|
رحلة إلى الجنة المؤنفلة / 3
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 2004 - 2007 / 8 / 11 - 11:15
المحور:
القضية الكردية
1 أواصل هنا ما إنقطع من حديث رحلتي الكردستانية ، الأولى ، المصاقبة للعام المنصرم . هذا الحديث ، المتفق بالمقابل مع الذكرى العشرين لقصف منطقة " باليسان " بأولى الرشقات الكيماوية عام 1987 ، وبداية حملة الأنفال ، سيئة الصيت ؛ الحملة التي ينتظر منفذها ، علي حسن المجيد ، جزاءه العادل قريباً ، على ما إقترف من جرائم لم يشهد مثيلها النصف الثاني من القرن العشرين . للحق ، فما حفزني على ولوج مسارب الذاكرة ، هذه المرة ، إنما وقوعي مصادفة ً على البرنامج الفلكلوري للفنان سعيد غاباري ، الذي غاب عن الفضائية الكردستانية طوال عدة أشهر ولسبب غير معلوم . إنه الفنان الأصيل ، ذو الموهبة الفطرية بأصول الطرب واللحن ، ومن أصرّ في يوم ربيعيّ رائع ، على تناهي جولتنا من " أربيل " ، عاصمة الإقليم الفيدرالي ، وحتى حدّها الأقصى في بلدة " ديانا ـ سوران " . فيما سبق من حديث الرحلة ، كنت قد تركت القراء الأكارم على مشارف البلدة المؤنفلة " كولك " ، وهي ذي جماعتنا تتحرك ثانية وبهمة . وبما أن السيارة بدأت تسلق الطريق الشاهقة ، متوغلة خلل آكام لم نصادفها قبلاً ، فقد تساءلتُ عن وجهتنا وما إذا كنا في طريق العودة لـ " أربيل " ، حيث كنت أقيم في أحد نزلها . " حيران ! سآخذك إلى شلالات " كلي علي بك " ، لأنني سمعتك ونحن في " شقلاوة " تستفهم عن مكانها " : خاطبني مضيفنا الفنان ، الجالس قرب سائقه الشخصي . كانت الشمس عندئذٍ ، في مرحلة المغيب والتواري خلف هذه الجبال العصية . العتمة ، أخذت وحشتها بالتسلل للسفوح المزركشة بالغابات ، والمتناثر فيها هنا وهناك القرى القليلة . إنها القرى نفسها ، المستسلمة الآن لطمأنينة وسلام ، إفتقدا قبل عقدين من كابوس الزمن ، البعثيّ ، وكانا مجرد أضغاث أنفال .
2 في غمرة ذاك الطريق ، الوعر ، كان بصري يرتفع برهبة إلى القمم الحالقة ، المائلة كجدران متداعية على جانبيّ المشهد . حالي آنذاك ، كان كحال المتعبّد في تضرعه للسماوات العلى . وقد بلغ من رهاب تلك الأعالي ، أنني تخيلت وقوعها ، الوشيك ، على عربتنا الأرضية ! السماء وإن بقيت بمحلها في واقع الحال ، إلا أنها واصلت عبوسها بوجوهنا . وها هيَ قطرات من غيثها ، هيّنة ، ترقش الزجاج الأمامي للسيارة وتدفع سائقنا ، المرح ، للإنتعاش وبذل المزيد من الطرف والمِلح . " أنظروا هناك أمامنا ، إنه " جسر التحدي " المشهور " : يقول الرجل بجدية هذه المرة ، مشيراً نحو الجهة التي كانت العربة تقصدها مباشرة ً. ما أسرع أن وجدتنا نجتاز هذا المعبر الإستراتيجي ، المعتلي أحد أفرع نهر " الزاب " ، الغزير المياه ، والمتأتية شهرته من إحدى ملاحم ثورة ايلول ، حينما ردّ البيشمرغة بنجاح هجوماً كبيراً للجيش الحكومي وأوقعوا به هزيمة منكرة . لا غرو أن يستبسل الكرد في الإحتفاظ بالجسر ، ما دام هو المفتتح طريق الوصول لعمق بلادهم . ما أن عبرنا مكان التحدّي هذا ، حتى أضحى دربنا أكثر إلتواءاً وإنكساراً ، ماضياً بنا في موازاة النهر وفي صحبة الوديان . جُذب ناظري أثناء الطريق ، نحو الأعالي المثقوبة بفتحات الكهوف ، والمكتنفة بالأشجار الحرجية ؛ ثمة ، حيث يقرأ المرء نقشاً على الصخور بالعربية " كركوك قلب كردستان " . وأعتقدُ أنّ تعمّد الكتابة بلغة شركاء الوطن ، إنما لكون هذا المعبر الجبليّ ، الحصين ، يؤدي إلى شلالات " كلي علي بك " ؛ البقعة الأثيرة عند السائحين ، القادمين من وسط وجنوب العراق .
3 ما عتمت عربتنا أن تجاوزت جسراً آخر ، ما كان منذوراً للتحدي ، على الأرجح ، بل للوصول إلى غايتنا ، الوادعة . ها الجبل هنا ، يغدو أكثر بروزاً ، متخذاً شكلَ ماردٍ ، غائص بوسطه في غياهب إمرأته ، العفريت الوادي ؛ وها هوَ مسيل المياه ، العظيم ، الجدير بكونه إبناً شرعياً لهما . نحن اللحظة في حضرة " كلي علي بك " ، أحد أشهر شلالات كردستان . ومفردة " كلي " بلغة أهل الجبل الكريم هذا ، تعني : وادي . وكنت قبلاً ، أظن أنها بمعنى " الشلال " ؛ منذ أن رأيته في لقطة خاطفة ، من فيلم تسجيليّ ، كان الجناح العراقي يعرضه لجمهور معرض دمشق الدولي ، في بداية سبعينات القرن الماضي . آنذاك ، ما حسبتني ملاق يوماً هذا الأثر الطبيعيّ ، الفائق الفتنة ؛ وما كنت لأعرف فوق ذلك ، أنه عبارة عن عدة شلالات يحتويها ذلك الوادي القدسيّ ، المحارب . مشدوهاً ، مكثت هنيهة أتأمل ذلك المسيل ، الهائل ، المتدفق بقوة وتصميم وإصرار عبر شق جبليّ ، متدرّج الصخور . أخرجني من إستغراقي بالمشهد ، ما كان من نداء رفاق الرحلة ، وهم في إنحدارهم على الدرجات الحجرية ، المؤدية للمقصف . بدوري ، رأيتني أجاريهم في النزول نحو أبهة المكان ، إلى أن وصلت لقاعدته . راح يصفع وجوهنا الرذاذ المتطاير شظايا ، من إنفجار تلك المياه ، الديناميتية ، والمبلل أيضاً ملابسنا . رأينا المقصف مغلقا ، لخيبة الحظ ، بما أنّ وقت وصولنا كان متأخراً ؛ بدليل الضوء الكهربائي المنبعث من غرفة الحارس . هذا الرجل العجوز ، إنتهض على الفور لخدمتنا ، مجتلباً لنا كراس ومن ثمّ شاياً كردياً ، لذيذاً . إسمه ، علي عبد الله ؛ وما فتيء محتفظاً بحيويته بالرغم من قضائه حوالي سبعة وستين عاماً في حراسة المكان : ليمتدَ بنا العمر ، أيها الرجل الطيّب ! .. كيما أراك ثمة في المكان نفسه ؛ منتصباً عند أسفل الصخور المغتسلة بالمياه المقدسة ؛ كما التينة هناك ، الخالدة ، التي إنتزعتُ منها للذكرى غصناً صغيراً ، وجلبته معي إلى غربتي .
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
زنّار الجنرال
-
موت إنغمار بيرغمان ، آخر رواد السينما العالمية
-
أمير الشعر
-
لحية أتاتورك
-
السادي والسويدي
-
حكاية باموك : إسمٌ بينَ الوردةِ والأحمَر / 5
-
ويحدثونك عن العدالة السويدية
-
حكاية باموك : إسمٌ بينَ الوردةِ والأحمَر / 4
-
محاكمة الكاتب
-
التنكيل بالكاتب
-
رحلة إلى الجنة المؤنفلة / 2
-
سندريلا السينما : فنها وعشقها الضائع
-
كركوك ، قلبُ تركستان
-
سندريلا السينما : حكاية ُ حياةٍ ورحيل
-
في مديح الخالة السويدية
-
رحلة إلى الجنة المؤنفلة
-
أدبُ البيوت
-
مناحة من أجل حكامنا
-
حليم والسينما
-
كنتُ رئيساً للكتاب العرب
المزيد.....
-
مغني راب إيراني يواجه حكماً بالإعدام وسط إدانات واسعة
-
-حماس- تعلن تسلمها ردا رسميا إسرائيليا حول مقترحات الحركة لص
...
-
تحتاج 14 عاماً لإزالتها.. الأمم المتحدة: حجم الأنقاض في غزة
...
-
اليمنيون يتظاهرون في صنعاء دعماً للفلسطينيين في غزة
-
عائلات الأسرى تتظاهر أمام منزل غانتس ونتنياهو متهم بعرقلة صف
...
-
منظمة العفو الدولية تدعو للإفراج عن معارض مسجون في تونس بدأ
...
-
ما حدود تغير موقف الدول المانحة بعد تقرير حول الأونروا ؟
-
الاحتلال يشن حملة اعتقالات بالضفة ويحمي اقتحامات المستوطنين
...
-
المفوض الأممي لحقوق الإنسان يعرب عن قلقه إزاء تصاعد العنف فى
...
-
الأونروا: وفاة طفلين في غزة بسبب ارتفاع درجات الحرارة مع تفا
...
المزيد.....
-
سعید بارودو. حیاتي الحزبیة
/ ابو داستان
-
العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس
...
/ كاظم حبيب
-
*الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 *
/ حواس محمود
-
افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_
/ د. خليل عبدالرحمن
-
عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول
/ بير رستم
-
كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟
/ بير رستم
-
الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية
/ بير رستم
-
الأحزاب الكردية والصراعات القبلية
/ بير رستم
-
المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية
/ بير رستم
-
الكرد في المعادلات السياسية
/ بير رستم
المزيد.....
|