في سؤال الذات السياسية: مناقشة أخرى لبرهان غليون


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 7686 - 2023 / 7 / 28 - 16:50
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

مما يسوغ الاشتباك مع أفكار الدكتور برهان غليون، غير اعتبار شخصي ذكرتُه في آخر مقالتي السابقة هنا، أن الرجل اعتنى خلال نصف قرن بقضايا فكرية وسياسية، يعين النظر النقدي فيها على ربط تفكيرنا بتراثه الأقرب من جهة، وعلى تمفصله بصورة أفضل مع شروط اليوم المتغيرة من جهة أخرى، ولعله يساعد كذلك في معاكسة مسلك مستقر في أوساطنا، عدم التفاعل والنقاش فيما بيننا، أو الاقتصار على تفاعلات عدائية، تحول دون أن يكون لتفكيرنا المعاصر ذاكرة وتاريخ.
في هذا التفاعل الثاني مع كتاب غليون، "سؤال المصير"، ننظر في الذات الضمنية في قصة صراع المصير التي يرويها الكتاب. هذه الذات هي العرب، وهي ضمنية ليس لأنه غير مصرح بها بدءاً من العنوان الفرعي للكتاب بالذات: "قرنان من صراع العرب من أجل السيادة والحرية"، ولكن لأن المؤلف لم يعمل على تسويغ اختياره، بل ولا يبدو الأمر اختياراً فكرياً: ذاتية العرب السياسية تظهر كمعطى بديهي لا يحتاج إلى تبرير. والحال أن الأمر يحتاج إلى تبرير، أن يطرح ويناقش ويفكر به، لأن العرب موجودون في صورة أو صور (جماعة لغوية وثقافية بصورة ما)، وغير موجودين في صورة أو صور أخرى منها بالتحديد الذات أو الجماعة السياسية، ولأن ما يصح على "العرب" قد لا يصح على السوريين أو المصريين أو العراقيين أو غيرهم، والعكس صحيح. ثم لأن الثورات العربية تثير سؤالاً عما إذا كان يمكن الاستمرار في الكلام على العرب اليوم مثلما كان ممكناً قبلها. والحال أن الثورات في تتابعها الشبيه بالعدوى تثبت في آن وجود جسم عربي من نوع ما، تنتقل فيه انفعالات وتفاعلات بصورة تفاضلية تميزه عن غيره، ثم إنها كعمليات اجتماعية كلية عميقة وبالغة الشدة، توجه الأنظار نحو البواطن المختلفة لهذه المجتمعات وتظهر تعددها الكبير المقموع بدرجات متفاوتة، على نحو لا ينحل في مدرك عرب وعربي. سورية هي فقط المثال الأبرز، لكن ليس الوحيد بحال. لقد حرك الثورات طلب المحكومين المتنوعين للكرامة، لأن يكون لهم شأن في بلدانهم، وقد كان موجهاً أساساً وحصراً ضد نمط ممارسة السلطة، على نحو يسوغ ترجمته بلغة سياسية مباشرة إلى المواطنة.
ويبدو أنه كلما اقتربنا من النضال السياسي والاجتماعي والحقوقي، عملنا في أطر وطنية محلية، وكلما انشغلنا أكثر بإطار عربي كنا "قوميين"، ربما نناضل ضد الاستعمار والصهيونية، لكن لا تكاد تعنينا الصراعات من أجل الحقوق والوجود السياسي وأوضاع الأقليات في بلداننا. القومية العربية "اخترعت" عرباً لا يتفردون، لا يخوضون صراعات اجتماعية وحروباً أهلية. كان هذا اختراعاً فعالاً، ببعد نضالي مهم، رأى كثيرون العالم وفقاً له، لكن زمنه أخذ ينطوى بعد جيل من الاستقلال بفعل مزيج من تحقق الاستقلال، ومن الفشل في استكمال ما لم يتحقق، بخاصة في مواجهة المحتل الإسرائيلي والتبعية المتجددة لمركز امبريالي كان جديداً بدوره: الولايات المتحدة.
منذ سبعينات القرن الماضي، أخذت القومية العربية تنحل إلى دول عاتية بلا قضية أو مبدأ، وإلى طلب على قضية أو مبدأ انعقد أساساً على "الإسلام"، ونتجت عنه إسلاميات مسكونة بطلب السلطة، بينما وجد لفيف من مثقفين يساريين وقوميين في "التراث العربي الإسلامي" حقلاً لعملهم. الرابط عربي- إسلامي بدا ركيزة للمنازع الاستقلالية التي أجهضت سياسياً للتو، وترجمة لحس بالواقعية بفعل ذلك الإجهاض. في هذه الأجواء نشر مثقف سوري شاب في مطالع ثلاثينات عمره كتاباَ صغيراً أثار اهتماماً كبيراً في وقته: بيان من أجل الديمقراطية (1978). الكتاب مكتوب بحمية ونفس شعبوي حار، لكنه كان لا يزال على أرضية ماركسية واشتراكية، يستدعي مفاهيم من نظرية التبعية، ويعول على الطاقات الثورية للجمهور الشعبي. وبعده بسنوات قليلة دانت الهيمنة ضمن النخب المضادة لفكرة الديمقراطية، على نحو يضاهي هيمنة الفكرة الاشتراكية بين خمسينات القرن الماضي ومطالع ثمانيناته. وصارت الديمقراطية البند الأساسي في تعريف منظمات وتحالفات سياسية، منها منذ أواخر السبعينات "التجمع الوطني الديمقراطي" في سورية، وقد جمع بين شيوعيين وناصريين ويساريين قوميين عرب أو قوميين عرب يساريين. كان غليون القريب من هذا الجو الفكري السياسي في باريس منذ سنوات يكمل دراسته العليا.
نقطة الضعف الوراثية في تكوين المجموعات الديمقراطية السورية تتمثل في أنها لم تطور مفهوماً مطابقاً للجماعة السياسية المعنية بالديمقراطية أو التي يفترض بالديمقراطية أن تكون مطلبها ووعيها الذاتي. لقد ورثنا تصور الجماعة السياسية وراثةً عن ذلك الجو القومي اليساري الذي ظهر في سبعينات القرن العشرين. إنها... العرب. الواقع أنه كان يجري الكلام على الشعب السوري في وثائق "التجمع" وعلى السوريين والنظام السوري وعلى مطالب اجتماعية وسياسية وحقوقية، ما يدل مجدداً على أنه كلما اقتربنا مما هو سياسي، كنا اجتماعيين ومحليين أكثر. لكن هذا حدث دون شغل فكري يميز الجماعة السياسية التي يخاطبها الديمقراطيون بأنها السوريين الذين كان من شأن تعريفهم كجماعة سياسية معنية بالديمقراطية أن ينكب على إظهار تعددهم وانقساماتهم متعددة المستويات ومنازعاتهم ومطالبهم المتناقضة والحرمانات المختلفة لمجموعاتهم، والنظر في سبل صنع شعب منهم. لا ريب أنه حالت دون ذلك الأوضاع السياسية في البلد، وإيغال نظام حافظ الأسد في سياسة القوة الوحشية. لكن التناقض بين هيمنة فكرة الديمقراطية وبين تصور فوق وطني للذات السياسية لم يكن موضع تفكر ووعي، وهو ما حكم بالتهافت على محصل سياسة الديمقراطيين.
هذا التناقض في تكوين الديمقراطيين السوريين يسري في أعمال برهان غليون إلى اليوم، ويشهد على ذلك كتابه الأخير. الذات في الكتاب هي العرب، وبارتكاز إسلامي انشغل غليون بالدفاع عن أهليته الحضارية والإنسانية. لكن العرب ليسوا إطاراً للمواطنة والديمقراطية و"الحق في الحقوق" (وقد رهنته حنه آرنت بالارتباط بجماعة سياسية، وأسست نقدها لفكرة حقوق الإنسان على هذا الأساس)، ليسوا جماعة سياسية أو شعباً. حيث تكون المواطنة والحقوق منطلقنا يقتضي الأمر الشغل على هذا البلد أو ذاك، والنظر في عوالمه المتعددة وتمزقاته، وبالعكس حيث فكرنا في البلد أو ذاك كجزء من متعدد أكبر، عربي، فإننا نتحدث عن "تقدم" (خصص له غليون خاتمة كتابه) أو استقلال وتحرر وسيادة، أي في أفق قومي وليس ديمقراطياً.
يبقى أنه ليس ثمة صلة بين تعريف الجماعة السياسية بدولنا القائمة، لا بإطار عربي أوسع، وبين ثنائية "قطري" مقابل "قومي"، أو سورية أولاً أو مصر أولاً... مقابل العروبة أولاً. يتصل الأمر بالأحرى بأولوية الديمقراطية، أي بالتحول نحو الدولة الاجتماعية و"الوطنية الدستورية" (التعبير لهابرماز). هذه الدول القائمة مرشحة هي ذاتها للانهيار دون حدوث تحول أساسي في نمط ممارسة السلطة باتجاه أكثر اجتماعية ودستورية، وسورية هي المثال الأبرز. ليس هذا لأنها صارت أقل عروبة، أو أحلت حضناً غير عربي محل "الحضن العربي"، بحسب عبارات بشار الأسد، ولكن لأنها دولة فئوية وغير اجتماعية، متمركزة حول دوام حكم الفئة الحاكمة إلى درجة تأجير البلد لدولتين قوميتين متشددتين، استعماريتين بكل معنى الكلمة: إيران وروسيا. المسألة اليوم، وبالأمس، هي حقوق السكان وامتلاكهم هم لبلدانهم، ليست مسألة قومية ولا مسألة دين.