أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي لهروشي - حرقة الاِنتظار















المزيد.....


حرقة الاِنتظار


علي لهروشي
كاتب

(Ali Lahrouchi)


الحوار المتمدن-العدد: 1983 - 2007 / 7 / 21 - 05:35
المحور: الادب والفن
    


قصة قصيرة

حار محرق هذا اليوم رغم الرياح التي نهضت باكرا وهي تهاجم هذا المنزل الكئيب ..البرد..القر..الشتاء..الزوابع الرملية,كلها اتفقت كي تجتمع في هذا المساء الخريفي المشؤوم, وهي تلقي برماحها من بعيد كأنها في حرب ضروس مع العدو..ضربت..هبت..أطلقت قذائفها وهي تقصد الفجوات والثقوب التي أحدثها الزمان المر بنوافذ وحيطان وأبواب هذا المنزل المشيد على تربة تل من تلال المغرب,منزل اختار أهله الانعزال عن البشر والبشرية,وكل من استخرج إلى هذا الكون لحمة حية من نطفة سلالة"آدام وحواء " كان غضب الطبيعة قاسيا..مستديما..مخيفا..مرعبا للنفوس كما هو شأن الوضعية السياسة والاقتصادية و الاجتماعية التي يعاني الجل مرارتها..بينما كان على محمد أن يغادر فراشه الأرضي باكرا لكونه الوصي والمسؤول كالطير على حياة صغاره..تحرك من مكان نومه بقامته القصيرة بعدما وضع شفتيه على جبين زوجته التي يعتبرها معبدا مقدسا رغم فقرهما..بستانا ذا تربة خصبة لما انجب معها"مرية وسميرة"كفتاتين وسيمتين,شبيهتين بالزهور,يرفع عنهن الغطاء كل يوم,يحيهن بهدوء واضعا شفتيه المشقوقتين من جراء الحرارة على خذيهن,يفتح الباب باكرا وسط هذا الطقس الغاضب,ثم يغلقه برفق كي لا يزعج حبه..وده..عاطفته..و معشوقاته النائمات,يروح مرفرفا في فضاء الأحلام ليأتي لهن بالخبز كالطيور التي تهجر أوكارها جائعة.
وقف وقفة الشموخ والصمود كرجل عنيد في وجه الحياة القاسية التي تفرض النبش بالأظافر المتسخة عن لقمة عيش مرة..الحصول على قطعة خبز حافي ,ولو تطلب الأمر منه أن يغطس في بركة ماء العفونة..لم يتردد هذا الرجل يوما ما عن قيامه بعمل من الأعمال السهلة أو الشاقة,فهو رب لأسرة مدونة أسماء أفرادها بسجل التحمل العائلي الذي يلزم المرء مند توقيعه لعقد الزواج بتنفيذ كل أعرافه..بنوده و نصوصه,ليضمن البقاء لزوجته و لذريته..كان أمله أن لا يخرق أي بند من بنوده..ثابر..صابر..كابد..انتظر..عانى..جد واجتهد و شق صدره عواصف الحياة الهوجاء,وهو يسقي صغاره بعرق جبينه لتنمو كالشجر, أبحر طويلا في أغوار الشقاء,ممتطيا سفينة بلا شراع,وكلما كبرت بناته إلا و كبرت مصارفهن و مطالبهن,في وقت تتراجع فيه قوته إلى الوراء,و تخور صحته مع مرور الدقائق والثواني..نعم صار محمد ينهار بعدما كان كالجبل لأنه دفع كل ما ملكته إيمانه وساعديه من جهد وقوة ...فقرر بعد تفكير طويل وشاق أن يرحل نحو الديار الأوروبية دون إخبار عائلته حتى لا تنخدع بأحلامه وطموحاته,وتعيش في الوهم والخيال و أحلام اليقظة, وهي تنتظر تغير نمط عيشها..وطأت أقدامه بمعجزة خارقة أرضية الجزيرة الخضراء, صادفت عيناه الطيور بيضاء اللون في حجم اللقالق وهي تملأ سماء هذه البقعة الأرضية من أ وروبا ,محدثة لأصوات تثير انتباه الزائر, والسائح, والمسافر, و كأنها ترحب بالقادمين الجدد من المهاجرين الملتفين حول وسائل النقل .كل شيء تغير بسرعة البرق في عقل محمد و هو يلاحظ توسع الميناء ,والهواء النقي الرطب والعذب كالماء , والآلات المستعملة لحمل الأثقال من حوائج المسافرين,لا وجود للحمير والبغال ولا للأطفال والنساء والشيوخ والمعاقين المستغلين والمستعبدين من قبل الأغنياء كما هو الشأن بالوطن الأصلي لمحمد ,لا شيء هنا يثير قلقه ,حتى رجال الأمن والشرطة هنا طيبون في تعاملهم واستقبالهم للوافدين والعابرين, لأنهم يعرفون معنى الإنسانية, تعجب محمد من لطف ورحمة رجال المخزن هنا حتى مع اللصوص أو غيرهم من المجرمين, فقد كان لا يعرف في بلاده عن المخزن سوى العنف والقمع والقهر, وامتصاص جيوب الأبرياء....
وجد أن المراحيض هنا مماثلة لغرف النوم حيث المرآة معلقات على الجدران, وكل متطلبات النظافة متواجدة و بالمجان طبعا مما دفع بمجمد للقول في صمت مرعب:"صباح الخير يا أرض الجزيرة الخضراء النائمة المريحة,و المرتاحة من صداع اللصوص الإداريين و الشرطة , والجمارك, والمتسولين وحاملي الأثقال..صباح الخير يا أرضا تنام وقت النوم, وتستيقظ وقت اليقظة وهي تمنح الدفء وتغرس بدور الأمن والأمان في نفس الزائر..صباح الخير يا أرضا تستقبل الأحياء الفارين من جحيم أوطانهم, كما تستقبل مقابرها جثت الأموات العاجزين عن مقاومة قوة البحر وأمواجه القاتلة المكسرة للقوارب الخشبية التي تحمل اسم الموت ورائحة الفناء ..فبالله عليك يا أرض الجزيرة الخضراء, ما الفرق بينك وبين الأرض التي هربنا منها كأسراب الطيور المهاجرة ؟ترابكما واحد, زيتونكما واحد, ليمونكما واحد, لا فرق بيتكما لا في البر ولا في البحر ولا في الجو...فمن أقام الوزن يا ترى بغير قسط فخسر الميزان, وصرنا ضحايا لخسرانه,و هانحن نرفرف نحو المجهول
وصلت الحافلة الجميلة التي دارت عجلاتها في صمت الليل ,وضجيج النهار لمدة تجاوزت يومين متجهة نحو الشمال وقد قطعت المسافات كما تقطع أطراف اللحم بالسكين نحو الأراضي المنخفضة و هي تحمل من بين ركابها محمد الذي وجد مدينة امستردام متشابهة البنيان والأزقة والشوارع والأضواء, فلا شيء يجعله يميز بين ممراتها..كان الماء و الربيع و الأشجار والشمس هم حياة هذه البلاد, كلما شاءت متغيرات أحوال الطقس أن تجمع بين هذه المتطلبات الشعبية,حيث يبزغ الجمال الطبيعي والبشري من مختلف الأعمار والأجناس وهم يتحركون في اتجاه العمل أو نحو المناظر الخضراء للترفيه عن النفس , فما أجمل هذه الجنة التي يتمتع فيها الجميع بالحرية والأمن والأمان وهم يقرؤون ويطالعون, و يبتكرون, توزع عليهم الجرائد كل أسبوع بالمجان ليعرفوا ما يدور في بلادهم,ولا شأن لهم بأمر الملكة لأنها تسود ولا تحكم ..حتى الكلاب هنا تلتزم حدودها بعدما تدربت على حسن المعاملة والتصرف , تمتطي مختلف وسائل النقل وتلج الأماكن العمومية,كما تحتسي الخمر حتى الثمالة , ومع ذلك تظل عاقلة هادئة, وهو الأمر الذي اكتشفه محمد...
وجد مسجدا من مساجد المدينة بعدما ترقب كالمخبر خطوات رجل متوسط القامة ,يحمل طاقية بيضاء على رأسه, ويرتدي جلبابا صوفيا من الصناعة المغربية , فلزمه كالظل إلى أن دخل ذلك المسجد المملوء عن آخره, فيوم الجمعة يتذكر الجميع الصلاة, ففرح بعدما شعر أنه الآن ليس بالمغترب عن وطنه ,أدى صلاته الأولى مع الجماعة وسط مسجد تكسوه رائحة المسك التي لا تستحملها أنفاسه, أنهى صلاته وقد ساعده تواجده بالصف الأخير أن يسرع نحو الباب الخارجي وهو يترجى المصلين قائلا:"أرجوكم يا إخواني المسلمين إنني وصلت اليوم إلى هنا ولا أعرف أحدا ,أريد منكم سكنا أو مالا أو عملا"..غادر الكل المسجد ولا شخصا واحدا تجاوب معه, فصار كطير منقطع الأجنحة , فأخرجه الشخص المكلف بإغلاق باب المسجد قائلا:"يا أخي نحن هنا بالخارج نغلق أبواب المساجد بعد الصلاة , كما أن شقق المهاجرين ضيقة ولا تكفي حتى لمن يقطنها, والكل يشك في احتراف البعض لمهنة التسول , فلا تنتظر من المساجد شيئا, افعل ما يفعله كل المهجرين غير الشرعيين واذهب لتنام تحت القناطر أو في الغابات فلن يصيبك إلا ما كتب عليك,أحذر فقط من البرد القارس"
مرت الأسابيع والشهور , وتمكن محمد من الاتصال بعائلته الصغيرة لإخبارها بتواجده بهولندا , ولم يستطيع أن يطلعها على المزيد من التفاصيل وسط محيط الغربة والاغتراب,حيث انعدام التضامن والإخاء و الرحمة بين أفراد الجالية ,التي تم غسل دماغها بغسيل المادة وحب المال ..طالت مأساته وهو لا يعرف اللغة الهولندية , ولا يتقن حرفة ولا لغة أخرى غير لغة أمه , فلا يحق له أن يشتغل , أو أن يحصل على السكن,فظل حلمه يراوده بين الأمل واليأس, وبين الغضب والصبر , وهو ينام تحت القناطر, أو داخل السيارات المهجورة , وتيارا بمحطات القطار ليتمكن من تدفئة جسمه الجامد من جراء البرد القارس, حتى وقع يوما ضحية حملة تمشيط قام بها رجال الأمن لحماية دولتهم من الانحرافات , وجدوا لديه أوراق هويته , فأخذوه معهم باحترام ووقار إلى مخفر الشرطة , عاملوه معاملة حسنة , وإنسانية وقانونية لما سددوا له تذكرة السفر للعودة إلى وطنه الأصلي ... عندها كره نفسه وشعره الأسود , وملامحه العربية , وكره الحجاب والخمار والنقاب , واللحى والجلباب , وكل من يثير أسئلة عديدة تصب في النفاق والتخلف والقسوة والعناد , كره النوم والخمول , والخضوع, والخشوع..كره ملوك ورؤساء العرب , وكل من يمدد رأسه على الوسادة , متكئا على شعر امرأة , أو فتاة حسناء جميلة جذابة, أو على خصر غلام ليلبي رغبته الجنسية الوحشية كشغل شاغل كلما أشبع بطنه و ملأه بخليط من اللحوم , والخضر والفواكه, والمشروبات و لا ينتظر سوى اللحظة التي ينادي فيها المرحاض على مؤخرته ليفرغ بطنه مما نهبت أياديه من ممتلكات, وخيرات الآخرين من الأبرياء,وهو يسلم مؤخرته اثقب محفور في الأرض مبتسما أو متوجعا ليس من حصرنه على الفقراء والمحتاجين والبؤساء, أو ندما على ما اقترفته يداه من سرقة للمال العام, و لكنه متوجعا متألما من جراء ازدحام الحرام ببطنه المماثل للصهريج..كره محمد بذلك المنافقون و الانتهازيون , وعباد المال والجاه و السلطة , وكل من كان السبب في معاناته إلى جانب الملايين من الأبرياء الذين يواجهون البحر و الغرق و الموت من أجل الحياة .. لكن محمد الآن مقيد اليدين بالأصفاد الحديدية و هو على مثن الطائرة التي ترحله إلى وطنه , سرعان ما خيمت على عقله فكرة رددها في صمت مخيف:"لن أخبر عائلتي بعودتي هذه , ولما تنتهي مدة سجني بوطني , أسافر من جديد إلى الشمال لأعيد الكرة و أرحل صوب أوروبا بعدما أتخلص هذه المرة من أوراق هويتي .. لكن ماذا سيقع إن مت في البحر ؟ كيف سيتعرف الأحياء عن جثتي ؟ الأعمار بيد الله , وقد قال تعالى فإذا عزمت فتوكل".
أطلق سراحه عند نهاية عقوبته من السجن المغربي الذي داق فيه مختلف أنواع العذاب,وتوكل على الله عازما على الرحيل والهجرة من جديد..كان الصباح مظلما , و النجوم ساطعة تظهر من بعيد كاللؤلؤ, والبخار يشكل شبه كتلة بيضاء كحزام لمدينة "طنجة " و كأن البحر يدخن بغضب شديد , و قد ينفث دخانه الكثيف ليغطي به شاطئه الرملي الحزين , تحرك الوسطاء والسماسرة والمرتشين من رجال المخزن, وتجار الأرواح البريئة, فانعقدت اللقاءات السرية منها والعلنية , وعقدة الصفقات , و تم ترتيب كل شيء في الوقت المحدد, لكن الرياح كانت تجري بما لا تشتهيه السفن عندما غضب البحر , وكأنه رافضا لمنطق الطغاة , وصارت أمواجه كالجبال المائية, و كان القارب الخشبي الذي يحمل محمد ورفاقه في محنة الهجرة السرية , يميل يمينا و يسارا كالمخمور , فتحول صاحبه إلى وحش بشري لا تعرف الرحمة في قلبه مكانا , لما عمد على إفراغ ركابه من المهاجرين وسط البحر, وعاد هاربا من الشرطة الاسبانية المراقبة لحدودها الجغرافية , وبذلك مات الجميع غرقا في مياه البحر , ولم يتمكن الاسبان سوى من انتشال الجثث الني لا تعرف هويتها , فتم دفنهم في قبور مجهولة بأرض ليست التي أنجبتهم تربتها , مات محمد وفي قلبه غصة لأن أحلامه لم تتحقق , دون أن يعرف محمد أن عائلته في انتظار عودته لإنقاذهم من الفقر واليأس , والضياع , وقد انطبقت عليه مقولة البؤساء:"من لم يصل منا أوروبا حيا سيصلها ميتا "
أصبحت زوجته "زهرة" وحيدة , ينعتها كل من اصطدم بصره بلباسها الرث البالي , الذي يبعث الحزن بالمسكينة , وهي تجهل مصير زوجها , كما تجهل أن اللحظة أصبحت نهاية لحب جمع بينها وبينه لوقت طويل , وبداية لتحملها للمسؤولية الملقاة على عاتقها نيابة عن زوجها الغائب , صارت تغادر البيت كل صباح بوجهها الشاحب, الذي تتقاسمه تجاعيد الأسى,بعدما وضعت الحياة نهاية لحبها وابتسامتها في وقت مبكر...
خافتا كان النور رغم الشموع الموزعة على مشارف البيت,إبريق شاي نحاسي تنعكس أشعته بمرآة معلقة بالجدار,عشرات من الكؤوس لامعة, فارغة مصطفة تنتظر من سيقوم بحركة من أهل الدار ليفعمها بعدما فتحت أفواهها كصغار الطيور, تتلذذ حلوة ونسمة الشاي وحرارة لمسة الشفتين, لا أحد يتحرك وسط هذا الصمت الرهيب السائد سوى شعلة الشمعة التي تغمز من حين لأخر كأنها تندر بمغادرة الجنازة لهاته الأسوار التي انفرد داخلها كل واحد بلحظته الشاردة ,كانت "زهرة" في أوج الغليان حيث مددت جسدها المتعب فوق سرير نومها المهجور وهي تتلو..تقرأ..تتمتم رافعة أكف الضراعة إلى الله, ليحفظ زوجها من مكروه الغربة و أن يعيده في أمن وأمان, رغم أنها في أوج الندم لما أنجبت معه فتاتين, جميلتين, وسيمتين, يقطر العطف والحنان من قلبيهما, ومع ذلك غرقتا في السن ولم تتزوجا بعد
لم يبقى منه هذه الأسرة غير ثلاثة نفوس شريفة, لا تضمر حقدا ولا حسدا, تحب القريب والبعيد , المحسن والمسيء , تعطف على الناس جميعا, لا تخفي لهم في نفسها شرا و لا رؤى لمطالبتهم بشيء مما في أيديهم من مال..ذهب..فضة..قنعت بعيشها ولا تطلب المزيد, جل الأحاديث التي تدور في البيت, أحاديث بريئة لا تطغى فيها الألسن , ولا تتناول شأنا من شؤون الناس , أسرة تعيش بين جدران هشة نخرها الزمن المتقاعس وبلل سقوف بيوتها..بابها الخارجي على شكل دفتين , خلفه ساحة فارغة , انفتحت عليها أبواب كل الغرف ,فلا شيء يبعث عن الراحة النفسية و الاستقرار هنا , ومع ذلك فسميرة المجازة المعطلة عن شغل من الأشغال التي تدفع بالوطن كي يرسى على الأسس والركائز المتينة, راحت تفكر جامدة قرب مكتبتها الصغيرة عينيها حزينتين, شعرها أسود سواد الليل , قلبها ينفث دخان النكسة التي أصبتها وحالت بينها وبين مستقبل أفضل, يضمن لها البقاء على قيد الحياة النتنة , القذرة..راحت تتأبط صفحات كتاب وهي تتسارع في الخفاء بين همومها الذاتية, وبين من حير فؤاد أختها "مرية", لينت قلبها الغاضب والذي يهيمن عليه الخوف الشديد, مستعدة لتتحمل القذف والشتم الذي قد يصل حد الضرب, وإتلاف مذكرتها وكتبها من طرف أختها , لأنها تخالفها الرأي وتحملها مسؤولية الغدر والخيانة الذي تعرضت له من طرف من كان يدعي أنه خطيبها وسيتزوج بها , وتلك حيلة يستعملها الفتيان لهتك عرض الفتيات , لكن سميرة مثقفة, واعية وصلبة , قذفت , وألقت بتاء التأنيث جانبا , وهي تواجه الحياة في شوق لرؤية أبيها الغائب, و تعلم أكثر من أختها "مرية" ما قد تنتهي إليه العلاقة النفعية والاستغلال بين الجنسين, في وطن شره يطارد خيره
أصبح الغضب والقلق يستحوذان على قلب أمهما"زهرة" تثور..ترغد..تزبد..تشتم..تسب ,كلما قامت إحدى بناتها بحركة تراها غير عادية , وكثيرا ما كانت بنتها "مرية" تثير جنونها لما تسمعه عنها من الجيران أنها قد تغيبت عن دراستها متجهة نحو المقاهي, والمراقص, والحانات صحبة من كان يغريها بالزواج, وبملذات الحياة وحلاوتها , وسط وكر من أوكار الدعارة, فإن شبت على تلك الشيطانية محترفة للتسكع, فلابد أن تشيب على نفس الصورة, وبنفس المكان, عندما هجر الأب الذي كان متحكما في خيوط الأسرة..تقعد أمهما"زهرة" صامتة تحملق بعينيها الحزينتين , متألمة, متوجعة, تصعد حرارة جسدها المنخور , تجتمع تجاعيد وجهها الشاحب , وتشتعل النار في داخلها , لتطفئها وهي تضرب, تركل, جسد بنتها "مرية"الشريرة , ولما تخمد نارها تراها متجهة نحو بنتها "سميرة" فتنصحها على الحفظ, والمطالعة, والاجتهاد, والصبر , لأنها صورة طبق الأصل لأبيها, وما كان يتصف به من رزانة وتعقل وتبات..
خيم الليل وأرخى أجنحته السوداء عن الكون,لا أحد يتحرك سوى زناة الليل ,لأن الليل ستار لكل الفضائح, في الليل تكثر الجرائم التي لا يراها غير المتعود على الرؤية في الظلام,ومع ذلك غادرت سميرة فراشها الأرضي الملطخ بالأحلام,بعدما ملتها نفسها اليائسة في انتظار الأتي الذي لا يأتي,نهضت ,هبت مسرعة الخطى صوب مكتبتها الصغيرة,أخرجت إجازتها الملونة, حدقت فيها طويلا بعينيها الرماديتين, الحالمتين, كما لو أنها مرآة ترى فيها وجهها الناعم مثل اللؤلؤ المكنون, ظلت واقفة على تلك الحالة, فسرحت في حديقة الخيال الشاسعة, فتخيلت أنها صارت موظفة بإحدى المؤسسات المكونة لجسم الوطن, أبحرت طويلا في أغوار الحلم , فتبين لها أنها قد فازت..فلحت..نجحت وصارت مدرسة لما تحمله من علم وثقافة, أرسلت عينيها كالسهم صوب عقارب الساعة الحائطية , فلم يظهر لها غير تزامن نبضات قلبها المرتجف, مع دقات تلك الساعة ذات الأرقام البارزة , أمعنت النظر في عقاربها التي تبدو وكأنها لا تتحرك إلا بين فينة وأخرى , فنظرت بشوق عميق إلى صورة أبيها محمد التي تتوسط جدار الغرفة, فعاد لها نظرها فاشلا, ارتبك تفكيرها وحلمها, وأطلقت العنان لأقدامها كي تجوب طولا وعرضا بهو منزلها ..تذكرت أن حلمها لن يتحقق لأنها فقيرة, و أمثالها من جيوش حاملي الشهادات تنضاف كل سنة إلى محيط البطالة ..ضاع حلمها وأسرعت لتمزق إجازتها مادامت غير صالحة لتجد بها شغلا,تمزقها انتقاما من سياسة الوطن الذي يأكل فيه الكبار الصغار كالقطط...
سمعت سميرة وقع الخطوات خلف باب دارها في منتصف الليل وكل الناس نيام,وضعت المفاتيح في الباب الخارجي , فامتلكها خوف شديد ممزوج بالفرح والشوق لأبيها الذي انقطعت أخباره عن أسرته, أطفأت النور , وصعدت الدرج نحو السطح كي تطل من كوة بالجدار, قبل أن توقظ أمها "زهرة", لحظتها اصطدم بصرها بجسد أختها"مرية"التي جاءت تميل يمينا ويسارا, تتقاذفها جدران الأزقة الضيقة, فتنفست سميرة المسكينة , الطيبة الصعداء في الخفاء مرددة:"آه !وأف من الحياة البائسة التي جعلت أختي المجنونة تنتقم من نفسها بهذا الشكل المنبوذ" كانت مرية في لحظة يرثى لها, مصت بشفتيها أخر ما تبقى نن كأس الخمر..مصت أخر قطرات..بلعتها جرعة..جرعة وكانت تقول للموت:" هات ذراعيك.. ارحل بجثتي.. أنا المذبوحة بسكين الخديعة من الوريد إلى الوريد" كانت في أوج الغليان لما تذكرت أن جمالها, وحسنها قد بدأ يروح..يذوب..يذبل كالوردة الهرمة, وقد دخلت الثلاثين من عمرها ولم تتزوج بعد, وهي تعلم أنه لن يتزوج بها إلا من بتر أذنيه كي لا يستمع للناس وهي تؤرخ بألسنتها لماضيها الملطخ بأوساخ الفساد والزنى والدعارة, ومع ذلك لا زالت في أمس الحاجة إلى من يطرق باب دارها الشبيه بالكنيسة..تتحرك..تجوب الغرق طولا وعرضا كالذي يبحث عن شيء ضاع منه , سلكت أقصر ممر لترى وجهها الشاحب بالمرآة المعلقة بالجدار, سكتت وقد جعلتها لحظتها الشاردة , القاسية , الجافة ,منطوية,منكمشة على نفسها ممتنعة على التكلم , وإن تكلمت فبصوت خافت مهموس مرسلة أذنيها, و سماعها صوب الخطوات الذاهبة والآتية جانب باب دارها الكئيب , متمنية أن يطرق أحد بابها ليكون أمير الليلة يفك وثاقها المشدود إلى الزواج, عساها تتخلص من ذكرياتها وحياتها وماضيها الحزين..راحت ترتب صورها عبر السنوات التي فاتت من عمرها, واضعة إياها فوق ركبتيها الهرمتين , لم تلاحظ غير تقلص ابتسامتها الحلوة المفرحة من صورة لأخرى , فارتجف قلبها في أشد من الجنون لأنها قد غرقت في السن, فتعددت تجاعيد وجهها الشاحب, وبدأ شعرها الحريري يتساقط, وتكبر فيها مظاهر اليأس والملل..سرعان ما سمعت دقات الباب , فهزت أردافها كشيخات الرقص ,هرعت ,فرت نحو الباب الخارجي وهي تمسح جفونها من الدموع المحرقة,فتحت الباب , ولم تجد غير عاصفة الرياح الهوجاء التي كادت تقلع الباب من جذوره.

ملاحظة :
هذه القصة فازت بالجائزة الثانية بمسابقة مكتبةالهجرة لسنة 2003 و ترجمت الى اللغة الهولندية ، و نشرت في كتال تحت عنوان ( Dubbel Leven ) أي ( الحياة المزدوجة ) .



#علي_لهروشي (هاشتاغ)       Ali_Lahrouchi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وزارة التربية الوطنية والتعليم بالمغرب تدس السموم للأطفال في ...
- قصة :الله يرى ولكنه لا يتدخل
- قصة : الطريق إلى الجحيم
- تأملات من عمق الذاكرة: صرخة يقظة من القلب إلى الشعوب المحكوم ...
- المغرب بين مطرقة القبيلة العلوية المستبدة ، وسندان الأحزاب ا ...
- أعوان القبيلة العلوية المسلطة تنهج سياسة تشويه وتفريق الأماز ...
- اللإنتخابات المزمع تنظيمها بالمغرب تحت استبداد سلطة القبيلة ...
- ما هو التسامح المطلوب من قبل المسلمين للمملكة الهولندية ؟ ال ...
- ليكون الغرض من إحياء الأمازيغية هو الدفاع عن الإنسانية والهو ...
- ما هو التسامح المطلوب من قبل المسلمين للمملكة الهولندية الجز ...
- ما هو التسامح المطلوب من قبل المسلمين للمملكة الهولندية؟الجز ...
- ما هو التسامح المطلوب من قبل المسلمين للمملكة الهولندية؟الجز ...
- جلسات الاستماع لضحايا الاعتقال السياسي بالمغرب مجرد دعايات ت ...
- البيعة قمة الاستبداد بالمغرب
- المغرب وسياسة الأبارتايد
- الصحراء الغربية بين طموحات الشعب الصحراوي وتخاذل النظام المل ...
- المغرب مجرد تجمع بشري لا علاقة له بمفهوم الدولة
- أسباب ظهور الخلايا الجهادية حاليا ، و الحركات الثورية مستقبل ...
- لبنان ليس هو الحريري ، والحريري ليس هو لبنان فمن ينقذ شعب لب ...
- نداء تاريخي للدعوة لتأسيس الجبهة الثورية الديمقراطية الأمازي ...


المزيد.....




- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي لهروشي - حرقة الاِنتظار