العالم في -اللحظة الفاشية-


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 5954 - 2018 / 8 / 5 - 15:15
المحور: اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم     

الجينوسايد نادر، أو هذا ما نميل إلى الاعتقاد به. نظننا نستطيع إحصاء الإبادات منذ مطلع القرن العشرين، فهي أن لم تكن أربعة، في تركيا وألمانيا وكمبوديا ورواندا، فإنها عشرة أو عشرين. مأثرة كتاب ثيو هورش أنه يظهر ان الإبادة شرطنا العالمي المعاصر، أن القتل الجماعي وفير، وإن أنكرنا. لقد كان تاريخ الإبادات هو تاريخ إنكارها في الوقت نفسها، وهو ما أبقاها معاصرة لنا وما منع الزمن التقادم عليها. النكبة الفلسطينية لم تقع قبل 70 عاماً بل هي مستمرة في الوقوع إلى اليوم وبعده؛ والإبادة الأرمنية معاصرة اليوم لأخلاف من أبيدوا قبل قرن لأنه لم يعترف بها؛ وحده الهولوكوست نال اعترافاً مستمراً في ألمانيا، وهو إن كان لا يتقادم رغم ذلك، فذلك بفعل تحول وظيفي طرأ عليه، حيث صار أساساً لما سماه زغمونت باومان "مظلومية وراثية"، تقوم عليها دولة ترهن أمنها المطلق بانكشاف مطلق مستمر للفلسطينيين، أو بإباحتهم لجينوسايد بارد مديد. ومن شأن إعادة التأهيل الجارية لنظام السلالة الأسدية في سورية أن تبقي الإبادة المستمرة منذ سبع سنوات في رفقة مستمرة لـ6 ملايين من السوريين الذي هجروا من بلدهم إلى خارج وأكثر منهم هجروا داخله، ولجميع السوريين الآخرين، بمن فيهم الموالين للنظام. يقول ثيو: "تميل الثقافات التي تتشكل بشدة حول رضات جمعية لأن تعيش في الماضيcultures inordinately shaped by collective trauma tend to live in the past". المحمية الأسدية التي حافظت على الحكم بأن وضعت نفسه في حماية الروس والإيرانيين وأتباعهم لديها على كل حال شعار إبادي: الأسد أو لا أحد! وأسعد عوالمها الممكنة هو الذي تبقى فيه في الحكم "إلى الأبد"، كما يقول شعار أسدي آخر صراحة، وهو ما يقتضي حرباً أبدية على المستقبل، وإبادة من يتطلعون إلى التغيير. هذا الشكل من "سياسة الأبد" (تيموثي سنايدر) يلقى الدعم من روسيا الأبدية وزعيمها الراديكالي في معاداة التغيير والديمقراطية، فلاديمير بوتين. وتُطبِعه الصين أيضاً بتعديل دستورها كي يبقى شي جين بينغ حاكماً مدى الحياة. ويبدو هذا عالماً ملائماً لمنظمات عدمية، تأخذ في منطقتنا شكلاً إسلاميا عنيفاً، وتتطلع إلى فرض نسختها الخاصة من الأبد، من نهاية بلا نهاية.
لا أتكلم على سورية لأنه يصادف أن أنحدر من هذا البلد المنكوب بالطغمة الأكثر وحشية في عالم اليوم، ولا لأن سورية تحت احتلالات متعددة بينما تناثر السوريون في العالم، ولكن كذلك لأن الإبادة السورية تواجه بحالة إنكار عالمية، ويتنافس على صرف أعينهم عنها اليسار واليمين والمينستريم، ويطورون خطابات ثقافوية وجيوسياسية تساعدهم على ألا يروا وألا يحسوا.
في هذه "اللحظة الفاشية" بتعبير ثيو يعرض النظام الدولي فشلاً متزايداً، والأوليغاركية التي نصبت نفسها وليّة على القانون الدولي والأمن في العالم هي مصدر الأفعال الأشد وحشية، وبخاصة روسيا بوتين، التي تتصرف كشبيح منفلت في جورجيا وأوكرانيا وسورية، دون أن تجد القوى الدولية الأخرى في نفسها ما يدعوها إلى غير امتعاض عقيم. يشبه الأمر تراجع أوربا أمام هتلر قبل 80 عاماً، وقد يفوقه بالنظر إلى أن لدى الأميركيين اليوم بوتينهم، وأن اليمين الصاعد في أوربا معجب ببوتين، ومثله قطاعات واسعة من اليسار. لعلنا نعيش على أعتاب انهيار مهول مثل الحرب العالمية الثانية، ولا نملك اليوم إلا أن نشعر بالذهول من قصر النظر وتدني مستوى النخب الحاكمة في الديمقراطيات الليبرالية الغربية، واستمرارها في خوض الحروب السابقة في عالم متغير: الأجانب مشكوك بهم، واللاجئون طامعون، والفقراء خطرون، والعرب غير موثوقين، والمسلمون أعداء، والأفارقة كسولون إلخ. يجب أن يبقى هؤلاء تحت الرقابة، لا يتمتعون بالحرية. لكن الخطر يأتي من مكان آخر: من الأقوياء ومحاسيبهم، أولاً وأساساً. الديمقراطية في أزمة بسبب عدوان الرأسمالية ما بعد الصناعية في صيغتها النيوليبرالية على وظائف الدولة الاجتماعية للدولة، وما يقترن بها من صعود "سياسات الهوية" وتطوع وسائل الإعلام وإيديولوجيي ما بعد الحداثة وما بعد الحقيقة لتعميم الوعي بالهويات والفوارق كل مراتب المجتمع. يراد للالتهاء بالتمايزات الثقافية أن يحجب الامتيازات الاجتماعي. بالمناسبة، هذا المزيج من ليبرالية جديدة وسياسة هوية تقوم على التمييز بين السكان وحجب الامتيازات وراء التمايزات، يكمن وراء تفجر الثورة السورية في ربيع 2011، وهو ما لن تعلم عنه شيئاً بالطبع من وسائل الإعلام الغربية. لن تعرف عنه أيضاً من يساريين خاملين، معادين للديمقراطية بدورهم، يحل التذكر عندهم محل معرفة واقع الحال الراهن، مثلما هو جدير بأي سلفيين، وإن توقف هؤلاء الرفاق عن "الجهاد" ضد الامبريالية التي يصرون مع ذلك على إلحاق صراعنا بصراع لا يخوضونه ضدها. وكل يوم أكثر من قبله تخسر الديمقراطية بعدها المعياري المتصل بالعدالة الاجتماعية وبالمشروع العالمي أو الانتشار العالمي لما سبق أن تحقق للشعوب في أوربا والغرب من حقوق وحريات وحد أدنى من الحماية الاجتماعية. فوق ما يتسبب به من ضرر لغيره، اليوم الغرب الذي لا يعرف التواضع يتسبب بالضرر لنفسه لأنه لا يستطيع الخروج مما أقامه من تراتب للشعوب والثقافات والحضارات والأديان. هذا التراتب صلب ومترسخ بنيوياً، وليس له اسم آخر غير العنصرية.
اللاجئون والمهاجرون هم من يقعون عند نقطة تقاطع سياسات الهوية وتراجع وظائف الدولة الاجتماعية والافتقار إلى رؤية أو مشروع عالمي. أزمة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية التي يجسدها هذا العالم الثالث الداخلي المتسع في بلدان غربية كثيرة تجد كمالتها الإبادية في العالم الأولى الداخلي لدينا في سورية (وأشباهها) الذي يمثله فاشي بربطة عنق: بشار الأسد، ومعه كواجهة عرض حديثة زوجته الأنيقة، وقد سبق أن سمتها مجلة Vogue: وردة في صحراء، قبل أن تشعر بالخجل بعد الثورة السورية وموسم القتل الأسدي فتحذف التحقيق. الليدي ماكبث السورية المستوردة من بريطانيا مع "التثقف الغربي" للرئيس الشاب تفضل أن تكون أحذيتها ثيابها أيضاً مستودة من أشهر المحلات الغربية، ومثلها كاميرات الزوج الغالية الثمن، وهذا في بلد يعيش نحو 80% من سكانه اليوم تحت خط الفقر، وينحدر منه أغنى ثري عربي: رامي مخلوف الذي لا "يصادف" إلا أنه ابن خال بشار. في هذا البلد تجري اليوم أكبر عملية نقل ملكية، بما في ذلك الأراضي، خلال قرن من تاريخه لمصلحة أقوياء محليين وغرباء، ومعها أكبر عملية تغير سكان منذ قيام البلد في نهاية الحرب العالمية الأولى. لهذا التحول اسم معروف في التاريخ: الاستعمار الاستيطاني، حيث يجري تغيير الشعب وتغيير الملكية لمصلحة القوى المستعمرة والمعمرين القادمين معها، والمحظيين من السكان المحليين. هذا أيضاً لن تجده في وسائل الإعلام. قد تجد من يحدثك عن "تغيير النظام" الذي أرادته الامبريالية في سورية، ناسباً كفاح السوريين المجهض إلى قوى سيطرة دولية أرادت بالضبط عدم تغير النظام، وعدم المساس خاصة ببنيته التحتية الأمنية بعبارة هيلاري كلنتون، لكنك لن تجد شيئاً عن تغيير الشعب من أجل أن تبقى المحمية... إلى الأبد، تحت سمع الامبرالية وبصرها، ورضاها.
يأخذنا ثيو في كتابه إلى فلسطين، وإلى العراق والجينوسايد الإيزيدي على يد داعش، وإلى لبنان، وإلى اليمن، وبورما، وإلى نيجيريا. ولا يحصر نفسه في تناول إبادات متفاوتة النطاق تجري هنا وهناك، ولكنه يلفت إلى مخاطر إبادة الحياة المتمثلة في التغير المناخي الذي هو موضع إنكار من قبل إدارة البلد الذي تسبب بهذه الإبادة أكثر من غيره، أميركا، الإدارة التي تعرض إلى جانب هذا الإنكار نزعات عنصرية لم يُشهد مثلها منذ حركة الحقوق المدنية قبل نصف قرن. يرصد غسان الحاج في كتاب حديثIs Racism an environmental threat? ارتباطاً بين العنصرية في شكلها المهيمن اليوم، الإسلاموفوبيا، ومشكلات البيئة، ويوفر السيد ترمب مثالاً طيباً على هذا الترابط.
عالم اليوم ينطوي على تجارب راضة بشدة وعلى نطاق واسع. والرضات غير المعالجة وغير المعترف بها لا تشد الناس إلى الماضي فقط كما يقول ثيو، ولكنها تدفعهم إلى الانسحاب عميقاً إلى داخل أنفسهم، والانعزال عن غيرهم، و/أو إلى إعطاء أنفسهم الحق في العدوان الوحشي على غيرهم بذريعة أنهم ضحايا وأصحاب حق. أعرف ذلك من التجربة الشخصية والجمعية، ولا أستطيع تجنب التفكير في مخاطر أن يصبح التفكير في رضاتنا راضاً هو ذاته، أو أن تصير الحياة الاجتماعية والتقاء الغير جارحاً، مؤلماً. ماذا نفعل إن كان الاعتزل في صحراء نائية، أو على رأس جبل شاهق أو في غابة منعزلة يزداد استحالة في كوكب يتجاوز عدد ساكنيه 7 مليارات، وإن كان عدم الاعتزال يولد أشد الآلام، وإن كانت السياسة وجهازها المجرب، الدولة، قوة رضٍّ عام مسلحة، يعرض مديروها مزيجاً من الوحشية والتفاهة والجشع؟ نوشك أن ندخل زمناً لا يسعف فيه التفكير (وهو "حوار مع النفس"، حسب حنة آرندت) ولا لقاء الغير والحوار معه في التغلب على رضوضنا أو مجرد تحملها. وإذ نمتلئ بالغضب يغدو الانفجار مسألة وقت. ويرتسم في أفقنا على نحو لا مهرب منه خطر الإبادة الأكبر من كل إبادة: قتل البشر أجمعين، وربما تدمير الحياة، ليس على يد متعصبين إيديولوجيين أو بفعل نزاعات سياسة حادة هذه المرة، بل بسبب التفاهة والأنانية والإنكار.
وقت الاعتراض على "اللحظة الفاشية" هو الآن. وهذا الكتاب وثيقة أخلاقية ودعوة للعمل، تقول بوضوح إن العالم واحد، أنه وحدة التحليل ووحدة العمل الوحيدة إن كنا نتطلع إلى عالم أقل قسوة، أن "الوطنية المنهجية" خطر فكري وسياسي وأخلاقي، أن التضامن لم يعد كافياً وأنه ينقلب أكثر وأكثر إلى علاقة قوة تُرضي بثمن بخس ضمير متضامنين لا ينقصهم شيء، وأن ما نحتاجه حقيقة هو الشراكة، أن نلتقي ونتحاور، أن نفكر معا ونعمل معاً من أجل عالم واحد نعيش فيه معاً.
ياسين الحاج صالح

مقدمة كتاب ثيو هورش، الذي صدر قبل أيام.The Holocausts We All Deny: Collective Trauma in the World Today
ثيو صفحي مستقل وناشط حقوقي أميركي. وهو مؤلف كتاب: Convergence: The Globalization of Mind، وكذلك:
Climate: Global Warming from the Inside Out