في أنماط الحياة وشرعياتها وحروبها


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 7658 - 2023 / 6 / 30 - 01:53
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

يوم 13 حزيران الجاري، التقى وفد من خطباء الجوامع في بلدة أعزاز شمال سورية بمدير جامعة حلب الحرة الدكتور عبد العزيز دغيم، معترضين على "اختلاط" طالبات وطلاب في قاعة الامتحانات ذاتها. في الصور المتاحة تبدو الفتيات محجبات، وبعضهن منقبات، لا ترى منهن غير أعينهن ليرين وأيديهن ليكتبن. هذا هو "الاختلاط" الذي أيقظ حمية المشايخ ودفعهم لمراقبة "الالتزام الديني والشرعي"، ومساءلة الجامعة "عن آلية فرز الطلاب في القاعات والامتحانات والساحات العامّة". وبحسب الأخبار المتاحة فقد كان مدير الجامعة اعتذارياً لخطباء الجوامع، فنفى أن يكون "الاختلاط" من سياسة الجامعة، وزاد "أننا لم نقم بثورة على النظام والظلم لنعيد الاختلاط والفساد الأخلاقي، وما كانت عليه جامعات النظام سابقاً". هذا الربط بين "الاختلاط" و"الفساد الأخلاقي" و"جامعات النظام" غير صحيح. إذ لم يمر يوم لم تكن جامعتا دمشق وحلب، وهما أقدم من النظام الأسدي ومن الحكم البعثي، مختلطتين. وهذا طابع الأكثرية الساحقة من جامعات العالم، بما فيها معظم جامعات البلدان الإسلامية، وجميع الجامعات التركية (منطقة أعزاز واقعة تحت الأمرة التركية، والسيطرة المباشرة فيها لما يسمى الجيش الوطني والإخوان المسلمون).
أما عطف الاختلاط على الفساد الأخلاقي فيحيل إلى انحيازات اجتماعية وسلوكية للمشايخ، تضيق باب الأخلاق إلى وجود نساء ورجال في الفضاءات العامة نفسها، ولا تدرج ضمنه مراقبة الناس والتقييد عليهم وقمع حرية التعبير والتنظيم، والاعتداء على الملكيات، مما هو مترسخ في المنطقة التي يعيش فيه المشايخ، ومما هي سمات راسخة للنظام الذي "قمنا بثورة عليه".
على أن تدخل الجامع في الجامعة يثير أسئلة متعددة، تتصل باستقلال الجامعة، واستقلال المعرفة العلمية عن الدين، نتوقف هنا عند واحد منها يتصل بما يمكن أن يكون نمط حياة شرعياً أو غير شرعي. هناك دلالتان ممكنتان لهذا الحكم. دلالة دينية أو إيديولوجية تقرر أن النمط الشرعي محدد سلفاً بالدين أو القومية أو الثقافة، وأن على السلطة السياسية فرضه على الجميع. وكان من ذلك "جردمة" شعرنا الطويل في مطالع السبعينات لتعارض "الخنافس" مع مجتمعنا المحارب؛ ومنه "المطوعة" في السعودية حتى سنوات قليلة مضت، يراقبون بخشونة ما يراقبه مشايخ أعزاز من حجاب النساء واختلاطهن بالرجال؛ ومنها أن طالبان تحظر تعليم الفتيات (يقال لأنه لا توجد مدارس كافية ليتعلمن وحدهن فيها)؛ ومنها أن أنواعاً من الموسيقى والشعر والمسرح كانت مرفوضة في الاتحاد السوفييتي، لأنها تتعارض مع نمط الحياة الاشتراكي، وتعكس منازع برجوازية. هنا السلطة تقرر نمط حياة بعينه، وتقمع من لا يعيشون وفقا له، ولو لم يتسببوا بأذى لأي كان.
على أنه يمكن تصور شرعية ثانية، ديمقراطية، لأنماط الحياة، تتصل بقابيتها للتعميم، أو بالأحرى لعدم ممانعتها للتعميم، إن بسبب كلفتها أو اقتضائها التمييز ضد قطاعات أخرى من السكان أو تسببها بمشكلات بيئية. من ذلك أن تعميم نمط الحياة الأميركي يتجاوز قدرة كوكب الأرض، ونحتاج إلى أربع كرات أرضية من أجله، فهو غير شرعي من وجهة نظر بيئة حياة أصلح على الكوكب؛ ومنه أن نمط الحياة الذي عملت داعش على فرضه توافق مع التدخل العنيف في الحياة الخاصة للجميع، ومراقبة الإنترنت، وفرض النقاب على جميع النساء، وعمليات إعدام مشهدية، ما لا يصلح أساساً لاجتماع أو لحياة بشرية. ووفقاً لتصور الشرعية المبني على القابلية للتعميم فليس في اختلاط الجنسين في الجامعات، ولا في سفور النساء، أو تقرير الناس الحر لما يؤكل ويشرب ويلبس، ما هو امتيازي أو مؤذ لفئات من السكان، وهو بالقطع لم ينشأ في كنف الحكم الأسدي والبعثي، بل ظهر مع الكيان السوري الحديث بفعل اندراجنا في عالم وفر لأعداد أكبر منا فرصاً للترقي الاجتماعي (جذر أزمتنا منذ عقود أن حداثتنا هذه لم تعد توفر فرصاً للترقي العام). ونمط الحياة هذا لا يقتضي إلغاء غيره مما يمكن أن يرتضيه بعض الناس لأنفسهم. نتذكر أن حافظ الأسد نفسه اعتذر عن نزع الحجب عن رؤوس النساء على يد مظليات رفعت الأسد في أيلول1981، وهو الذي لم يتعذر عن جرائم أشد هولاً بما لا يقاس طوال سنوات حكمه، أسست لدمار سورية الراهن. وبالعكس، صار نمط الحياة المانع من الاختلاط، الذي يقرر زياً قياسياً يتضمن الحجاب والنقاب، وما يؤكل وما يشرب، هو ما يقتضي السلطة الفوقية وتدخلها الإكراهي، وهو بالتالي غير الشرعي من وجهة نظر ديمقراطية.
والظاهر أن مسألة أنماط الحياة تجنح اليوم لأن تكون مثار نزاع عالمي، وبخاصة في جوانبها المتعلقة بالحريات الجنسية وحقوق مجتمع الميم (ما يتصل بالمثليين والمثليات والمتحولين والمتحولات جنسياً والمتحيرين والمتحيرات)، ويبدو أنه تتشكل حول محور الاستقطاب الجديد تقاربات وتحالفات محتملة تبدو مؤهلة لتغييرات واسعة في المشهد العالمي. اليوم مثلاً يعرض إسلاميون محافظون من صنف خطباء جوامع أعزاز وقطاعات من اليمين القومي والديني في بلدان الغرب تقاربات تتصل بأنماط الحياة، تبعدهما معاً عن التحالفات الحاكمة الحالية في بلدان الغرب المركزية التي تتعهد بحماية نمط حياة يراعي ويحترم مجتمع الميم (وتقربهما من بوتين الذين يثير إعجاباً سرياً لإسلاميين ويساريين كثيرين في مجالنا).
في مقالة مهمة نشرت يوم 20 حزيران الجاري في مجلة نيولاينز، تعرض كل من رشا العقيدي وليديا ولسون تقاربات متواترة بين مسلمين وإسلاميين محافظين ونظراء لهم من يمين مسيحي وقومي في أميركا وكندا وبريطانيا بخاصة، تجمعهم مناهضة مجتمع الميم والنسوية الماركسية الثقافية (وهي بحسب تيارات يمينية في الغرب مؤامرة ضد الثقافة الغربية والعائلة، باسم النسوية والجندر ومناهضة العنصرية) والليبرالية والعولمة. وبعد "الحرب ضد الإرهاب" التي استهدفت أساساً إسلاميين ومسلمين، تجمع هذه "الحروب الثقافية" المتصلة بأنماط الحياة بين خصوم الأمس الذي يجدون منبراً لهم في ما يسمى المانوسفير، المجال الرجالي. وهذا "زلملك" افتراضي معولم، يشمل شبكة من مواقع الانترنت والمدونات والمنتديات الافتراضية، ذات الطابع الذكوري جداً، الكاره للنساء والمعادي للنسوية. ومن بين أولئك المحاربين الثقافيين تومي روبنسون الذي كان مؤلفاً لكتاب معاد للإسلام: قرآن محمد، لماذا يقتل المسلمون في سبيل الإسلام، قبل أن يتحول على أرضية العداء للمجتمع الميم إلى "مراقب" يتواصل مع مسلمين في احتجاجات ضد حرق القرآن. ومنهم كذلك أندرو تيت الموقوف حالياً في رومانيا بتهمة الاتجار بالبشر والاغتصاب وتشكيل عصابة تستغل النساء جنسياً، والذي يدافع عنه مسلمون محافظون كضحية لمؤامرة سببها تحوله إلى الإسلام. وكذلك جوردان بترسون، وهو بحسب الكاتبتين سيكولوجي كندي وأيقونة من أيقونات زلملك المانوسفير، يستضيف مسلمين مفكرين مسلمين محافظين مثل حمزة يوسف ومصطفى أقيول ومحمد حجاب. وليس بعيداً عن هذا الجو دونالد ترمب الرئيس الأميركي السابق الذي تحول بدوره من حظر سفر مسلمين من عديد من الدول الإسلامية إلى أميركا إلى معترض اليوم على حظر النقاب بوصفه حقاً ليبرالياً.
حروب الثقافة اليوم لا تتصل بالحضارات وتمايزاتها وتراتباتها على طريقة صموئيل هنتنغتون التي وفرت نظريته عن "صراع الحضارات" أرضية مشرعة لـ"الحرب ضد الإرهاب"، حيث العدو مسلم وإسلامي، بل بالضبط بأنماط الحياة، وبخاصة ما يتصل بالجندر والأدوار الجنسية والعائلة. والعدو مثلما تقدم هو الميميون والنسوية و"الماركسية الثقافية" والليبرالية. وفي حرب كهذه يمكن لبشار الأسد أن يكون حليفاً بعد حين (هو حليف لدوائر اليمين الغربي سلفاً)، وهو الذي شخص "العدو الحقيقي" بأنه "الليبرالية الحديثة" التي قال لمشايخ نظامه في آب 2020 بأنها تسوق "الانحلال الأخلاقي" و"تجعل من الذكورة والأنوثة خياراً فردياً"، وفي هذا ما "يضرب الدين"، بحسب الرجل الذي يدير دولة تعذيب واغتصاب ورثها من أبيه.
وبعد بشار بعام كامل، كان أسامة الرفاعي، رئيس المجلس الإسلامي السوري الذي تشكل قيل سنوات في إسطنبول، ويتطلع لأن يكون مرجعية دينية (سنية) سورية، يحذر في أعزاز نفسها من "حشد الدوائر الاستعمارية، دوائر الكفر والظلام، جيوشاً لحرف الشباب عن أخلاقهم وقيميهم ودينهم". من هذ الجيوش بخاصة نساء يتكلمن لغتنا ومن بلدنا يروجن لـ"تحرير المرأة" وتمكينها و"الجندر"، والغرض هو "تسريب العري والتعري" وإفساد نسائنا، مثلما كشف "الشيخ الرئيس".
تحويل النقاش إلى أنماط الحياة، بدل الحقوق الاجتماعية والسياسية، يمكن أن يؤسس لزمن دولي جديد بتحالفات وجبهات مختلفة، تذكر بشراكات زمن الحرب الباردة والصراع المفترض بين "أنماط الإنتاج". هذا ما ينبغي الاعتراض عليه... من أعزاز إلى نيويورك.