مقدمة الترجمة الإيطالية لكتاب سميرة: يوميات الحصار في دوما 2013


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 6451 - 2019 / 12 / 30 - 22:23
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

في سكني في برلين التي أقيم فيها منذ عامين سبع صور لسميرة، أراها كيفما تلفت. وأول ما يطالعني حين أفتح كمبيوتري صورتنا معاً. رافقتني سميرة في أصعب سنواتنا معاً. امرأة ورجل، معتقلان سياسيان سابقان، يعيشان مستقلين بلا دخل مضمون في دمشق، مدينة لا يكادان يعرفانها كليهما. مثل سورية كلها، المدينة واقعة تحت حكم طغيان منذ ثلاثين عاماً وقتها، وكانت تنقلب إلى عاصمة حكم سلالي وراثي، وحشي وفاسد. في نحو الأربعين من عمريهما، المرأة تتدبر أمرها بدخل متواضع من العمل في مكتب صحيفة، والرجل يحاول أن يصير كاتباً.
كانت سميرة ينبوعاً للحب، وكانت لدي بعد سنوات السجن الطويلة دوافع قوية للعمل المتواصل، يحفزه غضب مكبوح. تحسنت شروط عيشنا المادية عبر السنوات. لكن لم تكن المشكلة أننا لا نملك شيئاً في بلدنا، بل أننا، مثل غيرنا من السوريين، لا نملك شيئاً من بلدنا. نعيش فيه كالغرباء، ويمكن أن يحدث لنا الأسوأ في أي وقت. اعتقلنا نحن الاثنين لساعات قليلة فقط يوم 8 آذار 2004، الذكرى 41 لاستيلاء حزب البعث على السلطة وإعلان حالة الطوارئ. كان الاستثناء قد استقر كقاعدة وكنظام حكم، واستباح حياتينا، نحو المولوديْن في مطلع الستينات. والواقع أنه لم يستثن أحداً من السوريين.
غاية الاستثناء هي "الأبد"، أن يبقى الحكم في السلالة الأسدية "إلى الأبد"، كما يقول النظام صراحة. الأبد عمره في سورية بالفعل نحو خمسين عاماً اليوم، كامل نصف تاريخ سورية المعاصرة.
في وجه الأبد انفجرت ثورة سلمية في ربيع 2011. أراد السوريون امتلاك السياسة التي حرموا منها، أن يجتمعوا في فضاءات عامة، وأن يكون لهم قول في شأنهم العام، أي أن يصيروا مواطنين. ووجهت الثورة بالحرب من طرف نظام السلالة، وانقلبت بعد شهور إلى حرب أهلية تحولت في وقت لاحق إلى صراعات إقليمية ودولية متراكبة، تواطأت أطرافها المتنوعة على إخراج الجمهور الثائر من السياسة. كان هذ واضحاً في الصفقة الكيماوية الأميركية الروسية في أيلول 2013، بعد ثلاثة أسابيع فقط من مجزرة كيماوية أودت بحياة 1466 شخصاً، وكانت جزءاً من مسعى النظام لإخراج السوريين من السياسة. أدخلت الصفقة الكيماوية النظام في السياسة كشريك في نزع سلاحه الكيماوي مقابل إطلاق يديه في قتل محكوميه بوسائل أخرى (السلاح الكيماوي لم ينزع في النهاية). وهي بهذا المعنى استمرار للمجزرة بوسائل أخرى، وكفالة دولية للاستمرار في الحجر السياسي على السوريين. الاستثناء السوري لم يكن سورياً، إنه محمي دولياً.
امرأتي سميرة الخليل كانت في دوما في الغوطة الشرقية وقت وقعت المذبحة، وهي اختطفت وغيبت في سياق من اليأس صنعته الصفقة الأميركية الروسية. اختطفت على يد قوى عدمية تنفي معنى العالم، وانتفعت وحدها من عالم نفى الكفاح السوري إلى اللامعنى. كنت أنا في الرقة وقت المذبحة، بعد يوم واحد من وصولي خطف الأب باولو دالوليو الذي كان في بيتنا في المدينة التي كانت داعش تعزز سيطرتها فيها. عشت متوارياً في انتظار أخي فراس الذي غيبته داعش قبل باولو بأيام، ولا يزال مثله مغيباً إلى اليوم. بعد شهرين ونصف صرت لاجئاً في تركيا.
في غياب امرأتي وأخي وأصدقائي كثيرٌ من العالم وأوضاع العالم اليوم، فضلاً عن مركبات سياسية واجتماعية ودينية لتاريخ سورية. يظهر بوضوح أن حياتنا الشخصية ليست حياة شخصية تعاش في معزل عن السياسة، في فضاء الاستثناء السوري، وفي الفضاء الشرق أوسطي، القائم على الاستثناء بدوره، وفي العالم. حرية سميرة وكرامتها تندرج بهذا المعنى في العمل من أجل التغيير في سورية ومنطقتها وفي العالم. كنت أفضل عالماً لا يتدخل بهذه الكثافة وبهذا القدر من اللاإنسانية في حياتنا، لكن هذا ما لدينا من عالم.
أدافع عن سميرة بأن أحاول المساهمة في شرح العالم، بأمل ان يكون ذلك مساهمة أولية في تغييره. صورها حولي بينما أكتب هذه الكلمات، بينما أتحرك، حين أصحو ووقت نومي، تعطيني الشعور بأن العالم عندي وأني عند العالم. عيشي لاجئاً في ألمانيا يقول الشيء نفسه.
يبدو الأمر غريباً. فلم يكن لدى سميرة ولا لدي جواز سفر يوماً، وكنا بعد السجن في بلدنا المعزول، لا نكاد نعرف من "العالم" شيئاً. فكيف نزج في العالم، نحن الذين عشنا فوق خمسين عاماً من عمرينا بين سجون صغيرة وبين السجن السوري الكبير؟ لم يؤخذ رأينا في عولمتنا بهذه الصورة. ولسنا الوحيدين في ذلك دون شك. لا شيء يجري في أي مكان من العالم اليوم ليس عالمياً. هناك من يقاومون معرفة ذلك ببسالة، بخاصة في الغرب. إصلاح العالم وتغييره ليس مصلحة لهم. إنه مصلحة لنا، نحن المهزومين.
قبل يوم واحد من اختفاء سميرة طلبت مني ألا أقلق بشانها. قلت لها كيف لا أقلق؟ أنت كل عائلتي! اليوم ليس القلق هو التعبير الأنسب عن تفاعلي مع غياب سميرة. أعيش بها. أعرف أنها حية ما دمت حياً.
وما يحيا بعد ذلك وما لا يحيا هو بيد الأحياء.
برلين 5 نوفمبر 2019