة ! لكن قد يصير نفس المتشرد الذي يتسول ، بثيابه المتسخة ، ونظرات الآخرين تطفح احتقارا وإقصاء ، عقابا على ذنب لم يقترفه ، وقدر لم يختره !!"
وينتشلك من حوارك الباطني ضحك رفاق، وهم يتطلعون إلى امرأة ، غادرت الحافلة للتو، مشيرين - بأيديهم - إلى تلك البقعة اللزجة .. تشد جلبابها من الخلف ، فتبرز استدارة عجيزتها الفاتنة ، تلقي نظرة جانبية على خلفيتها قائلة : " الله يعطيهم الكونصير(السرطان) في ......" .











2

عوى الكلب متوجعاً حين ارتطم به سطل قصديري ، تستخدمه الجدة عند حلب بقراتها ، ردد سبابه المعهود ، بنفس الملامح العابسة : " الله يٍِِلْعن جد باباكم كامْلين " . تجهل سبب ثورة الخال التي جعلته يضرب بقدمه سطل الحليب ، كما تعودوا تسميته .. في مخيلتك انطبعت صورة رجل جاد أكثر من اللازم ، يحرص - دوما - على أن تبقى تعابير وجهه قاسية في الخيمة (البيت)و خارجها ، ولا تعرف سر تهجمه الأزلي .. لعلها استقامة سلوكه ، ربما يكون الوحيد الذي لم يتعب جدتك - كبقية الأخوال - في طرق أبواب العرافات، لتعرف من جعلن فلذات كبدها يهجرون البيت والأهل …
ذاكرتك الطفولية الغضة، تجود عليك بصورة صبي - كنته - عرف من ثرثراتهن : أمك ،جدتك ، وزوجات أخوالك عن صويحبات … تحاول جاهداً ، الربط بين فكرتين غريبتين عما تربيت عليه :انقلاب أحوال أخوالك ، و السكر، النساء، والشبق … وأمك - نزولا عند رغبة جدتك - تأمرك أن تطرق باب قريبتكم، وتبلغها أن (تبعد) ابنتها عن أخوالك الثلاثة …
تعوزني الكلمات، ولا أستطيع التعبير عما يخالجني . لا أعرف لم يتحدث الكثيرون عن مثل هذه الأشياء بكثير من الزهو .. ؟؟
أمك تردد: إنك، وخالك أنجبتكما امرأة واحدة . تضحك في سرك ، رغم حرصك الشديد على ألا تقلد أحدا ، و أن تستقل بشخصيتك عن الآخرين …
عوى الكلب ، والسبب زوجة الخال ، ومن خالتك الصغرى ، التي انسحبت من المشهد الصاخب ، يكاد الدم يفور من خديها وهي تكبح جماح ضحكها ، تعرف من كلامها المتقطع أن سبب ثورة أخيها الأكبر: الممرض الذي حضر كالعادة، في موعد الحقنة ، ولم يكن في البيت رجال .. الصغار مع الجد المنشغل بين حقوله، لكن شيئا واحدا يشغل بالك – هذه اللحظة – لا تعرف إن كان خالك على صواب أم لا ، وهل ستغضب الجدة ، بسبب الخسائر الفادحة التي لحقت بسطلها الأثير ، رفيق الصباحات الطرية .. السطل ماعاد يصلح سوى لأن( يبزق) عليه الدجاج .. ؟؟ ما ذنب الكلب المسكين إن كانت الزوجة مدللة ، وذاكرة الطفولة لا تستوعب هاجس أن يسرق الممرض بضع لحظات بهجة من التلصص على حليب الجسد البض .. وكم دوخك جمال “ع ” ، قبل ارتباطها بخالك !
الألواح الخشبية المهترئة تئن تحت مطرقة عمك (م) ، تعرف أنه لم يعد يطيق أخوالك ، بعد قبولهم صديق طفولته زوجا لأختهم ، بصراحة أكثر : سرقها منه ، رغم أنه خطبها قبله .. هذا سبب كافِِ لأن يكره عمك زوج خالتك مدى الحياة، وأنت لا تطيقه ، حتى من قبل أن يصير زوج الخالة!
عمك ، صديقه الوحيد من بين أبناء العمومة ، لا سيما و أن كل شباب الدوار يجري في عروقهم دم واحد ، دم جد أبيك وأمك . تخمن أن سبب ابتعاد (س - ( والذي سيصير زوج خالتك - عن أقرانه أنه الوحيد الذي كان متعلما ، وصداقتهما الصميمية انقلبت عداوة بغيضة …

تصهل الشمس في كبد السماء ، العم يسرد تفاصيل ماحدث ، وضربات المطرقة تفضح توتره الداخلي .
طال انتظار زوج الخالة ،الأكل بدأ يبرد، الصغار يتخاطفون لقيمات الخبز وحبات الزيتون ، وجدتك تحرص على ألا يتغذوا قبل حضورسعادة زوج ابنتها ..
الجد : بلا شخصية ، عفوا بلا رأي !!
و الجوع عدو لدود تحت رحمة انتظار طال ، انتظار زوج ،كان خالك الأكبر، الوحيد الرافض لتزويجهم الخالة بتلك الطريقة . تفكر: "أحيانا ، نقبل بأشياء مهينة .. ربما حتى لا تلتصق بها صفة : عانس !والعانس شجرة لا تطرح ثمارا" .
تضرب الجدة أعزحبات قلب خالك ، بعد أن كادت أن توقع شيئا مما فوق المائدة قصيرة الأرجل ، وهي تستند بيديها عليها ، كما يجدر بمن تتعلم المشي .. دون أن يدري ، استوى واقفا ، وبحركة رشيقة، رفع الصحن من طرفه ، فانقذف أمام باب الحجرة .. وانقض الكلب والقطة على غنيمة لم يحلما بها من قبل …
تغمغم : شكرا للسماء ولعصبية الخال !!
و تنفجر ضحكا …
هذه الحكاية ، تستروا عليها ، كأشياء كثيرة مسكوت عنها ، لا ينبغي أن يطلع عليها الآخرون ، كزواج غير متكافئ ، رزقهم صهرا يزروهم فقط من أجل بطنه .. (يغسل مصارينه) ، بتعبير عمك الأصغر، والوحيد الذي ، بحكم رفقة العمل ، لا تتحرج من التفوه في حضرته بكلام نابٍ :
- سمـــر هاذ القـــْ (…)، أنا جاي !
ضحك "التــباري " البناء الكهل الخمسيني ، وملح الورش ، حتى دمعت عيناه ، حين سمع تلك الكلمة ، ونهرك باسما :
- تاحشم من عمك .
تتداعى جدران ذاكرته ، التباري تلفظ بالكلمة عينها ، وزوجته تطالبه بجلب (عْدال) ماء من بئر الدوار ، بنبرة جافة رد عليها : ما ساكَي حتى قـــــَ(...)!!
تتطلع إلى هاتفك الخلوي . الساعة الثانية عشر إلا ربع : راني غادي نمشي نكمل هادوك الضريبات .
تتأمل بابتهاج حوض الأسماك الملونة في انتظار أن يفرغ أحد الأجهزة .. إحدى السمكات تطارد أصبعك من خلف الزجاج ، الأخريات مذعورات ، تطن في رأسك عبارة صاحبة المقهى نت :( إنها تعودت على ملاطفات الزبائن )، يشرد ذهنك …

نـانـا .. ذلك المساء، كانت حزينة .
سألتها : إن ضايقها زملاؤها مرة أخرى .. بعروض الصداقة، الرغبة في التعارف ، و.. و… حتى صارت تفكر في أن تلازم البيت.
- لا. ليس هذا السبب .. اليوم ماتت سمكتي !
- ربما من الوحدة ..
- ربما .
- وطبعا كانت من نصيب قط الجيران الذي طالما اشتهاها .
- هههه . لا، دفتنها في مزهرية بالحديقة ، يا (هبولي) .
تبحث عن أي شيء يبذر كآبة المساءات الرمادية …
- لقد تعرفت على امرأة أخرى ، وكل دردشتنا (قلة أدب). هههه .
بعد لحظة انتظار ثلجي، كتبت :لا تصدق .
تلوذ بصمتك الصاخب، تفكر في أن تستفزها :
- هات بوسة ..
تحتمي بسكينتها ، ترد :
- صرت أخاف منك . أنت لا تختلف عن الآخرين !
- منذ مدة لم تضعي صورتك هنا …
- تحجبت ..
- سبق أن رأيتها ، رغم أنها لم تكن واضحة …
- تلك قديمة ..
- يا (لئيمة) ، أمزح معك . تعرفين أني أحبك من دون أن أفكر فيك كامرأة .. أنت الشيء الوحيد النقي في حياتي، ولست كبقية (شراميط) الكتابة ..
تصمت، تخمن أنها تقرأ - بتمعن- كلماتكما المتقافزة على صفحة الدردشة ..

الأمهات غادرن بعد انتهاء دردشتهن مع إحدى القريبات، البنتان الصغيرتان، تتصفحان موقعا . شيء ما يجعلك تحس بالمسؤولية اتجاه بنات أخوالك ، تقترب من الشاشة .. أزياء عرائس، و بستان ألوان ، وحواء متأرجحة بين الطفولة الغاربة والأنوثة المشرقة . تنتبه إلى أنه منتدى بعد تفحص ردود ، تسألها :إن كانت عضوة مشاركة ، تحرك رأسها نافية .. أحدهم أقحم نفسه وسط عرائس المنتدى، واضعا إميله لا غير كرد ، وآخر اختار عنوان المسنجر اسما . تقول لنفسك: "حتى الصغيرات يا عرب، يا أبناء العاهرات تلوثونهن."!!..
و بحركة عصبية، تهز لوح المفاتيح ، طالبا منهما مغادرة المكان فورا ، لاعنا كل شيء ، رغم تأكيد الصغرى أنها لا تبالي بتلك الأشياء .
وتحس بوخز في الأعماق .
ككل ليلة ، تتشاجران …
- أعرف أنك تحبينني ، لكني لا أطيق أن أقرأ تحت كتاباتك قصائد غزل من أولاد الق(...) . من أين حصلوا على إميلك ؟ لا شك أنهم يكاتبونك كل يوم ، وإلا بم تفسرين هذه اللوعة؟ وهذا الإصرار الغريب على أن ينسوا قلوبهم تحت كتاباتك . طبعا ليس شعرا ، هي كلمات تكفي - فقط - لكي تفتح أية عاهرة فخذيها، وحين يفرغ منها يبصق في وجهها ؟؟…
ماعلاقة ما تكتبين بتعاليق مراهقة ، وسبق أن طلبت منك الابتعاد عن النشر في تلك الأماكن الرخيصة . أرجوك ، توقفي عن كتابة تلك المراهقات .. المشاعر الجميلة نحتفظ بها في دواخلنا، لا نذيعها ، لا تنسي أن الحب في مجتمعنا الشرقي هو الوجه للآخر للعهارة ..
- هل تراني عاهرة ؟؟
- يا عزيزتي ، لا تؤولي كلامي حسب هواك . مللت، مللت، كل يوم معجب .. لم أرَ لهؤلاء الكلاب مثيلا . عاد ٍجدا أن يغازل رجل امرأة ، أن يمتدح جمالها، لكن أن يكتب لها بلوعة عن عذابات و..و.. هذا كثير !! سأموت قبل الأوان بسبب عشاقك الميامين ، هم يستمتعون بلعبتهم ، يمارسونها مع ألف امرأة كل يوم ، ويحرقون أعصابي . أنا رجل غيور جدا ،ولا يصلح للحب .
- لأول مرة ، أحس بالمهانة . لم أسمح لأحد - من قبل - بأن يتحكم في حياتي ويهينني مثلك …
- قلت لك : دعيني وشأني ، لا أريد أن أحب امرأة عرفت آخرين قبلي .. لا أحتمل أن يعلق على كتاباتك أحد حتى لو كان جبريل عليه السلام !
يبدو أنها النهاية .. لنفترق ..
- دائما تهددني بالفراق ، وتبحث عن أي مبرر لتعود إلى حبيباتك السابقات .
يأتيك صوتها - من الجهة الأخرى - متحشرجا ، وهي تجهش في بكاء ، يعصرقلبك .
- كل يوم تهديدات وإهانات ، كل يوم تعذبني ..
هذه طريقتي المتوحشة والوحيدة في التعبير عن حبي المتطرف .. لا أجيد الغزل الذي تعشقه النساء .. إنهم ينتظرونك ، لا تتأخري عليهم ، ردي على رسائلهم الإلكترونية الحارة ، واعطــهم مواعيد للدردشة . دقيقة . سأحضر لك رابطا .. هذه العاهرة مثلا - تصفحي الرابط - لا أنكر أني أحببتها ،اكتشفت أني مغفل كبير : الرجل الذي تهاجمه أمام الملأ ، في المنتديات ، واصفة إياه ب:" كازانوفا" ، تعشقه ، وتفعل ذلك لأنه هجرها .. هو من أرسل إلي رابط إحدى قذاراتها قائلا : ( شوف الشرموطة كاتبة إيه ..) !! ليجعلني مخلب قط … وهاهي تنشر صورته إلى جانب صورة طفليها في مدونتها .. تخيلي امرأة تكره طليقها حتى الموت ، وتعبد رجلا ينظر إليها - مثل بقية النساء - كعاهرة لاغير. كم أكره هذا العجوز الكلب !!
- هو رجل نذل ، وهي أعماها قلبها … إن كنت قد أحببتها كما تقول ، لا تسىء إليها، ترفع عنها من أجل ابنيها !!
امتقع لونك ، تدفق لعابك غامرا لوح المفاتيح ، وكل الحقد الأسود تكوم في قلبك :" تفووووووووو . كلكن تدافعن عن ماضيكن ، عن العهارة باسم الحب" !!
- أنا لا أفتح فخذي لأي رجل أصادفه في الطريق . تجاهلت كل الإغراءات ، لأني أحبك .. لا ذنب لي في عقدك النفسية وتجاربك السابقة !
تستمع إلى أغنية عاطفية تمزق قلبك ، تخفت حدة كلماتك ، وبصوت متهدج ، مبلل بالدموع تهتف " : أحــــــــــــــبـــــــــــــــــــــــــــــكـــــــــــــــ " .
سألك عمك عن سبب شرودك الحزين هذا الصباح ، لم تصارحه أنك لم تنم جيدا .. سيسخرون منك إن قلت لهم :" إن امرأة بينك وبينها مدن ،بحار ، وجبال أحبتك ، وعاهدتها على الوفاء، و " اختصرت فيها كل نساء الكون .."
تنفض عن ثيابك الغبار ، تصعد درجات السلم برشاقة ، تهلل وجه صاحبة البيت بشرا ، حين لمحتك واقفا ، متأملا ( المعلمين ) ، تترجاك أن تنهي أشغال التراميم في بيتها ، حتى ترتاح من الفوضى . يسود المكان هرج عند رؤيتك ..
- لحظة .. لقد اشتقت إلى ميمي …
تتأمل الحقيبة الوردية ،الصغيرة ،المعلقة في عنق كلبة من صنف لا تتجاوز قامته قدما ، تحرك ذيلها في حركات متسارعة ، معبرة عن ابتهاجها .. صاحبة البيت تؤكد للرفاق أن ميمي تعلقت بك .. تدس أصابعك في جوف حقيبتها باحثا عن قطعة جبن أو شوكولاته ، يضعها ابن صاحبة البيت كلما اصطحبها معه إلى الشاطئ : لم تتركي لي أي شيء، يا ابنة الحرام !
تتقافز واضعة قائمتيها الأماميتين فوق فخذيك ..
- عمرها خمس سنوات، وابني نزار متعلق بها حتى الجنون …
توضح :
- ألفة خمس سنوات ليست شيئا هينا ، إنها صارت مثل زوجته ..
- وهددني :لو حدث لها أي مكروه ، بألا أرى وجهه أبدا .. أحيانا أقسو عليها حين تعكر صفو مزاجي .
علق أحدهم : التعلق بالكلبة أفضل من رفاق السوء و…
تمد أصابعك إلى عنقها ، تتأمل حقيبتها الصغيرة ، وهي بين يديك ،و بحركة بهلوانية تلوح بها :
- سأذهب إلى السوق . أتحتاجون إلى أي شيء ؟!
ينفجر المكان ضحكا …
تضع صاحبة البيت يدها على خدها ، تغالب ضحكتها ، مغلفة رجاءها بجدية لا تليق بها كامرأة، كي تنهي عملك ، مشيرة إلى أغراض البيت المتناثرة هنا وهناك ..



#هشام_بن_الشاوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مثقل بنشيج الروح ..
- أعلنت عليكم الحب بطريقتي
- سوتيان _ مشاهد من حياة مخبولة جدا
- قصتان قصيرتان جدا
- بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
- ق.ق.ج
- بيت لا تفتح نوافذه …
- الشياطين تخدع أحيانا
- !أسعدت حزنا.. أيها القلب
- روتانا سينما... وهلوسات أخرى !
- عاشق من زمن الحب
- الضحايا ..جديد هشام بن الشاوي - مع كل الحب
- الخطيئة الأولى
- هذيان رجل وحيد
- الكتابة بدون مساحيق قراءة في مجموعة محمد شكري القصصية - *الخ ...
- شهوات ضوئية
- هذا السبت أكرهه
- عطر نفاذ
- امرأة فوق كل الشبهات
- البكاء الآخر (تمرين قصصي)


المزيد.....




- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هشام بن الشاوي - النصف الآخر