في بعض الجذور الانفعالية لتوحشنا


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 7755 - 2023 / 10 / 5 - 18:55
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

ترى، ما هي نوعية الانفعالات التي دفعت إلى المجزرة الكيماوية في آب 2013؟ ما الانفعالات التي كمنت وراء اختراع البراميل المتفجرة تلقى من حوّامات فوق مناطق مدنية آهلة بالسكان؟ أي انفعالات خلف تنظيم صناعة تعذيب واغتصاب دؤوبة في المقرات الأمنية؟ وأي انفعالات وراء ظهور كائنات دينية سياسية متوحشة، مثل داعش أو جيش الإسلام أو جبهة النصرة، تعذب وتقتل وتغتصب وتسرق وتكذب؟
لقد ظهرنا كمجتمع متوحش، خارج عن السواء الإنساني، تستبيح قطاعات واسعة منه مشاعر عنيفة الكراهية والنقمة وعدم الاحترام. هذه ربما من بين أبرز الانفعالات المنتشرة في اجتماعنا خلال العقود الأخيرة، وهي توافقت مع أطر اجتماعية راعية لهذه الانفعالات، أبرزها الطائفية. بالمقابل انزوت أو غابت انفعالات الخجل والإشفاق والاحترام والعطف والرفق، ولم تنشأ من أطر اجتماعية يمكن أن تحضن مثل هذه المشاعر.
ليس الأمر جديداً، ولا هو لاحق للثورة السورية التي هي بالفعل ثورة انفعالات هائلة. يمكن العودة إلى الوراء، إلى سجن تدمر الذي كان سجن تعذيب يومي عشوائي لنحو عشرين عاماً، ما يدل على انفعال كراهية متمكن وصبور. وقبله إلى مجزرة المدفعية عام 1979، وقد استهدفت شباناً علويين غافلين، لم يكونوا مسؤولين عن أي جريمة. وقبلهما ربما إلى مجزرة تل الزعتر، أو أبكر إلى بدايات الحكم البعثي وتعامله مع من حاولوا الانقلاب عليه من ضباط ناصريين، أو مع إسلاميين اعتصموا في جامع السلطان في حماه عام 1964.
قد نجد أمثلة أبكر بعد، من عهد "الوحدة" وقبله، لكن يبدو أننا سرنا بعد العهد البعثي قدماً باتجاه ترسخ انفعالات عدائية سارت يداً بيد مع عنجهية السلطة، وبخاصة مع دوامها المديد في الحقبة الأسدية. الفارق الحاسم بين الحقبة الأسدية وما قبلها يتمثل بالضبط في دوام خانق، يغطي وحده أكثر من نصف كامل تاريخ الكيان السوري الحديث الذي ظهر بعد الحرب العالمية الأولى. قبل ذلك عرفت سورية تداولاً انقلابياً للسلطة، حال دون تراكم الانفعالات العدائية وتبنينها الاجتماعي، وإن لم يحل دون تولد هذه الانفعالات ذاتها حتماً. قاد ترسخ الانفعالات خلال 53 عاماً إلى جعل المجتمع السوري مثالاً للمجتمع المفخخ القابل للانفجار بسهولة، مثلما حدث بالفعل مرتين، أعقبت الأولى حكم حافظ بنحو عشر سنوات والثانية حكم بشار بنحو عشر سنوات كذلك. يمكن التفكير في المجتمع المفخخ كمجتمع مخترق على نطاق واسع بأجهزة المخابرات والمخبرين، على نحو يؤدي إلى دمار عظيم إذا تمرد على حاكميه. لكن يمكن التفكير بالتفخيخ كانتشار للانفعالات العدائية في الجسم الاجتماعي، تؤهب لمسلسل من التدمير الذاتي إذا وقع تمرد اجتماعي. وفي الحالين هناك دور قيادي للدولة في التفخيخ، إن بالأجهزة التي تعمل بالخوف والكراهية والبذاءة وعدم الاحترام وتنشرها، أو بالطائفية كنظام اجتماعي للكراهية والنقمة والاحتقار، أو بالعيش طوال عقود في بيئة انفعالية كهذه.
وأكثر من تغلب الانفعالات العدائية على الانفعالات الإيجابية، فإن الانفعالات المتبنينة تضعف "العقل"، اللغة المشتركة التي يمكن أن يتفاهم على أرضيتها أناس مختلفون. اجتماعنا السياسي تطور في الحقبة البعثية والأسدية في اتجاه لا عقلاني، بل نازع للعقل، إن عبر توليده انفعالات ومشاعر سلبية، أو عبر الحيلولة دون التعبير العلني عنها بما يساعد في تصريفها. وهو اجتماع نازع للعدل كذلك بتغذيته عبر تلك المشاعر السلبية منازع التطرف والعنف. لدى سورية استعداد تطرفي سابق للحكم البعثي، تشهد عليه بصورة ما تجربة الوحدة مع مصر، لكنه تمأسس هو الآخر في الحكم البعثي، وبخاصة في الحقبة الأسدية، التي قامت على حكم الفرد المطلق طوال ثلاثين عاماً، ثم على حكم السلالة والطغمة خلال 23 عاماً من حكم الوريث. وفي هذا ما يحول دون ظهور معتدلين وعادلين، إلا ربما كأفراد حسني النية هنا وهناك. الأكيد أنه لا تظهر حركات وأطر اجتماعية للعدالة والاعتدال، ولا للعقل والتعقل.
نحن هنا بعيدون عن الدولة التي هي تجسيد للعقل والعمومية، مثلما رأى هيغل يوماً، ومثلما عول تيار رئيس من العلمانيين والتنويريين السوريين والعرب. الدولة هي منبع الانفعالات العدائية واللاعقل هنا، والمجتمع المستباح يفتقر إلى قوى عاقلة عادلة تبث فيه روح الثقة والتضامن والتجرد والفضيلة العامة.
وإنما لذلك من المستغرب أن فكرة العقل تُطرح بصورة شبه حصرية في سياقاتنا في تقابل مع السحر والأسطورة والعرفان كتعبيرات عن اللاعقل. هذا تصور موروث عن التنوير الفرنسي بخاصة، ولا يطابق مساحات اللاعقل في بيئاتنا الاجتماعية الثقافية.
أولى هذه المساحات منذ عقود هي هذه الانفعالات الحادة الوثابة في انبثاقها من شروط اجتماعية وسياسية وجيوسياسية غير متحكم بها، وفي تمفصلها مع الثقافة والهوية أو تمثلاتهما السائدة. صور العربي الغاضب والمسلم الهائج بسبب صورة هنا ورواية هناك تقول إننا كائنات منفعلة جداً، لا فاعلة ولا متفاعلة، ولا من باب أولى عاقلة متحكمة في نفسها. التشكل البافلوفي لنفوسنا بحيث ترد على المهيجات بهياج ودون روية مفتوح فقط على مزيد من البافلوفية والسطحية النفسية والروحية، على نحو يسمح ربما بهندسة ردود أفعالنا في هذا الاتجاه بوعي من قبل من لهم مصلحة في ذلك. على وسائل التواصل الاجتماعي هناك بلا شك من يعملون بوعي على تغذية الكراهيات وردود الأفعال الهائجة عبر استفزازات مدروسة، انحبس كثيرون منا في ردود عليها من نوعها، فكانوا خير عون لأعدائهم.
ليس الانفعال بحد ذاته لا عقلانياً، فنحن كائنات منفعلة، لا تكف عن التأثر بما حولها، لكن الإنسان حيوان ناطق، أو عاقل، يتجاوز انفعالاته، يعقلها ويضبطها، ويحولها إلى أفكار ومعان تتناقل. المشكلة حين نبقى منفعلين فحسب، فالأنفس المنفعلة سطحية وضحلة وبلا كثافة، وإن تكن كثيرة الجلبة، كأنها طبول معلقة على الأشجار في قصص "كليلة ودمنة": صوتها عظيم لأنها جوفاء.
الشكل الثاني للاعقل في بيئاتنا هو الإكراه. الإكراه مدمر إنسانياً واجتماعياً على نحو نعلمه من سيرتنا مع الدول القائمة، لكن يمكنه أن يكون أكثر تدميرية حين يقترن بالدين، كما نعرف كذلك من سيرتنا مع الإسلامية المعاصرة، وهذا فوق التعارض المفهومي بين الإيمان (وعائده من الأمان والأمانة) والإكراه (وعائده من الكراهية والذل). "المعتدلون" بين إسلاميي اليوم يريدون تطبيق الشريعة على الجميع، وليس فقط على أنفسهم، ما لا يمكن أن يعني غير انتهاك الضمائر وفرض رقابة حِسبوي شامل. أما المتشددون فيريدون تطبيق العقيدة بالأحرى باسم الحاكمية الإلهية، وفي التطبيق العملي يؤول الأخير إلى فاشية داعش، والأول إلى نظام نفاق معمم محروس بالتجسس. هذا لا يستقيم، بل هو يسوغ وصف الإسلامية المعاصرة بأنها ظاهرة إكراه، وليست ظاهرة هدى أو تقوى أو إيمان قلبي. ولما كان الناس يَكرهون ما يُكرهون عليه، فلن يقود الإكراه الديني إلى غير ما يؤدي إليه الإكراه السياسي من كراهيات متأججة ونوازع انتقام وعدم احترام الجميع للجميع. أي جنون اللاعقل والتدمير الذاتي.
بمنبعين فياضين للإكراه والانفعالات السامة، الدين والدولة، القوتين الأشمل حضوراً في الحياة العامة والخاصة لجميع الناس، لا يكون الكلام على عملية تدمير ذاتي مبالغاً فيه. ألسنا فيها سلفاً؟