اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 7932 - 2024 / 3 / 30 - 20:02
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

لا يستوفي الكلام على الحرية في المجال العربي دلالةً أتمَّ دون الكلام على اللّاحرّية، على القيود والمعوّقات التي تَحولُ دون حياة حرة في مجتمعاتنا المعاصرة. تنظر هذه المناقشة في قيود ثلاث: قيد دولتي معروف، نُكثّفه عادة بعبارات استبداد وطغيان وتسلّطية وما إليها؛ وقيد استعماري معروف بدوره، بقي متجدداً ومعاصراً لنا بفعل الواقعة الإسرائيلية العدوانية؛ ثم قيد ديني يُحيلُ إلى موانع دينية لحريات الاعتقاد والتعبير وظهور الذات الحرة. باجتماع هذه القيود الثلاث التي تشلّنا بلداناً ومُجتمعات وأنفساً، قد نكون أقلَّ الناس حرية على الكوكب اليوم، أي أننا بصورة ما البروليتاريا السياسية في العالم. وعلى ذلك يترتب أن تَحرُّر العرب هو أكبر خدمة لقضية الحرية في العالم اليوم، واستمرارُ لا-حُرّيتهم أو تَعزُّزها يُضعف الحرية في كل مكان.
ما بعد القومية العربية
لكن من نحن؟ ما المقصود بالمجال العربي؟ هو مجالٌ ما بعد قومي، نُعرِّفه في هذا السياق بلغة هي العربية، ولها ولما يُكتَب بها تاريخٌ من اشتعال وخمود؛ وفي المقام الثاني بمجال جغرافي سياسي قد يُسمَّى العالمَ العربي، وله تعبير مؤسَّسي مُهلهَل هو جامعة الدول العربية؛ ثم باللّاحرّيات الثلاث المذكورة للتو، التي هي موضوع هذه المناقشة. ونصفه بأنه مجالٌ ما بعد قومي لأن الأمر لا يتعلق بدعوة سياسية أو بمشروع سياسي عروبي من صنفِ ما عرفنا بين خمسينيات القرن العشرين وسبعينياته، ولأنّ الرابطة العربية، من جهة أخرى، ظلت حية بصور مختلفة رغم اندثار ذلك المشروع. حياةٌ ليست معافاة، ينبغي القول، بل وتكتنفُها قوى موت ليست قليلة، أهمها اللّاحرّيات السيادية والسياسية والدينية التي يعتني هذا المقال بجمعها معاً ومناقشتها.
ونقول إن العرب، وليس عمومَ السكان في المجال العربي وعشراتُ الملايين منهم غير عرب، هم الأشد لا حرية، وهذا حتى حين يكون بعض غير العرب مضطهدين سياسياً من قبل نخب عربية، على ما كان حال الكرد حتى زمن قريب في سورية، ولا يزال في بعض مناطقها بل لعله ازدادَ سوءاً[1]، وعلى ما قد يكون حال الأمازيغ في البلدان المغاربية، وغير العرب في السودان الحالي. وهذا لأن غيرَ قليلٍ من دول العرب «المستقلة» إما تابعة لدول أجنبية أو منقوصة السيادة بشدة، وغير قليلٍ منها دولُ اضطهاد سياسي منظم، انتصرت للتو على أكبر تحدٍ سياسي واجهته في تاريخها، الثورات العربية، خرجَ منه محكوموها ممزقين منهكين مُبلبلي المَدَارك؛ وكذلك لفقرٍ دينيِ المنشأ في حياتنا الروحية يُضعف تطلعات الحرية في النفوس وفي المجتمعات. وبعد ذلك لأن مجتمعاتنا مجتمعات رقابة، تراقب النساء بخاصة، وتدفع النساء والرجال باتجاه مسالك امتثالية[2]. يُفاقم ذلك كله قربٌ جغرافيٌ من أوروبا وتَمركزُ أهم موارد الطاقة العالمية في شرقـ«ها» الأوسط، وهذا في عصر تاريخي يمزج بين الرأسمالية والثورة التكنولوجية وتفاوت هائل في التطور والقوة. الغرب الحديث بعامة، ومنه أوروبا، هو القوة الدولية التي تجمع بين الغنى والمعرفة والتفوق العسكري والمهارة السياسية، ومعها الحرية وبهجة الحياة، أكثر من غيرها في عالم اليوم، وهو في الوقت نفسه السندُ المادي والبشري والعاطفي لإسرائيل التي هي استعمار «غير طبيعي» لفلسطين، كان الأميركيون يجاهرون علناً قبل بدء «عملية السلام» في مدريد عام 1991، بأنهم يكفلون تفوقه على العرب مجتمعين. وفي هذا ما يقول شيئا عن فحوى «عملية السلام» تلك، وما يقول شيئاً أهم عن التفكير بالعرب كطرف واحد محتمل.
وبالنظر إلى أن أحد القيود المُناقَشة هنا ديني، يُحيل إلى الإسلام، فإن غير المسلمين من العرب أقلّ اندراجاً ضمن شرط اللّاحرّية من المسلمين. فهل يكون المسلمون بعامة شركاء للعرب في اللّاحرّية؟ لا يبدو ذلك صحيحاً إذا نظرنا حولنا (تركيا، إيران، أندونيسيا، ماليزيا، بل وحتى بنغلادش الفقيرة)، ربما باستثناءات قليلة في كشمير وميانمار ومُسلمي الإيغور الصينيين.
على أن أكثر أمثلة هذه المناقشة تُحيل على سورية، ليس فقط لأن كاتب هذه السطور منها ويَعتقد أنه يعرفها أكثر من غيرها، وإنما لأنها المثال المخبري لضروب انعدام الحرية على نحو كان بالغ المأساوية، ولَمّا تُستخلَص من دروسه خلال 13 عاماً غير القليل.
ثقافة سياسية وتبدُّلات تاريخية
تكونت الثقافة السياسية العربية المعاصرة، وعليها يتغذّى خيالنا السياسي بقدر كبير، حول التجربة الاستعمارية السابقة. أسهمَ في تَطاولِ أمدِ هذه التجربة بعد انقضائها الكيانُ الإسرائيلي المدعوم من مُستعمِرينا السابقين، وهزائم العرب المُذلّة المتكررة أمامه وأمامهم. وفي المقام الثاني حاجات نخب سلطة شهدت خلال نصف القرن الأخير تدهوراً متمادياً في كفاءتها وشرعية حكمها، تُحاول التعويض عنهما باستنفار محكوميها الدائم ضد عالم عدائي مُتربّص، الغرب المتنفّذ بصورة خاصة. ثم إنه أسهمت في ذلك تيارات فكر عالمية، لا يمكن ألّا نتفاعل معها بصور مختلفة، ومنها في هذا السياق تيار ما بعد الاستعمار الذي يُنشّط حضور التجربة الاستعمارية في الفكر والسياسة والحساسية، لدينا ولدى غيرنا. وقبله حازَ الأثرَ نفسه مجملُ العتاد الفكري للشيوعية في مركزها السوفييتي، وعندنا، مع ما هو معلوم من مركزية مواجهة الغرب الامبريالي في هذا العتاد، ومع ما هو معلوم بدوره من كون امبرياليات الغرب تراكيب من الاستعمار والرأسمالية. وإلى هذا كله يُغذّي الإسلامُ العام هذا النازع المضاد للغرب، وهو ما تسهم الإسلاموفوبيا الصاعدة غربياً في التثبُّتِ عليه. يشمل الإسلام العام كل التنويعات والتيارات الإسلامية، السياسية منها والجهادية والتابعة للدول، لكنه أولاً حسُّ الانتماء إلى مجال حضاري متكوّن حول دين توحيدي كبير، وكان ذا عزٍّ امبراطوري حتى زمن غير بعيد. مخاصمة هذا الإسلام العام للغرب حضارية وثقافية، وليست سياسية أو مضادة للاستعمار فقط، وهي بالتالي حائلٌ دون التماهي التعليمي بناجحي العالم.
وبفعل الأثر المتضافر لهذه العوامل، شغلَ الاستقلال الوطني، وما يتصل به من قضايا السيادة والتشكُّك في القوى الاستعمارية السابقة التي يصادف (أو لا يصادف) أنها المراكز المُنتِجة والمُعرِّفة للحضارة الحديثة، موقعَ القلب في الثقافة السياسية العربية. ويتصل بذلك مركزية «الوحدة الوطنية» والتخوّف من الانقسامات السياسية ومن التعدُّد السياسي ذاته، ممّا كان عمادَ سياسة نُخَب السلطة في بلداننا. كثَّفَ معمر القذافي هذا المبدأ في عبارة: من تحزَّب خان! وحكم ليبيا حكماً طغيانياً طوال 42 عاماً، لم تنته إلا بمقتله الشنيع. أسهمَ ذلك أيضاً في عسكرة الثقافة السياسية والحياة العامة، وفي تنشيط الميول الذكورية والبطريركية، وإضعاف حضور النساء في المجال العام، أو توجيهه نحو أدوار تزيينية مُكمِّلة.
ورغم المركزية الجغرافية للمجال العربي في تاريخ العالم إلى اليوم، إلا أن دولنا في معظمها حديثة جداً، ظهر أقدمها في القرن التاسع عشر (المغرب استثناء)، وأكثرها في القرن العشرين. وهذا بحد ذاته يدفع إلى الغيرة المميزة لحديثي العهد على الدولة وكيانها والاستئثار بحكمها، فوق اقترانه بنُخَب متواضعة التكوين، تخرّجت غالباً من عائلات بلا عراقة أو من جيوش بلا انتصارات، وليس وراءها معرفة تاريخية تُذكَر وتقاليد سياسية مهمة ومؤسسات مدنية راسخة.
تحقَّقَ الاستقلالُ الوطني في معظم بلداننا بين نهاية الحرب العالمية الثانية وأواسط الستينيات، ومثلت بعض البلدان حتى سبعينيات القرن العشرين ما بدا أنها موجة تحررية عربية، مُقاوِمة للاستعمار، ساعية لأشكال من العدالة الاجتماعية سُمّيت أحياناً الاشتراكية العربية، وعاملة من أجل صور من التحديث الاجتماعي والعصرنة. مصر وسورية والعراق والجزائر واليمن الجنوبي وليبيا بدا أنها تؤشّر على جهة التقدم العربي[3]، بينما تؤشّر دول الخليج ومملكتا الأردن والمغرب إلى اتجاه آخر، رجعي. كانت الرجعية تعني مزيجاً من ارتباط بالمراكز الاستعمارية السابقة، ومن عداء لتطلعات العدالة الاجتماعية في صورة إصلاح زراعي وتأميمات وسيطرة وطنية على الموارد المحلية، ومن نزعات اجتماعية ودينية محافظة، وفوقها توجه العواطف الاستقلالية هنا ضد المراكز العربية الصاعدة، وبخاصة منها المركز المصري في الحقبة الناصرية. كانت المملكة السعودية هي مركز تلك الرجعية منذ ستينيات القرن، انعقد فيها حكم العائلة السعودية على التديُّن السلفي الوهابي، وكلاهما على ثروة نفطية عظيمة، والكل على ولاء للمركز الأميركي. النفط جرى تصديره إلى المراكز الصناعية في الغرب وغيره، والسلفية إلى بلدان العرب والمسلمين في العالم.
عصفَ بالقومية التقدمية العربية مزيجٌ من هزائم عسكرية، وصعوبات اقتصادية، وتفاقم مشكلات الاستئثار بالسلطة، وحلول «الحقبة السعودية»[4] في سبعينيات القرن العشرين، وعودة المراكز الرأسمالية الاستعمارية السابقة، الداعمة بقوة لإسرائيل، إلى امتلاك زمام المبادرة على المستوى الدولي بِدءاً من أواخر عقد السبعينات ذاته، بما في ذلك على المستوى الفكري والقيمي عبر أفكار الديمقراطية وحقوق الإنسان. لكن أشدَّ ما عصف بالقومية العربية هو خيانة القوى القائدة لها للقضية التقدّمية عبر تَحوُّلها إلى مَلكَيات فتية ضارية، تتجاوز احتكار السلطة إلى نفاذ تفاضلي إلى الثروات والموارد العامة، وتعزيز ذلك بمَنَازِعَ بطريركية جديدة تُعظِّم الحاكم، وبالتعويض عن الشرعية المتضائلة بتبادل «الحراسة» مع مؤسسة دينية رسمية، هي «إسلام سياسي» داجن. تطورت أزمة النظم القومية في عقد الثمانينيات وما بعد إلى درجات مَهولة من التوحّش في سورية والعراق بخاصة، وبدرجات ما في مصر وليبيا والسودان وتونس والجزائر. ومنذ ذلك العقد لم يعد ثمة فرق بنيوي مهم بين التقدميين السابقين والرجعيين، إذ توقفت كلياً التغيرات الاجتماعية ذات المحتوى الديمقراطي التي شوهدت في الستينيات، وكل محاولات الحرب ضد الاستعمار الإسرائيلي في السبعينيات، فلم يُعوَّض عن التجمد السياسي بشيء اجتماعي ذي قيمة ولا بنضال تحرري.
في عام 1982 شهدنا احتلال إسرائيل لبيروت وتهجير المقاتلين الفلسطينيين منها، وعام 1991 جرى تحرير الكويت على يد تحالف دولي تقوده الولايات المتحدة التي جلبت 450 ألف جندياً إلى قواعد لها في السعودية. ووقتها تجندت معظم الدول العربية في هذا التحالف. وعام 2003 احتلّ الأميركيون العراق.
عاد الاستعمار أم لم يعد، خسر العرب بقدر كبير استقلالهم، أو فَقدَ ما بقي من الاستقلال أي قيمة وطنية عامة. وما كان استراتيجيةَ قوةٍ مُوجَّهة ضد الاستعمار وقواعده ومصالحه، ظل بعد الخسائر الكبيرة كما قبلها استراتيجية قوة توجهت نحو الدواخل الاجتماعية والسياسية للبلدان. الاستقلال الوطني صار قاعدة حُكم محلي عنيف، استعماري بطريقته الخاصة، يجنح إلى التعامل مع المحكومين كمُشكلات أمنية.
انقلاب الاستقلال الأول
انطوى الزمنُ الاستقلالي وتفاؤله بسرعة قياسية، ورثه حكام مُزمنون بلغوا حد الإعجاز القمعي والإفسادي في فن الحفاظ على السلطة. نتكلم على سنوات طويلة بالعقود بين سبعينيات القرن العشرين و«الربيع العربي»، وهذا في مجتمعات فتية كان العالم يتغير بإيقاعات عاصفة من حولها، ولا يتغير شيء مهم في بُناها وأحوالها، بل يتراجع تَحكُّمها بشؤونها كلها، العسكرية والاقتصادية والأمنية والديمغرافية والدينية؛ مجتمعات تائهة بلا وجهة، لكنها محكومة بأيدٍ من حديد. بحلول عام 2011 كان معمر القذافي في السلطة في ليبيا منذ 42 عاماً، وعائلة الأسد في سورية منذ 41 عاماً، وعلي عبدالله صالح في اليمن منذ 33 عاماً، وحسني مبارك في مصر منذ 31، وزين العابدين بن علي في تونس منذ 24 عاماً. كان ذلك مُفكِّكاً اجتماعياً، مُحبِطاً نفسياً، مُعقّماً ثقافياً، ومُفقِراً سياسياً، دفع قطاعات من النخبة المتعلمة والمثقفة إلى الهجرة، آخرين إلى الصمت العاجز والقانط، وغيرهم إلى التطرّف، وبعض آخرين إلى السجن.
باستقلالٍ وطني فقدَ قيمته، وبتحولاتٍ اجتماعية موقوفة، ودون حياة سياسية تُتيح لسكان يتزايدون بسرعة المشاركة في الحياة العامة، ودون نقاش عام حر يساعد على التوجه، ودون نُظُم قانونية وسلطات قضائية مستقلة توفر حداً أدنى من العدالة والتوقع، وبتعليم كان يتدهور بثبات وأمية صامدة، تحوَّلَت مجتمعاتنا إلى مجتمعات برية مُفكّكة على مستويات متعددة (جهوية ودينية وإثنية وقبلية…)، على أقسامها أن تتدبّر أمرها بنفسها. عبَّرَت تقارير التنمية الإنسانية العربية التي بدأ صدورها عام 2002، وتناولت الثلاثة الأُوَلُ منها قضايا الحريات، ثم التعليم ونشر المعرفة، ثم أوضاع النساء، عن حسّ حاد بالتدهور وشعور ساخط بفجوة تفصلنا عن العالم[5].
وبنظرة راجعة، يمكن الكلام على عملية ترثيثية، أو نازعة للتحضُّر، أو لنقل إنه لم يعد يحدّ منها شيء آخر معاكس منذ سبعينيات القرن العشرين مع توقف التحولات الاجتماعية وتعطيل الحياة السياسية، فضلاً عن مفعول تيئيسي لهزيمة حزيران 1967 وفشل حرب تشرين الأول 1973، ثم الفورة النفطية التي أضعفت مكانة العمل في الاقتصاد والمجتمع، وأتاحت للدول استقلالية أوسع عن المجتمعات، وبالعكس قدرة استتباع أوسع لهذه المجتمعات. أخذت المجتمعات العربية، التقدمية سابقاً بخاصة، تفتقر إلى بؤر تحضُّر، إن في صورة مؤسسات عامة كالمدارس والجامعات التي سُيِّست بشدة وتدهور مستواها، أو في صورة طبقات أو شرائح اجتماعية تقوم بدور ريادي يقبل التعميم بعد حين، أو في صورة نخبة وطنية ذات رؤية تعمل على تحديث مادي اجتماعي وقِيَمي. الدين بحد ذاته لا يستطيع أن يكون عاملَ تحضُّر، وإن لم يكن حتماً عامل ترثيث أو بربرة؛ إنه أقرب إلى أن يكون انعكاساً لعمليات التحضّر واللاتحضّر الجارية في أي وقت. يقول نوربرت إلياس، مؤلف العملية التحضيرية: «الدين (...) ليس له بذاته أثر ’تحضيري‘، أو مسيطر على الانفعالات. على النقيض من ذلك، الدين ’متحضّر‘ دائماً بالضبط بقدر ما هو المجتمع أو الطبقة التي تعتنقه»[6].
وأبرز مؤشرات العملية الترثيثية في بلدان مثل سورية والعراق، ولبنان، هو تخلُّل العنفِ للحياة اليومية، الأمر الذي يُعاكس ما وَسَمَ العملية التحضيرية في أوروبا بحسب إلياس نفسه من احتجاب العنف أو انسحابه من حياة المجتمع اليومية، ومن اختصاص الدولة به أو «احتكارها» للشرعي منه، بعبارة ماكس فيبر الشهيرة[7].
تَقدَّمَ التخلف بخطى كبيرة، ولكن ليس بأثر علاقات التطور والتبادل اللامتكافئ على الصعيد الدولي وحدها، مثلما حلَّلَ سمير أمين[8] ومدرسة التبعية في سبعينيات القرن الماضي، بل بأثر الهياكل السياسية التي تكافئ المحاسيب والتابعين، وتمنح الأولوية للولاء على الكفاءة، فتعمل في المحصلة وفق قانون البقاء للأسوأ. مع الزمن يسود الأسوأ مثلما وقع في سورية التي لم تكن بلداً متدهوراً بائساً وقت استقلالها ولعشرين أو ثلاثين سنة بعده؛ تطورت إلى بلد متدهور بائس بفعل سيرها طوال عقود على قدم واحدة، السلطة كسيطرة مباشرة على الأجساد والحركة، أو كـ«حكم يدوي»[9]. مشكلة العرب الأكبر هي الحكم والسياسة، وليس في الاقتصاد وإدارة الموارد. ما لوحظ ويُلحَظ من سَفَهٍ هائل في تبديد الموارد تابع لعبادة السلطة المطلقة التي لا تلغي حرية المحكومين إلا بأن تلغي مسؤولية الحاكمين قبل ذلك. وخلافاً لما تُزكّيه المقاربة الماركسية التقليدية، فإن حلَّ المشكلة السياسية هو المدخل إلى معالجة المشكلات الاقتصادية في المجال العربي. سمير أمين نفسه يتكلم على السلطة كصنم، وإن جعل من ذلك خاصية لما يسميها «المجتمعات الخِراجية» أو ما قبل الرأسمالية، مقابل «السلعة صنم» كخاصية للمجتمعات الرأسمالية[10].
استبداد واستقلالٌ ثانٍ
أخذ تَحوّل السلطة هذا يثير اعتراضات ومقاومات مزامنة، وعت نفسها بالتدريج عبر فكرة الديمقراطية التي أخذت تُهيمن في أوساط النخب العربية المَسْودَة من مناضلين سياسيين ومثقفين ومواطنين متعلمين مهتمين بالشؤون العامة منذ النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين ذاتها. لم يكن مفهوم الاستقلال الثاني في التداول العربي وقتها، لكنه يصلح بمفعول راجع لتسمية هذه الموجة السياسية الفكرية الجديدة، التي تشكلت في نموذج سياسي مُوجِّه؛ النموذج الوطني الديمقراطي، يستوعب الاستقلال الأول ويعمل على تعزيزه باستقلال ثان. فكرة الاستقلال الثاني درجت في تسعينيات القرن الماضي بدءاً من بلدان أفريقية لتسمية النضال من أجل التحول السياسي نحو الديمقراطية والتخلص من أنظمة ما بعد الاستقلال، التي تميزت بمزيج من القمعية الشديدة والفساد والارتباط بصورة مختلفة بالمراكز الاستعمارية السابقة.
في سورية، كما في مصر وتونس، وبصورة مختلفة في العراق والبحرين، بدا أن فكرة الديمقراطية توفر أرضية لتحييد الخصومات الموروثة عن الحقبة التقدمية بين يساريين وإسلاميين، أو حتى مساحة تلاقٍ. وقع الطرفان معاً ضحية أنماط سلطة استبعادية، لا تُقصي البعض لتستوعب غيرهم، بل تقصي أي قوى مستقلة، ولا تبدو منشغلة بشيء آخر غير دوامها الذاتي.
على أن الإسلامية التي كانت في صعود في طور أفول القومية التقدمية، أخذت وجهاً سلفياً في تسعينيات القرن العشرين، بالغ المحافظة اجتماعياً، بما يؤشر على التحول البري لمجتمعاتنا، وفقدانها للرعاية والقيادة والسياسة؛ مجتمعات يتيمة بالفعل، تعتمل فيها ديناميكيات ترثيث نشطة، وتلجأ السلطات العائلية المُتراجعة فيها إلى محاولة السيطرة على الأولاد والبنات، مَنازعهم الجنسية بخاصة، بعتاد ديني صارم. أخذت قطاعات من هذه المجتمعات تَسوس نفسها بدين سلفي كان يتعولَم حينها أو ينفصل عن أي أرض بعينها على ما أبان أوليفيه روا في كتابه: الجهل المقدس[11]. وهو هنا أيضاً ينطبق بصورة خاصة على البلدان «التقدُّمية» السابقة، التي سار الترثيث والتجميد السياسي والفساد والزيادة السكانية السريعة فيها يداً بيد. بالمقابل، شهدت «البلدان المحافظة» نمواً في حضور الدولة بفعل الريع النفطي، الذي مَكّنها من القيام بدور أبوي، يوزع العوائد على الأبناء ويتوقع منهم الطاعة. لكن السعودية من بينها كانت مضخة ترثيث دينية عبر العمل على نشر المذهب السلفي الوهابي في كل مكان[12].
التكوين المُعولَم للسلفية أسهمت في ظهوره حرب أفغانستان التي كانت ساحة معركة في ثمانينيات القرن الماضي بين الأميركيين والسوفييت، واحتشدت لها السعودية ومصر وباكستان، والإسلام القطبي المصري والوهابي السعودي، والمال الريعي النفطي، ومخابرات الدول المذكورة، وكادر بشري من بلدان إسلامية كثيرة، السعودية ومصر وفلسطين وسورية والأردن والجزائر وتونس وغيرها، وخرجت منها السلفية الجهادية منتصرة، لكن في بلد مُفقَر ومُحطَّم، وبعد أن طورت لنفسها تكويناً تفاصلياً، شديد العدمية الاجتماعية والوطنية والتاريخية. التكوين الحربي المُعولَم شكَّلَ نموذجاً أو بارادغماً جديداً قابلاً للنسخ هنا وهناك، دون أن يقتضي الأمر حتماً «أفغاناً عرباً» شاركوا مباشرة في الجهاد الأفغاني، وعادوا بعدها إلى بلدانهم الأصلية. وبعد عملية 11 أيلول (سبتمبر) 2011 الأيقونية والرد الأميركي الأهوج عليها، اشتدَّ تَعولُمُ نموذج القاعدة السلفي الجهادي. لقد أتاحت هذه العملية وعمليات أخرى أقل درامية في أفريقيا وخليج عَدَن تَعَمُّمَ وَهْمٍ: الإسلامية كقوة عالمية فاعلة، هذا إن لم تكن قطباً دولياً. هذه خدعة، ربما لم يخترعها أحدٌ بِوَعي، لكن خَدَمتْها سياساتُ القوة الغربية التي جندت معظم العالم وراءها، ووسائلُ الإعلام الغربية المهووسة بما هو مُثير وغريب. الأمر يتعلّق في الواقع بمجموعات متناثرة، يمكن أن تمثل مخاطر أمنية، لكنها ليست قوة دولية ولا قطباً دولياً، ولا معنى للحرب ضدها خارج عمليات أمنية محددة هنا وهناك. لقد اخترعَت الحربُ ضد الإرهابِ الإرهابَ الإسلامي، أساساً لأن لدى الأميركيين قوىً حربية هائلة، أي حلّاً حربياً جاهزاً، ما يدفع إلى تَصوُّر المشكلات بحيث تقبل هذا الحل تفضيلياً. ذلك أنه إذا كانت لديك مطرقة، فكل شيء سيبدو لك مسماراً، بحسب عالم النفس الأميركي إبراهام ماسلو. صار الإرهاب هو الشر السياسي الأساسي عالمياً، والحرب ضد الإرهاب هي الخير وهي الحلُّ بالتالي. كذلك صار «الإرهابي» الإسلامي هو المعتقل السياسي العالمي والمشتبه به أمنيا رقم 1، بعد أن كان الشيوعي حتى سبعينيات، وثمانينيات، القرن العشرين. وحين احتلَّ الأميركيون العراق عام 2003، وجد النموذج على الفور تقريباً بيئة خصبة يتناسخ فيها، أساسها قاعدة نظام صدام حسين الاجتماعية، السنّية أصلاً، التي وجدت نفسها مُهمَّشة ومُحتقَرة في النظام الجديد، فتضاعفت سُنّيتها أضعافاً، أو تحولت من سنّية بلا تنظيم ولا وعي ذاتي (ضمنياً: كان تنظيمها دولة صدام، ووعيها الذاتي قومي عربي) إلى سنّية حركية حادة الوعي بذاتها.
المجتمع البرّي
كانت الثورات العربية محاولة للخروج من التعفّن المزمن بقيادة أنظمة الأبد، لكنها كانت كذلك انكشافاً لفقرنا السياسي وتمزقاتنا الاجتماعية، ولتفاقُم شرط المجتمع البرّي، في الأرياف بخاصة، وفي الضواحي المُفقَرة لمدن كان يجري الكلام بحق على ترييفها، مدن برية ومتدهورة هي ذاتها. ترييف المدن لا يرتد إلى سُكنى أهل الأرياف فيها بإيقاع أسرع من أن تتمثله وتهضمه، إلا بقدر ما إنَّ ذلك أحدُ أوجه العملية الترثيثية النازعة للتمدّن، المُعزِّزة بالمقابل لمنطق البرّية أو الريفية. إذا كان المرء يُساءَل في مدننا عن أصله، وقلّما تُتاح له أو لها بداية مُغيِّرة فيها، فهذا ما يؤشر على تقدم الريفية أو الترييف كعلاقات قائمة على الأصل والمنبت والروابط العضوية. مدننا، وفي البال دمشق وحلب بخاصة، مشدودة إلى الماضي لا إلى المستقبل، وإلى الهوية لا إلى الدور، يتجاور فيها الناس ولا يندمجون. ثم إنه فاقمَ من الانشداد إلى الأصول تَراجُعُ الأمان العام، وبقاء الأصل المشترك أو المتقارب وحده علامة ثقة وأمان مُمكنَين. فرص البدايات محدودة في شروط اللّاأمان العام. وصحيحٌ أن علاقات الأصل والهوية ليست علاقات القرابة السائدة في البرّية، السيبة بالتعبير المغربي، إلا أنها قريبة منها وبعيدة عن البداية المُوجِّهة نحو المستقبل، والدور المُوجِّه نحو التكامل الاجتماعي.
شكَّلَ المجتمع البرّي بيئةَ انتشار للنموذج القاعدي الحربي الذي يتوافق ازدهاره مع انهيار الدولة والمجتمع، وفق معطيات التجربة الأفغانية المُكوِّنة. بعد العراق، هذا حدث في سورية حيث بقي نظام الأبد، لكن انفجر البلد وتمزق. وعرض النموذج القاعدي تنويعات، بعضها مُعولَم، وبعضها محلي، لكنها تشارك في النزعة الاجتماعية المحافظة المتطرفة، الفاشية بالفعل، وفي مَنزَع عدائي حيال التعبيرات الاجتماعية والسياسية والفكرية غير الإسلامية، بل غير السلفية. حدث مثلُ ذلك بقدرٍ ما في ليبيا، وفي مصر. ويبدو أنه يجسد ضرباً من البداوة الدينية السياسية، قادنا الترثيث والمجتمع البري باتجاهها في العقود السابقة، بعضها ينسخ النموذج الأصلي للبداوة الدينية السياسية، أعني الوهابية السعودية. تمترّس داعش في البادية السورية العراقية، وفي سيناء المصرية وفي مناطق من ليبيا ومالي، تُحيل إلى نمط قابل للنسخ والتكرار.
حدث هذا التطور في سورية بسرعة وبائية خاطفة بين النصف الثاني من عام 2012 وخلال عامي 2013 و2014، فلا يكاد المرء يصدق ما تراه عينه، أو لا يستوعبه حين يراه. وقد وفَّرَ قضيةً إيجابيةً للحكم الأسدي الذي يَعرفُ جيداً أنه مهما تتحفّظ عليه القوى الدولية النافذة فهي تُفضّله على الإسلاميين المتطرفين، بِمنزَعهم العدمي النافي للعالم وبتكتيكاتهم الإرهابية.
ولقد ظهر في المحصلة أن الحلّ السلفي على مستوى العائلة لمشكلة القيادة والسياسة هو انحلالٌ اجتماعي عنيف على المستوى العام، تربيةٌ على الظلم والعدوان متوحشةٌ حيال الغرباء والنساء والجميع تقريباً، تعزيزٌ لشرط المجتمع البرّي أو بالفعل مجتمع الغاب، لا انتهاءَ منه. إدارة التوحش، وهذا عنوان كتاب شهير لمنظر سلفي جهادي، لا تُحيل إلى مجتمع وتاريخ، بل إلى قوى عنف مطلق تتصارع، إلى غابة وحوش، تَسودها شريعة الغاب، وبمساهمة نكراء من دعاة «الشريعة الإسلامية»[13]. وبالفعل، سواء تعلَّقَ الأمر بداعش أو بجيش الإسلام أو بهئية تحرير الشام، وقد حكم كلٌّ منها لسنوات عاصفة، فقد ساد قانون الغاب حيث الضعيف بلا حقوق والمُخالِف يُستأصل. ما كان يؤخذ على الحكم الأسدي من أنه سلطة القوة المحض، وقبله ما كان المأخذ الأساسي على الاستعمار الغربي من أنه يحكم بقانون الغاب، كرّره الإسلاميون الذي مثّلوا فوق ذلك نموذجاً للرثاثة المُقاتلة، والقاتلة.
يطرح ذلك سؤالاً تحرّرياً يتصل بالدين، أو يُثير مشكلة الحدود الدينية للتحرر الاجتماعي والسياسي والفكري، بالربط مع كل من الاستقلالَين؛ الأول عن الاستعمار، والثاني عن الطغيان. هذا استقلال ثالث سننظر فيه بعد قليل.
تَحوّلات
في المجمل، جرت بتسارع خلال العقود الأربعة الماضية ثلاثة تحولات مهمة تحت أنظارنا، لكن نظرياتنا لم تكد تراها، أو رأتها بعد تأخّر مديد، كدأب النظريات في التأخّر عن العمليات التاريخية. أولها التحوّلُ من احتكار السلطة أو الحكم التسلطي إلى أنظمة الأبد. فالواقع أن الكلام على احتكار السلطة لا يفي التحول الذي أخذ يجري منذ سبعينيات القرن العشرين على مستوى السلطة حقه، ولا حتى حين يُشفَع بنفاذ امتيازي إلى الثروات العامة. النقطة الأساسية تتمثل في الأبد، إرادة البقاء في الحكم إلى ما لا نهاية، وتطوير ضروب من الميراثية الجديدة، إن على أساس عائلي طائفي كما في سورية (وفي ظل حماية أجنبية اليوم)، أو على أرضية عسكرية كما في مصر، أو بتحديث النظم الميراثية التقليدية على ما هو جار في السعودية والإمارات. لقد اقترنَ ذلك بغياب أي وعد عام، ولو شكلي، بأن الأمور ستكون مختلفة بعد حين. الأبد يعني بالتعريف أنه لم يعد ثمة بَعد. وشُفِعَ غيابُ الوعد بحرب مستمرة ضد المستقبل وتقويض أي قوى وأفكار تغييرية. التوريث هو التحقيق السياسي للأبد، ونعلم أن كل الدول العربية التي شهدت الموجة الأولى من الثورات، بين أواخر 2010 وربيع 2011، أراد حكامها المزمنون توريث مناصبهم عائلياً (تونس ومصر وليبيا واليمن، والبحرين حكم عائلي وراثي أصلاً). أما البلد الذي كان قد شهد توريثاً ناجحاً، والذي تحكمه بالفعل سلالة حاكمة منذ 54 عاماً، فهو يدفع الثمن الرهيب لهذا النجاح في خصخصة الدولة. تحطيم سورية، أو حرق البلد من أجل الأسد، هو تصرُّفُ المالك بما يملك، يفعل به ما يشاء. لقد جرى في سورية أكبر تحول رجعي في تاريخ كيانها المعاصر، بل ومنذ عصر التنظيمات العثماني الذي كان مَسعىً نحو المواطنة والمساواة أمام القانون والتحديث الاجتماعي والفكري في السلطنة العثمانية، سبقت موجته الأولى ظهورَ الكيان السوري الحديث بنحو ثمانين عاماً. ونحن ندفع ثمن هذا التحول السلطاني بالغِ الرجعية، الذي لم نكن قادرين على الاعتراض عليه وقتَ حدوثه.
والخاصية الأبرز لأنظمة الأبد هي قيامها على التعذيب، الذي يرتفع في سورية ومصر لأن يكون جوهر النظام، لكنه مُمارَس بدرجات واسعة في كل البلدان العربية. لم تخترع هذه الأنظمة التعذيب، ولكنها مَأسسته وثبتته، حولته إلى ركيزة أساسية للحكم، اسمها أجهزة الأمن أو المخابرات. ويَحولُ التعذيب دون قيام الدولة كمفهوم للعام الاجتماعي، أي كفكرة تُعتَنق ويجري التماهي بها، أو كدولة وطنية يُطوِّرُ المحكومون شعوراً بالانتماء إليها والثقة بها. في واقع الأمر يفرَّ المحكومون السوريون من دولتهم المزعومة في كل اتجاه، ويقاومون ما استطاعوا العودة إليها، حتى من سجون لبنان القريب[14] التي يتعرضون فيها وخارجها لمعاملة مشينة، وهذا بالضبط لأنها دولة تعذيب. وإلى اليوم لم يُفكَّر كفاية في حقيقة أن دولتنا، الجهة المُنظَّمة التي نتوقع منها الحماية والرعاية هي من تقوم بتعذيبنا وإذلالنا، ولا في الارتدادات السياسية والنفسية لهذه التجربة المتكررة والراسخة التي يتعيّنُ النظر إليها كأحد أوجه عملية الترثيث. والاستنتاج البسيط من ذلك أن الدولة ليست دولتنا، وأننا في الواقع بلا دولة.
التحول الثاني طال الإسلامية. السلفية كحكم للأجساد في مجتمعات برّية، والسلفية الجهادية كحرب مستمرة للبريين، يفيضان على مُدرَك الإسلام السياسي، ومن باب أولى على الإسلام كدالّ مُرسَل. إنها تشكيلات عصابية عدمية، مع استعداد تعذيبي قوي، والجهادية منها مُعولَمة التكوين، واستعداداتها الإبادية هي القوية. فإذا لم يكن سهلاً إيجاد مساحات مشتركة مع الإسلاميين السياسيين كما تدل التجربة السورية كفاية (والتونسية، والمصرية)، فلا يبدو الإسلام الحربي غير حرب على الجميع، وعلى المجتمع بالذات. يتجاوز الأمر هناك عُسر بناء أرضية مشتركة، إلى طغيان فاشي، لم تكذبه السيرة الفعلية للسلفيين المجاهدين (المحليين) والجهاديين (المُعولَمين) على نحو ما ظهروا في سورية بين 2013 و2018 بخاصة. في سنوات سيطرته العاصفة، عرضَ داعش تركيباً بين منظمة عدمية بالغة التطرف وبين استعمار استيطاني إحلالي وبين نظام إرهاب شمولي تجسُّسي. المجموعات الإسلامية الأخرى تنضبط بنموذج مُرشد مُقارِب[15]، لم يبدأ بعرض مقادير من الاعتدال إلا بعد هزيمته العسكرية والسياسية بعد العام 2016. ليست إشكاليةُ الاستيعاب، أعني العمل على بناء نظام سياسي استيعابي لا يَستبعد الإسلاميين، غير صالحة حيال الإسلام الحربي، بل إن قيام المجتمع بالذات يبدو مُمتنعاً بوجوده. وبينما تحمي الدولُ القائمة الحريات الاجتماعية، أعني ما يتصل بكيف يلبس الناس وماذا يأكلون ويشربون، واختلاطهم في الفضاءات العامة، فإن الإسلامية أظهرت عدوانية شديدة في هذا المجالات، دون أن تُعوِّضَ عنها لا بأمان عام، ولا بأي حقوق سياسية. وفي المحصلة لم يظهر الاستقلال الثاني مُتعثّراً جداً فقط، وإنما يُثار سؤال حول استقلال ثالث مثلما تَقدَّم.
ويتمثل التحول الثالث في ظاهرة الاستعمار ذاته. المُدرَك يوجه الأنظار نحو الغرب، نحو أميركا وفرنسا وإنكلترا وألمانيا وإيطاليا وأسبانيا...، بصورة حصرية أو شبه حصرية[16]، فلا نجد في تصرفنا لغةً للكلام على احتلالات أجنبية ذات منازع استغلالية اقتصادياً، وتفوقية قومية وجيوسياسياً، وتفريقية استتباعية اجتماعياً، أي استعمارات. لماذا ليس استعماراً دخول قوات عسكرية من بلد آخر، متشدد في قوميته، يعمل على السيطرة على موارد البلد المتدخَّل فيه، ويبني فيه قواعد عسكرية، ويسيطر على قراره السياسي، ويتلاعب بنسيجه الاجتماعي، مثل إيران ومثل روسيا؟ يبدو تفكيرنا في هذا الشأن ضحية نزعة اسمية تجعل من الاستعمار اسماً لقوى بعينها، وليس مقولة تَصِفُ علاقات سيطرة مسلحة، ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية وثقافية، على بلدان أخرى بعيدة (سورية ليست حتى جاراً لأي من إيران وروسيا). وفي هذا الشأن يبدو تيار ما بعد الاستعمار مُثبّتاً لهذه النزعة الاسمية، وليس بحال مُتمرِّداً عليه. لا تقتصر المشكلة على التمركز حول التجربة الاستعمارية هنا، بل على تقليصٍ لحقلِ النظر إلى جانب واحد من الواقع؛ فعلُ القوى الغربية والولايات المتحدة بخاصة، وهو تقليصٌ يُحاكي ما كان يؤخذ على الاستشراق من تقليص النظر في مجتمعاتنا إلى قطاعي الدين والثقافة، واشتقاق كل شيء آخر منهما. هذه النقطة مهمة، لأن إدوارد سعيد، أبرز مؤسسي تيار ما بعد الاستعمار، هو من يأخذ على الاستشراق تقليصه حقلَ النظر إلى المجتمعات الشرقية[17]. ورثةُ سعيد العرب قلَّصوا المنظور أكثر بما يتيح لهم التعامى عمّا يحصل قرب فلسطين، متذرعين بفلسطين بالذات.
سورية هي البلد الذي يتكثف فيه أكبر سوء تمثيل وسوء فهم بين المهتمين بما بعد الكولونيالية، ويجد سوريون كثيرون من أمثالنا أنفسهم مُغَرَّبين عمّن يفترض أنهم شركاء يساريون وتحرريون، وهذا بسبب تلك النزعة الاسمية للشركاء المُفترَضين واكتفائهم بعلمهم القديم. وهذا شرطٌ تُفاقِمه الهمجية الإسرائيلية في فلسطين، التي هي استمرارٌ مُكثّف للغرب الاستعماري وخلاصته؛ كما يُسهّلُ منه تَوفُّر أرضية واسعة مثلما رأينا بعد حرب غزة للاندراج في طيف عالمي واسع، معارض للاستعمارية الغربية، مع عوائد رمزية فورية تقريباً لهذا الاندارج، بالنظر إلى أننا نتكلم على مراكز النشر والإعلام والشهرة في العالم، وهذا مقابل مخاطر محدودة إلى اليوم على من يُساند قضية فلسطين في تلك المراكز. فلسطين قضية عالمية بعالمية أعدائها، فضلاً عن الأعماق التاريخية والنفسية والجيوسياسية والجيودينية لقضيتها.
فضلاً كذلك عن كون قضية فلسطين هي القضية الجامعة cause célèbre، الوحيدة ربما، في المجال العربي والإسلامي، على ما ذكر مؤخراً مايكل روثبرغ، مؤلف ذاكرة متعددة الاتجاهات، في مقابلة مهمة مع مديكو إنترناشنال[18].
القضية السورية ليست هذه ولا تلك: أقل عالمية، أعدى أعدائنا، إيران وروسيا، ليسوا من معوْلِمي العالم الغربيين، أصحاب «القلعة الإسرائيلية»[19]، بل يُصوِّرون أنفسهم كمُنازعين لهؤلاء؛ وهي ليست قضية عربية وإسلامية جامعة، بخاصة، في وقت تراجع واسع النطاق عن «الربيع العربي» وخطابه الديمقراطي. لكن سورية بالذات تُظهِرُ حدود هذه المنازعة وافتقارها الكلي إلى أي مضمون تحرري. مشكلة إيران وروسيا مع الغرب ليست حول المساواة وعمومية الحقوق والقيم العالمية، بل حول المشاركة في السيطرة والامتياز، والاعتراف لهما بمجالات حيوية غير مُنازعة.
سورية من هذا الباب عنوان لمسألة تصلح مدخلاً لإعادة النظر في مفهوم الاستعمار والأدب المتكون حوله، إما باتجاه توسيع مفهوم الاستعمار ليشمل قوى الاحتلال الجديدة، التي تجمع، أُكرِّر، بين الاستيلاء على الموارد المحلية وإقامة القواعد العسكرية وانتهاج صيغ مختلفة من سياسية «فَرق تَسُد» الاستعمارية؛ أو السعي وراء نسق مفاهيمي مغاير، أكثر ملاءمة لاستيعاب الوقائع الجديدة. إذ لا يُعقَل أن تُوصَف أميركا في سورية بأنها استعمار ولا تُوصَف كذلك روسيا، أو أن تكون أميركا وتركيا مُستعمرتين، ولكن ليس روسيا وإيران. ولا يليق بتفكير نقدي ومناهض للاستعمار أن يكون معياره في التفريق هو موافقة نظام عميل، هو نفسه استعمارٌ داخليٌ مُزمن، على وضع نفسه تحت حماية الروس والإيرانيين لنفي الصفة الاستعمارية عنهما. إلى ذلك، فإن الوقائع الجديدة لا تبدو شيئاً عارِضاً أو استثناء عابراً، بل هي أقرب إلى نموذج ينسخ نفسه هنا وهناك، في العراق ولبنان واليمن بخصوص إيران، وفي غير بلد أفريقي بخصوص روسيا التي تعمل عبر شبكة مرتزقات على ترسيخ حالة ميليشياوية دائمة في تلك البلدان.
وليس في ذلك ما يُنسبِنُ الاستعمار الغربي الذي يعرض فيما يخصّ فلسطين بالذات استعداداً عدمياً ومتطرفاً، لا يختلف في شيء عما أظهرته الإسلامية السلفية حيال العالم الحديث والمعاصر. ألمانيا بخاصة طليعيةٌ في هذا الشأن، ليس من حيث أن موقفها لا يتمايز عن إسرائيل فقط، وإنما من حيث قمعيتها العدائية للتعبيرات السياسية والثقافية والرمزية الفلسطينية حتى على المستوى القاعدي. هذا البلد الذي لم يكن مُستعمِراً في منطقتنا كأنما يُحقّق عبر التماهي بنموذج الاستعمار الاستيطاني والعنصري في فلسطين استعماراً بالوكالة، وفي الوقت نفسه يُكفّر عن آثامه التاريخية بحق اليهود[20].
والخاصية الأميز للاستعمار الغربي في طوره الشرق أوسطي الأحدث تتمثل في أن حروبه كلها بعد نهاية الحرب الباردة هي حروب تعذيب[21]، يفتك بها طرفٌ منظمٌ غنيٌ بالغُ القوة بطرف مُشتَّت فقير وضعيف، مُوظِّفاً أفضليته الحاسمة في مجال تكنولوجيا السلاح والقوة الحربية. بعد احتلال أفغانستان عام 2001 وأثناء التحضير لاحتلال العراق، تواتَرَ الكلام من الجهة الأميركية على «ثورة في الشؤون العسكرية» في زمن «الحروب غير المتوازية» (التي لا تجري بين جيوش دول أو تحالفات دول)، ومن أوجهها قدرةُ قوات المدرعات أو حتى المُشاة على الأرض على استدعاء الطيران في أي وقت، وتطلُّع المخططين الحربيين لحرب كهذه هو صفر خسائر من جانب قواتهم. لكن هل تبقى هذه حرباً؟ تصلح عبارة صفر خسائر لتعريف التعذيب بالأحرى، حيث الجلادون وحدهم من لا يخسرون شيئاً في ممارسة مهنتهم الخسيسة. بهذه الدلالة تشكل حروب إسرائيل والقوى الغربية استمراراً لنُظُم التعذيب في بلداننا.
وإلى حروب التعذيب، فإن من خصائص الاستعمار الغربي، مقابل الروسي والإيراني والتركي مثلاً، هي أنه يُعرِّفُ نفسه بلسان الحق والقانون، أي هو يجمع بين القوى المسلحة الساحقة والاستيلاء على الخطاب الذي يُؤوِّلُ أفعاله دائماً تأويلاً أخلاقياً، وبالعكس يُقصي من يجري سحقهم إلى الإرهاب واللاشرعية والتوحّش. أو بعبارة أخرى، هو يجمع بين احتكار العنف واحتكار الشرعية، ما يمنحه موقعاً إلهياً، هذا بينما يُصور الضعفاء الذين يجري الفتك بهم كوحوش أو إرهابيين، مُعتدين في كل حال. هذا يَظهرُ بجلاء في كتاب فاتن؛ تاريخ القصف للمؤلف السويدي زفن لندكفست، حيث يؤرخ لتكنولوجيا السلاح الغربية، وللذرائع المُستخدَمة في قصف مجتمعات غير غربية (وغربية في الحربين العالميتين)، ويتواتر أن تُحيل الذرائع إلى العرق أو الحضارة، أو مزيج منهما: أعراق متحضّرة وأعراق غير متحضّرة[22]. على أن انتحالَ لغة الحق يبدو اليوم متداعياً بعد حرب غزة التي لا يفتقر الاشتباه بأنها جينوسايد إلى الوجاهة، بحسب قرار محكمة العدل الدولية في مطلع شباط 2024، وما يثبته ملف جنوب أفريقيا المُقدَّم للمحكمة في هذا الشأن[23]. من يتكلمون بلغة القانون الدولي والحق اليوم هم غير الغربيين.
على أن ما تَقدَّمَ يكفي للنظر بعين نقدية لوصف فلسطين بأنها آخر بلد مُستعمَر في العالم المعاصر، أو يحكم على هذا القول الذي تَكرَّرَ كثيراً بعد عملية طوفان الأقصى وحرب الإبادة الإسرائيلية بأن يكون مفارقة تاريخية، بينما نحن نرى تَغيُّرَ المشهد العالمي بعيداً عن النموذج النظري الثاوي وراء هذه العبارة المكرورة، باتجاه إمّا تَعمُّم استعماري مُغاير، أو أوضاع جديدة لا نملك عدة فكرية للنظر فيها.
ومن باب الإشارة إلى اتجاه مكتمل لتجديد النظر في مفهوم الاستعمار اليوم، فربما يجب أن ننظر في الاستعمار الغربي القديم والمتجدد، في الاستعمارات الكثيرة غير الغربية بقديمها كذلك وجديدها، روسية وإيرانية وتركية وهندية وصينية وغيرها، ثم في مفهوم الاستعمار الداخلي. يبدو اعتباطياً الاقتصارُ على أوّل هذه الاستعمارات، وإن يكن نموذجها الأول، وإن يكن توسيعُ نطاق الظاهرة ليشمل استعمارات خارجية وداخلية أخرى يُجازف بأن يُفقِدَ المفهوم نوعيته. لكن إذا نظرنا من مدخل الحرية والتحرّر، كان أولى أن نوحد القوى المعادية في مفهوم عام يستوعبها.
والقصد المجمل أنه لا الاستعمار اليوم هو الاستعمار بالأمس، ولا طغيان اليوم هو استبداد الأمس، ولا إسلامية اليوم البرّية هي إسلام الأمس. وفي هذا ما يقتضي جهداً للفكر ينظر في هذا الجديد غير المألوف، ويعمل على تطوير فكر للتحرر وفلسفة للحرية، عبر الانكباب على اللّاحرية في أشكالها الراهنة. ما افتقرَ إليه الربيع العربي هو فكر حرية بالمعنى القوي للكلمة، تقوم على أساسه نضالات تحررية ومنظمات جديدة. صحيحٌ أنه ليس بالفكر وحده يتغير الواقع، لكن حضور الفكر وقوته وانتشاره هو ما يدلّ على وعي الحاجة إلى تغيير الواقع، وعلى تأهُّب الفكر لتوجيه الفاعلية التغييرية، ما من شأنه أن يعطي شخصية وكياناً صلباً لنضالنا ولُغتنا السياسية.
وإنما بفعل تلك التحولات الثلاثة تعود اليوم قضيةُ الاستقلال الوطني والسيادة في شروط أشدَّ عسراً بخصوص التحول الديمقراطي أو الاستقلال الثاني، شروط تطرح كذلك قضية الاستقلال الثالث، عن السلطة الدينية.
ما هو الاستقلال الثالث؟
انتهى الاستقلال الأول قاعدةً لأشكال خبيثة من الاستبداد، قضت على النوى المتمدنة في مجتمعاتنا، وأحالتها إلى مجتمعات برّية. أولُ البلدان العربية استقلالاً، سورية، هو الذي يعرض وضعاً فريداً في تعقيده من حيث وجود خمس قوى احتلال أجنبية، اثنان منها يحميان النظام بدعوة منه. والقليل الذي تحقَّقَ من استقلال ثان بعد الثورات العربية جرى التراجعُ عنه نحو أشكال من الحكم الأوتوقراطي الشعبوي (تونس)، أو من الحكم العسكري المخابراتي (مصر)، أو انهيار الدولة وسيطرة الميليشيات في اليمن وليبيا والسودان، وبصورة ما في سورية التي تعرض شكلاً مُركَّباً من الدول والميليشيات والأديان المسلحة، بما يتجاوز ترابط التحرر الوطني والتحرر الديمقراطي، إلى التحرر الديني. في الفقرات التالية محاولةٌ للتفكير في هذا التحرر الأخير، الذي يتّصف بأنه إما غير حاضر في مداولاتنا، أو يُطرَح في انفصال عن التحرُّرَين الآخرين، وبخاصة التحرر الديمقراطي، حيث حضر.
تواطأت شروطٌ متنوعة على تولُّدِ الإسلامية البرّية في العقود الأخيرة، منها شرط المجتمع البرّي وهو تقريباً مجتمعٌ بلا دولة، أو بدولة جهازية تُعذّبُ ولا تحمي، تستعمرُ ولا تقود، تفرّق ولا توحّد؛ ومنها ما تقدَّمَ ذكره من مختبر أفغاني جرى تخمير إسلامية «صالحة لكل زمان ومكان» لأنها مُكوَّنة من غرباء ومغتربين لا زمانيين ولا مكانيين، طوَّروا استعدادات مضادة للمجتمع وعدمية عالمياً؛ ثم خمول الفكر الإسلامي ومثابرته على تجنُّبِ إعادة هيكلة واسعة لملاقاة العالم الحديث من موقع إيجابي وفاعل. جرى تفضيل نفي العالم وفاءً للمعتقد الكامل القديم، بدلَ ما تقتضيه إعادة الهيكلة من نفيٍ لجوانب من المعتقد القديم من أجل الاندراج الفاعل في عالم مُتغيّر. المحصلة تحولٌ برّيٌ فتّاك، تعمل بأثره مجموعات لا اجتماعية على فتح المجتمعات وأسلمتها من جديد. ليست هذه المجموعات المتشددة دينياً، المسلحة والعنيفة، وذات المَنازع الانفصالية عن أي بيئات محلية، تعبيرات عفوية عن السكان في عمومهم أو عن الجماعات المحلية، بل هي قوى غزو، تفرض عقيدتها من فوق وبالإكراه على الأهالي، المسلمين قبل غيرهم، بعد أن تنفي إسلامهم وتاريخهم في تدبُّر أمرهم مع دينهم. هذه المجموعات الدينية المسلحة بالمحصلة مُشاكِلة بنيوياً للاستعمارَين السابقَين، تجمع مثل «الدولة» ومثل الاستعمار بين احتكار التعذيب والشرعية، ومضادة لحكم الذات وتقرير المصير.
في تناولات سابقة سميتُ الاستقلال الثالث الاستقلال عن السماء[24]، لكن أُفضّلُ اليومَ عبارةً أقلَّ ملحمية والتباساً: الاستقلال عن السلطة أو السلطات الدينية. وقد يمكن التفكير في أنَّ لهذا الاستقلال بُعدان: بُعدُ انتفاء الإكراه الديني بكل صوره، وهذا هو الأجدر بكلمة استقلال، وبعدُ تكوّن الضمير الداخلي والذات الحرة، وهو ما يعطي لذلك الاستقلال مضمونه الإيجابي، الحرية.
أول مدخل لهذا الاستقلال هو طلاقٌ كلي ونهائي بين الدين والإكراه، ليس فقط أنَّ لا إكراه في الدين (أي على الدين، بما في ذلك إكراه من ولدوا لآباء مسلمين)، بل كذلك لا دين في أي إكراه (كل ما فيه إكراه يُخرَج من الدين). وهو ما يقضي بتحول فكري ربما يُعيد مركزة دين الإسلام حول العقيدة، ويطوي صفحة «الحدود»، وما تنطوي عليه من عنف جسدي تعذيبي ومُهين للكرامة الإنسانية، أي لاغٍ لجوهر الحرية ولجوهر الإيمان. صحيح أن الحدود لا تُطبَّق في معظم البلدان الإسلامية، لكن دون إعادة هيكلة دينية (أو إصلاح ديني) باتجاه يقطع بتاريخيةِ كل أحكام المعاملات، من شؤون عائلية وسياسية واقتصادية وعسكرية وما إليها، وبالتالي يتركها (الأحكام) في الماضي كصور تاريخية سابقة لدين الإسلام، فإنه يبقى في تَعارُض مع الحرية. هذا فوق احتمال ظهور حركات مهووسين دينيين ترجم «الزاني والزانية» وترمي «الشواذ من قوم لوط» من حالق، وتقطع يد السارق، وتجلد شارب الخمر، وتقتل «المرتد»، وتسبي النساء الإيزيديات وتتاجر بهنّ. هذا كله حدث فعلاً وقبل سنوات قليلة فقط، وإن كان لا يبدو أنه جرى أخذُ العلم به فكرياً وأخلاقياً، والقيام بالانعطاف الواجب. وهو بمثابة قضاء على حرية الضمير، وإبقاء دين المسلمين أسير بدائية جسدية لا تسمح بظهور الروح وعقلنة السلوك الديني.
وغيرُ العنف، هناك نطاقان إضافيان يضعان الإسلام في علاقة حرجة مع الحرية. أولهما أوضاع النساء في مجال الأحوال الشخصية والقِوامة على النفس والشخصية القانونية، ثم مجال الإبداع الفني من رسم وموسيقى وغناء وسينما ومسرح وفنون متكثّرة، هي تعبيرات الروح البشرية عن مغامرتها في العالم. الإسلامية غير مُؤهّلة للمساس بهذه القيود لأنها تعبد الإسلام فلا تستطيع العمل عليه وإصلاحه كي يتوافق مع مساواة أكبر وإبداعية أكبر وحرية أكبر. لكن لن نتوسّع في هذا الشأن هنا.
وقد يمكن التفكير في تطلُّب المساواة والحرية والإبداعية كأحد أوجه ثورة إنسانية، تنفتح على ظهور الذات، النفس الواعية لذاتها، أو العالم الداخلي الذي يحرف استجاباتنا لما يجري حولنا من أن تكون أشبه بمنعكسات شرطية، فيؤسس بذلك للحرية التي تبدو اليوم غريبة على النفس المسلمة، المنفعلة والهائجة، البافلوفية بالفعل. تنفتح الثورة الإنسانية من وجه آخر على موضوعية العالم حولنا، والضرورة المستمرة بالتالي لتشكُّلِ الذات بالتفاعل معه، وكذلك على تاريخيته وقابليته للتغيّر واستجابته للفاعلية الإنسانية العاقلة، فتؤسس بذلك للسياسة العقلانية والفعل في التاريخ. في واقع إسلامية اليوم، قلّما يجد المرء شعوراً بالحرية، لا في صورة تفحُّصٍ للضمير ومُساءلةٍ للنفس، ولا في صورة تفكير شَكّي أو حسّ إشكالي بالتباس العالم وتعقيده، ولا في صورة حسّ بتعدّد الحقيقة وتوزُّعها بين الناس، ولا في صور سلوكية تعبر عن الاحترام للمختلفين الدينيين والسياسيين، ولا في صورة حسّ بالمسؤولية عمّا يجري في العالم وعن الحاجة لإصلاح عالمي، ولا في صورة سعي وراء شراكات وتحالفات محلية وعالمية من أجل عالم أعدل. ولا حتى في صور الأنسنة التقليدية من نوع «دع الخلق للخالق»، و«كل من على دينو الله يعينو»، و«كل الناس خير وبركة». لذلك ليس هناك سياسات إسلامية رشيدة في الزمن المعاصر.
وليست الحرية الروحية هي حرية الإرادة الذي قد تُطرَح في صورة ما إذا كان الإنسان مُخيَّراً أم مُسيَّراً، وهي مسألة شغلت علم الكلام الإسلامي أيام المعتزلة، أو في صورة علاقة إرادة الإنسان بالسببية والحتمية، سواء كان المُحتِّمُ هو الله أو التاريخ أو الجينات؛ ولا هي الحرية السياسية، التي هي بحسب حنه آرنت مبرر وجود السياسة، تقترن بالبدء وإحداث أشياء جديدة في العالم، ولا تنفصل عن الانتماء إلى جماعة سياسية، وتتمثل في المشاركة في حياة هذه الجماعة، وتخصّ فعل الناس البيني في هذه الحياة الاجتماعية[25]؛ الحرية الروحية هي استقلالُ ضمير الفرد عن أي سلطات خارجية، وقدرته على الحكم والتوجه بوحي من ضميره الذاتي (لا من ضمير خارجي في صورة مُفتٍ أو «شرعي» أو زعيم أو أب جمعي)، وهي كذلك أساس المسؤولية الأخلاقية والشعور بالذنب. ظهورُ الذات الحرة هو ما يُؤسس للحرية في المجتمع والدولة والعالم، وهو ما يَغيبُ عن مداولاتنا إلى حد بعيد.
وبينما يتعذّر تصور الاستقلال الديني دون صراع مع الإسلامية التي لا تفصل بين الدين والإكراه، فإنه يتعذّر تصور الحريات الاجتماعية والفكرية، وحرية الاعتقاد الديني، دون الثورة الإنسانية. حرية الاعتقاد تتجاوز حرية ترك الدين أو التحول إلى أديان آخرى إلى صنع فلسفات واعتقادات وأديان جديدة. وبهذه الدلالة الاستقلالُ الديني استقلالٌ أساسي لأنه يؤسس للتعددية.
ولا شيء يمنع أن تأخذ الثورة الإنسانية شكلَ علاقة دستورية بالعالم السماوي. نفهم العلاقة الدستورية مقابل شيئين يبدوان في تعارُض قطبي، لكنهما ليسا كذلك حتماً. أولهما الحاكمية الإلهية أو تطبيق الشريعة، وهما على اختلافهما تقومان على الجمع بين الدين والإكراه؛ والثاني هو الحربُ ضد الله أو فرضُ الإلحاد كعقيدة رسمية بقوة الدولة، نعرف أنها جنحَت لأن تكون أساساً لسلطة مطلقة، استعمارية بطريقتها الخاصة، في الاتحاد السوفييتي وألبانيا وبلدان أخرى. ويبدو أن إغراء الإكراه ضد الدين لا يُقاوَم في ظل الإكراه في الدين، أو ضروب السلطة الدينية التي لا تستبعد ضروب الإكراه والعنف الجسدي. ومع الإكراه يحضر الكُره دوماً، فليس هناك ما هو أكثر وجاهة من أن يَكره الناس ما يُكرَهون عليه.
وأياً يكن الأمر، فإن الدين الدستوري هو ما يتوافق مع الحرية، وليس الدين المطلق أو اللادستوري. وهذا في إطار دسترة عامة، تقطع مع حاكميات المطلق، الدينية وغير الدينية: دسترة سلطة الدولة أولاً بمعنى انضباطها بقواعد عامة معلومة ومُطّردة، والنفي الجوهري للتعذيب، إذ لا يمكن للدولة أن تكون احتكاراً للعنف الشرعي إلا إذا لم تكن دولة تعذيب لأن التعذيب لا يمكن أن يكون عنفاً شرعياً؛ دسترة الدين بمعنى قطع علاقته بالإكراه، بما فيه «الحدود» لأن هذه في واقع الأمر تعذيب عقابي، يذلّ المُعاقَب ويرهب العموم؛ ثم دسترة العلاقة مع أي قوى عالمية نافذة، بمعنى نفي التبعية والإكراه، وبطبيعة الحال حروب التعذيب.
وتتضمن فكرةُ الدستورِ الاستقلالَ، استقلال الأفراد كمواطنين مرة، واستقلالهم كمؤمنين محتملين مرة ثانية، استقلال الدول في إدارة شؤونها مرة ثالثة؛ لكنها تعني الارتباط أو الالتزام كذلك، أي علاقة بضوابط مع القوى التي تصنع المصير العام، سواء الدولة أو الدين أو المجال الدولي. ليس في هذه المناقشة ما يضاد الدين كاعتقاد أو حتى كسياسة ممكنة غير إكراهية، ولا مبدأ الدولة كتجسد للعام الاجتماعي وعنف شرعي، ولا المجال الدولي أو الغرب كمجتمعات وثقافات وشركاء في الإنسانية وفي العالم (ولا المجتمعات الإيرانية الروسية والتركية). الاعتراض ينصبّ على صُورها المطلقة، على الإسلامية المطلقة التي تمارس العنف، على الدولة المطلقة التي تقوم على التعذيب، وعلى الاستعمار في صوره المختلفة كسيطرة عسكرية مسلحة. وبلغة أخرى، المشكلة هي في الصور الغولية لكل من هذه القوى[26]، والمسعى هو نحو صور إنسانية لها. الجوهري في كل حال هو نفي الإكراه والتعذيب حيث تستحيل الحرية، وضمنياً نفي القطيعة والعداء الدائم والبدء المطلق التي لا تتوافق بدورها مع الحرية. هنا أيضاً، يسير إغراء القطيعة يداً بيد مع وجود الإكراه والتعذيب. لا يصير العالم عالماً للإنسانية دون نفي حروب التعذيب منه، وهذا مثلما لا تصير الدولة دولة للمواطنين دون نفي التعذيب منها، ولا يصير الدين ديناً للمؤمنين دون نفي التعذيب العقابي منه. إخراج أجساد البشر من الاستهداف هو شرط تحول العالم والدولة والدين إلى أفكار يمكن أن نَعتنقها، وأولُ شرطٍ لحريتنا.
وقد يتمثّل أكبر فشل لمجتمعاتنا المعاصرة في غياب القانون كفكرة ومؤسسة ومنطق لسلوك الأفراد والجماعات والدولة. نحن مجتمعات برّية، مجتمعات الغاب، بفعل هذا الغياب أساساً. الدسترة هي أحد أوجه إرساء فكرة الحق والضوابط القانونية، تثبيت أن هناك حدوداً لا يجوز تجاوزها، أن للسلطة، مُطلقِ سلطة، حدوداً ليست حدود قدرتها حصراً. ولعل غياب القانون يؤشر إلى غائب أكبر: السياسة. مجتمعاتنا المعاصرة لا تعرف السياسة كتعدُّد وحرية، كشيء لا يقوم مجتمع بدونه[27]، ويبدو أننا تاريخياً لم نعرف السياسة إلّا بحدود ضيقة، وما عرفناه هو السيادة: سيادة الله واستعباده للناس، سيادة دول المُلك العضوض ثم الحكم السلطاني، واليوم سيادة دولة ما بعد الاستعمار التي تأخذ في سورية شكلاً سلطانيا محدثاً، يمكن التعبير عن المحدث فيه بلغة الاستعمار الداخلي. والسيادة في جميع الحالات واحدة وعالية ولا تقبل المساواة، ولا الحرية. هناك القليل مما يجمع السيادة والحرية بحسب آرنت، بحيث لا يمكنهما أن توجدا معاً، وهذا بالنظر إلى أن الشرط الإنساني يتحدد بحقيقة أن الناس بالجمع وليس الإنسان هو ما يوجد على الأرض، ولأن السيادة تعني الخضوع لإرادة ما، سواء كانت إرادة فرد أو «إرادة العامة» لمجموعة منظمة. ومَفادُ ذلك أنه إذا أراد الناس أن يكونوا أحراراً فعليهم أن ينبذوا السيادة[28]. فإذا صح أننا عَرَفنا السيادة لا السياسة والحرية كمعنىً لها، كان النضال من أجل السياسة، من أجل التعدُّد والاجتماع والكلام الآمنين، هو أساس ما نسميه منذ عقود الديمقراطية ومقدمتها الأولى. وهو لبّ فكرة الحرية.
وبنظرة تاريخية أعرض، يُحتمَل أنَّ افتقارنا العريق للسياسة هو ما أسَّسَ لانهيار الحضارة العربية الإسلامية، لأن السيادة قاعدة ضيقة للحضارة، وهي جنحت لأن تنقسم إلى واحديات أو سيادات مُتنازعة، بقدر ما استبعدت التعدُّد داخلها. البديلُ هو العمل على تطوير تعددية داخلية، هي بيئة السياسة والحرية والسلم. ويبدو أن طول عمر الحضارة الغربية الحديثة يكمن في اتّساع قاعدتها السياسية التي اتجهت لأن تشمل جميع المواطنين (تُواجه اليوم صعوبة في إدماج المهاجرين واللاجئين...).
ثم أنه يمكن تَصوُّرُ إنسانية دستورية وغير مطلقة بالنظر إلى أن تجربة الإنسانية المطلقة مثلما ظهرت في الغرب بعد الكشوف الجغرافية (القرن 16) والثورة العلمية (القرن 17) وعصر التنوير (القرن 18)، اقترنت بعنف استعماري، كان إبادياً في بعض الحالات، وبعنف ضد الطبيعة آلَ إلى مشكلة البيئة الحالية. الإنسانية الدستورية تتطلع إلى بشرية متحررة ومسؤولة، إطار للحقوق المتساوية، والمسؤوليات المتساوية، لا سادة ولا عبيد.
ومن وجه آخر، يمكن للإنسانية الدستورية أن تكون استمراراً لما في تقاليدنا من أنظمة تكافُل دينية وغير دينية، ومن احترام للحياة والأحياء، ومن حب للخير ونفور من الأذى.
اختلاف أوروبا واختلافنا عنها
في تاريخ أوروبا الحديث كان الاستقلال الديني والثورة الإنسانية هو الاستقلالَ الأول، وبصورة ما بدأ بعصر النهضة والإصلاح الديني، ثم أكثر في الثورة العلمية والتنوير. ولعلّ فلسفة إيمانويل كانْت هي فلسفة ظهور الذات الحرة، الروحية والأخلاقية. وهيغل هو الفيلسوف الذي نظَّرَ لظهور هذه الذات في التاريخ. الاستقلال الثاني، الديمقراطي، بدأ في القرن التاسع عشر، وإن جرى تصوّر الثورتين الأميركية والفرنسية كثورات ديمقراطية لاحقاً. صارت الديمقراطية فكرة تدافع عنها النخب السياسية والمثقفة الأوروبية في عشرينات القرن 19 وثلاثينياته، بحسب ديفيد غريبر[29].
ما يميز أوروبا عنا هو رسوخ القانون فكرة ومؤسسة وسلوكاً. وهذا، ومعه فرص عيش أفضل، هو ما يغري ملايين الناس من بلداننا لتجشّم المخاطر للوصول إلى أوروبا والعيش فيها. يمكن انتقاد أوروبا من أوجه كثيرة، ليس بينها علاقات الغاب والمجتمع البرّي ودولة التعذيب.
لكن تعرضُ الحرية الأوربية استعداداً للانزلاق نحو السيادة، ليس حتماً بدلالة تعليق القانون في أحوال الاستثناء التي تكلَّمَ عليها كارل شميت[30]، بل بدلالة الارتفاع فوق القانون، أو استثناء النفس من القانون في حرية مضاعفة، أو حكم الغير بقانون أدنى يُجرّدهم من الحرية كلياً. النفس الجمعية للأمم والدول والحضارة في علاقتها بغيرها، وليس في علاقاتها وتفاعلاتها الداخلية التي تقوم على السياسة والحرية. السيادة كما نعرف من تاريخنا تقوم على اللامساواة الكيانية، فالإنسان لا يساوي الله، والسلطان وخواصه لا يساوون «عوام المسلمين»، وحافظ الأسد وسُلالته أعلى قيمة من سورية بكل من وما فيها. وفي العلاقة بين الأمم تعني اللامساواة بين السادة والتابعين العنصرية.
ولم يُطرَح في أوروبا الاستقلالُ عن الاستعمار في الأزمة الحديثة، لأن بلدان أوروبا الغربية المركزية لم تُستعمَر، وإن حدث أن وقع بعضها وقتياً تحت احتلالات، وكانت احتلالات غربية حصراً. وأقربُ شَبَه أوروبي للاستقلال الأول في المجال العربي هو ما تعرضه تيارات اليمين القوي أو الشعبوي من عداء للأجانب والمسلمين بصورة خاصة، واشتباه بمخطط إحلال كبير يَؤول إلى أسلمة أوروبا.
ما يحضر في الثقافة السياسية العربية، الاستقلال الوطني، وبصورة ما «القومية»، هي أدنى درجات الحرية، وأَقبلُها للتيارات اليمينية والفاشية. أدناها لأنه يُحيل إلى حكم أحد منا وظهور رموزنا، دون تحديد لكيف يحكم ولا لأي رموز. قد يُؤوَّل الأمر إلى حكم الوجهاء القدامى، وإلى سيادة رموزنا الأكثر تقليدية. هذا حدث غالباً في معظم بلادنا، ومنها سورية. ما لا يحضر في ثقافتنا السياسية إلا بحدود ضيقة هو الاستقلال الثاني، وما يغيب منها كلية هو الاستقلال الثالث، وفي هذا ما يدل على تواضع فكرة الحرية في تفكيرنا وشعورنا. ومما يؤشر على ذلك أن هناك يوماً وطنياً في معظم البلدان العربية هو يوم الاستقلال عن الاستعمار غالباً. ليس هناك يوم للاستقلال الثاني، وأقرب شيء لأن يكون كذلك هو أيام انطلاق ثورات «الربيع العربي» في بلداننا. رغم إخفاقها، مثَّلَت الثورات تطلُّعاً للديمقراطية هو رصيدٌ لكفاحات أجيالنا المقبلة من أجل الحرية. على أنه ليس هناك يوم للاستقلال الثالث، ولا نعرف بعد حدثاً تاريخياً يمكن أن يرمز إلى التطلّع إلى هذا الاستقلال.
جدلية الاستقلالات لدينا مختلفة كلياً عن أوروبا. فلأننا استُعمرنا، ومن قبل أوروبا بالذات، جرى استنفار الدين لمقاومة الاستعمار الذي ظهر خارج أوروبا في صورة دينية (فرنسا بخاصة، أكثر من إنكلترا)، ما أضعفَ نوازعَ الاستقلال الثالث والثورة الإنسانية. ثم إن تعثّر الاستقلال الثاني والصراع من أجل الديمقراطية قد قرَّبَ بين ديمقراطيين وإسلاميين كما أشرنا فوق، ما حد بدوره من الاشتغال على الثورة الإنسانية كبُعد من أبعاد الحرية. لكن لدينا من التجربة والتاريخ اليوم ما يكفي كي نتجاوز هذا «الفصام النكد»، إن حاكينا لغة سيد قطب في سياق مختلف، بل معاكس، لسياقه ومقصده. اليوم، في سورية، بعد تراجيديا هائلة، وبصورة ما في المجال العربي كله، نجد أنفسنا في مواجهة الاستقلالات الثلاثة معاً: طورٌ جديد من الاستعمار وضياعِ الاستقلال الوطني يطرح تحدي الاستقلال الأول من جديد؛ وخسارة لمعركة الديمقراطية وأزمة في فكرة الديمقراطية بالذات لدينا ولدى غيرنا، بما يُعيد سؤال حكم الناس لأنفسهم الذي هو مضمون الاستقلال الثاني؛ ثم أشكالٌ متوحشة من الديني السياسي تُثير السؤال عن استقلال الإنسان وضميره عن عقيدة دينية يريد أصحابها فرض نظامها بالقوة على الجميع. هذه المعارك مفروضة، يمكن أن نختار تجنُّبَ بعضها أو حتى كلها، لكن لا يبدو أنه يمكن التقدم في كسب معركة الحرية دون خوضها ثلاثتها.
استعمار، استبداد، استعباد
تُحيل فكرة الاستقلال بحد ذاتها إلى الاستعمار، فكأننا حين نتكلم على استقلالات ثلاث نتكلم على استعمارات ثلاث: أجنبي، ودولتي، وديني. هي استعمارات لأنها تنكر الحق في تقرير المصير على الواقعين والواقعات تحت سلطتها، ولأنها تَجمع بين التعذيب والشرعية، مما لا يجتمع ولا يقوم على أساسه اجتماع. لكن يمكن التفكير في قوى هذا الثالوث كاستبدادات: استبداد أجنبي، يتحكم بالمستعمرين ويحكمهم دون رضاهم ويقمع من يعترضون عليه، سجناً ونفياً وقتلاً؛ واستبداد دولتي، ينزع صفة المُواطَنة عن المحكومين، ويَشيعُ في مجالنا أن يخصخص الدولة؛ ثم استبداد ديني، يفرض قواعده على الناس بالقوة، ويقمع بصور مختلفة من يعترضون عليها، وصولاً إلى القتل الشنيع إن كانت السلطة بيده. وفي هذا ما يقود إلى فكرة التحرر من الاستبداد، وضروب من حكم الناس أنفسهم. ثم إنه يمكن تصور قوى الثالوث الاستعماري والدولتي والديني كاستعبادات، أو علاقات أرباب بعبيد. هذا مميز للاستعمار الذي ترافقَ بتراتب للحيوات والحضارات والأعراق وبنظريات «علمية» لإثباتها، ترفع البيض فوق السود والملونين، وتجعلهم بمثابة أرباب أرضيين. العنصرية واكبت الاستعمار الحديث طوال الوقت، ومنها بصورة خاصة إسرائيل التي لا تقوم على وعد إلهي فقط، بل تتصرف كإله ناقم باستمرار في مواجهة مقاومات الفلسطينيين، بما في ذلك أكثرها سلمية. وطورت أنظمة الأبد ضروباً من التقديس الذاتي تحرسه أجهزة التعذيب، وتُكرّره بلا كلل أو ملل وسائل الإعلام، بما يجعل من الدولة والقائمين عليها ربَّ المحكومين المعبود، الذي يَلقى غير المؤمنين به العقاب العاجل. ولا يظهر الاستعباد الإسلامي في صورة اعتماد قلبي على خالق قدير، بل بخاصة في صورة إكراه سياسي، في تعارض جوهري مع روحنة الدين، ومع حرية الإنسان وخلقيّته.
تصور الثالوث كاستعمارات واستبدادات واستبعادات هو ما يسوغ الجمع بينها كقيود على الحرية، وتصور الحرية كتحرُّر منها.
ومن وجه آخر، يمكن أن نرى الاستعمار كتحريم سيادي يقمع تطلعات المجتمعات إلى السيادة في المجال الدولي؛ والاستبداد كتحريم سياسي يلغي الصفة السياسية للإنسان، أي كذلك استقلاله وذاتيته وتمثيله لنفسه؛ والاستعباد كتحريم خلقي أو إبداعي، يهدر أكثر طاقات الإنسان، فيُنتج بشرية محدودة، قليلة النفع لنفسها ولغيرها.
ولأن الاستعمار استئثارٌ بالسيادة على المُستعمَرين فإنه لا يحكمهم بالقوانين ذاتها التي تحكم بها المجتمعات المُستعمِرة، بل بقوانين من الدرجة الثانية تعاملهم كقُصّر وتابعين. قوانين الدرجة الثانية هي التوجيهات والمراسيم التي تكلمت عليها حنه آرنت في باب الامبريالية في كتابها أصول التوتاليتارية، ومثلت على ذلك باللورد كرومر، الحاكم البريطاني لمصر لنحو ثلاثة عقود [31]. هذا فضلاً عن الأجنبية اللغوية والثقافية والرمزية. الاستقلالُ يعني الفوز بالسيادة، بِدءاً من بعدها الرمزي، ما يتصل باللغة والذاكرة، ومضمونه الإيجابي هو حكم السكان بالقانون، بقواعد تسوي بينهم تضمن وحدتهم. نعلم أن دولنا «المستقلة» ليست كذلك، وهي في الواقع تحكم بحالتي استثناء، لا بواحدة، حال استثناء قانونية سياسية هي ما تُسمّى حالة الطوارئ، وهي تجعل من الدولة سيادة محضاً أو استمراراً للاستعمار، ثم بحالة استثناء دينية هي قوانين الأحوال الشخصية الطائفية، تجعل من الدولة استمراراً للسلطان الديني القديم. وهذه حالة استثناء لأنها تستبعد قوانين أحوال شخصية مدنية، فتلغي حرية الأحياء في الاختيار لأنفسهم باسم قواعد الماضي، ولا تضمن المساواة بين المواطنين المُفترَضين، لا بين النساء والرجال، ولا بين المسلمين وغير المسلمين. دولنا المستقلة هي سيادة بلا قانون، أي هي عملياً استعمار. بالمقابل يظهر الدين كقوانين لا كحياة روحية وتربية للضمير، أي يظهر كدولة لا كمسؤولية أخلاقية. لدينا في المحصّلة دين هو قانون، ودولة هي استعمار، واستعمار هو سيادة وتألُّه. وما ليس لدينا هو عالم الروح، الذات الحرة التي تنظر في ذاتها وتُسائِل ذاتها وتحدد ذاتها بذاتها بلغة هيغل. نحن لسنا أحراراً لذلك.
انتبه، منطقة أنقاض!
والخُلاصة أننا في سورية، وفي فلسطين، وفي المجال الشرق أوسطي العربي، غير أحرار لأننا نعاني من تبعيات ثلاث لسلطات مطلقة لا تسألنا الرأي في حكمها: تبعية للدين تحد بقوة من حريات فكرية واجتماعية لا تُستكمل إنسانيتنا بدونها، وتبعية للدولة تحد من حريات وحقوق سياسية صارت من البديهيات في عالم اليوم، وتبعية لقوى أجنبية مسيطرة، تُبقي تطورنا السيادي منقوصاً وتنال من استقلالنا في المجال الدولي. الأجنبية هنا هي غربة عن شعور الناس وانفعالاتهم، أو هي صفة السيادة، من يريدون أن يسودوا لا أن ينضبطوا بالقانون الذي ينضبط به غيرهم. ولا تصدر هذه الكلمة هنا عن عداء الأجانب أو تشكُّك في كل ما هو أجنبي. نموذج الإسلامية المُعولَم الذي رأيناه في سورية بعد عام 2013 هو أجنبي في كل مكان، رغم أن دُعاته يتكلمون لغتنا، وينتحلون طبيعتنا المُفترضة، وهم في واقع الأمر من يُعامِلون «عامة المسلمين» في مناطق سيطرتهم كأجانب.
وبوضعنا مُثلَّث التبعية، إن جاز التعبير، نُشكل البروليتاريا السياسية الأشد والأعمق لاحريةً في العالم. أو قد تكون الاستعارة الأنسب العبيد السياسيين في عالم اليوم، بفضل ما يتقاطع في تصور العبيد من عبدية دينية مع الدولة القائمة على التعذيب ومع ما تَعرِضه ضروب الاستعمار الأحدث من مَنازع عنصرية، نعلم من تجربة غيرنا أنها وريثة العبودية التقليدية. فإذا عَرَّفنا العبيد بـ«عيش الذل والإرهاق»، وبـ«أطواق الحديد» التي لا يطيقها «السادة الأحرار» بحسب قصيدة عمر أبو ريشة المعروفة، كنا عبيداً في واقع الأمر. أياً يكن الأمر، فإن من شأن تحرُّر أولئك الأدنى حرية في العالم اليوم أن يكون مكسباً عالمياً، سواء وصفناهم بالبروليتاريا أو العبيد السياسيين.
لماذا لا يبدو، بعد هذا كله، أن قضية الحرية حاضرة بقدر ما يلزم فكرياً وثقافياً في حياة العرب المعاصرة؟ قد تكون فلسطين آخر استعمار أو لا تكون، لكن الاستعمار حي في منطقتنا أكثر من غيرها، ويُطوِّرُ أشكالاً متجددة، فلماذا لا تكاد توجد لدينا مساهمات مميزة في هذا الشأن؟ ودولنا دول اعتقال وتعذيب حيال مواطنيها، مفرطة السيادة داخلياً إلى درجة التألُّه مع كونها منقوصة السيادة دولياً إلى درجة العبودية، ولكن مساهماتنا الأساسية في التفكير في هذا الشأن محدودة. ومنطقتنا تبدو منطقة دين، وشهدت ظواهر دينية سياسية من أكثر ما تثير العجب والعار في العالم المعاصر، لكن الأصيل من الدراسات محدود في الشأن الديني. ليس أن التفكير في هذه الشؤون غائبٌ بإطلاق، ولكنه لا يعرض سمة خاصة، ليس له طابع مميز، ولا يبدو قادراً على خط نهج أو مدرسة مميزة، فضلاً عن عدم الربط بين هذه المشكلات وغيرها.
وهذا بحد ذاته برهان على مدى اللّاحرية الذي يُخيم علينا، وعلى هزال جامعاتنا، وضيق قاعدة البحث والعمل الفكري، ومحدودية استقلال الأفراد ومؤسسات البحث والتفكير.
فإذا كانت القضية التي تسوقها هذه المناقشة قريبة من الصواب، فإن ثلثي «أسباب» لا حريتنا ذاتية المنبت، وتتمثل في الدين والدولة باختصار. هذا طرحٌ حسابي صوري، في شأنٍ أعقد من الجبر، شأنٍ من شؤون «القلب البشري» الذي «نعرف أنه مكان مظلم جداً» بحسب حنه آرنت[32]، نورده مع ذلك من باب التبسيط والوضوح. فإذا أضفنا منابعَ لا حرية أخرى، منها بخاصة ما يتصل بأوضاع النساء العربيات، تَرجَّحَ لدينا أن نسبة المسؤولية الذاتية أعلى من الثلثين. هناك بعد ذلك فشل عائلي وتربوي يُفاقم من شرط المجتمع البرّي ويزيد بدوره من وزن اللاتحرر الذاتي. وربما هناك ضربٌ من حبسة تعبيرية جمعية، نُعاني منها بفعل التقاء التسلطية الأسرية مع تسلطية المدرسة وانفصال محكية الأولى عن مكتوبة الثانية.
مَجالُنا اليوم منطقةُ أنقاض، مُنتِجٌ للتوحّش، مُصدِّرٌ للاجئين، سالبٌ للحرية، وقاتلٌ للأمل.
عالم مُتحرّك
واليوم، في زمن ما بعد فشل الربيع العربي، والكلفة الهائلة للصراعات الجارية في منطقتنا، ليس في سورية وفلسطين فقط، بل وفي السودان وليبيا واليمن، مع أوضاع منحدرة في مصر والعراق ولبنان، تمسّ الحاجة للنظرية، لم يعد أمامنا غير وقفات من النقد الجذري لمجمل الهياكل الاجتماعية والسياسية والفكرية التي نعيش في ظلها منذ عقود، بأمل ثورة في الأفكار تُعوِّضُ جزئياً عن فشل الثورة في الواقع.
لقد ظهر في السنوات الماضية أننا من الكتل البشرية الأكثر استباحة ونَزعاً للإنسانية وحرماناً من الحقوق في عالم اليوم. وهذا مع كوننا في حيرة عظيمة من أمرنا، فاقدين للوجهة، ولا نملك رؤية واضحة بخصوص الخروج من أوضاع اليوم المستعصية ومتزايدة الانغلاق. طوت فظائع السنوات المنقضية ومآسيها فيما طوت أعتدة فكرية ورمزيات وحساسيات متصلة بالتفكير في الشؤون العامة والنشاط التحرري، ظهرت عدم كفايتها وفقرها قياساً إلى تعقيد أوضاعنا وجذريتها وإعضالها. وفي هذا ما يدعو إلى تفكير مُغاير وتخيّل سياسي جديد، مثلما يبدو أن كثيرين بيننا يشعرون، دون أن نتجاوز هذا الشعور إلى شيء إيجابي. هذه المناقشة محاولة تجريبية للتفاعل مع التعقيد الجذري لوضعنا، يحفزها تفاعل نفسي وسياسي وفكري مع الحدث السوري خلال السنوات الثلاثة عشر الماضية، وعقود من الاهتمام بالشؤون العامة، السورية والعربية. إنها محاولة لوعي شرطنا العبدي، بما قد يحفز على محاولة تغييره.
وظاهرٌ بعد تجاربنا الأحدث أننا لا يمكن أن نتحرر بثمن بخس، أن نتحرر سياسياً دون أن نتحرر فكرياً وروحياً، أو نتحرر من متحكمين أجانب على يد متحكمين محليين، أو العكس. منطق التعبئة وحشد القوى لم يعد يجدي. والانعزال كذلك مُمتنع ولا يجدي. يبقى أن نتخيل التحرر الجذري من القيود الثلاث، أن نعمل على أن يوجد هذا التحرّر في الخيال، وأن نعمل مع شركاء في العالم من أجل التحرّر. فرغم أننا نشغل الوضع البروليتاري أو العبدي في العالم، فالعالم كله في أزمة، والشركاء ممكنون ومتكاثرون على ما يقول درس غزة. المهم أن نساهم في صنع المثال التحرري بالتعاون مع الشركاء، وبالاشتباك مع القيود النوعية ضد تحررنا في هذا المنطقة الأساسية والبائسة من العالم.
وبينما لا يبدو أن هناك أفقاً يُرى لتحررنا، وأننا على كل من المستويات الثلاثة في أوضاع أسوأ مما كنا قبل عشر سنوات، وقبل عشرين، وقبل خمسين، فإننا ربما مستقلون فكرياً أكثر من أي وقت سبق، وراءنا نضالات شجاعة ومآس رهيبة، ولا تصادر تفكيرنا مرجعيات جاهزة أياً تكن. هذا أساسٌ مهم.
ثم إن العالم مُتحرِّك، على ما رأينا منذ الربيع العربي بموجَتيه، وظهور داعش وأشباهها، الغزو الروسي لأوكرانيا، وحرب إسرائيل والغرب الجديدة ضد غزة، وصعود تيارات اليمين في الغرب ذاته...، أشياء كثيرة تحدث تفيد أن إنتاجية النظام العالمي الحالي من المشكلات أكبر من قدرته على معالجتها. وهذا غير مشكلات البيئة المتفاقمة، وظهور وسائل اتصال جديدة تُتيح لمليارات إنتاج المعلومات (والتضليل)، وتضع وسائل الإعلام التقليدية في أزمة، والذكاء الاصطناعي الذي يبدو حالياً أنه خادمٌ جيد للأقوياء. نحن جزء من هذا التكوين العالم المختل، نتأثر به ونؤثر. وبينما تواجه حريتنا تحديات نوعية خاصة بالإقليم والتاريخ والمواريث الدينية الثقافية، فإنها جزء من صراع تحرري عالمي لا نستطيع ولا يحق لنا الانعزال عنه.
ختاماً،
خلال 1400 عام من تاريخهم الإسلامي نجا العرب من كوارث كبيرة بأثر انتشارهم في إقليم واسع، وبفضل لُغتهم ودين أكثريتهم. التحدي اليوم مختلف، ولا تُجدي فيه عناصر ثابتة أو موروثة من الماضي مثل الجغرافيا والدين واللغة، وحتى لو لم تكن بعض هذه العناصر في صورتها الراهنة أعباء باهظة، تستعصي الحرية دون إعادة ترتيب عميقة لها وإعادة ترتيب للعلاقة معها. نتكلم على حرية العرب، لا على عرب دون حرية كحالنا اليوم، ولا على حرية دون عرب بمعنى أن العرب لا يمكن أن يكونوا أحراراً إلا إذا انسلخوا من أنفسهم وكفّوا عن كونهم عرباً. رهانُ حرية العرب ليس مستحيلاً، لكنه بالغُ العسر. وأوله أن نَعي شرطنا العبودي.



[1] يُنظَر تقرير هيومان رايتس ووتش: «كل شيء بقوة السلاح»، الصادر مؤخراً عن انتهاكات مشينة على يد «الجيش الوطني السوري» الذي هو مظلة لفصائل متنوعة تابعة لتركيا بحق الكرد في عفرين ورأس العين، وآخرين من سكان المنطقة، بمن فيهم عرب. التقرير متاح على هذا الرابط.
[2] لن تناقش هذه المقالة بعداً أساسياً لللّاحرية يتمثل في الموقع التابع للنساء، بأمل أن أخصص له تناولاً مستقلاً.
[3] كان لبنان وتونس يشغلان موقعين طرفيين في التقدمية العربية بحسب تعريفها القومي والاشتراكي والمناهِض للاستعمار. لبنان بسبب لا اشتراكيته وعدم تمركز سياسته حول مناهضة الاستعمار، وتونس بفعل الواقعية السياسية لبورقيبة بخصوص إسرائيل والقوى الغربية.
[4] قد يكون أول من تكلَّمَ على حقبة سعودية هو المرحوم صادق جلال العظم في كتاب له صدر عن دار الطليعة في بيروت عام 1877، بعنوان سياسة كارتر ومنظرو الحقبة السعودية
[5] أثار أولُ هذه التقارير، وهو يدور حول التنمية وخلق فرص للأجيال القادمة، اهتماماً واسعاً لأنه جاء بعد عام من 11 أيلول 2001. هنا رابط له. وهنا رابط لتقرير 2003 عن مجتمع المعرفة. وتقرير 2004 عن الحرية. ثم تقرير 2005 عن أحوال المرأة. ميزةُ هذه التقارير الصادرة عن الأمم المتحدة أنها تتعامل مع «العالم العربي» كوحدة تحليلية.
[6] Norbert Elias: The Civilizing Process, Vol 1, The History of Manners, Translated by Edmond Jephcott, Pantheon Books, New York, 1978 p 200. والسيطرةُ على الانفعالات ركن أساسي من أركان العملية التحضيرية عند إلياس.
[7] تناول إلياس احتكار العنف وفرض الضرائب في الفصل الثاني من المجلد الثاني من كتاب العملية التحضيرية.
Norbert Elias: The Civilizing Process, Vol 2, Power and Civility؛, Translated by Edmond Jephcott, Pantheon Books, New York, 1982, p 91-225. يُعرّف فيبر الدولة بأنها احتكارٌ للعنف الشرعي. التركيز لا يجب أن يقتصر على الاحتكار، بل أن ينتبه إلى شرط الشرعية.
[8] قرأتُ التطور اللامتكافئ، ترجمة برهان غليون، دار الطليعة، بيروت، 1973؛ والتبادل اللامتكافئ، ترجمة عادل عبد المهدي. كان الاقتصادي الأميركي أندريه غوندر فرانك أول من تكلم على تقدُّم التخلف، لكنه يفسره، وأمين معه في ذلك، بآليات تطور الرأسمالية المحيطية أو الطرفية وعلاقات التبادل اللامتكافئ مع الرأسمالية المركزية.
[9] عملتُ على بناء فكرة الحكم اليدوي في سياق النظر في مجزرة التضامن.
[10] كتابه نحو نظرية في الثقافة: نقد التمركز الأوروبي والتمركز الأوروبي المعكوس، معهد الإنماء العربي، بيروت، 1989، ص 6. أمين يرى الإقطاعية الأوروبية السابقة للرأسمالية شكلاً خاصاً وطرفياً لنمط الإنتاج الخِراجي.
[11] أوليفيه روا: الجهل المقدس، زمن دين بلا ثقافة، ترجمة صالح الأشمر، دار الساقي، بيروت، 2012؛ ص 27-32.
[12] أبو بكر ناجي: إدارة التوحش، أخطر مرحلة ستمر بها الأمة. تستوقف «س» الاستقبال في العنوان الفرعي للكتاب، كأنما مؤلفه مطلع على الغيب، إلهٌ بالوكالة.
[13] جاء العرض السلفي السعودي بطلب من الحامي الأميركي في سياق الحرب الباردة، على ما اعترفَ ولي العهد السعودي محمد بن سلمان قبل سنوات: محمد بن سلمان: نشرنا الوهابية بطلب من الغرب. لكن أرى أنه ما كان لهذا العرض أن يحوز ما حاز من أثر لولا طلب اجتماعي متزايد من قبل فئات متسعة من المجتمع البرّي.
[14] أطرافٌ من قصة السجناء الأربعة، في هذا الرابط.
[15] حاولتُ بلورة عناصر هذا النموذج في مقالتي: الباراديغم السلفي الجهادي وهيمنته.
[16] يُنظَر كتاب «Decolonization Unsung Heroes of the Resistance PIERRE SINGARAVÉLOU, KARIM MISKÉ, and MARC BALL Translated by WILLARD WOOD»، حيث تُعامَل عِبارتا استعمار واستعمار غربي كمُترادفتين، بفعل عدم تفكير المؤلفين الثلاثة في الأمر. الكتاب الصادر عام 2020 هو على كل حال مثال جيد لكيف يجب ألّا يُكتَب تاريخ الاستعمار، فهو لا يذكر شيئا مثلاً عن العدوان الثلاثي على مصر 56، ولا تحضر قضية فلسطين فيه، ولا احتلال العراق ، ولا عن الإرهاب والحرب ضد الإرهاب، ولا عن حروب إسرائيل الكثيرة، ولا عن التوسعية الروسية والإيرانية، ولا عن الاستعمارات القديمة الجديدة كتركيا والهند والصين وغيرها، ولا محاولة قول شيء عن مفهوم الاستعمار الداخلي والمستعمرات الداخلية.
[17] إدوارد سعيد: الاستشراق، المفاهيم الغربية للشرق، ترجمة محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2006.
[18] متاحة هنا.
[19] تعبير إسرائيل قلعة الغرب لكونراد أديناور، مستشار ألمانيا الغربية في الخمسينات الذي توسَّلَ التعويضات لمصلحة إسرائيل لتبييض صفحة ألمانيا والاندراج في الغرب بحسب دانيال مارفيكي. والمقصود ضد القومية العربية وفي إطار الحرب الباردة.
Daniel Marwecki: Germany and Israel, Whit washing and State Building, Hurst & Company, London, 2020 p 89.
[20] من أجل عرض شامل عن القمعية والتطرف الألماني المتطرف حيال المنددين بحرب إسرائيل في غزة، بما في ذلك استهداف الأصوات اليهودية والإسرائيلية المنشقة، تنظر مقالة مايكل سابير: The spiraling absurdity of Germany’s pro-Israel fanaticism

[21 عملتُ على تطوير مفهوم حرب التعذيب في مقالتي: في العنف.
[22] Sven Lindqvest: A History of Bombing, translated by Linda Haverty Rugg, the New York Press, New York, 2003.
[23] ملف جنوب أفريقيا هنا في هذا الرابط.
[24] ثلاث استقلالات، مستقلة عن بعضها، في نيسان 2010. والاستقلال الثالث وأفق الثورة الثقافية، في آذار 2011، ثم كذلك في: فرصة لثقافة تحررية وسياسية مغايرة، في نيسان 2014.

[25] What is Freedom? in Between Past and Future, The Viking Press, New York, 1961, p 143-171.
[26] تكلّمتُ على هذه القوى كغيلان في مقالة قديمة: الغيلان الثلاث وأزمة الثقافة العربية، أيلول 2010، والمقالة منشورة في كتابي: الثقافة كسياسة: المثقفون ومسؤوليتهم الاجتماعية في زمن الغيلان، المؤسسة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2016.
[27] في كتابها السياسة وعداً، تقول آرنت إن السياسة تنشأ بين الناس، أي خارج الإنسان الفرد، وتتأسّس بالتالي بوصفها علاقات، وليس على جوهر سياسي مفترض للإنسان. ص 151. وفي مكان آخر تقول «من دون أولئك الذي هم مساوون لي لا توجد حرية». ص 177. ولذلك لا حرية في السيادة. ترجمة: معز مديوني، منشورات الجمل، بغداد، 2018.
[28] H. Arndt: Between Past and Future, P 164-165. آرنت تلحّ على أن مُماهاة الحرية بالسيادة هي أخبث وأخطر عواقب الفلسفة السياسية التي تساوي بين الحرية وحرية الإرادة، ونقلُ الأخيرة إلى حقل السياسية هو الأصل في فكرة السيادة في رأي المفكرة المرموقة.
[29] مقالته: لم يكن ثمة غرب قط! هنا ترجمتها العربية.
[30] كتابه اللاهوت السياسي، ترجمة رانية الساحلي وياسر الساروط، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2018، ص 23-31.
[31] H. Arendt: The Origins of Totalitarianism, Penguin books, 1994, p 279 - 280.
[32] H. Arendt: Between Past and Future, p149.