غول تحت السجادة


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 7630 - 2023 / 6 / 2 - 23:26
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

يصدم الحس التعارض الكبير بين الخفة الغافلة لدفن القضية السورية، على نحو ما رأيناها في القمة العربية قبل حين، وبين الثقل المأساوي للقضية على نحو ما انبسطت أمام الأعين خلال أزيد من اثني عشر عاماً. وفي هذا التعارض ما يسوغ الاعتقاد بأن يعود المدفون في صور كابوسية في وقت لاحق. تكنيس صراع مهول، فاجع ومديد، متعدد الأعماق التاريخية، محلي وإقليمي ودولي، تحت السجادة على ذلك النحو المبتذل مهين لملايين السوريين، لكنه قبل ذلك غبي وقصير النظر. هناك غول تحت السجادة، غول كبير جداً، أكبر من ممن اجتمعوا وتصوروا في جدة. لقد أُنكرت أي قيمة لتضحيات وآلام ملايين السوريين بلا عوض، ومنح شخص تافه انتصاراً كبيراً بلا مقابل. ليست العدالة وحدها ما تقضي بأن لا يعطى التافه الدموي نصراً، بل السياسة. ذلك أن هذا الواقع القائم على نصف مليون جثة وسبعة ملايين مهجر وفوق 130 ألف من مجهولي المصير، وجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، هو واقع مقلقل، متحرك وزلزالي، مثل غول كبير تحت سجادة صغيرة.
يستحسن بغرض فهم الحاضر وتقدير الآتي أن ندرج موجة الصراع هذه التي في سبيلها إلى أن تطوى في سياق تاريخي أطول، تاريخ الحكم الأسدي. في موجة أولى من الصراع بين أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات، سقط عشرات ألوف السوريين في مذابح معلومة توجت بمذبحة حماه في شباط 1982، أو إعداماً في سجن تدمر بخاصة، أو بالتعذيب في المقرات الأمنية التي هي المعابد الحقيقية للديانة الأسدية. كانت تلك أول أزمة وطنية واجتماعية كبرى تواجهها سورية بعد الحكم الأسدي، ودفعت قطاعات واسعة من السوريين إلى التدخل في شأنهم الجامع، تنظيمات سياسية ونقابات مهنية وطلبة جامعات، لكنها أخذت بسرعة شكلاً دينياً- سياسياً وعسكرياً مسلحاً يتصل بالبنية السياسية في عهد حافظ الأسد، وبخاصة بتطييف الوظيفة الأمنية، الكلية الانتشار والحضور. لم تكن الأجهزة الأمنية والتشكيلات العسكرية ذات الوظيفة الأمنية مؤسسات وطنية، بل أجهزة طائفية بقدر كبير، إن لم يكن من حيث التكوين البشري، فمن حيث القيادة والتوظيف السياسي. على أن الصراع في موجته الأولى تلك ظل في الإطار السوري، لم يفض خارجه.
طابت الحياة للنظام بعد سحق جميع معارضيه، الدينيين واليساريين، وصار يجري الكلام على "الأبد"، وأخذت تنصب التماثيل لحافظ الأسد، وأخذ هو يعد ابنه لوراثته. وهو ما تحقق بالفعل عام 2000، وما لم يكن تحققه ممكناً لولا مذبحة حماه وسجن تدمر.
الموجة الثانية من الصراع التي يراد طيها اليوم كلفت كما هو معلوم مئات الألوف، نصف مليون في أدنى تقدير (كان السوريون نحو 23 مليون في بداية الثورة). بدأت هي الأخرى أعرض قاعدة، لكن إكراهات البنية السياسية الأشد بما لا يقاس مما كانت قبلها بثلاثين عاماً قادت من جديد إلى تنشيط سياسي وعسكري للديني (ليس الإسلامي السني وحده، بل الجميع، بمن فيهم المسيحيون). المختلف هذه المرة هو تورط المجتمعات والدول العربية وما بينهما من منظمات ما دون الدولة وفوق المجتمع على نطاق واسع في الصراع. المجتمعات عبر شبكاتها السلفية، والدول بصور سياسية ومالية وإعلامية، ومنظمات ما دون الدولة من البلدان المجاورة العربية وغير العربية، وبهمة إيرانية قوية. كان بشار الأسد قبل الصراع وحتى بداياته وريث أبيه، صار بعد نصف ومليون من الضحايا وما لا يحصى من المجازر أباً ثانياً، وربما تنصب له التماثيل قريباً. والأكيد أنه يحضر ابنه حافظ لوراثته. هذا هو الدستور الباطن، الحقيقي، للنظام غير القابل للدسترة بأي دلالة أخرى أو الانضباط بأي قانون.
بين موجتي الصراع حدث شيء مهم يستحسن تذكره هو الآخر: "ربيع دمشق". وهو فسحة زمنية قصيرة، عبرت بوضوح عما تتطلع إليه القطاعات الأوسع اهتماماً بالشأن العام في سورية: الاجتماع والكلام، على ما تجسد في ابتكار "ربيع دمشق" المميز: المنتديات، حيث يتجمع العشرات أو المئات القليلة من الأشخاص في منازل خاصة، يتداولون في الشأن العام، وبروح نقدية معارضة لكيفية سير الأمور في البلد خلال العهد السابق. "ربيع دمشق" خنق في مهده كما هو معلوم. والغرض من استذكاره القول إن المطالبات السياسية والحقوقية في سورية لم تكن غائبة، وأنه لم يستجب لها على الإطلاق، بل اعتقل أبرز الناشطين فيها وجرى تخوين الجميع، وهذا رغم الصفة السلمية بالمطلق لأنشطة تلك الفترة وللعقد السابق للثورة كله.
كانت الثورة السورية ثأراً لـ"ربيع دمشق"، وإعلاناً بأن السلم الأسدي خلال العقود الثلاث التي تفصلها عن حماه 1982 كان تكنيساً تحت سجادة القمع لقضية حرمت من الكلام، فلجأت إلى صمت اللاشعور أو المكبوت. الغول كناية عن هذا اللاشعور، القضية التي منعت من أن تكون شعوراً وذاتاً.
الغول اليوم أكبر بما لا يقاس. والاعتراف ببشار الأسد كالذات السياسية السورية المتكلمة، يكبت ملايين السوريين، يحرمهم الكلام والفعل، ويحيلهم إلى لا شعور جمعي. هؤلاء الملايين هم الغول الذي وضعته القمة العربية تحت السجادة.
لقد أخذ الغول يجوس آفاقنا منذ ثمانينات القرن العشرين الباكرة، عبر هذا التحول القسري نحو سياسية اللاشعور. كان الضحايا في ذلك التحول الأول بعشرات الألوف، وفي الثانية بمئاتها، فربما يكون بالملايين في المرة القادمة. وإذا كان النطاق محلياً سورياً أول مرة، ثم عربياً وإقليمياً ودولياً في سورية المنكودة ثاني مرة، فقد يكون إقليمياً وعالمياً، لكن في مجال عربي أوسع في مرة قادمة، وبانخراط لا يقتصر على الدول، بل كذلك المجتمعات والأديان، وحشود المرتزقة الجدد من المتبطلين الدوليين المرشحين للزيادة في كل مكان بفضل تغيرات التكنولوجيا وتدهور المسؤوليات الاجتماعية للدول.
لا يمكن أن نعرف كيف سيحدث الانفجار وكيف تتسع دوائره، مثلما لم نستطع تقدير سير الأمور قبل 12 عاماً ونيف، وإن تنبأ بعضنا بأن الهول ممكن ومرجح، استناداً إلى ذاكرة موجة الصراع الأولى. لكننا نعرف أن ضمانة الانفجار قائمة ومستمرة، اسمها الحالي بشار الأسد، أو ربما ابنه حافظ الثاني الذي سيكون "رئيس" سورية المقبل، وفق حتمية طبيعية يقضي بها منطق حكم السلالة. وللتوضيح، هذا مختلف عن النظم السلالية الأخرى في المجال العربي بأنه طرأ على جمهورية، دولة لم تكن سلالية، فكان مُنازعاً فيه على الدوام، خلافاً لما هو الحال في بلدن الخليج، وفي الأردن والمغرب، حيث نشأت السلالات والكيانات السياسية المحكومة بها معاً، فحازت السلالات ضرباً من شرعية كيانية. سورية ستبقى دولة نزاع يتفجر دورياً لأنه لا النظام يستطيع الإقرار بطابعه السلالي (ما يضطره إلى تنظيم استفتاءات مهرجانية دورية، بل وحتى تمثيلية انتخابية تعددية مع مرشحين كومبارس لا ينتخبون هم بالذات أنفسهم)، ولا ملايين السوريين يستطيعون التسليم بالتبعية لسلالة جانحة موغلة في الدم، ولا بنية سورية التي نشأت كدولة مواطنين وكجمهورية تتحمله.
وإنما لذلك يجازف النظام العربي الجديد، نظام ما بعد الثورات والربيع العربي، مجازفة قاتلة، ربما تجعله مسرح الانفجار القادم. المسألة ببساطة هي أنه بجعل القاتل طبيعياً يصير الطبيعي قاتلاً، بما يمهد لـ"حالة الطبيعة"، حرب الجميع ضد الجميع، مثلما نعرف من الخبرة السورية قبل غيرها.