اشتراكية: تمرين في الخيال السياسي


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 7860 - 2024 / 1 / 18 - 22:25
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

في المجالس التقدمية في أوروبا، بقدر ما أمكن لي من مُعاينة،1 يُهمين مثال اجتماعي سياسي يجمع بين الديمقراطية والتضامن وحقوق الإنسان، وتُرى له صلاحية كونية، يُرتجى أن تعمّ الكوكب. هذه المناقشة تتشكك في كونية المثال في صيغته المطروحة، وتؤسِّس تَشكُّكها على التعارُض بينه وبين الأوضاع الامتيازية للغرب على الصعيد العالمي، وعملياً على كون الغرب المعاصر، أو «الشمال العالمي»، هو القوة أو مُركَّب القوى السياسية الاقتصادية الفكرية الأكثر مُحافَظة ومقاومة لتغيير عالمي واسع في هياكل السلطة والثروة والمعرفة، لا يبدو أن للعالم مستقبل من دونه.
مثال في ركود
يغلب أن يكون متبنّو مثال الديمقراطية والتضامن وحقوق الإنسان نقديين تجاه حكوماتهم، وحيال أوضاع عالم اليوم. إنهم يساريون وإنسانويون عموماً، معادون للعنصرية والرأسمالية الليبرالية الجديدة، غيورون على البيئة، فضلاً عن دعمهم الأكيد للنسوية ومجتمع الميم. تعطي القضايا الثلاث الأخيرة، البيئة والنسوية والأقليات الجنسية، بُعداً ديناميكياً للمثال الاجتماعي السياسي المذكور، الديمقراطية والتضامن وحقوق الإنسان، فتخفّف من الشعور بأننا في ركود فكري وسياسي وحقوقي، وبالتالي من الحاجة إلى أفق جديد للخيال والفعل. لكن المثال في صورته الحالية محافظ، متمركز غربياً، وبلا طاقة تَجاوزيّة عالمياً. ونحن معه في مأزق بالفعل، مأزق العيش في عالم بلا بدائل، ولا تبدو قضايا النسوية والبيئة والأقليات الجنسية مُحرِّكات لإنتاج بديل عالمي أو لتنشيط التفكير في البدائل، وإن تعذّر في الوقت نفسه تصوّر بديل عالمي دون محركات إضافية كهذه. المحرك الرئيس في تصورنا يتمثل في المسألة الاجتماعية في بُعدها العالمي، أي ما يتصل بإنتاج الثروة وتوزيعها والنفاذ إلى مواردها، وما يتصل بذلك ذاته من فرص الحياة والعيش الكريم في عالم اليوم. الربط بين هذه المحركات في تصوّر للبديل وبلورة سياسية بديلة هي من أهم ما يبدو مُلحَّاً في عالم اليوم.
تقترح هذه المقالة الاشتراكية، الكلمة القديمة، وإن بدلالة مغايرة بعض الشيء، عنواناً لتنشيط خيالنا السياسي، وإعادة فتح مثال الديمقراطية/ حقوق الإنسان/ التضامن على أفق تغييري وثوري عالمي. ومن أجل ذلك يلزم القيام بدورة قصيرة تمرّ بالقومية والليبرالية والديمقراطية.
القومية: الأمة الواحدة السيّدة
تقوم القومية، على نحو ما أخذت تظهر في أوروبا في زمن الحكم المطلق وبعد الحروب الدينية، على مفهوم الأمة مفهومةً كوحدة جامعة، مُضمَّنة في اسم البلد: فرنسا، إسبانيا، بريطانيا العظمى، وفي وقت لاحق ألمانيا وإيطاليا. إنها في آن إطارٌ لتوسّع الرأسمالية في هذه الأمم، وللتوسّع الاستعماري خارجها. الدولة في الوقت نفسه إطار للسيادة التي لا تقبل التعدد ولا التجزئة، وتتجسد في شخص السيد، الملك أو فيما بعد في «الشعب» الواحد بدوره، وعملياً في دولة تُمثّله. وهناك لغة قومية واحدة، فُرضت بقوة الدولة، وبالاستفادة من الطباعة والصحف، ماحيةً لهجات وتمايُزات لغوية قديمة. الأمة واحدة، سيدة، تتكلم بصوت واحد، مع ما هو خارجها على الأقل. القومية هي إيديولوجية وحدة الأمة؛ نفيُ التعدُّد داخلها ونفيُ تبعيتها لغيرها أو كونها جزءاً من متعدد أكبر يشملها مع غيرها. وقد تأخذ الوحدة شكل عقيدة رسمية تفرضها الدولة، مثلما حدث في معظم البلدان المستقلة حديثاً، ومنها البلدان العربية، لكنها حتى حين لا تكون كذلك تتوافق القومية مع تصرّف موحد للدولة في المجال الدولي على الأقل، تُمليه ما يُفترَض أنها مصلحة موحدة للأمة.
الليبرالية: الفرد الحرّ السيّد
وتنهض الليبرالية على مركزية الفرد، مُلكيته وحقوقه وحريته. الليبرالية أحد أوجه ثورة إنسانية تمثّلت في التحول من التمركز حول الله إلى التمركز حول الإنسان. وقد تحققت هذه الثورة بالتدريج عبر الإصلاح الديني في القرن السادس عشر الأوروبي والثورة العلمية في القرن السابع عشر وبعد، وتعززت بفعل استعادة الآداب الأنسية القديمة، اليونانية والرومانية، ثم ما أتاحته الكشوف الجغرافية والتوسّع الاستعماري من «فرفدة» وبحبوحة، وسيادة، لعدد أكبر من الأفراد. توافقت الثورة الإنسانية مع اتساع نطاقات حرية الأفراد وخلقيّتهم في مجالات متعددة: مستكشفين، مستعمرين، مستثمرين، مُبشِّرين، علماء، فلاسفة، موسيقيين، فنانين، سياسيين، وغيرهم كثير، بما يتجاوز عالم السلطات الاجتماعية السابق المقتصر تقريباً على النبلاء ورجال الدين والأسر المالكة.
ومن هذا التوسّع ابتكارُ عوالم فكرية جديدة، مُنافِسة للدين أو حتى معادية له، فضلاً عن الثورة الصناعية وتحول العلم إلى قوة إنتاج، ونشوء الرأسمالية الحديثة المتوجهة نحو الربح، وإن عبر إنتاج واسع، وظهور الدولة الدستورية الحديثة. لكن هذه التطورات عظيمة الأهمية كانت مناسبة لأفراد، وليس للفرد بما هو كذلك، لأفراد يحوزون ثروات موروثة أو مكتسبة، ولموهوبين وأصحاب كفاءات خاصة في مجالات متّسعة. كلما كان الفرد في وضع بدئي أفضل كانت الليبرالية التي تُعلي من حرية الأفراد إطاراً أصلح لازدهاره وغناه المادي، وربما الروحي. هذا بينما لم تكد الحرية تعني شيئاً للجياع، للجماهير المُبلترة التي كانت حتى وقت متقدم من القرن التاسع عشر مُستعبَدة للحاجة، يتحكم بها الرأسماليون على ما أظهر ماركس في أمثلة وفيرة في الرأسمال. وهي من باب أولى لا تعني شيئا للعبيد الذين سوّغَ منظرون وقادة سياسيون ليبراليون عبوديتهم، وكان بعضهم من مالكي العبيد في واقع الأمر.
لقد سجّلت الليبرالية ظهور الفرد المستقل عن روابط الدم والجِهة، واعتنت بمُلكيته وحقوقه، وكانت ميثاق وعيه بذاته. إنه أمة وحده، سيد نفسه، مركزه في داخله، وهذا مثلما الأمةُ تنزع لأن تكون ليبرالية دينياً واجتماعياً، تركيبٌ من الوحدة والسيادة.
حيال الفرد الليبرالي كما حيال الأمة السيدة، نحن حيال الواحد الذي قد يحاور غيره أو لا يحاور، لكن كيانه سابقٌ للحوار المُحتمَل.
أما ما يسمى بالليبرالية الجديدة فقد بدأت بالصعود في ثمانينات القرن العشرين، ويعود بعض منظريها إلى أزمنة أسبق، لكنها سادت بعد انتهاء الحرب الباردة بانتصار المعسكر الرأسمالي الغربي. وهي تعني أساساً حرية المالكين، وتدافع عن نموذج الدولة الحارس التي تضمن الأمن لأصحاب الشركات والثروات، وتتصرف غير ذلك كشركة ضخمة هي ذاتها. ودون أن تكون الليبرالية الجديدة وحدها السبب في أزمة بيئية تهدد الحياة على الكوكب، فإنها تبدو العائق الإيديولوجي الأشد كؤداً في وجه عكس المسار.
الديمقراطية: الحكم بالكلام
2.تنظر مقالة غريبر: لم يكن ثمة غرب قط، من ترجمتي. وهي منشورة في الجمهورية.نت يوم 25 نيسان 2023
وظهرت الديمقراطية في القرن التاسع عشر، ولم تُتَبَنَّ على نطاق أوسع من قبل النخب السياسية في مجتمعات أوروبا الغربية حتى ما بعد عشرينات القرن بحسب الأنثروبولوجي والناشط الأناركي الأميركي ديفيد غريبر.2. الديمقراطية التي تلقت إلهامها من أثينا القديمة في القرن الرابع قبل الميلاد تدور حول المواطنة والحقوق السياسية للمواطنين، حيث يحوز الكلام والتعبير عن الرأي قوة سياسية. والكلام فعل تبادلي يجري بين اثنين أو أكثر، يتوزعون بنيوياً إلى مُتكلِّمين ومخاطَبين. فالديمقراطية، إجرائياً، هي بمثابة مناقشة، حوار يعتمد على الإقناع، يجري ضمن جمع، يغلب أن يتمايز إلى تيارين أو حزبين وما حولهما. المركزية هنا ليست للفرد وأناه، بل لتفاعُل حواري يجري في البرلمانات أو في الصحف ووسائل الإعلام. هنا ثمة أنا وأنت. ونحن معاً «نمثل» كتلاً اجتماعية، طبقات أو أحزاب. فالديمقراطية كما عرفناها في بلدان الغرب هي ديمقراطية تمثيلية (وليست مباشرة). وهي إذ تقوم على تبادل الكلام بين متحاورين سعياً وراء حلول سياسية للمشكلات الاجتماعية على نحو يتجنُّب العنف فإنها تتوافق مع توظيف في طاقات الإنسان الإقناعية، مما لم يشكل أساساً لنظام سياسي إلا في الغرب في القرن التاسع عشر. ارتفاع الطلب على الكلام كان وراء ازدهار الفلسفة في عصر التنوير وما بعد، مثلما كان وراء ظهور الفلسفة في أثينا الكلاسيكية.
على أن تجنُّب العنف اقتصر على الداخل الكلامي إن جاز التعبير، أي الأمة. في الخارج تحكم الأمم بالعنف وليس بالديمقراطية والكلام. حروب الدول في أوروبا كانت متكررة وعنيفة في الفترة التي أخذت تتدمقرط فيها حياتها السياسية، وأسوأ من ذلك في المستعمرات حيث الكلام غائب كلياً، والعنف كلي الحضور، بما في ذلك الإبادة. كانت المستعمرات غنيمة هائلة من الأراضي والموارد والثروات الجاهزة، والعبيد، وكانت الإبادات الكبيرة في العوالم الجديدة بخاصة سياسة مشروعة للاستئثار بهذه الغنيمة من قبل المستولين.
وسَّعت الديمقراطية في بلدان الغرب من نطاق الحقوق الليبرالية لتشمل شرائح أوسع، حظيت بفرص أوسع في التعليم والدخل والخدمات العامة. لكن الأمر اقتصر على عدد محدود من الدول، عرضت كلها تطلُّعات توسعية واستعمارية، وروّجت لنفسها مهامَ حضارية. فإذا توافقت الليبرالية مع مصالح قلّة من أفراد توسَّعت بعد الدمقرطة التدريجية للحياة السياسية في القرن التاسع عشر وحتى الحرب العالمية الأولى، فإن الديمقراطية اقتصرت على أقلية من البلدان ذات تشكل قومي أباحت لنفسها استغلال موارد بلدان وقارات بأكملها. وإذا كان صحيحاً أن ديناميكية الديمقراطية وسَّعت حقوق النساء، و«العبيد» أو من في حكمهم من بروليتاريا، والمقيمين من الأجانب، وهم المستبعدون الثلاثة من ديمقراطية أثينا، فإنها وقفت عند حدود الدول القومية التي كانت مستعمِرة، وتعذر تعميمها العالمي على نحو يبدو وثيق الصلة بالمصالح والاقتصادية والجيوسياسية لهذه البلدان، وأكثر بمصالح طبقاتها الرأسمالية.
وليست الديمقراطية تطوراً خطياً لليبرالية على ما يبدو مُضمَّناً في ربطهما المتواتر في عبارة الديمقراطية الليبرالية. الليبرالية فكرة حرية، استقلال أفراد بما هم كذلك، وخروج لهم مما هو عضوي وموروث، أما الديمقراطية ففكرة متجهة نحو إعادة تنظيم الحكم حول «الشعب»، وقد قُصِدَ به بداية «الطبقة الثالثة»، أو البرجوازية، حتى ليمكن القول إن الديمقراطية هي الإدماج السياسي للبرجوازية في الدولة، أو هي التحرّر السياسي للبرجوازية، وهو ما أخذت التيارات الاشتراكية تقوله منذ أواسط القرن التاسع عشر.
يدين التوسع الديمقراطي في بلدان الغرب، أو بالأحرى الشمال العالمي، إلى الغنمية الهائلة التي جرى الاستيلاء عليها عبر الفتوح الجغرافية والاستعمار، فمثّلت «التراكم الأوّلي» للرأسمال الذي كان وراء التصنيع والرأسمالية، وكان أساساً لتوفّر فوائض تقبل التوزيع على نطاقات أوسع؛ يدين كذلك لظهور التيارات الاشتراكية والعمّالية بدءاً من الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وأكثر بعد الثورة البلشفية في روسيا، وصعود الأحزاب الشيوعية في كل مكان، عبر الضغط من أجل السيطرة الاجتماعية على عمليات الإنتاج وقواه وعلاقاته، وبالتالي ضمان توزيع أعدل. لقد جرى ضبط الديناميكية الاستقطابية للرأسمالية على يد الدولة البرجوازية لصدّ الإغواء الشيوعي، وتوسَّعت الحقوق الليبرالية والمؤسسات الديمقراطية عموماً، بخاصة بعد الحرب العالمية الثانية وسقوط النازية والفاشية.
الاشتراكية: العناية بالمجتمع
الاشتراكية ليست فكرة متمركزة حول الفرد، ولا حول الحكم، بل حول المجتمع، وطبقاته الدنيا بخاصة. إنها دعوة عناية اجتماعية، تُحركها مُثُل للعدالة والمساواة قديمة، وتوقعات حديثة حفزتها الثروات الرأسمالية والديمقراطية وفُرَص النقاش المتّسعة. هذا للقول إن الاشتراكية ليست بدورها في علاقة خطية بالديمقراطية وبالليبرالية، وإن تكن تبني على ما تحقّق اجتماعياً وسياسياً وفكرياً، وتعمل على تجاوز أمثل للمُتحقِّق يستدرك اختلالاته وأوجه الظلم والتمييز فيه.
ولأن الديمقراطية تعمّقت بفضل التحدي الاشتراكي في القرن العشرين، وبعد الحرب العالمية الثانية بخاصة، حتى أنها كفت عن أن تكون مجرد ديمقراطية برجوازية، فقد أخذت تدخل هي ذاتها في أزمة بعد سقوط الشيوعية في الاتحاد السوفييتي ومعسكره وفقدان الفكرة الاشتراكية جاذبيتها، لتعود إلى ما لا يكاد يتجاوز ديمقراطية برجوازية. بالمقابل، لم تكن الاشتراكية السوفييتية وتنويعاتها استيعاباً للمُتحقِّق الليبرالي والديمقراطي، بل هي أقرب إلى استبعادٌ لهما. وهذا بطبيعة الحال يُثير نقاشاً عما إذا كانت الاشتراكية ممكنة دون ديمقراطية ودون ليبرالية. كانت هذه القضايا حاضرة في تفكير المثقفين العرب في سبعينات القرن العشرين، ومنهم بخاصة عبدالله العروي وياسين الحافظ.
3.هذا التصوّر مبني على تناولَين سابقين لي، منشورَين في الجمهورية.نت. أولهما أصوات الغائبين، قضايا لإصلاح التفكير، منشور يوم 1 نيسان 2020. والثاني التفكير والغائب: في أنماط التفكير وتاريخيته، وتعلُّمه، منشور يوم 15 تشرين الأول 2021.
وليس هناك تناقض بين العلاقة اللاخطية بين الاشتراكية والديمقراطية والليبرالية وبين الكلام على قيام أو عدم قيام استيعاب اشتراكي لهما، وما قد يتضمنه ذلك من نمو ديالكتيكي هيغلي. العلاقة هنا تاريخية، تتصل بمسارات تشكلت وتقاطعت في التاريخ، وليس بتفتّح لمبدأ واحد، اسمه التقدم أو التاريخ كوعي بالحرية، يأخذ أشكالاً مختلفة فحسب. وعلى هذا الأساس فإن جوابنا على سؤال هل الاشتراكية ممكنة دون ديمقراطية ودون ليبرالية هو أن التاريخ الحديث سار على نحو يجعل ذلك مستبعداً، وسنقول للتو إن مبدأ الليبرالية هو ذات الفرد المتكلم، وإن مبدأ الديمقراطية هو علاقة المخاطبة بين اثنين، في حين أن الاشتراكية علاقة ثلاثية، يحضر فيها الغائب إلى جانب المتكلِّم والمُخاطَب.3 من هذا الباب، فإن الاشتراكية مثلما هي مُتصوَّرة هنا تشمل الليبرالية والديمقراطية وتتجاوزهما.
نتكلم على القومية والليبرالية والديمقراطية والاشتراكية لأنها شكلت الأفق الفكري القيمي السياسي للقرنين الأخيرين، وانتظم العالم كله بصور مختلفة حولها، بحيث لا يمكننا نقد العالم المعاصر دون نقد هذا الأفق الفكري القيمي السياسي.
أزمة الديمقراطية
4.انظر: الرأسمالية والإيديولوجيا، مقابلة مع توما بيكيتي، أجراها روبن ويلسون ومن ترجمتي. منشورة في الجمهورية يوم 14 كانون الثاني 2021.
اليوم، تبدو الديمقراطية في أزمة في المراكز الديمقراطية الأقدم، عاجزة عن معالجة مشكلات الهجرة واللجوء، واهنة أمام تيارات يمينية عنصرية صاعدة، معادية للمهاجرين والملونين والنساء والأقليات الجنسية، تيارات تتغذى من نزع الصناعة وتَحوُّل صناعات واسعة في استخدام الأيدي العاملة إلى بلدان تحكمها سلطات غير ديمقراطية، ويمكن استغلال العمّال فيها بلا حدود. واهنة بخاصة أمام رأسمالية تنزع تكوينياً للانفلات من التحكم الاجتماعي والسياسي، وتؤكد أنها نظام طبيعي غير قابل للتغير، فلا تبقى غير سياسات الهوية والحدود مجالاً للمداولة السياسية والاجتماعية.4
وفي أزمتها، لا تستطيع الديمقراطية أن تشكل قوة دفع عالمية باتجاه دمقرطة بلدان أخرى، وإن كانت قد حازت بعض هذا الأثر لوقت قصير بعد انطواء حقبة الحرب الباردة. جوهر مشكلة الديمقراطية اليوم أن الغائبون كثر: البيئة الحية، المهاجرون، مليارات الناس في بلدان أخرى، بل وقطاعات من الطبقة العاملة البيضاء في البلدان الأكثر تصنيعاً، التي غيَّرَ نزعُ الصناعة هياكلها الإنتاجية ووجد هؤلاء أنفسهم في أوضاع مُماثلة للسود والمهاجرين الآخرين، حتى صاروا مستودعاً للتصويت لأحزاب اليمين القومي والديني. الديمقراطية أظهرت في العقدين الأخيرين عجزاً متفاقماً عن معالجة هذه الغيابات السياسية.
ومما يُفاقم من أزمة «ديمقراطية الأمر الواقع» اليوم ما يبدو من أنها البديل الوحيد لنفسها، ما يتوافق مع زمنية الأبد التي نعرفها جيداً في سورية: حاضرية ضيقة، مُعادية للذاكرة والخيال، ذات منزع إداري وتسييري، تتجه لأن تكون منزوعة السياسة ومُتمركزة أمنياً. ربما لم يعد أحد يدافع عن أطروحة «نهاية التاريخ»، ولا حتى صاحبُها فرانسيس فوكوياما نفسه، لكن الواقع في بلدان الغرب المركزية يقول بالفعل إن التاريخ انتهى، وأنه لا مخرج من هنا. الديمقراطية الليبرالية تصير أكثر وأكثر سجناً لنفسها ولغيرها.
اشتراكية خيالية وخيال اشتراكي
من واحدية القومية وفردانية الليبرالية إلى حوارية الديمقراطية، يبدو أننا في حاجة إلى تخيُّل مسرح يحضر في الغائبون، أو يقوم على ديناميكية حضور متّسعة للغائبين: الغائب البشري المُهمَّش بصور مختلفة من طبقات دنيا و«تابعين» ونساء، الغائب من مجتمعات أخرى تشغلُ مواقع دنيا وتابعة على المستوى العالمي، وتَظهر اليوم كفوائض سكانية هائمة على وجهها تموت في البحار والصحاري؛ والغائب البيئي الذي هو إطار الحياة؛ والماضي التاريخي الذي نرتبط به كامتداد كي لا نتوهم أننا آباء أنفسنا؛ ثم «الغيب» الذي هو جهة الخيال والطوبى.
الاشتراكية هي الاسم المقترح لهذا المسرح مُتعدِّد الأبعاد، الذي لا يقتصر على أنا الفرد السيد والأمة السيدة، ولا على أنا وأنت المداولة الديمقراطية، بل يشمل هو وهي وهم وهنّ، العاقلين وغير العاقلين. يُشارك الغائبُ في النقاش، فيكفّ هذا عن أن يكون نقاشاً، يصير اجتماعاً واشتراكاً، ليس تبادلاً للكلمات وحدها، ولكنه تفاعل وجودي، تبادل للوجود وللعالم.
لكن أليست الاشتراكية مفهوماً معلوماً وله تاريخ، ودلالته هي تملُّك المجتمع لقواه الإنتاجية وتحكمه بها، ليصير بالفعل مجتمع وفرة يتكون من أفراد أحرار من الحاجة، يعمل كل منهم بحسب ما يقدر وينال بقدر ما يحتاج؟ مفهوم القرن التاسع عشر وأكثر القرن العشرين هذا ذو الأساس الاقتصادي يمكن أن يكون جزءاً من تفكير متجدد بالاشتراكية دون أن يستنفدها. مفهوم الاشتراكية المُقترَح هنا سياسي واجتماعي وبيئي أكثر، أوثق صلة بعوالم الغياب والغائبين وحضورهم وتمثيلهم لأنفسهم وامتلاكهم لشروط وجودهم، دون أن يقتصر على ذلك. وما يجمعه بالاشتراكية التاريخية هو أنه مذهب عناية بدوره، أو إيديولوجية عناية إن شئت، يعنى بضروب معاناة الغائبين، ويعمل كفكرة على أن يصنع معان متجددة، تربط بين ضروب تلك المعاناة المتغيرة ومجتمع العناية المأمول. يعرض تصور الاشتراكية هنا حساسية أنطولوجية أكثر، تتصل بالكون البشري كله وبالكون الحي، وينفتح على الغيب وعلى الماضي التاريخي.
5.H. Arendt: The Human Condition, 2nd edition, University of Chicago Press, 2018, p 85 an after6.الأطروحات هنا باللغة الانكليزية: https://www.marxists.org/reference/archive/benjamin/1940/history.htm
والواقع أن ما يمكن أن يؤخَذ على مفهوم الاشتراكية الماركسية ليس حصراً اقتصادويته المؤسَّسة على مركزية الكدح والشغل، وهامشية الفعل (وبالتالي السياسة)، بحسب نقد حنة آرنت،5 بل أكثر تاريخانيتُهُ الموروثة من هيغل ومن التنوير، افتراضُه حركة للتاريخ واتجاهاً وقوانين، على نحو يؤهل الماركسية المنحازة للبروليتاريا لأن تكون عقيدة منتصرين، مثلما هي التاريخانية في كل حال، على نحو ما رآها فالتر بنيامين في أطروحات في فلسفة التاريخ.6
7.هناك تَصوّران للثورة في التراث الماركسي، تَصوّر بنيوي يُحيل إلى التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، وتَصوّر سياسي يُحيل إلى الصراع الطبقي والفاعلية المغيرة تاريخياً للطبقة العاملة وحلفائها. ضد التناول الأول، الذي يبدو بالأحرى مُوافقاً للرأسمالية، نميلُ إلى تصور مستقبل أكثر ديمقراطية واشتراكية بالفاعلية السياسية للقطاعات الأقل امتيازاً في المجتمعات ومن يشاركونها التطلعات.
ثم إنه، حتى على المستوى الاقتصادي، لا يمكن التفكير في الاشتراكية اليوم على أرضية تفكير تنموي تقليدي، لا يبالي باستنزاف موارد الكوكب وبتدميرٍ قد يكون سلفاً غير عكوس للبيئة. الاشتراكية لا ينبغي أن تسعى لمنافسة الرأسمالية على مستوى تحرّر القوى المنتجة والانتصار عليها على مستوى الوفرة. هذا حتى لو لم نأخذ بالاعتبار أن الرأسمالية توافقت مع ثورات متواصلة في القوة المنتجة كي لا تقع أي ثورات في علاقات الإنتاج والملكية، وهذا خلافاً للحتمية الماركسية التي كانت تقضي بأن نمو القوى المنتجة يُدخِلها في تناقض مع علاقات الإنتاج، ما يشكل الشرط البنوي للثورة الاجتماعية.7
تعمل الاشتراكية في تَصوُّرها هنا من أجل نمو يتوافق مع تجدّد الموارد واحترام البيئة، أي ما يُسمى الاستدامة، وتتوافق كذلك مع تصوّر مختلف للإنسان عن التصور الفرداني الليبرالي لشخص سيد وفوق حرّ إن جاز التعبير، لا يكف عن الاستهلاك ومراكمة الأشياء، التصور الذي يبدو أننا وقعنا في حبائله ولا نجد اليوم منه مخرجاً.
8.يُنظَر الكتاب المثير للتفكير لآنيته كيهنل: العيش بطريقة مختلفة، ترجمه عن الألمانية حسام شحادات، الطبعة الأولى، مشروع كلمة، أبو ظبي، 2023. ويبدو لافتاً إن المؤلفين الأوروبيين حين يسعون وراء اختلاف عن الحاضر المغلق في أوروبا ينظرون في ماضي أوروبا، وليس في العالم من حولهم. لكن مثلما كان يمكن أن نقول في ما يتصل يشؤوننا الاجتماعية والدينية من مشكلات: لا حل في الماضي، الحل في الحاضر وفي العالم. والطريقة المختلفة هي ما يمكن التوصل إليها من أخذ الغائبين بالاعتبار في كل شأن، بمن فيهم في هذا السياق المحدد من لم يولدوا بعد، وهذا هو معنى الاستدامة الذي يحتفي به كتاب كيهنل.
لكن هذا ليس شيئاً يُفرَض من فوق بقوة الدولة أو الحزب، وبكفالة التاريخ، بقدر ما هو أفقُ تجريب، يخترعه ولا يكفّ عن اختراعه متعثرو الحياة المتزايدون. ولعلّ المدخل إليه حياة مختلفة أو تصورات مختلفة للحياة.8
ليست الاشتراكية المُتصوَّرة هنا عقيدة منتصرين، ولا تسعى لأن تكون وريثة للتاريخ أو لله على الأرض. ذلك أن منتصري اليوم هم مهزومو الغد على نحو يؤكّده تاريخ القرن العشرين، وعموم التاريخ البشري في واقع الأمر. إذ ما من انتصار نهائي، وما أو من يمكن أن ينتصر هو نفسه ما أو من يمكن أن ينهزم بعد حين يطول أو يقصر. الاشتراكية كما نتصورها هنا تتطلّع لأن تكون فكرة اعتناءِ من يُعانون بأنفسهم ونظرائهم، وبإطار حياتهم أو إطارهم الحياتي.
لكن هل يَسعُ هذه الاشتراكيةَ أن تنجو دون أن تُقاتل، دفاعاً عن نفسها على الأقل، في عالم يزداد وحشية؟ وكيف يمكن أن تُقاتل الاشتراكية دون التضحية بتعدُّد الأصوات، دون أن تصير عقيدة صوت واحد، تعبوية ومعسكرة، مثلما كانت اشتراكية القرن الماضي؟ ومثلما هي الأنظمة القائمة على القومية والدين؟
إنما لاشتباكها مع مثل هذه الأسئلة، وأكثر مع الغياب والغائبين، نتكلم على الاشتراكية كتمرين في الخيال السياسي، وليس في التذكّر السياسي، وإن يكن الخيال محتاجاً دوما إلى ذاكرة قوية. فليس بنسيان الماضي وتجاربه نتخيّل مستقبلاً مختلفاً.
لقد فشلت اشتراكية القرن العشرين لأنها تحولت إلى عقيدة رسمية، أحادية الصوت، أشبه بالقومية، بدل أن تكون إطاراً لتعدُّد الأصوات يتجاوز الحوار بين أنا وأنت إلى هو وهي وهما وهم وهنّ، «العاقلين» و«غير العاقلين». كانت الاشتراكية السوفييتية وتناسُخاتها أقل من ديمقراطية بدل أن تكون أكثر. الاشتراكية بهذه الصفة ثلاثية الأصوات، مقابل الديمقراطية ذات الصوتين، والقومية أحادية الصوت.
وهي بعد ذلك كله دعوة خيالية بالمعنى الذي كان يُنتقَد ماركسياً تحت عنوان «الاشتراكية الخيالية» أو «الاشتراكية الطوباوية»، ويُقابَل بالاشتراكية العلمية، فيحذف من الاشتراكية البعد الأخلاقي، ويجعلها تَحقُّقاً لقوانين التاريخ بمعزل عن أشواق الناس وتطلعاتهم ومعاناتهم وآلامهم. «قوانين التاريخ» المزعومة تلعب لصالح الرأسمالية وليس لصالح أحلام التحرُّر الإنسانية، ونقطة قوة الرأسمالية تتمثل فيما يبدو من توافقها من تصور الإنسان بما هو كذلك، أي من قدرتها على إنتاج ذاتيات تتعرّف فيها على إطار طبيعي لنموها.
في تصورها هنا، الاشتراكية تَخيُّلُ عالمٍ أعدل وأكثر تحرراً، ودعوة للتخيل، وانشداد مستمر إلى ما غائب أو ما ليس هنا، للطوباوي.
خيال ناقد
ونتكلم على خيال لأن الغائب (ومنه «الغيب»: ما لا نكون، وليس حصراً ما لا نعرف) لا متناهٍ، مبدأُ انفتاح لا يقبل الاستنفاد. الاشتراك مفتوح على طبقات الغياب الكثيرة. وفي مواجهة ماضٍ تعثَّرَ وتسبَّبَ في خسارة مثال تجاوزي نشعر بشدة بالحاجة إلى مثله اليوم، ثم في مواجهة عالم من حاضرية ضحلة، الذاكرة والخيال حليفان ممكنان للمتطلعين إلى عالم جديد متحرر، لا يستغني بأحدهما عن الآخر. من دروس سورية أن الحاضر الأبدي لا يدوم من تلقاء ذاته، إنه عنيف دوماً، بل محتاج إلى فائض من العنف لمنع المستقبل. هو في الواقع سجن، واسمه الأبد. العالم اليوم في وضع سوري من حيث حالة اللابديل، ما يعني الحرمان من مستقبل. والعنف يتفصّد من جنبات هذا العالم ويُرجَّح أن يزداد، ويأخذ أشكالاً انفجارية وقيامية. يمكن التفكير في حرب غزة الإسرائيلية الغربية كحماية لحالة اللابديل، أي بكل بساطة كمَسعىً من أصحاب الامتيازات لحماية الأوضاع التي تتوافق مع امتيازاتهم. إنها حرب ضد التغيير، فلسطينياً وشرقأوسطياً وعالمياً. والجماعة يعرضون ميلاً لأحادية الصوت وفرضها على الجميع، مثلما هو حال الحروب في كل حال.
ثم أن الاشتراكية يمكن أن تكون تمريناً على الخيال لأن ثلاثي الديمقراطية وحقوق الإنسان والتضامن يبدو أشبه بالكلام الاشتراكي السوفييتي في سبعينات وثمانينات القرن العشرين: كلام طقسي تكراري فقير، قامع للمخيلة، يُعرِّف قائليه ولا يقول شيئاً عن واقع حياة عموم الناس وتطلعاتهم. حين سقط القائلون تلاشى هذا الكلام كأن لم يكن قبل قليل مِلء الأسماع.
الديمقراطية في أزمة كما قلنا، وتبدو عاجزة عن الدفاع عن نفسها، تخوض معركة تراجُعية ضد اليمين القومي والديني، وتركن إلى العسكرة باطراد.
9.تُراجع مقالتي، في نقد التضامن، في الجمهورية.نت، 18/5/2021.
ويبدو التضامن مُسيَّساً وانتقائياً ومُتراجِعاً على المستوى الدولي، وعلى المستويات المحلية في البلدان الغربية. هناك سوقٌ للقضايا، تضع أصحابها في مواقع غير كريمة للحصول على مساندة من قبل متضامنين في بلدان الغرب، وهناك علاقة قوة بين متلقيّ التضامن ومانحيه، تجعل الأولين ضامنين والأخيرين مضمونين، وتُلغي المساواة بين الطرفين، وهي الأساس المفترض للتضامن.9
وحقوق الإنسان تتناقض كل يوم مع البنية السياسية للعالم القائمة على دول قومية أو تحالفات حضارية، وينبغي أن يكون المرء متعصّباً جداً حتى يظن أن سياسة أي دولة أو تحالف حضاري تتوافق مع الحرية وحقوق الإنسان. هذا الصنف من التعصب مُميِّزٌ جداً للغرب المعاصر. وهو منبع النزعة المحافظة المُميِّزة للثالوث، إذ يبدو أنه لا يتجاوز دعوة من الغرب لتعميم نفسه عالمياً، دون مشاركة في الحقوق والموارد وحرية الحركة.
والقصد أن مثال الديمقراطية والتضامن وحقوق الإنسان يبدو في افتقار متزايد إلى الروح، افتقار يعود إلى إحالة المثال إلى أوضاع تتدهور فيها الديمقراطية في الغرب ذاته، وتستخدم حقوق الإنسان استخداماً أداتياً في أحسن الأحوال، ويفتقر نداء التضامن إلى أي روح قتالية. يبدو بالأحرى أقرب إلى ضريبة يدفعها مناضلون غربيون بلا قضايا، يتملُّكهم شعور بالذنب على امتيازاتهم، لأصحاب قضايا مفتقرين إلى قوة، ولا يعمل لا هؤلاء ولا أولئك من أجل تغيُّر عالمي.
نجدُنا بالتالي أمام فراغ فكري- قيمي- سياسي عالمي، يبثّ في النفوس شعوراً بالضياع، وقد يدفع أعداداً متزايدة من الناس إلى موالاة ديماغوجيين وفاشيين، بحثاً عن مخرج من عالم يضيق. أزمة الديمقراطية يمكن أن تنفتح على الفاشية، إن لم يجري العمل من أجل مَخرَج اشتراكي منها.
لقد عمل النقد ضد الخيال في القرنين الماضيين، فيما يمكن أن يكون الخيال ركيزةً للنقد اليوم، بالنظر إلى أننا نعيش في عالم مغلق، يبدو أكثر وأكثر أقرب إلى سجن. ومثلما يحلم السجناء بالحرية، ويذهبون بمخيلاتهم إليها، نعمل على استعادة طاقتنا على الحلم والخيال في عالم يُغذّي الاكتئاب والتسليم بأنه ليس في الإمكان أحسن مما هو كائن.
عالمية الاشتراكية
وما كان لهذا التناول أن يتجاسر على استخدام كلمة الاشتراكية من جديد إلا لأن استخدامها الطقسي السابق قد تلاشى تقريباً من الذاكرات، ولأن هذا الاستخدام الحالي يريد في الوقت نفسه أن يكون وفياً لتاريخ ظهور الكلمة كاستدراك على القومية والرأسمالية والليبرالية، لا تستطيع الديمقراطية أن تفي بكامل موجباته.
10.يُنظَر أساس محاضرة قدمها عام 2019؛ وهناك مقطع تمثيلي لها مُتاح في هذه المقابلة القصيرة؛ وهنا تفاعله مع ما تعرَّضَ له من نقد. ويبدو أن جيجك لا يتصور خارجاً للمركزية الأوروبية حين يرى أن نقدها هو كذلك نقد أوروبي. تفاعله مع القضية ككل تفاعل دفاعي، يفتقر إلى الروح العالمية فعلاً.11.نُشر النص القصير، المعنون مبادئ التضامن، بالألمانية والإنكليزية يوم 16 تشرين الثاني 2013، بعد 40 يوم من حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة.
على أننا نتكلم على اشتراكية منفتحة على الغائب، وما يتيحه هذا الانفتاح من خروج على المركزية الأوروبية. سلافوي جيجك يُظهِرُ محدودية خيال كبيرة حين يدعو اليساريين لعدم انتقاد المركزية الأوروبية، بدعوى أن من شأن ذلك أن يُضعِفَ فرص الديمقراطية التي يطابقها بالسياسة.10 فرص الديمقراطية تضعف في المراكز الأوروبية من داخلها، وهي تتحول سلفاً إلى دعوة حضارية تستبعد غير الأوروبيين، وتتشكك في مواطني أوروبا من غير البيض المسيحيين. غزة من جديد برهان على ذلك، حيث يجري الاقتراب الخطير من فرض عقيدة رسمية بخصوص إسرائيل وعُلْويةِ الحياةِ اليهودية على غيرها. هذا ما تصدر عنه الوثيقة المشينة لهابرماس وآخرين، المعنونة مبادئ التضامن،11 وكان أولى أن يكون عنوانها: مبادئ التضامن الانتقائي.
وبهذه الدلالة لاشتراكية متجهة نحو ما هو غائب، لا يمكن للاشتراكية إلا أن تكون عالمية، مثلما كان تفكير الاشتراكيين الماركسيين بالمناسبة قبل الستالينية. وهذا لأن إطار الحضور والغياب هو العالم، ولأنه يبدو أن فُرَص الديمقراطية في كل مكان، بما فيها البلدان المركزية، مرهونة بتعمُّمها العالمي. الاشتراكية يمكن أن تُفهَم في هذا الإطار كضمان للديمقراطية لا تستطيع توفيره لنفسها من داخلها. وما ينزع إلى أن يكون استخداماً طقسياً اليوم، يعيش أكثر وأكثر في انفصال عن الوقائع والأفعال الجارية، هو الديمقراطية. هذا نذيرٌ بالخطر لا يبدو أنه يقرعُ سمعَ أحد. وهذا أخطر لأنه يدل على تبلّد أمام أسوأ المخاطر، وهي تأتي من الداخل وليس من الخارج، مثلما أتت إلى «اشتراكية الأمر الواقع» السوفييتية وتناسُخاتها المعلومة.
12.تنظر مقالتها:An Open Letter To My Friends Who Signed Philosophy for Palestine.13.تنظر مقالته: Even the Oppressed Have Obligations.
ولا تتمثل الأزمة أساساً في افتقار الديمقراطية إلى قوة الدفع محلياً وعالمياً، بل أكثر ما تقدمت الإشارة إليه من عدم قدرتها على الدفاع عن نفسها في مواجهة التيارات القومية واليمينية الفاشية، وما يبدو فوق ذلك من تواطؤها معهم في مواجهة العالم الخارجي، عالم أفريقيا والإسلام، عالم المهاجرين واللاجئين، عالم الجنوب العالمي. وظهر بقوة الاستعداد لقمع الأصوات المغايرة، أو حصر حقها في التعبير عن نفسها في ألّا تكون مغايرة، أن تُكرر ما يقوله الصوت المهيمن للغرب العميق. وهذا ظهر بجلاء كافٍ بعد حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، حيث أخذ يحل المونولوج (مناجاة النفس) محل الديالوغ (تبادل الكلام والأفكار مع الغير)، وتصعد القومية أو ما يعادلها من منازع قَبَلية مثل «الحضارة الغربية» محلَّ النقاش والديمقراطية. أزمة النقاش تسبق غزة بكثير، والمونولوج مكتوبٌ في المقاومة البنيوية العنيدة للأصوات المغايرة فعلاً، أصوات الغرباء والأصوات الغريبة. صعود اليمين القومي والديني مؤشر على أزمة الديالوغ وعلى صعود المونولوج، العقيدة الرسمية. حرب غزة كشفت فقط مدى الأزمة، وغياب التفكير فيها على المستوى الفلسفي. أمثال هابرماس وشيلا بن حبيب12 ومايكل والزر13 كتبوا على إيقاع الإبادة دفاعاً عن إسرائيل أو تنديداً بحماس، دون أن يتضمّن ما قالوه التزاماً بأي وعد للفلسطينيين، هذا ربما غير اجترار كلام معلوك عن حل الدولتين، كلام لم يعد يقوله صحفي يحترم نفسه، ومن باب أولى فيلسوف.
حلّان لأزمة الديمقراطية
هناك حلٌّ محافظ لأزمة الديمقراطية القائمة على المداولة العقلانية والحوار وحلٌّ تحرري. المونولوج هو الحل المحافظ، وربما الفاشي، الذي يراد إعادة فرضه باسم الحضارة الغربية أو الديمقراطية الليبرالية ذاتها أو التراث اليهودي المسيحي…، وهو لا يتعارض مع شكل مسقوف من الحوار، نعرف أن مونولوجات أنظمة العقيدة الرسمية نفسها لا تخلو من تنويعات منه. هذا الحلّ المحافظ عودة إلى القومية والعقيدة الرسمية، أي إلى الصوت الواحد، وإن بأسماء مختلفة. الحلُّ التحرري هو الذي يُدخِل الغائب، هي وهو، وهما، وهم وهنّ، العاقل والحي، النساء والرجال، المحرومين من الحقوق في بلدانهم، والمهاجرين واللاجئين، والملونين، والأنواع الحية، في التعبير والتمثيل، أي إلى الأصوات الثلاثة التي تستوعب الحوار وتتجاوزه، في أفق عالمي. لا تُحَلُّ أزمة الحوار والديمقراطية حلاً تحررياً إلا في أفق يتجاوز الغرب/ الشمال الحالي الذي ينزع لأن يحتكر الكلام ولا يجد غير نفسه مُحاوِراً لنفسه. الاشتراك، قيام مجتمع عالمي متفاعل ومُتبادَل الوجود، هو ما يفضّلُ الغرب الحضاري اليومَ العودةَ إلى المونولوج رفضاً له وخوفاً منه. يتصرف هذا الغرب المسيطر كأرستقراطية صاحبة امتيازات محافظة، ومستعدة لكل عنف حفاظاً على امتيازاتها. لا مجال للحق هنا، بل للامتياز وحده. امتياز الوجود وامتياز الدفاع عن النفس، مما تكرر حتى الغثيان تأكيده كحق لإسرائيل وحدها في حرب غزة، دون أن يسأل سائل نفسه: إن كان الأمر يتعلق بحق فهو كذلك لفلسطين، وجوداً ودفاعاً عن النفس، إذ ليس هناك من حق لا يكون عاماً؛ وإن لم يكن عاماً، فالأمر يتعلق بامتياز وليس بحق، مثلما هو في واقع الأمر. ونحن نعرف أن الدفاع عن النفس ليس حقاً في الحقيقة: إنه امتياز للأقوياء القادرين وحدهم على الهجوم، وحلم بعيد للضعفاء. وإن الوجود الوحيد المهدد فعلاً بالعدم هو الوجود الفلسطيني، بفعل تسليم الغرب الدوغمائي بأن ما تتعرض له إسرائيل من أخطار هي أخطار وجودية، وأن معاركها بالتالي معارك وجودية، يجب أن تنتصر فيها، وأن يتجنّد الغرب من أجل ذلك، كي لا تنعدم إسرائيل. هذه عقيدة عدمية، بالغة التطرّف، وتتوافق واقعياً مع فناء فلسطين وحدها.
14.تُنظَر هذه المقالة في بوليتيكو.15.تُنظَر مقالة سوزان نيمان: ميزان تاريخي ألماني مختل، مترجمة من قبل الجمهورية.نت ومنشورة فيها في يوم 12 تشرين الثاني 2023. تقول نيمان في مقالتها التي نشرت في الأصل في نيويورك رفيو أف بوكس: «ورغم أن إحصائيات الشرطة تظهر أن أكثر من %90 من جرائم الكراهية المعادية للساميّة يرتكبها ألمان يمينيون وبيض البشرة، إلا أن المسلمين وغيرُ البيض هم الفئة الأكثر استهدافاً من الحملات الإعلامية التي كلّفت الكثيرين وظائفهم».
هذا ليس استطراداً خارج الموضوع. ففلسطين هي مثال الغائب العالمي، الآخر الذي يُرَاد له ألّا يعبر عن نفسه وألّا يظهر ويحضر ويملك الكلام. وفي مواجهة فلسطين، يظهر الغرب كنظام وحدة وطنية وصوت واحد ومونولوج، يُذكِّرنا بـ «سورية الأسد». فيؤسَف على سياسات اللجوء، ويحال إلى قول أحد كبار القتلة في القرن العشرين، هنري كيسنجر، من أن ألمانيا أخطأت حين فتحت أبوابها للاجئين،14 ومعهم اللاسامية المستوردة (ما لا يقل عن 90% من أفعال تدل على اللاسامية في ألمانيا ليست «مستوردة»، نتاج محلي أصيل).15
16.المقالة المعنونة: المواقف الدولية بعد شهر من الحرب على غزة، متاحة هنا.
وقد تكون القطبة المخفية في عنف المساندة الغربية لإسرائيل إثر عملية طوفان الأقصى هي أنها أول حرب كبيرة في الشرق الأوسط بعد… أزمة اللاجئين، أي وجود ما يتجاوز مليون من القادمين الجدد، سوريين بخاصة، لكن كذلك فلسطينيين وعرباً، في أوروبا، وإرادة النخب السياسية تحجيم أي تطلعات سياسية وفكرية مختلفة، وهذا على خلفية عسكرة أوروبية متصاعدة إثرَ الغزو الروسي لأوكرانيا. فإذا صحَّ ذلك كانت إحدى جبهات حرب غزة هنا، في برلين بخاصة، ثم في باريس ولندن وغيرها، وكان العنف الغربي أوثقَ صلة بحراسة الغياب السياسي لهذا المليون الذي صار أحد أهم موضوعات السياسة في جميع البلدان الأوروبية المركزية في السنوات الأخيرة. لقد «باتت هناك أوانٍ مستطرقة واضحة ما بين الموقف الرسمي المنحاز لإسرائيل وتبنّي خطاب عدائي ومتشكك تجاه المهاجرين العرب-المسلمين من قبل التحالف الحاكم والحزب المسيحي الديمقراطي بطريقة أوضح وأكثر حدّية مما قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر)» بحسب مقال تحليلي لفريق تحرير الجمهورية.نت نُشر بعد شهر من حرب إسرائيل على غزة.16
غزة وأزمة العالمية
لقد بدأت هذه المقالة بالقول إن الديمقراطية وحقوق الإنسان والتضامن تشكل المثال السياسي التقدمي السائد في أوروبا. كانت. وهذا لأنه يبدو أن ما بعد غزة ينزع إلى أن يسجل قطيعة عميقة مع ما قبلها على مستوى المثل الفكرية، بالنظر إلى ما اتّسم به مَسلَكُ القوى الغربية من تعصب وسوقية في الانحياز لقوة إبادة عنصرية. ليس هذا شيئاً عارضاً تعود الأمور بعده إلى ما كانت، ويعود أمثال أولاف شولتز وإيمانويل ماكرون وجوزف بايدن (جينوسايدال جو)…، أو حتى منظرو التضامن الانتقائي هابرماس وزملاؤه، إلى الكلام على الديمقراطية وحقوق الإنسان والحضارة الغربية، كأنهم لم يقفوا إلى جانب الإبادة قبل قليل.
وما كان لغزة أن يكون لها هذا الأثر إلّا لأن ما يجري فيها هو التطرف والعدمية القصوى التي يتواضع داعش أمامها، وإلا لأن حالة اللا بديل سابقة لغزة، وبالعكس تبدو الحرب على غزة دفاعاً باسلاً عن اللابديل.
17.الترجمة الشائعة ليونيفيرساليزم هي الكونية، لكن الكلمة تبدو لي أصلحَ لمجال علم الأكوان، كوزمولوحيا، منها إلى ما يتصل بالإنسانية ككل في عالمها الواحد. أفضّل العالمية وأراها مُطابقة أكثر.
لقد أوصل الغرب الحديث والمعاصر العالمية (يونيفيرساليزم)17 إلى طريق مسدود، وأخذ يتراجع عمّا تحقق منها، عن صيغتها الحوارية، وما اقترنت به من مستويات من المساواة السياسية وحرية الرأي والتعبير. والراهن التحرري اليوم يقضي، بالعكس، أن ندافع عن العالمية الديمقراطية أو عالمية الحوار بفتحها على ما يتجاوز الحوار من أصوات الغائبين، لكي يكون عالمياً بالفعل لأول مرة. التشارك في العالم الواحد الذي نعيش فيه على قدم المساواة، وبما يعطي قضية البيئة أولوية عليا، هو ما نسميه هنا اشتراكية، وهو ما نراه مُحفِّزاً للمُخيّلة، وما يمكن أن يُخرِجَ العالمية من أزمتها الراهنة.
تَعدُّد الاشتراكية
18.تكلَّمَ عليها في المقابلة المُحال عليها فوق في الهامش 4. يعرف بيكيتي الاشتراكية التشاركية بنفاذ متساو «إلى التعليم والصحة، ونظام دخل أساسي (…)» ويرتكز تصوره على «عمودين رئيسيين: المشاركة في صنع القرار عبر تغيير النظام القانوني ونظام حوكمة الشركات؛ ثم ضرائب تصاعدية ودوران مستمر للملكية». لكن نطاق نقاش بيكتي أوروبي، فيما لا نرى نطاقاً للاشتراكية لا يكون عالمياً.
ولا تعني عالمية الاشتراكية صيغة واحدة موحدة للتطبيق في كل مكان على ما وقع في القرن العشرين: تأميم وسائل الإنتاج وإلغاء الملكية الخاصة، وتولي دولة حزبية القيام بذلك على هدي «نظرية علمية»، ما مهَّدَ لانفلات هذه الدولة من السيطرة الاجتماعية أكثر حتى من انفلات الرأسمالية، وما آل إلى خنق المجتمع وعدم دفاعه عن هذه الاشتراكية الفوقية وقت تضعضعت في ثمانينات القرن العشرين. تعني عالمية الاشتراكية بالأحرى رؤية لترابُط الأوضاع العالمية اليوم، ومركزةً للنضال السياسي والاجتماعي حول مقاومة ديناميكيات التغييب ومؤسساته وأجهزته، من التغييب السياسي بالمعنى المباشر، إلى التغييب الاجتماعي في صور الفقر والهامشية، إلى التغييب البطريركي للنساء، إلى تغييب البيئة والكائنات الحية، إلى تغييب البلدان الأضعف والأفقر، إلى المُغيَّبين بالتمييز العنصري، وبعلاقات استعمارية متعددة الأشكال. وبفعل تنوع صور الغياب وصِيَغه، فإن الاشتراكية تتنوع، لتتراوح بين أشكال العون المختلفة لمن هم أشد فقراً مثل نحو 90% من السوريين اليوم، إلى توسيع المشتركات والمشاعات العامة بحيث تعود بحياة أفضل على الشرائح الأقل موارداً، إلى اشتراكية توما بيكيتي التشاركية، إلى تقييد المواريث وغير ذلك.18 ومنها مقاومة الاستعمار والطغيان الدولتي أو الديني لأنها قوى تغييب، وصوت واحد. وليس منها حتماً إلغاء الملكية الخاصة، وما يقتضيه ذلك من وكالة إلغاء عامة، قد تلغي كل شيء لتبقى، أو تقيم نظام تجسس شامل على ما يملك الناس، وعلى ما يملكون ويفعلون ويفكرون. لكن لا يُستغنى عن نظام ضريبي تصاعدي يُفرَض على الثروات فوق مستوى معين للمنفعة الاجتماعية، ولا عن جهد عالمي لتجريم الملاذات أو الفراديس الضريبية والمستفيدين منها. الاشتراكية هي رعاية لاجتماعية المجتمع في عالمه الحي، ومنحازة نسقياً ضد المغيِّبين، وهم الدول أساساً في مجتمعاتنا، والرأسمالية أساساً في مجتمعات الغرب، والبنية الراهنة للنظام الدولي في كل مكان.
أياً يكن الأمر، فإنه لا يسع تصورات الاشتراكية غير أن تكون جمعية، نتاج تفاعل أوسع بين متكلمين وتجارب ومعارف، لا يُستغنى فيها عن المداولة الديمقراطية، لكن في انفتاح مستمر على الغائب. لا يمكن أن نتصور الاشتراكية دون ممارسة الاشتراك في تصورها ذاته، أي في العمليات التي تتمخض عن هذا التصور. الجماعات الاشتراكية مدعوة لأن تجسد في تكوينها وأفعالها تطلُّعها الاشتراكي.
وبتكوينها التعدُّدي والمتنوع، فإنه لا بد للاشتراكية بهذه الدلالة أن تكون منفتحة كذلك على الموارد والاستعدادات المحلية في مجال التكافل والتعاون وأفعال الخير، بما فيها ما قد تكون ذات منشأ ديني. فهي ليست خاتمة الأفكار، ولا نهاية التاريخ، ولا العقيدة العلمية المتفوقة على غيرها والوريثة الأخيرة لكل ما سبقها؛ وهي لا تبذر في مجال الأعراف والعادات، كما لا تفعل في مجال الموارد الطبيعية، فلا تهدر خبرات الناس واستعداداتهم المتكونة بيئياً وتاريخياً، ولا تعمل على إبدالها من فوق بشيء آخر جاهز مثلما فعلت، ففشلت، اشتراكية القرن العشرين. ليست الاشتراكية نظرية لمسح الطاولة والبدء من الصفر، بل هي أقرب إلى نظرية لعدم الهدر، وإن تكن كذلك دعوة عناية وعدالة تعمل على توجيه الموارد الطبيعية المادية والفكرية في اتجاهات أكثر عدالة وإنسانية ورعاية للعالم.
مركزية أوروبية مُقنَّعة؟
19.فكَّرَ هيوم في نفسه كنيوتن الفضاء الداخلي، يضع قوانين تجاذُب الأفكار وترابطها، وفكَّرَ كانط في نقده للعقل المحض بأنه يقوم بثورة كوبرنيكية تنقل مركز التفكير إلى الذات والحساسية الترنسندنتالية، ويصف إنجلس ماركس بأنه داروين التاريخ، ومعلومٌ بأن مؤلَّف الرأسمال كاتبَ مؤلف أصل الأنواع في شأن إهداء كتاب الرأسمال له.
وفي الختام قد يُثار تساؤل بخصوص عالمية المقولات الأوربية، الديمقراطية واليبرالية والقومية والاشتراكية ذاتها، وحقوق الإنسان، والتضامن، للتفكير في أحوال عالم اليوم التي نقول إنها تتدهور بفعل الموقع الامتيازي للغرب أو الشمال في عالم اليوم. أليس هذا ضرباً مقنّعاً من المركزية الأوروبية؟ هذا تساؤل وجيه، لا مناص من التفاعل معه. لقد تطورت العالمية في أوروبا قبل غيرها بفعل اقتران الثورات الفكرية والسياسية بثورات في العلم، أو ما كان يسمى «الفلسفة الطبيعية» (غاليليو وكوبرنيك، فنيوتن، ثم دارون أساسيون هنا)19 وبثورة جغرافية، وسَّعت المدارك واقترنت بأفظع الجرائم. هذا الحوار بين سجلّين، فلسفي وعلمي، فتحهما معاً على آفاق أكثر عالمية مما عُرِفَ في أي ثقافات أخرى. تبدو هذه الآفاق مغلقة اليوم، وليس هناك وعود إيجابية لأيّ كان، لا في الغرب/ الشمال، ولا في غيره.
ومثلما تقدَّم، ليس لخيانة الغرب للقيم العالمية أن يدفع إلى التخلي عنها. بالعكس علينا أن ندافع عن هذه القيم التي لا منافس لها في النضال من أجل عالم أفضل. وليس هناك ما يمنع نقد المركزية الأوروبية والبناء على ما تحقق في أوروبا قبل غيرها وأكثر من غيرها من قيم عالمية كالحرية والمساواة وحقوق الإنسان وقابلية العالم للتحسُّن بجهوده. وليس هناك وجه بالمقابل للانتقال من نقد المركزية الأوروبية إلى إثبات الهامشية الأوروبية أو وضع أوروبا بين قوسين. ضد التبعية وضد القطيعة، الموقع الصحيح فيما نرى هو المثابرة على الفاعلية النقدية.
تريد أوروبا والغرب الحديث في آنٍ أن تُعمِّم عالميتها وأن تحتفظ بها لنفسها (مثلما يفعل الإسلاميون بالإسلام: يريدون للناس أن يُسلموا، لكنهم يُبقون طرف الخيط في أيديهم، فيحتكرون التكفير لأنفسهم، ولا يتركون الدين في أيدي الناس يمتلكونه ويتشاركون في ملكيته). هذا بمثابة استخدام العالمية لاستتباع الغير وللمصلحة الأنانية المُملاة من طرف واحد. وهو ما يُثير مقاومات مشروعة متنوعة، نرى حلقة متقدمة عالمياً منها اليوم بموازاة الصراع في غزة.
إلى ذلك، وراءنا تاريخ كاف للتشكُّك في نفع نقد الغرب على أسس أصلانية، قومية ودينية، أو على أساس من اشتراكية القرن العشرين الدولانية ذات الصوت الواحد. الأصلانيات بأنواعها هي ردود فعل على الوجه الانتهاكي والاستعماري للمركزية الأوروبية، أي هي تطرّف معاكس، فلا تصلح بديلاً لها. ما قد يظهر من بديل أصلح يمرّ حتماً بنقد الأصلانية والمركزية الأوروبية معاً. ومثلما سبق قوله بخصوص نقد الديمقراطية من موقعين فاشي واشتراكي، فإنه يمكن نقد العالمية الراهنة من موقعين، قَبَلي، وإنساني تحرُّري.
وجوهر نقاشنا هنا يشابه ما تقدَّمَ قوله عن العلاقة بين الاشتراكية وكل من الديمقراطية والليبرالية. ليست الأولى انبساطاً للثانية والثالثة، بل هي بمثابة موجة تاريخية مغايرة، تتفاعل مع ما سبقها، وتعمل على استيعابها. وبالمثل لا يسع عالمية جديدة، اشتراكية، ومفتوحة على الغائب، ألا تتفاعل مع صيغ سابقة للعالمية، دون أن يعني ذلك حتماً أنها نموُّها الطبيعي.
وأخيراً، لدينا تشكُّك أساسي في المَنَازِع المضادة للعالمية الغربية، ينطلق من أن العالم واحد، وهو مكسب مبدئي للجميع بقدر ما نعمل ضد ضروب التمييز والمساواة فيه. لقد حدث تاريخياً أنَّ الغرب هو ما قاد هذه الوحدة إلى اليوم، لكنه هو ما يقف دون استكمالها اليوم من أجل عالم أكثر عدالة ومساواة وحرية، وما يبدو حارساً للقَبَلية والامتياز عالمياً.
الاشتراكية على نحوِ ما هي مُقترَحة هنا يمكن أن تكون الرؤية الموجِّهة لعالم مضاد للامتيازات، يستكمل وحدته بنظام رفاه عام، يجري فيه تقاسم المكاسب والخسائر، ويتجه نحو المساواة الحقوقية والسياسية لجميع البشر، وحظوظ أفضل للأكثريات المحرومة، وتُعطَى الأولوية فيه لاستمرارية الحياة والبشرية والحياة ككلّ على الكوكب.