تاريخ إنجلترا – 05 ستيفن وهنري الثاني


محمد زكريا توفيق
الحوار المتمدن - العدد: 7682 - 2023 / 7 / 24 - 11:43
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

الفصل العاشر


ستيفن، 1135-1154.



لم تحكم امرأة الإنجليز ولا النورمان على الإطلاق، وكانت الإمبراطورة "مود"، امرأة مغرورة بغيضة وسيئة الخلق، لا يحبها أحد.

لذلك فكر ابن عمها، ستيفن دي بلوا، حفيد ويليام الفاتح، في الحصول على تاج إنجلترا، عن طريق الوعد بإرضاء الجميع، وكان هذا خطأ منه.

لقد أقسم، مثل جميع البارونات الآخرين، بالموافقة على أن مود يجب أن تحكم. لكن الناس بعد أن عرفوا أنه شخص لطيف وكريم، فضلوه كثيرا عليها.

لذلك، توج على الفور، وبدأ جميع البارونات النورمان، الذين أهملهم الملك هنري، يمارسون سلطاتهم وتعود إليهم أهميتهم من جديد.

لقد بنوا قلاعا قوية، واستأجروا جنودا مرتزقة، شنوا بهم حروبا على بعضهم، وقاموا بنهب مستأجري بعضهم البعض. وعندما كانوا يجدون مسافرا على الطريق، كانوا يجرونه إلى قلاعهم، ويأخذون كل ما معه من مجوهرات أو أموال.

فإذا كان فقيرا، لا يمتلك شروي نقير، كانوا يسجنونه ويعذبونه، إلى أن يقوم أحد أصدقائه أو أقاربه بدفع مبلغا من المال، كفدية ليطلقوا سراحه.

حاول ستيفن، طيب القلب، وقف هذه البلطجة والخروج على القانون. لكن، انقلب عليه البارونات، وأسقطوه من كرسي العرش، وقاموا بدعوة "مود" لتتويجها ملكة بدلا منه.

قبلت مود كرسي العرش عن طيب خاطر. وجاء عمها، الملك ديفيد، ملك اسكتلندا، بجيش لنصرتها. لكن، خرج كل الإنجليز في الشمال لمواجهته وطرده.

لقد هزموه هو والاسكتلنديين في ما يسمى بمعركة المعيار. لأن الإنجليز كان لديهم معيار مقدس، تم الاحتفاظ به في كاتدرائية دورهام.

بعد فترة وجيزة، تم أسر ستيفن في معركة في لينكولن. من ثم، لم يكن هناك حائل يمنع مود من أن تكون ملكة، فذهبت إلى وينشستر، وأعلنت نفسها ملكة على البلاد هناك.

لكنها لم تكن تتحدث بلطف أو رفق مع الناس. وعندما توسل إليها أصدقاؤها كي ترد بلطف، استشاطت غضبا، ويقال إنها صفعت عمها، ملك اسكتلندا الطيب، لأنه نصحها بالتحدث برفق مع رعاياها.

عندما جاءت زوجة ستيفن لتتوسل إليها كي تحرره، ووعدت الزوجة بأنه سيذهب بعيدا وراء البحار، ولن يتدخل في شؤونها مرة أخرى، لم تستمع إليها، بل قامت بطردها.

لكنها سرعان ما وجدت أن هذا التصرف هو الحماقة بعينها. وكان أصدقاء ستيفن على استعداد لقبول تخليه عن الحكم، لكنهم لم يقبلوا تركه في السجن مدى الحياة.

لذلك، استمروا في القتال من أجله، بينما كان ينضم إليهم المزيد والمزيد من الإنجليز، الذين كانوا يشعرون بمدى سوء وقسوة الملكة مود.

في الواقع، كانت الملكة مغرورة وعنيفة للغاية. لدرجة أن زوجها لم يأت إلى إنجلترا لمساعدتها، بل ظل في نورماندي ليحكمها. وسرعان ما كانت مود في محنة كبيرة.

فاضطرت إلى الفرار من وينشستر، والمرور وسط خطوط العدو، بعد أن فقدت جميع أصدقائها تقريبا، بين قتيل وسجين. وتم القبض على أفضل مساعديها، إيرل روبرت، من جلوستر، أثناء حراستها.

لم تستطع مود الوصول إلى بلدته جلوستر، إلا من خلال الاستلقاء في تابوت، به ثقوب للهواء، كان يتم نقله عبر أنحاء البلاد، التي كانت تكن لها كراهية شديدة.

عرضت زوجة ستيفن إطلاق سراح إيرل روبرت، في مقابل إطلاق سراح زوجها. وقد حدث بالفعل هذا التبادل. ثم ذهب روبرت إلى نورماندي ، لإحضار ابن مود الصغير هنري، الذي كان في العاشرة من عمره، وتركها، كما كان يعتقد، آمنة في قلعة أكسفورد.

لكن، بمجرد مغادرته، أحضر ستيفن جيشه، وحاصر القلعة، ثم حاول تسلق الجدران، وضربهم بعوارض ثقيلة، كما أنه منع عنهم الطعام. فلم يعد في القلعة ما يمكن أن يؤكل.

لكن الملكة مود كانت مصممة على عدم الوقوع في أيدي أعدائها. وكان الشتاء في عمقه، حيث تجمدت الأنهار وغطى الثلج سطح الأرض.

في إحدى الليالي، أخذت مود معها ثلاثة من فرسانها، كانوا جميعا يرتدون ملابس بيضاء اللون. نزلوا بالحبال، واحد تلو الآخر من فوق الجدران.

تسللوا عبر الثلوج ولم يرهم أحد. ثم عبروا النهر سيرا على الجليد، وقطعوا جزءا كبيرا من الليل، إلى أن وصلوا إلى أبينجدون، حيث كانت الخيول تنتظرهم. ومن هناك، ركبوا إلى والينجفورد، حيث التقت مود بابنها الصغير.

لم يكن هناك قتال بعد ذلك. فقد احتفظ ستيفن بكل الجزء الشرقي من المملكة. وظل هنري في جلوستر، إلى أن استدعاه والده لكي يخلفه، قبل ذهابه في حملة صليبية أخرى.

توفي جيفري خلال هذه الحملة الصليبية. وكان مولعا بالصيد. وكان يرى وهو يلبس قبعة مثبت بها زهرة نبات في شكل مكنسة. الاسم الفرنسي لهذا النبات هو "جنيت"، وبالتالي كان لقبه "بلانتاجنيت"، وأصبح هذا نوعا من الألقاب لملوك إنجلترا.

هنري، المسمى "فيتز الإمبراطورة"، أو "ابن الإمبراطورة"، جاء إلى إنجلترا مرة أخرى عندما كبر. لكن، بدلا من الذهاب إلى الحرب، أبرم اتفاقا مع ستيفن.

بمقتضى هذا الاتفاق، لن يهاجم هنري ستيفن بعد الآن. لقد تركه يحكم كل أيام حياته، بشرط أن يوافق ستيفن على أن يحكم هنري بدلا من ابنه بعد وفاته.

هذا أغضب جدا ابن ستيفن، يوستاس. الذي ذهب بعيدا كي يجمع قوات للحفاظ على حقه كوريث والده. لكنه مات فجأة في خضم أفعاله الوحشية، ولم يعش والده طويلا بعده، فقد توفي ستيفن عام 1154.

تعلمت مود الحكمة من صروف الدهر. وزهدت في أن تكون ملكة مرة أخرى. ثم عاشت بقية حياتها متقاعدة في دير. حيث كانت تحظى باحترام، لم تنله عندما كانت ملكة.



الفصل الحادي عشر


هنري الثاني، فيتز الإمبراطورة، 1154-1189.



يعتبر هنري الثاني، فيتز الإمبراطورة، أول ملك من عائلة بلانتاجنيت، وتسمى أيضا بيت أنجو. لقد كان رجلا ذكيا جدا ونشطا ومفعما بالحيوية، ونادرا ما كان يجلس، لأنه كان دائما ينتقل من مكان إلى آخر، ولا يسمح لأحد بعصيانه.

جعل كل واحد يحفظ مركزه ويلتزم بالقانون، وهدم جميع القلاع التي تم بنائها في زمن ستيفن تقريبا، ولم يسمح للبارونات بإساءة معاملة الناس.

في الواقع، كانت الأمور مختلطة خلال الحروب في عهد ستيفن، لدرجة أن أحفاد النورمان الذين جاءوا مع ويليام الفاتح، أصبحوا الآن كالإنجليز تماما في مشاعرهم.

ومع ذلك، كان التحدث باللغة الفرنسية بشكل رئيسي في البلاط الملكي. وكان الملك فرنسيا حقا. فلقد تزوج من زوجة فرنسية، إليانور، سيدة من أكيتاين، وهي دوقية عظيمة في جنوب فرنسا.

كان هنري الثاني يحكم إنجلترا، وكان أيضا يحكم نورماندي وأنجو. أي أنه كان حقا سيدا لما يقرب من نصف فرنسا.

لقد حكم إنجلترا بشكل جيد. لكنه لم يكن رجلا طيبا، لأنه كان يهتم بالسلطة والمتعة أكثر من اهتمامه بما هو صحيح.

أحيانا كان يغضب، إلى درجة أنه كان يتدحرج على الأرض، ويعض على البسط الممدودة. التي كانت متناثرة بها. أصدر العديد من القوانين. أحدها، هو أنه إذا قام كاهن أو راهب بارتكاب جريمة، فيجب أن يحاكم من قبل قاضي الملك ، بدلا من الأسقف.

لم يعتقد رئيس أساقفة كانتربري، توماس بيكيت، بصواب هذا القانون. وبالرغم من أنه والملك كانا صديقين حميمين، إلا أن هنري كان غاضبا جدا منه، لدرجة أنه أجبر على مغادرة إنجلترا والاحتماء بملك فرنسا.

مرت ست سنوات ، وتظاهر الملك بالتصالح معه ، ولكن مع ذلك، عندما التقيا، لم يعطه قبلة السلام. عرف بيكيت أن الملك لا يزال يكرهه.

لكن أتباع الكنيسة، ظلوا طويلا بدون راع، فاعتقد بيكيت أنه من واجبه العودة إليهم. وبعد عودته مباشرة، وجه اللوم إلى بعض الأشخاص.

فذهبوا واشتكوا إلى الملك، الذي صرخ قائلا: "ألا يخلصني أحد من هذا الكاهن المضطرب؟" أربعة من فرسانه الذين سمعوا هذا النداء، انطلقوا إلى كانتربري.

عرف بيكيت، رئيس الأساقفة، سبب مجيئهم. لكنه لم يهرب مرة أخرى، وانتظرهم عند المذبح في الكاتدرائية، ولم يترك الأبواب مغلقة.

هناك قتلوه. وهناك، جاء الملك بعد ثلاث سنوات، كي يبدي ندمه ويظهر توبته. جاء حافي القدمين، وركع أمام قبره، وجعل كل كاهن أو راهب بدوره يضربه بالسياط.

لا يعتبر بيكيت من الشهداء الآن، لكن كان يعتقد أنه كذلك في ذلك الوقت، لأنه مات دفاعا عن الكنيسة، وكان يعتبر قديسا عظيما.

بينما كان هذا الخلاف مستمرا، ذهب إيرل بيمبروك، المسمى سترونجبو، أحد نبلاء هنري، إلى أيرلندا وحصل على مملكة صغيرة هناك، والتي أعلن أنه يحتفظ بها لهنري.

وهكذا أصبح ملوك إنجلترا لوردات أيرلندا، بالرغم من أنهم لم يكن لديهم سوى مقاطعة لينستر لفترة طويلة، وكانوا دائما في حالة حرب مع الأيرلنديين المحيطين بهم.

كان هنري الثاني أقوى الملوك. لكن سنواته الأخيرة كانت غير سعيدة للغاية. لم تكن زوجته امرأة صالحة، وكان أبناؤها جميعا عصاة ومتمردين.

هرب أولاده الثلاثة الأكبر سنا، هنري وريتشارد وجيفري، ومعهم أمهم، من بلاطه، وبدأوا في شن الحرب عليه. لقد كان أقوى بكثير وأكثر حكمة منهم، لذلك سرعان ما أجبرهم على الخضوع.

ثم قام بنفي الملكة إليانور بعيدا، وسجنها في قلعة قوية في إنجلترا لتقضي بها بقية حياتها. هناك كان الأبناء مغرمين بها أكثر من والدهم، واعتقدوا أن معاملة أمهم كانت ظالمة للغاية، وكانوا أكثر استعدادا للوقوف ضده.

كان الابن الأكبر، هنري، يقود جيشا ضد والده. عندما مرض، وشعر أنه يحتضر، أرسل توسلا إلى والده، كي يغفر له ويأتي لرؤيته.

لكن الشاب كان في كثير من الأحيان كاذبا وغادرا، لدرجة أن هنري الثاني خشي أن تكون مجرد خدعة للقبض عليه. لذلك لم يرسل له سوى خاتمه ورسالة عفو. لكن مات الشاب هنري، وهو يضع الخاتم على شفتيه، وكان يتمنى سماع صوت والده.

أما جيفري، الابن الثالث، فقد قتل عندما سقط من على حصانه. فلم يبق سوى ابنين على قيد الحياة، ريتشارد وجون.

في هذا الوقت فقط، جاءت الأخبار بأن المسلمين في الأرض المقدسة قد استعادوا القدس مرة أخرى. فدعا البابا جميع الأمراء المسيحيين إلى ترك الشجار، والذهاب في حملة صليبية لاستعادة قبر المسيح.

لبى ملوك إنجلترا وفرنسا نداء البابا للحرب الصليبية، وكان منهم الشاب ريتشارد (قلب الأسد)، وغيرهم كثير. لكن، أثناء اتخاذ الترتيبات اللازمة، نشأ نزاع جديد، فقام ريتشارد في غضب، بجمع أصدقاءه، وجاء فيليب ملك فرنسا لمساعدته، وذهبوا للحرب.

كان والده، هنري الثاني، ضعيفا مرهقا، لا يقدر على المقاومة. لقد مرض، ووعد بالعفو عمن يطلبون العفو. فأحضرت إليه قائمة بأصدقاء ريتشارد ابنه.

كان الاسم الأول الذي رآه في القائمة، هو اسم جون، ابنه الأصغر، وحبيبه، الذي لم يتمرد عليه من قبل. لقد حطم ذلك قلبه تماما، وازداد مرضه سوءا، وبدأ يتحدث عن نسر عجوز، قد مزقه ابناؤه النسور إلى أشلاء. ثم مات هنري الثاني في عام 1189.

ملحوظة:
الفيلم الرائع بيكيت، انتاج عام 1964، يصور بعض هذه الأحداث.
بطولة:
ريتشارد بريتون، في دور توماس بيكيت
بيتير أوتول، في دور هنري الثاني
يمكن مشاهد الفيلم من هذا الموقع:
https://www.youtube.com/watch?v=_u9VmtQUmoM