ما يحدث في غزة يحدث في العالم


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 7825 - 2023 / 12 / 14 - 16:55
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

ما يحدث في غزة طوال شهرين وأسبوع يحدث في العالم. القتل العنيف والتدمير والحصار والإذلال والتجويع، والاستباحة التي تتجاوز حدود الإنسانية، كلها تحدث في العالم، في كل مكان من العالم. الدعم الغربي المتطرف لإسرائيل والفجور في الانحياز لنظام يجمع بين الاستعمار الاستيطاني والفصل العنصري والاستعداد الإبادي، يحدث في العالم، فيصنع وقائع وممكنات؛ وقائع سيئة وإجرامية تجعل الحاضر لا يطاق، وممكنات من نوعها، تصادر قطعة كبيرة من المستقبل. ثم أن "ما نفعله في العالم نفعله لأنفسنا"، على ما يقول إيمانويل وولرشتاين، في عبارة محكمة تتضمن امتناع الفصل بين أفعال التدمير الموجهة نحو الخارج وما يحدث في دواخل الأنفس والدواحل الاجتماعية من دمار. فإذا كان ما يُفعل في العالم هو الاستباحة والإبادة، وهو ما يجري فعلاً، فإن هذا يحدث في كل مكان، ليس لهم وحدهم، بل لنا كذلك، أياً يكونوا هم وأياً نكن نحن. يحدث للبيئة كذلك، فلا عدالة بيئية في أرض محتلة، بحسب ما قالت غريتا ثونبرغ، الناشطة البيئية الشهيرة، وهي أشد امتناعاً في أرض تعرضت لخمسة وعشرين ألف طن من المتفجرات خلال أقل من شهرين، ما يعادل نحو 12 كيلوغراماً للفرد الواحد في غزة، بما يجعل مساحات من القطاع غير قابلة للعيش، حتى لو توقف حرب الإبادة والتدمير الإسرائيلية اليوم.
وما يحدث في غزة يحدث في كل مكان لأن العالم أكثر تمازجاً من أي وقت مضى على مستويات متعددة: المعلومات والصور وتكنولوجيات الاتصال، فضلاً عن درجات متقدمة من الاختلاط البشري، وتماثل في النظم الاقتصادية. هذا التمازج بنيوي وغير عكوس، أو تستحيل معاكسته بغير عنف مهول يمزق ما صنعته تفاعلات طويلة الأمد، ليعيد إقامة العالم حول انقساماته وفوارقه السياسية والثقافية والدينية القديمة، على ما تسعى تيارات اليمين القومي والديني في كل مكان.
اليوم، لا يبعد أن يصير هذا المستحيل واقعاً، فالعنف المهول نراه سلفاً يمارس في غزة، ويمارس عنف خطابي ورقابي في بلدان الغرب، موجه نحو إعادة نصب حواجز ضد التفاعل العالمي. في الوقت نفسه تريد الحكومات الغربية أن تساهم في الحرب ضد غزة وأن ترفض وقف إطلاق النار على أهلها، ثم أن لا يكون ثمة رد فعل على ذلك. يبدو هذا مستحيلاً بدوره. وإلى اليوم لا يبدو العنف خياراً ممكناً لتحقيق هذا المستحيل، ليس في المجتمعات الغربية على الأقل.
ثم أن ما يحدث في غزة يحدث في العالم كذلك لأن فلسطين شأن عالمي بدلالة كون محتليها أبطال العالم في العالمية، وممن لا يكفون ليل نهار طوال السنوت والعقود عن الترويج لأنفسهم عالمياً. لقد عوْلم التحالف الأميركي والغربي الإسرائيلي فلسطين، نقلها معه إلى كل مكان، ما يعني استحالة معاكسة هذا الاتجاه دون فك التحالف نفسه. في هذا المساحة الصغيرة ينعقد ويتعقد صراع يعني مباشرة مليارين من البشر وأكثر، وبصورة غير مباشرة جميع البشر، فلا يمكن المبالغة في أن ما يحدث في غزة وعموم فلسطين يمكن أن يكون حاسماً في رسم مستقبل العالم ككل.
والواقع أن ما حدث في فلسطين منذ النكبة إلى اليوم يبدو مستحيلاً؛ هذا المسلسل من عذاب لا ينتهي أشد استحالة من أن يكون واقعياً، وهو ما شهدت عليه الطفلة الغزاوية المصابة التي كانت تلح في مساءلة مسعفيها عما إذا كان ما حدث لها حلم أم جدٌّ وحقيقة. مستحيل كذلك أن تجري تعرية وإذلال فلسطينيين أمام الكاميرات، وأن يعرض ذلك في إسرائيل وفي منابر إعلامية غربية كأمر عادي، بل كإجراء قتالي مشروع، دون أن يذكر أحد أن التعرية والإذلال كانت من أول ما يجري لليهود المجلوبين إلى معسكرات الاعتقال النازية. هذا ليس المثال الوحيد للقول إن إسرائيل التي ولدت، جزئياً على الأقل، من إبادة، وطورت حول تلك الإبادة مظلومية أصلية وفوق تاريخية لا تقبل التقادم، تستبطن بفعل ذلك بالذات إبادة، نراها بالفعل تنبسط أمامنا منذ عقود، وإن في إيقاع أبطأ من الإيقاع النازي العاصف. وليس بعيداً عن الإبادة المستبطنة في مشروع إسرائيل أن الطرف الآخر في إبادة اليهود، ألمانيا، لم تكن أقرب إلى ماضيها التوتاليتاري أكثر مما هي الأسابيع الماضية بعد "طوفان الأقصى". هناك اليوم ما يقارب عقيدة رسمية بخصوص إسرائيل يراد فرضها على الجميع.
لا يقتصر الأمر على أن ما حدث في ألمانيا أيام النازيين يعاود الحدوث في فلسطين، بل أن ما يحدث في الماضي يحدث في الحاضر أيضاً. الزمن يمضي، لكن التاريخ لا يتغير. وهذا أثر مباشر للفرادة الجوهرية للجينوسايد اليهودي، الهولوكوست، ولامتناع مقارنته بشيء آخر، أي لتعاليه على التاريخ، على نحو يجعله أصلاً دائماً مستمراً. فإذا انطلقنا من أولوية التاريخ على الزمن أو أن الزمن تاريخي، بدا لنا مضي الزمن مقاساً بالشهور والسنوات والعقود شيئاً سطحياً وغير حقيقي، وأن الزمن التاريخي في واقع الأمر لا يتغير، أنه أبد مثل الزمن السوري طوال أكثر من نصف قرن من حكم السلالة الأسدية. ليس الأبد زمناً فارغاً، أو زمن سرعة منتظمة يسير متهادياً؛ بالعكس، إنه زمن مراوحة في المكان لا تتحقق بدورها دون عنف مهول. عنف خطابي يقرر فرادة معاناة بعينها، وفرادة معنى مستخلص منها، كما عنف فيزيائي يميز احتكار أدواته إسرائيل أكثر ما يميز. وهما معاً، العنف الخطابي والعنف الفيزيائي، مما يميزان "سورية الأسد" منذ نشاتها مطلع سبعينات القرن الماضي.
على أن الميزة الجوهرية للأبد هي غياب الوعد العام. ليس هناك وعد للفلسطينيين بغدٍ مختلف إذا هم استسلموا اليوم. مشكلة الفلسطينيين هي وجودهم، ولذلك فإن استسلامهم السياسي لا يكفي. وفي الأصل بالمناسبة ظهرت حماس، وتظهر الإسلامية عموماً، بأثر افتقار مجتمعاتنا إلى وعود أرضية، والسعي وراء وعود سماوية بديلة. بل وليس هناك وعد للإسرائيليين بغير مزيد من القلق الوجودي في مواجهة أي تحديات سياسية وأمنية وديمغرافية، ومزيد من ترسيخها كدولة يهودية مسلحة، وما يبثه ذلك الصفاء من مزيد من القلق الوجودي ومن نوازع التطهير والإبادة.
ونعرف كذلك أنه ليس هناك وعد سوري عام من أي نوع. فقط ميراثية عائلية بحماية أجنبية.
ويبدو مركب الأبد واللاوعد شرطا عالمياً اليوم. عالم بلا بديل، أي بلا مستقبل كذلك. نعيش زمناً تكرارياً راكداً، يبدو أنه يزداد تصلباً وتعصباً بعد غزة. هذا نذير فقط بمستقبل انفجاري، باجتياحات طوفانية للعنف، بأهوال قيامية، قد تكون غزة مجرد نافذة عرض صغيرة لها.
عنف اليوم عنف إبادي موجه نحو الأبد، ليس "العنف الثوري" الذي كان ملء الأنظار والأسماع قبل قرن من اليوم وحتى قبل عقود خلت. إسرائيل التي "وجدت لتبقى" نموذجه الأصفى. ومع هذا النموذج يعود كل عنف تاريخ الاستعمار، وكل عنف تاريخ الطبقات ذات الامتيازات، وكل عنف المشاريع الفاشية القائمة على النقاء العرقي أو الديني.
إنه عنف مُوضّع ومنتشر في الوقت نفسه، محلي وعالمي، في غزة وفي كل مكان من العالم.