تاريخ: مفاصل زمنية وسجلّات ثقافية وسياسية


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 7854 - 2024 / 1 / 12 - 00:03
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

ارتبط التيار الرئيسي في الفكر والثقافة العربية المعاصرة بتاريخ بالحروب مع إسرائيل أو أميركا بصورة خاصة. أعوام 1948، 1956، 1967، 1973، 1982، 1991، 2003، 2006، 2008-09، وحروب غزة المتواترة، وصولاً إلى الحرب الراهنة منذ نحو 100 يوم. وأفضت هذه الحروب التي خسرناها بتفاوت إلى انفعالات جمعية حادة، وإلى تغيرات في التفكير والحساسية كبيرة، بحيث يتعذر التأريخ للفكر العربي المعاصر بدونها. والإيقاع السريع لهذه الحروب، واحدة كل عقد أو أقل، لا يسمح جدياً بنشوء تيارات فكرية وأدبية وفنية ناضجة، وإن لم يتعارض مع إبداعات متنوعة، ظلت في العموم فردية. وغير ذلك اصطبغت نتاجاتنا باكتئاب عميق، بحسب الأكاديمي المغربي نوري غانا، في كتاب حديث مهم بالانكليزية
MELANCHOLY ACTS, DEFEAT AND CULTURAL CRITIQUE IN THE ARAB WORLD
بفعل الخسارات التي تمخصت عنه هذه الحروب.
على أن هناك تتابعاً آخر من التواريخ يحوز طاقة تفسيرية مهمة لأحوالنا الراهنة، وإن لم يُعنَ به التيار الرئيس في الثقافة العربية، تتابع يحيل إلى صراعات اجتماعية وسياسية داخلية وانقلابات وثورات وحروب أهلية: 1952 ("ثورة" الضباط الأحرار في مصر)، 1958 (ثورة في العراق ووحدة سورية مصرية وحرب أهلية قصيرة في لبنان)، 1961 (انفكاك الوحدة السورية المصرية، وقد شهدت اعتقالات وتعذيباً مفرط القسوة للشيوعيين في البلدين)، 1962 (استقلال الجزائر)، 1963 (انقلابان بعثيان في سورية والعراق)، 1970 ("أيلول الأسود" في الأردن، موت جمال عبد الناصر، انقلاب حافظ الأسد في سورية)، 1975 (بدء الحرب اللبنانية)، 1976 (التدخل السوري في لبنان ضد الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية، ومذبحة تل الزعتر)، 1979 (الصلح المصري الإسرائيلي، احتلال الحرم المكي من جماعة جهيمان العتيبي السلفية الفائقة، مجزرة مدرسة المدفعية في سورية)، 1980 (محاول اغتيال حافظ الأسد، مجزة سجن تدمر، واعتقالات واسعة لإسلاميين ويساريين، بدء الحرب العراقية الإيرانية)، 1981 (قصف إسرائيل للمفاعل النووي العراقي، اغتيال أنور السادات)، 1982 (مجزة حماه في سورية)، 1983 (تأسيس حزب الله اللبناني التابع لإيران)، 1987 (الانتفاضة الفلسطينية الأولى، اغتيال حسين مروة ومهدي عامل، اعتقالات متجددة في سورية)، 1989 (انقلاب عمر البشير في السودان، اتفاق الطائف في لبنان)، 1993 (اتفاق أوسلو)، 2000 (موت حافظ الأسد وتوريث ابنه)، 2005 (اغتيال رفيق الحريري ومقتل 22 آخرين في بيروت، حركة كفاية في مصر، إعلان دمشق في سورية، حركة 18 أكتوبر في تونس)، 2010 (الثورة التونسية)، 2011 (ثورات في مصر وليبيا واليمن والبحرين وسورية، وسقوط بن علي ومبارك والقذافي وعلي عبدالله صالح، تدخل إيراني مبكر في سورية)، 2013 (تدخل علني لحزب الله في سورية، ظهور داعش، انقلاب السيسي، المجزرة الكيماوية الكبيرة في الغوطة الغربية والشرقية، الصفقة الروسية الأميركية لنزع سلاح النظام الكيماوي دون نزعه)، 2014 (تدخل عسكري أميركي في سورية والعراق)، 2015 (تدخل عسكري روسي في سورية)، 2016 (تدخل عسكري تركي في سورية)، 2019 (انتفاضات في العراق ولبنان والجزائر والسودان...). هذه قائمة بعيدة جداً عن الكمال، متمركزة مشرقياً، يحتاج المرء إلى تسمية ما جرى في كل مفصل زمني منها، لأنها ليس عربية عامة. وتأثيرها بالتالي بقي محصوراً في هذا البلد أو ذاك، غير معروف بقدر كاف خارجه أو غير معروف إطلاقاً. ولذلك فقد يكون الأولى وضع قوائم خاصة كل بلد، لأن أكثر ما يحدث في بلد بعينه لا يكاد يكون مؤثراً مباشرة في غيره، وقلما يكون معلوماً لغير المهتمين.
هذان نسقان من التواريخ متمايزان تماماً، ينفتحان على سجلين مختلفين من التفاعلات النفسية والفكرية. البطل في النسق الأول هو التحالف الأميركي أو الغربي الإسرائيلي، الذي هزمنا كعرب مراراً. البطل في النسق الثاني هو الدول في مجالنا، وقد طورت لنفسها قدرات غولية، وهزمتنا كمجتمعات مراراً. وبين سجلي مفاعيل النسقين تراتب بحسب التيار الرئيسي، يعلي من شأن الأول، العام والقومي، على الثاني، المحلي أكثر، وهذا مصدر توترات وعدم فهم تشاهد الآن عينات متكررة منها مع التهاب المشاعر بفعل حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة وفلسطين بعامة. يراد تغليب السردية الرئيسية على السرديات المحلية، وإغفال ما يتصل بصراعات اجتماية داخلية، ويجري التراجع عن خطاب الربيع العربي المركب، نحو خطاب قومي أو إسلامي، لا صوت يعلو فوق صوته.
وقد يمكن إضافة نسق ثالث من المفاصل الزمنية، وسجل ثالث يتصل هذه المرة بفاعل سياسي أخذ بالصعود في مصر منذ الخمسينات، وفي سنوات لاحقة في غيرها، الإسلاميون، أشرنا إلى حلقات قليلة منه فوق. وهذا تاريخ اضطهاد واستبعاد بالغ العنف من جهة، لكنه تاريخ انتقامات إرهابية عشواء بالغة العنف بدورها، وهو تاريخ تضعضع وهزيمة المعارضات العربية بفعل الاستقطاب الدولتي الديني الحاد. ولا يبدو أن دائرة العنف استقرت على قاعدة مقبولة إلى اليوم، بعد عقود من الصراع، بما فيه سنوات ما بعد الثورات، ووصول الإسلاميين إلى الحكم في بلدان، قبل أن يُنقلَب عليهم، وتحقق سلطات محلية لهم في سورية، بعضها مستمرة إلى اليوم.
وهذا كله هلى الصعيد السياسي. لم نتكلم على صعيد الاقتصاد والتحولات الكبيرة التي جرت في كل الدول العربية، بمبادرة من نخب الحكم، أو بفعل انهيارات الدول، أو بأثر التغيرات الدولية؛ ولا على التغيرات الإيديولوجية ذات المنطلقات الدولية، ومنها بخاصة انهيار الشيوعية وما يشبه خروجاً كاملاً لفكرة الاشتراكية من التداول منذ نهاية ثمانينات القرن 20؛ ولا كذلك عن التحولات في تكنولوجيا الاتصالات، وآثارها على مستوى المعلومات والإعلام؛ ولا على تغيرات ديمغرافية منفتلة، دون سياسات ديمغرافية؛ ولا على تاريخ الأفكار والأدب والمثقفين...
هذا تاريخ، وهو كثيف، كثير المنعطفات، لا يسمح باستقرار اجتماعي ونفسي (وإن استقرت الأنظمة واستمرت طويلاً)، بل هو متوافق مع أزمة روحية دائمة لا تلوح منها مخارج قريبة. وهو بعد ذلك مركب تواريخ غير متزامنة وغير متطابقة، فلا تواقت تغيرات واحد من أنساقها تغيرات غيره. وخلال هذه السنوات الطوال التي تغطي وتزيد أعمار أكثرنا، كان أكثرنا في مواقع منفعلة: مقموعين، ممنوعين من الاجتماع والفعل، من التعبير، ومن السفر.
هذا إلى أن أخذ السد بالانهيار في مطالع العقد الثاني من قرننا.
لا نكون فكرة أقرب إلى الحقيقة عن واقعنا بإخضاع أحد هذه السجلات لغيره. هذا يعرفه المؤرخون، لكن يتعين لقدر من الحس به أن يكون مكوناً لحسنا السليم، إن كان لنا أن نتجنب تراتبيات وتنافسات عقيمة، ونطور إدراكاً لتركيب واقعنا وتوقعاتنا وهوياتنا.
لا وجه للتقليل من شأن سجل الأفعال والانفعالات الرئيسي أو "القومي"، ما يتصل بفلسطين وبالاعتداءات الإسرائيلية والغربية، بخاصة على العرب من مواطني من بلداننا (إذ ليس الجميع عرباً، والتفاعل يختلف). لكن ليس للعرب كذلك أن يكونوا قبيلة بقضية واحدة، لا تعنيهم قضايا الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحرية الاعتقاد والمخيلة وإنتاج المعتقدات الجديدة، وما يعني مواكنيهم من غير العرب من هواجس وتطلعات. فإذا كان لسياستنا أن تكون واقعية تحررية، تنطلق من الواقع لتغييره، فهي مدعوة لأن تحيط بتعدد أبعاد تاريخنا، وببناء إجماعات متناسبة مع حقول الصراع المختلفة. فما قد يحظى بإجماع نسبي من نوع ما هنا هو عنصر شقاق وتنازع وحرب أهلية هناك. سورية في هذا الشأن وكثير غيره أبرز مثال، لأنها عقدة قضايا (قومية وديمقراطية وإسلامية...). تسييد انفعالات بعينها يفضي كل حين إلى إثارة انفعالات مضادة، عدائية، تترك الجميع مريرين مستنزفين.