معركة غزّة أثبتت درجة ضعف وتبعيّة وعجز النظام العربي عن القيام بأيّ دور حقيقي في مواجهة العدوان الدموي الصهيوني-الامبريالي


بسام الصالحي
الحوار المتمدن - العدد: 7919 - 2024 / 3 / 17 - 12:22
المحور: القضية الفلسطينية     


تواصل “صوت الشعب” في هذا العدد محاورة قيادات فصائل المقاومة الفلسطينية الباسلة، وبشكل حصري أجرت الحوار التالي مع الرفيق بسام الصالحي الأمين العام لحزب الشعب الفلسطيني.

تجاوزت حرب الإبادة الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني 150 يوما وهي تتجه اليوم إلى الغزو البري لرفح. كيف تقيّمون هذا العدوان وهل حقق العدوّ أغراضه؟

يمكن تلخيص الأهداف الحقيقية لهذا العدوان في ثلاثة أهداف، أوّلها: تنفيذ مخطط استراتيجي شامل لدولة الاحتلال في إحداث تغييرات ديموغرافية وجغرافية في مجمل واقع الصراع مع الشعب الفلسطيني في مستوياته الراهنة، وهذه التّغييرات تتمثل في استعادة تنفيذ التطهير العرقي و“الترانسفير” في قطاع غزّة وفي الضّفة الغربية. صحيح أن تنفيذ ذلك في غزّة تمّ تأجيله سابقا انطلاقا من مفهوم أنه تم إفشال حلّ الدولة الفلسطينية برمّته من خلال الانقسام ممّا أضعف موضوع الخشية الديموغرافية من قطاع غزّة في سياق فصل غزّة وبالتالي جعل الأولوية بالنسبة للاحتلال هو في معالجة المسألة الديموغرافية والجغرافية في الضفة الغربية أوّلا، هذا بالإضافة إلى ابتكار إجراءات واستصدار قوانين لمعالجة ذات المسألة بالنسبة لفلسطينيي الداخل 1948.

لقد أعاد السابع من أكتوبر طرح قضية غزّة خارج إطار الاستراتيجية التي اعتمدتها دولة الاحتلال منذ عام 2005 وتحديدا بعد عام 2007 الذي شهد الانقسام الفلسطيني الذي امتدّ ليصبح انفصالا مخطّطا بين الضفة والقطاع، فأعاد فرض قضية غزّة بوصفها جزء لا يمكن تجاهله في إطار القضية الشاملة للشعب الفلسطيني، ومن هنا عادت دولة الاحتلال للتفكير في معالجتها انطلاقا من جوهر موقفها القائم على الإبادة الجماعية والتطهير العرقي و“الترانسفير“، وبناء على ذلك عاد مخطط التهجير في غزة جزءً مركزيا من أهداف العدوان، بالإضافة إلى الاستيلاء على أجزاء من قطاع غزّة تحت مسميات مختلفة. ويجري تنفيذ هذا المخطّط بوسائل مختلفة ومن ضمنها جعل غزّة غير قابلة للحياة.

أمّا الهدف الثاني فيمكن تلخيصه في محاولة تغيير الوعي بالنسبة للشعب الفلسطيني أو (كي الوعي) وهو يتلخّص في تثبيت معادلة أن الفلسطيني في صراعه مع الاحتلال إمّا أن يكون راضخا للأمر الواقع أو مهاجرا خارج وطنه أو ميّتا من خلال القوة الغاشمة للاحتلال، وهي أكثر المفاهيم فاشية التي عاودت الظهور إيديولوجيًْا وعمليًّا في سلوك الاحتلال بشكل خاص بعد العدوان، وهي بخصائصها الأساسية هذه ظهرت إبّان نكبة 1948 وبالأساليب التي استُخدِمت بعد النكبة في التعامل مع من تبقّى من الشعب الفلسطيني على أرضه، ولكنها في السلوك العدواني الآن تظهر بوضوح في الإبادة الجماعية ومظاهرها التي تركّزت على استخدام القوة الغاشمة للقتل والتنكيل والتدمير وإزاحة السكان من بيوتهم ومناطق سكنهم، كما ظهرت في التجويع والتّعطيش والتدمير المنهجي للنظام الصحّي والتعليمي والمعيشي وكل المظاهر الأخرى التي تتبدّى في قطاع غزة، وحيث يجري ترهيب الضفة الغربية من استخدامها بذات الأساليب ضد بعض المخيمات والمدن، وبشكل خاص أيضا في الممارسات داخل السجون وعمليات القتل المنظّم في السجون والتنكيل والقمع والإذلال اليومي.

إن الهدف المباشر من كلّ ذلك هو إيصال رسالة واحدة إلى الوعي الفلسطيني أن القوة الغاشمة للاحتلال هي أقوى من أية قوّة لمقاومة الاحتلال، وأن حدود استخدام هذه القوّة منفلتة إلى أبعد درجات التفلت من القواعد التي شملتها القوانين والمواثيق والأعراف الدولية، وأن التقلت من المحاسبة والاستخفاف بكل منظومات الأمم المتحدة أو (العقوبات) أو حتى التدخل هو أمر تمتلكه إسرائيل حصرا في خصوصية مكانتها بالنسبة للنظام الدولي وللتحكم الامبريالي والنفوذ الصهيوني الطاغي على مراكز صنع القرار في العالم، وإذا أضفنا لذلك حقيقة أن دولة الاحتلال لم تقم أيضا بتقديم أية تنازلات حقيقية للشعب الفلسطيني من خلال ما سمّي عملية السلام أو من خلال الاستجابة لأي من قرارات الامم المتحدة، فإنها بذلك تريد خلق وتكريس وعي مقابل للوعي الكفاحي الفلسطيني الممتدّ جيلا بعد جيل، وهو أن الشعب الفلسطيني لن يستطيع تحقيق حقوقه من خلال كفاحه ومقاومته للاحتلال مهما كان شكل هذا الكفاح وهذه المقاومة، حتى ولو من خلال منصّات الأمم المتحدة، وإنما فقط أن ما سيحصل عليه هو نتيجة ما (تمنحه) إياه دولة الاحتلال. وقد تمادى نتنياهو وحكومته لصياغة ذلك على شكل مطلب مباشر بإعادة تشكيل الوعي لدى الشعب الفلسطيني وصياغة مناهجه التعليمية والإشراف على ثقافته وكل ذلك على الشاكلة التي تمّت بعد هزيمة النازية في ألمانيا.

أما الهدف الثالث فهو استعادة مكانة وهيبة ودور دولة الاحتلال على المستوى الإقليمي خاصة بعد أن اهتزّت هذه المكانة وتعرّضت في السابع من أكتوبر إلى ما تعرّضت له من تهشيم لمفاهيم وقدرات الدولة العسكرية والأمنية وغيرها، والتي تواصلت بعد السابع من أكتوبر باتْضاح الطابع العنصري الدموي لهذا الكيان، بالإضافة إلى تكبّده الخسائر اليومية من قبل المقاومة الفلسطينية.

إن إصرار دولة الاحتلال على استخدام القوّة الغاشمة والتهديد باستخدامها تجاه دول أخرى مثل لبنان أو غيرها يهدف إلى استعادة تكريس عقيدة الردع وحتى الردع النووي في المنطقة، وبالتالي استعادة دور الاحتلال ونفوذه في المنطقة على أساس ذلك بعد أن كان ذلك يجري تحت مسمْيات التطبيع الناعمة، وهو بالتالي قد يترافق مع استراتيجية جديدة يمارسها مع الولايات المتحدة لتكريس النفوذ الامبريالي الصهيوني اعتمادا على القوة الغاشمة المباشرة، ولذلك فإن دولة الاحتلال باعتماد ما يمكن تسميته بـ“عقيدة غزة” تسعى لتكريس نفوذها في المنطقة في إطار النفوذ الأمريكي وباستغلال ضعف وتراجع مكانة النظام الرّسمي العربي التي أثبتت هذه المعركة درجة ضعفه وتبعيّته وعجزه عن القيام بأي دور حقيقي في مواجهة هذا العدوان الدموي.

إن كلّ ذلك يعني المضيّ قُدما من قبل دولة الاحتلال في اتجاه هدفها الجذري بتصفية القضية الفلسطينية. وأما الأهداف المباشرة التي أعلنتها من مثال استعادة “المحتجزين” و“القضاء على حماس” فهي أهداف تستخدم لصالح تنفيذ الهدف الجوهري في الوقت الذي لم تنجح في تحقيقها بالصّورة الاستعراضية التي قدّمتها بها فموضوع “المحتجزين” يعالج عبر عملية تفاوض وصفقات تبادل وليس من خلال نجاح القوّة الغاشمة في حله لصالح دولة الاحتلال بينما أن موضوع القضاء على حماس بات في نظر أطراف عديدة بما فيها مسؤولين إسرائيليّين هدفا بعيدا عن التحقيق.

تجاوز العدوان شهره الخامس، خلافا للدمار، هل حقق الشعب الفلسطيني مكاسب في سيرورة نضاله؟

ارتباطا بالقضايا السابقة وجد الشعب الفلسطيني بأسره نفسه وبصورة مجددة أمام هذا التحدي الاستراتيجي، بل يمكن القول وبدون مبالغة أن شعوب المنطقة موجودة أمام هذا التحدي بل ومعهما مجموعة المثل والقيم والأعراف والمواثيق الدولية التي كانت خُلاصة تجارب بشرية متنوّعة أدّت إلى تنظيم قواعد إدارة الحروب والصراعات أو انعكاسا لتطور المجتمع الإنساني وعلاقاته المتنوعة، بالإضافة طبعا للاختبار المكشوف والمباشر لمنظومة النظام الدولي ومؤسساتها ومنظماتها المتنوعة.

وأجدني متّفقا مع الرفيق أيمن عودة رئيس قائمة الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة الذي قال أن “هذا العدوان أظهر أن القضية الفلسطينية وسلوك الاحتلال تجاهها لم تعد قضية أمن قومي تخصّ مصر والاردن بشكل مباشر بل باتت قضية أمن قومي عالمي حيث أن انعكاساتها وامتداداتها تخطّت نطاق الجوار“.

إن هذا التحدي الاستراتيجي الوجودي مرة أخرى للشعب الفلسطيني بأسره يفرض التصدي له من مجموع مكونات الشعب الفلسطيني واستنادا إلى قاعدة وحدة الشعب الفلسطيني كشعبٍ وليس كتجمّعات متناثرة وكشعب موحّد يواصل نضاله من أجل حقوقه غير القابلة للتصرف وفي مقدّمتها حقه في تقرير المصير وإقامة دولته المستقلّة وحق العودة، وهي الحقوق الوطنية التي ناضل من أجلها والتي عزْزتها أيضا قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، وبالتالي باتت مكوّنا مترابطا من الحقوق الوطنية ومن قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة.

لقد نجح الشعب الفلسطيني بعد نكبة 1948 في استعادة كيانيّته الوطنية وفي تعزيز طابع وجوده رغم النكبة والشتات والإلحاق، كشعب ذو هويّة وطنية موحّدة، وقد كان ذلك خلاصة كفاح متنوع خاضه الشعب الفلسطيني بمسمّيات مختلفة وتحت شعارات مختلفة في كل الأماكن التي تواجد فيها، وقد تمّ صقل كل ذلك لاحقا بنشوء منظمة التحرير الفلسطينية وبتعزيز مكانتها باعتبارها مثّلت أولا كيانتيته وهويّته الوطنية التي استغرقه النضال من أجل استعادتها بعد نكبة 1948 حوالي عشرين عاما، ثم استغرقه تكريسها والاعتراف العربي والدولي بها كممثل شرعي ووحيد ومعبّر عن حقوقه الوطنية ما يقرب ذلك من سنوات الكفاح والنضال الذي توزّع بين النضال المسلّح والمقاومة الشعبية في كل ساحات تواجد الشعب الفلسطيني، وبفضل كلّ ذلك باتت منظمة التحرير الفلسطينية ممثّلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني، ومثلته في الأمم المتحدة وفي المحافل العربية والدولية المختلفة، وخاضت المفاوضات المباشرة وغير المباشرة باسمه. وبرغم أن منظمة التحرير الفلسطينية تعرّضت دوما للتباينات والاختلافات في مضمونها الجبهوي من حيث علاقات القوى والتنظيمات الفلسطينية وتمثيلها الشامل لهذه القوى أو إدارة العلاقات الداخلية بين مقوماتها، إلا أن ذلك لم يمسّ وحتى في أشدّ فترات الاختلافات التي عصفت بين فصائلها وفي مضمونها الجبهوي بدورها الكياني والتمثيلي المعبّر عن الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.

وقد تعرْضت وحدة الشعب الفلسطيني بعد اتفاق أوسلو إلى نوع من التراخي حيث أن هذا الاتفاق بقصد أو بدون قصد ولَّد لدى مكونات الشعب الفلسطيني الأخرى خارج الضفة الغربية وقطاع غزة تساؤلات عديدة ومشروعة حول مدى قدرته على حلّ القضية الشاملة للشعب الفلسطيني سواء فيما يخص حقّ العودة أو حتى فيما يخصّ قضية المساواة القومية والمدنية لفلسطينيي الداخل.

ولقد اتّسعت فجوة هذه التساؤلات في ظلّ عجز الاتفاق أيضا عن معالجة وضع القدس واستمرار الاستيطان ووقف عملية الانسحاب الإسرائيلي. والأكثر من ذلك في تنصّل إسرائيل من التزاماتها في هذا الاتفاق، ما أدّى إلى اندلاع الانتفاضة الثانية.

وبدلا من أن تقود الانتفاضة الثانية، التي استعادت بشكل أو بآخر حالة الوحدة بين الشعب الفلسطيني ومكوناته المختلفة، إلى تحقيق أهدافها في الاستقلال فقد أدّى الوضع الذي نشأ بعدها إلى مزيد من حالة الانقسام والتشتت. وقد لعب الاحتلال على تكريس ذلك بهدف تمزيق، ليس القوى الفلسطينية، وإنما قضية وحدة الشعب الفلسطيني بما في ذلك إقامة دولته المستقلة في الضفة القطاع. وقد كانت تجري إلى جانب هذه العملية عملية تجزئة مستمرة حتى داخل الضفة الغربية، بين القدس وباقي الضفة، فضلا عن اتساع نطاق “المحلية“، إذا صحّ التعبير، في معالجة قضايا الشعب الفلسطيني في أماكن تواجده المختلفة، وتمّ اختزال التعاطي مع حقوقه الوطنية الشاملة بمعالجات جزئية. كما كان يجري إلى جانب كل ذلك تآكل وضعف دور منظمة التحرير الفلسطينية كقائدة للتحرر الوطني إلى الدرجة التي باتت السلطة الفلسطينية وكأنها تبتلعها.

إن كل ذلك انعكس تماما على غياب الجدية وازدياد إهمال معالجة وحلّ القضية الفلسطينية سواء على المستوى الدولي أو على مستوى دولة الاحتلال التي اكتفت بالتعامل مع السلطة الفلسطينية في حدود أدوار وظيفية في الضفة الغربية، ومع قطاع غزة على قاعدة تكريس الانقسام والفصل والهدوء مقابل المال، وبالتالي لم تعد هناك أيّة عملية تفاوضية سياسية بغض النظر عن نتائجها منذ عام 2014، واستبدلت الولايات المتحدة ذلك بـ“صفقة القرن” التي هي حلّ إسرائيلي–أمريكي من أجل إملائه على الشعب الفلسطيني. كما أن إدارة بايدن لم تطرح أي مشروع أو حراك سياسي بل إن بايدن أجاب الرئيس أبو مازن عندما طرح معه هذا الأمر في زيارته لبيت لحم “أن هذا يحتاج إلى معجزات المسيح“.

إن السيرورة لانكشاف الصراع مجددا بعد السابع من أكتوبر وضعت قضية وحدة الشعب الفلسطيني أمام انبعاث وجودي جديد، وبرغم ما يمكن قوله أن ردود الفعل في الساحات الفلسطينية الأخرى أقل ممّا هو متوقّع في التعاطي مع ما يجري في قطاع غزّة، فهذا تسطيح للجوهر الذي بات أكثر عمقا، وستتوالى اندفاعاته بمظاهر متنوعة لمضمون وحدة الشعب الفلسطيني وأن السابع من أكتوبر وحرب الإبادة ومساعي التهجير وتصفية وكالة الغوث وعجز الدول العربية إلى حد التواطؤ، والمشاركة الأمريكية والغربية في العدوان، كل ذلك استثار غريزة ووعي البقاء والدفاع الوجودي للشعب الفلسطيني عن هويته ووحدته وعن حقوقه الوطنية المشروعة.

إن مظاهر ذلك عديدة ومتنوعة ومتلاطمة في إطار موج صاخب إبداعي حسب ساحات العمل الفلسطيني المتنوعة، وهذه العملية لا بدّ من اكتمالها باعتبارها مقدّمة مرحلة جديدة في مسيرة حركة التحرر الفلسطينية.

يواكب ذلك وينطلق منه إعادة بناء إطار التحليل لطابع الصراع باعتباره صراعا ومواجهة مع الصهيونية العالمية بشقيها (الصهيونية اليهودية والصهيونية المسيحانية) وباعتبار ذلك جزءا مرتبطا بالامبريالية ومشاريع التوسع الاستعماري.

إن التغاضي عن إطار التحليل هذا وعن طابع الصهيونية كحركة عنصرية تقوم على التطهير العرقي و“الترانفسير” والإبادة الجماعية يخلق العديد من الارتباكات، كما أن اعتبار أي منجز سياسي يحقّقه الشعب الفلسطيني في هذا الصراع هو منجز في وجه هذا المضمون المترابط للصهيونية يزيد من هذا الإرباك.

وقد كشفت الأشهر الخمسة الماضية وستكشف الأشهر القادمة أكثر فأكثر مدى نفوذ الحركة الصهيونية العالمي، الأمر الذي يفسّر جزء من عجز وقف ما وصفه وزير الخارجية الصيني بأنه “وصمة عار على الحضارة” وهو الأمر الذي يجعل من قضية نضال الشعب الفلسطيني أكثر من أيّ وقت مضى قضية مرتبطة بالنضال الأممي على جبهتين: جبهة القوى الرافضة للعنصرية والإبادة والتي تدعم الحقوق والسلام، وجبهة القوى المعادية للصهيونية ولهيمنتها ونفوذها في مجالات الحكم والإعلام والمال والثقافة والسينما والتكنولوجيا والخدمات الرقمية والاقتصاد والأسلحة وغيره، وهي معركة باتت تتكشّف بعض مظاهرها في تناول وتفسير ما يجري وفي إعادة فحص المقولات النمطيّة في المجتمعات الغربية بما فيها جوهر الصراع ودور ومكانة إسرائيل وغير ذلك. ولا شك أن اتّساع حركة التضامن الشعبي مع الشعب الفلسطيني ومبادرة جنوب إفريقيا لوضع إسرائيل في قفص الاتهام كدولة عنصرية تمارس الإبادة الجماعية يعطي زخما أوسع لتوسيع النضال ضد الصهيونية ويرتقي في جوهر فهم الصراع وترابط النضال الفلسطيني والأممي في هذا المجال إلى مستويات غير مسبوقة، ويكاد يهدد لأول مرة بشكل جذري طابع وإيديولوجيا ومفهوم الدعاية الصهيونية لطابع الصراع الذي يخوضه الشعب الفلسطيني. كما أن ذلك سيفتح جدلا لا غنى عنه داخل كل مكونات الفعل السياسي وقِواه على مستوى الغرب بشكل خاص وعلى مستوى العالم أيضا.

بالتوازي مع العمل المسلح قامت الفصائل الفلسطينية بإصدار بيانات والدعوة إلى مبادرات حول الوضع الحالي وآفاقه. ما هو موقع حزب الشعب في هذا الحراك وكيف ترى دوره ودور اليسار الفلسطيني؟

انطلاقا من كلّ ذلك حدّد حزب الشعب دوره في إطار هذا العدوان الجاري وهو دور لا ينفصل عن عقود من النضال الفلسطيني ضد المشروع الصهيوني.

دعا حزبنا منذ البداية إلى توحيد الموقف الفلسطيني وعدم السماح باستغلال الانقسام في المعركة الشاملة ضدّ شعبنا ورفض منذ البداية خلق أو تكريس انقسام جديد على قاعدة “التصنيفات الإرهابية” التي عملت عليها ولا تزال دولة الاحتلال والإدارة الأمريكية والغرب الذي نادى بتشكيل “تحالف دولي ضد حماس والارهاب الخ” ولذلك نادى بالدعوة إلى عقد اجتماع للأمناء العامين أو للقاء شامل يضمّ الفصائل كافّة لمواجهة ذلك ولتوحيد الموقف والخطاب السياسي، وأكد حزب الشعب أن استمرار الاحتلال والاعتداءات والعنصرية هو الجذر الحقيقي لكل ما يجري وأنه يجب إنهاء الاحتلال وضمان حقوق شعبنا من أجل تحقيق السلام، وعمل حزبنا مع كل القوى الوطنية والشعبيّة في مختلف المسيرات والتظاهرات والأشكال الاحتجاجية في الضفّة الغربية، وحرص على مشاركة الجميع والتعاون في أطر القوى الوطنية في مختلف المحافظات بعد أن كانت لا تضمّ كل القوى. كما عمل مع قوى وشخصيات مستقلة على إطلاق “نداء فلسطين“، وهو صيغة وحدويّة للفعل الشعبي والجماهيري تحت شعارات سياسية واضحة ترتكز إلى “الوحدة والمقاومة والصمود والتحرير“، كما قام الحزب بإطلاق أكثر من نداء للأحزاب الشيوعية والصديقة وعقد معها عشرات اللقاءات من أجل حشد مواقف التضامن مع شعبنا خاصة في الأيام الأولى للعدوان وحيث اتّسعت مظاهر الإدانة والتشويه للشعب الفلسطيني.

وفي قطاع غزّة ينشط رفاقنا في كل المجالات المتاحة وحافظوا مع الآخرين على صيغة تواصل بين القوى والفصائل المختلفة، ولعبت المؤسسات التي يديرها رفاق الحزب دورا في مجالات نشاطها الشبابي والزراعي والصحّي والغذائي والاجتماعي رغم تدمير مقارّها واستشهاد أعداد من نشطائها.

إن حزبنا أكد منذ البداية على ضرورة تحقيق الوحدة الوطنية وعلى ضرورة توسيع حملات التضامن الدولي مع شعبنا، ويلعب رفاقنا في الخارج دورهم مع لجان التضامن والصداقة في ذلك، كما أكد حزبنا على أن القضية المركزية إلى جانب وقف العدوان هي إنهاء الاحتلال، وأنه من الضرورة بمكان جعل قضية إنهاء الاحتلال القضية المركزية إلى جانب وقف العدوان وعدم الانجرار إلى حصر المسائل فيما يسمى “اليوم التالي” الذي ظهر على شاكلة مشروع أمريكي بالتواطؤ مع الاحتلال، وأكد حزبنا أن الولايات المتحدة شريك في العدوان ودعا إلى عدم استقبال مبعوثيها من الرئاسة الفلسطينية.

إن حزبنا يدرك أن التنوع في أشكال النضال ضد الاحتلال وتعزيز المبادرة الشعبية في ذلك هو أحد أهم مصادر قوة الشعب الفلسطيني، وأن المحافظة على هذا التنوع وتوسيع المبادرة والإبداع الشعبي في تحقيقه هو الاستراتيجية الأساسية التي ينطلق منها، وأن هذه الاستراتيجية كانت وستبقى مصدر إلهام دائم لمواصلة النضال والمقاومة ضد الاحتلال.

بالتوازي مع العمل المسلح، هل نشطت أشكال المقاومة الأخرى خاصة في الضفة والداخل المحتل؟

طبعا فإن المظهر الاأرز في الضفة وفي الداخل هو المقاومة الشعبية، وبالنسبة للداخل فقد زاد التضييق بشكل هائل وغير مسبوق على كلّ التحركات والتجمعات وحتى التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي ضد أبناء شعبنا، وتم توقيف واعتقال قادة الشعب في الداخل كما جرى مع الرفيق محمد بركة ومع قادة لجنة المتابعة الآخرين وتمّ التهديد بالقتل والتحريض ضدّ الرفيق الشيوعي عوفر كتسيف الذي أدان الإبادة وأعلن مساندته للدعوة التي رفعتها جنوب إفريقيا في محكمة العدل الدولية. كما طالت التهديدات الرفيقة الشيوعية عايدة توما بسبب ذات المواقف، وبرغم كل الملاحقات والإجراءات فقد تمكنت الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة في الداخل من تنظيم مظاهرة وأكثر من تجمّع ضدّ العدوان.

أما في الضفة الغربية فالاحتجاجات والفعاليات مستمرّة وفي كل المدن برغم الاجتياحات والقتل والاعتداءات والاعتقالات والتجريف للشوارع وتدمير البنية التحتية الصحية وغيرها في مخيّمات ومدينة طولكرم وفي جنين ونابلس وغيرها.

التقت الفصائل الفلسطينية في موسكو واكتفت بإصدار بيان. كيف تقيّمون هذا اللقاء، وما هو المطلوب بالضبط من القوى السياسية الفلسطينية؟

الأهم من بيان موسكو هو اللقاء في حد ذاته، فقد كسر هذا اللقاء محاولة تكريس الانقسام في الساحة الفلسطينية على قاعدة “تصنيفات الإرهاب” وأظهر وحدة القوى الفلسطينية وموقفها تجاه القضايا الأساسية المتعلقة في النضال ضدّ الاحتلال وفي وقف العدوان وفي التمسّك بحقوق الشعب الفلسطيني، كما أن أهمية اللقاء في موسكو هي رسالة انحياز ورفض روسيا للتقسيم والتعامل مع القوى الفلسطينية على قاعدة” التصنيفات الإرهابية الإسرائيلية الأمريكية“. وليس صدفة أن هذا اللقاء تم بعد خمسة أشهر من العدوان، ذلك أن هناك ضغوطا ومساعي عديدة كانت تسعى لعدم انعقاد، وقد ظهر بشكل واضح في وسائل الإعلام الإسرائيلية وفي التصريحات الرسميّة مدى التحريض والضيق من انعقاد هذا اللقاء في موسكو.

وبتأكيد البيان على مواصلة اللقاءات فإن ذلك يعطي الفرصة لاستمرار نقاش القضايا المختلفة بأجواء أكثر انفتاحا ومسؤولية وبتغليب المصالح العليا للشعب الفلسطيني على أية اعتبارات فئوية. وقد كان واضحا تأكيد البيان على التمسّك بحقوق الشعب الفلسطيني وعلى وحدة مرجعية منظمة التحرير الفلسطينية والحرص على انضواء الجميع في إطارها.

المهم هو كيف ستتابع روسيا أيضا القضايا التي اتفق عليها وفي مقدمتها وقف العدوان وكذلك الأمر إنهاء الاحتلال، حيث أكد وزير الخارجية الروسي لافروف أن الوحدة الفلسطينية هامة جدا في كل التحركات السياسية الدولية.

من جهة أخرى، هذا لا يلغي حقيقة أن أقساما واسعة من شعبنا اعتبرت البيان أقل من المطلوب وأنه لم يحمل جديدا، وبالتأكيد فإن أبناء شعبنا في غزّة هم أول من كان ينتظر ما هو أكثر من هذا البيان، كأن يتم الاعلان عن وحدة فلسطينية شاملة بين الجميع في التصدي لهذا العدوان وفي إدارة كل القضايا بصورة مشتركة. ولكن بالقياس إلى الاعتبارات التي تم ذكرها في البداية فإن حزبنا اعتبر أن كسر موقف الفيتو الإسرائيلي والامريكي وبعض العربي على مجرّد اللقاء بين القوى الفلسطينية المختلفة باعتباره يكسر تصنيفاتها “للإرهاب” هو أمر مهم، ولكن يجب تطوير ذلك وسريعا بتوحيد الخطاب السياسي ومواجهة المشروع الأمريكي، وكذلك في بدء هجوم سياسي فلسطيني على أساس إنهاء الاحتلال وتحقيق الدولة الفلسطينية بتجاوز اتّفاق أوسلو ومغادرة كل التزاماته وإطاره، وتحقيق الوحدة الفلسطينية خارج هذه الاشتراطات ولكن على قاعدة الحقوق الوطنية وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة.