-سؤال المصير- لبرهان غليون، عن علاقة الأفكار بالتجربة


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 7674 - 2023 / 7 / 16 - 17:39
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

يبدو السؤال الذي طرحه الدكتور برهان غليون على نفسه وهو يعمل على كتابه "سؤال المصير، قرنان من صراع العرب من أجل السيادة والحرية"، ضعيف الصلة بقدر مستغرب بالثورة السورية والثورات العربية. يشار إليها هنا وهناك، لكنها لا تبدو مختبرات للمعرفة والنظر وإعادة تفحص توجهاتنا الفكرية والسياسية. ويتضاعف الاستغراب بالنظر إلى أن الدكتور غليون كان مثقفا معروفاً على نطاق واسع في سورية، وله حضور نشط في النقاش الفكري والسياسي العربي قبل الثورة، وقام بدور سياسي بارز في العامين الأولين بعد الثورة السورية، كما بقي بصور مختلفة على قرب من الأجواء السورية المعارضة. ثم بصورة خاصة لأنه مؤلف كتاب يغطي ذينك العامين الأولين من الثورة السورية، مستنداً إلى مشاركته وخبرته الشخصية المباشرة: "عطب الذات، وقائع ثورة لم تكتمل 2011-2012."
كتاب "سؤال المصير" يبدو استئنافاً لأعمال غليون الأقدم، "اغتيال العقل" و"مجتمع النخبة" و"الوعي الذاتي" و"المحنة العربية" و"نقد السياسة"، دون أخذ زمن ما بعد الثورات بالاعتبار البحثي، وخصوصاً دون تفاعل يذكر مع مناقشات وأفكار استجدت تتصل بقضايا الكتاب. في كتابه الأحدث، يواصل غليون الاعتراض المحق على من يفسرون تعثر العرب ومشكلاتهم في العالم المعاصر بالمعتقد الإسلامي، ويصب ملامة التعثر بصورة خاصة على القوى الدولية النافذة، الغرب تحديداً، ثم على النخب السياسية في بلداننا، لكنه كذلك يخصص صفحات طوالاً لنقد المثقفين، دون تخصيص. ترى، أين الذات المعطوبة التي خصها غليون بكتاب حديث، يفوق حجمه ضعفي كتاب "سؤال المصير"، رغم أن موضوعه تجربة عامين وليس صراع قرنين؟ الذات المعطوبة تحيل إلى مثقفين وسياسيين ومناضلين سوريين عرفهم غليون شخصياً أو تعرف عليهم وتعاون معهم، ويبدو أنه يأخذ عليهم فقدان حس العمل العام، وفقد الثقة ببعضهم، وانعدام الحس بالمسؤولية، ونزعة الانقسام والتسلط والحزبوية الضيقة وغير ذلك. وهم موزعون على تيارات يسارية ويمينية، علمانية وإسلامية، ليبرالية وقومية. أين هذه الخبرة المهمة في الكتاب الجديد؟ ليست موجودة بكل بساطة. وهذا مشكلة في كل حال، وبخاص من مؤلف كان نوه بدور التجربة الحية في التفكير في "اغتيال العقل" (1985)، وقت كانت أوسع قطاعات المثقفين السوريين والعرب تضع التجربة بين قوسين لمصلحة مرجعيات نصية معصومة أو تكاد.
صحيح أن كلام غليون على التجربة الحية لم يتطور إلى جهد لتدقيق وإغناء مفهومي، إلا أن كتاباته تحلّت دائماً بضرب من الحس الواقعي عوّض بقدر ما عن اهتمام محدود بالتفاصيل، محدودية تظهر بقوة في هذا الكتاب الجديد. من ذلك مثلاً أن حرص الدكتور غليون على نفي أن يكون الإسلام معيقاً للحداثة يدفعه إلى التأكيد أنه لم تحدث أي مشكلات في استقبال العرب والمسلمين للمستحدثات التكنولوجية والتنظيمية والسلوكية القادمة من الغرب. هذا غير صحيح (غليون نفسه سيذكر اعتراضات الإخوان الوهابيين على بعض المستحدثات في أيام عبد العزيز في السعودية)، وهو غير لازم لدعم قضيته التي يمكن صوغها في صورة أكثر تدقيقاً بأن ما حدث من مقاومات كان تراجعياً، وندر أن تشكل في حركة اجتماعية قبل جيلنا الحاضر، وأن مثله متوقع في مجتمعات وثقافات لها ذاكرة وحساسية وكيان، وشوهد مثلها في بلدان متعددة، بما فيها بلدان الغرب نفسها وإلى اليوم (قضايا الجندر ومجتمع الميم، وما يتصل اليوم بالذكاء الاصطناعي والبيولوجيا التطورية)، وتسببت بقلاقل وصراعات. كان من شأن ذلك أن يعطي حساً بالصراع غاب من كتاب غليون، رغم اقتضاء أسلوبه الدرامي في الكتابة لذلك الحس.
ثم أنه لم يعد هناك وجه اليوم، وبعد كل ما جرى في سورية، للمثابرة على شد النقاش إلى الإسلام كعقيدة ودعوة دينية، بينما رأينا الإسلاميين وقد صاروا سلطة، بل سلطات، لا تقتصر على داعش، وكانت علاقتها بمعارضيها، بل بمجرد المختلفين عنها، إبادية مثل الحكم الأسدي. لقد توسعت سلطات دينية في بلدنا حيثما تسنى لها على حساب المجتمع، جاعلة من نفسها قاضية ومنفذة ومشرعة، حتى صار شرعيو هذا التشكيل الإسلامي أو ذاك قوة اغتيال وتغييب وقتل إلى جانب أمنييه، فيما يبدو ترجمة لثنائية إسلامية أقدم: دين ودولة، مصحف وسيف، سلطة ودعوة... إلخ. لماذا هذا الجانب من الواقع يغيب من التحليل، بينما كان من شأنه نقل النقاش إلى ما يتجاوز الدفاع عن الجدارة الإنسانية والحضارية للمسلمين إلى حياة الدين في المجتمع في شروط تاريخية عينية؛ ولعله كان من شأن هذه النقلة أن تظهر أن الدين، الإسلام أو غيره، نتاج للمجموعات التي تنسب نفسها إليه، تُشكِّله بما يعود عليها بشرعية أعظمية، وإن وعت هي ذاتها الأمر في صورة وفاء لشكل ديني قديم، مماثل لنفسه ولا يتغير عبر الأزمنة والقرون.
إشارات الدكتور غليون المتكررة إلى انتقال الإسلاموفوبيا (ودون تعريف للمفهوم) إلى مجالنا مقلق. فنقد الإسلاموفوبيا في الغرب، حيث الإسلام أقلي وبلا سلطة، يسمي واقعاً بحاجة إلى اسم ويعترض عليه، فيوسع من طاقة الفكر والمجتمع على المعرفة والاحتجاج ويندرج في النضال من أجل المساواة. ولا يلعب نقل المفهوم إلى مجالنا، حيث الإسلام أكثري ومتعدد الروابط بالسلطة، حين لا يكون سلطة هو ذاته، الدور النقدي التحرري نفسه؛ بالعكس يمكن أن يسهم في إخماد مساع نقدية لا تتميز أصلاً بقوتها. أن نرفض اختزال مشكلاتنا الاجتماعية والسياسية إلى الدين شيء، وأن نرفض نقد الدين، الإسلام أو غيره، شيء آخر. هذا النقد لازم وحيوي، ولا يتحتم أن يكون نخبوياً وتمييزياً أو اجتراراً لمنازع استشراقية مثلما تعطي الانطباع حملة غليون المستمرة على منتقدي الإسلام.
إلى ذلك فإن الإسلامية المعاصرة من الركائز الفكرية للاستثنائية التي ينتقدها غليون بحق. فالإسلاميون هم من بين أبرز من يصادرون على تعارض جوهراني بين الإسلام والحداثة، فلا يقبلون (حين يقبلون) بغير مفهوم إجرائي للديمقراطية يردها إلى صناديق الاقتراع، فيما ترفضها أكثر تشكيلاتهم وتحرمها، وينكرون حريات أساسية بما فيها حرية الاعتقاد الديني للأفراد، ويصرون على خصوصية للإسلام ترفض صلاحية الإنسانيات والعلوم الاجتماعية لتناوله.
والاشتغال على هذه النقطة يفرض نفسه بقوة بالنظر إلى أن الثورة السورية خسرت كل القليل من التفهم والدعم الدولي الذي حظيت به في البداية منذ صعد إسلاميون عدميون في مراتبها عام 2012 وما بعد. نحن حيال تحولات واقعية، يجازف تفكيرنا بخسارة شرعيته إن تجنبها أو لم يشتبك معها. والمسألة مستمرة اليوم، ما يدعو إلى استمرار الاشتغال عليها، وإلى تفكير متجدد في قضية الديمقراطية التي كان الدكتور غليون من أبكر المنتبهين إليها والمؤلفين في شأنها.
سواء فهمناها كاسم مجمل للصراع الذي انفجر في آذار 2011 إلى اليوم، أو بدلالة معيارية بوصفها الجانب الأكثر تحررية وديمقراطية من هذا الصراع، فقد امتحنت الثورة السورية تفكيرنا وتكويناتنا الاجتماعية والنفسية والسياسية امتحاناً بالغ القسوة، لا يمكن القول إلا أننا تعثرنا فيه بصور مختلفة. كان هذا سؤالاً عن المصير والمعنى، مصيرنا نحن الكتاب والمثقفون والمناضلون السوريون من أجل الديمقراطية والعدالة. ولعله كان من شأن أخذ هذا الامتحان بالاعتبار أن يدفع نحو إعادة هيكلة التفكير من أجل إحاطة أفضل بالواقع المتغير، وبالتالي من أجل استقلالنا وتقرير مصيرنا بحرية. كان من شأنه كذلك أن يتوافق مع تواصل عمل الدكتور غليون بالذات، بما يدمج "عطب الذات" في مساره الفكري الممتد لما يقارب نصف قرن.
كان الدكتور غليون نجماً فكرياً هادياً لكاتب هذه السطور في سنوات الشباب وبعدها (أحد نجمين فكريين)، ولذلك بالذات يبدو لي التفاعل مع عمله الفكري بمثابة إعادة تفحص للسجل الشخصي، لقضايا وأطروحات، لأسلوب وحساسية، لتصور للعلاقة بين الفكري والسياسي، ما زلت شريكاً في بعضها، لكن مجادلاً كثيراً في بعضها الآخر.