المهاجر / 1 - 3


حسين علوان حسين
الحوار المتمدن - العدد: 5043 - 2016 / 1 / 13 - 03:26
المحور: الادب والفن     

كان يا ما كان ، في قديم الزمان ، و الذي كان أردأ الأزمان ، ببلاد الطرقان ، المهندس المقاول : سعيد فالح عظيم ، الذي صرف من جيبه عشرة مليارات دينار اقترضها كلها من المرابين بفائدة شهرية مركبة بنسبة 20% لقاء تحريره لهم صكوكاً على بياض ليسنى له تنفيذ مقاولة حكومية ، دون أن تدفع له حكومة الحيتان الخضراء فلساً واحداً من مستحقاته ، بعد أن سلبت حيتانها و نهبت كل الأرصدة الضخمة لخزينة الدولة و حتى قروض الديون الخارجية طوال عشرة سنوات عصيبة ، و اشترت بالغنائم القصور و العمارات في الداخل و الخارج ، و قضت على بطالة عجائز البغايا في الداخل و الخارج .
و بعد أن أجرى سعيد آلاف المراجعات و التوسلات و الوساطات و التشبثات و التربصات و الاعتراضات ، و وزَّع الدفوعات يميناً و شمالاً لهبرات الرشا فوق الرشا للجان تلو اللجان ، سلمته دولة التبن الخارجة على القانون أخيراً صكاً بدون رصيد بعُشْر مستحقاته . و لتسديد ديونه المتفاقمة يوماً بعد يوم للمرابين ، فقد باع سعيد سيارتيه الخصوصيتين ، و كل ما لديه من الآليات الثقيلة للعمل ، و الدور الثلاثة التي يمتلكها بأبخس الأثمان ، و سكن مع عائلته بالإيجار . و عندما نفد كل ماله و لم يعد قادراً على السداد ، استصدر المرابون أوامر إلقاء القبض عليه بتهمة تحريره لهم عشرات الصكوك بلا مقابل وفاء ، فاضطر للتخفي عند أقاربه هنا و هناك ، و التواري عن أنظار الدائنين خشية الاعتقال .
و مما زاد في الطين بله ، أن ما من واحدة من بناته الخمسة المتخرجات من أرقى الكليات – ثنتان منهن حصلن على الماجستير في الهندسة الكهربائية – قد وجدت أي وظيفة لها ، كما لم يتقدم لطلب أيديهن سوى رجال المافيا الحرامية الأميين . أما أبنه الوحيد ، جابر ، فقد أغرته على الشبكة العنكبية إحدى عواهر داعش - التي تتزوج و تتطلق يومياً على الأقل عشرة مرات - بترك المرحلة الرابعة في كلية الحقوق ، و الالتحاق بماخور الدوعشة ، حيث تخصص هناك بذبح الأسرى من الرجال العزل ذبح النعاج و الدجاج ، و الزنا بالأطفال و الطفلات زنا الثجاج . و من جحر داعش ، اتصل بأهله هاتفياً ، و راح يخيِّرهم بين الالتحاق بجحره و التدوعش مثله ، أو أن يتولى هو ذبحهم على يديه حال احتلال فيلق قُوّادهم البلد حسب نبوءات المنجمين الدقيقة العالمة بالغيب كالحقائق المشهودة ، ليفوزوا من بعدها بالحور العين الكاشفات فروجهن في كل حين ، و انهار اللبن و العسل و الخمر الخرافي المداف بمياه المجاري و الطين ، بلا مشويات و لا زلاطة و لا فسيخ و لا بطيخ ، حسب تعاليم الدين الوهابثي الجديد ، و كل ذلك تلبية لنزوات خناجر و بنادق و مدافع و دبابات البطون و الأحضان لشذاذ الآفاق المُكَبْسلين المِسْوَچّين .
في ذلك اليوم الأغبر ، خرج سعيد من داره خلسة و هو يتلفت ، و بجيبه آخر مبلغ صغير تبقي لديه و الذي لا يكفي مصروف جيب ليوم واحد ، بعد أن ذكَّرته زوجته الوفية و هي تشايعه حتى الباب بضرورة عدم نسيانه "تدبير" مبلغ مناسب اليوم لشراء ملابس العيد السعيد لبناته الخَمْس .
رفع رأسه متلفتاً عند ناصية الشارع ليتأكد من عدم وجود سيارة زبانية شرطة إلقاء القبض على المدينين المتوارين عن الأنظار ، فطالع نظره زحام المراجعين و صفوف سيارات الدفع الرباعي السوداء الفخمة المصطفة أمام الساحة المقابلة لمكتب عبد السادة المعيدي – جاره سابقاً ، و سمسار جهاز الأمن السابق الذي تحول بعد ستة شهور من غزو الخنازير للبلد إلى شيخ معمم يفتي بأريحية في كل شأن . كما أسس له "كياناً سياسياً" كمشروع تجاري فردي حرص على بقائه مستقلاً تمام الاستقلال الناجز عبر نصرته دوماً لمؤامرات كل من يدفع له من دول الجوار بالضد من مصالح وطنه تحت شعار : على الأسد أن يتحول إلى كتكوت لكي يشبع من الزبالة فلا تبق الآخيرة بلا آكلين . و اتخذ له زمرة من الشباب النَقَريَّة الحَبَرْبَش المتحلقين حوله في صالات إحدى قصور الدولة المنيفة التي احتلها – هي و ساحة وقوف السيارات الفسيحة الكائنة عبر الشارع أمامها – و حوّلها إلى ديوانية لاستقبال المراجعين ؛ قبل قيامه بتوزيع الرشا على أولي الشأن وتسجيل العقارين باسمه ببدل نقدي أقل من ثمن جردل من الشلغم ، حسب الأصول و قواعد القبول في عهد حكم غبران الفلول . كما طفق يشتغل في تجارة الرقى السحرية و قراءة الفأل ؛ و ممارسة طب الشعوذة ؛ و تهريب البشر و النفط الخام و الكبريت و مكائن معامل الدولة و الأسلحة عبر الحدود بمساعدة أولياء نعمته الجدد من دول الجوار .
قارن سعيد بين وضعه قبل سنتين و بين ما أصبحت عليه حاله الآن ، فأحس بنيران القهر تلفح وجهه ، وانهمر الدمع السخين مدراراً على وجنتيه . كفكف دموعه مراراً قبل أن يستطيع التمالك و التماسك بعد لأي .
فجأة ، قرر سعيد الهجرة بلا رجعة من بلد الطرقان ، و ليكن من بعده الطوفان .
كان سعيد بالرغم من علمه علم اليقين بأن سبب اعتقاله قبل خمسة عشر عاماً من طرف أجهزة الأمن بتهمة مفبركة هي سبّ و شتم الملاكم محمد علي كلاي – و التي أمضى خلالها في أقبية المعتقلات سنتين بالتمام و الكمال ذاق خلالها صنوف التعذيب و الهوان و الحرمان – إنما يعود إلى التقرير الذي حرره ضده سمسارها عبد السادة المعيدي هذا في نفس الليلة التي رفضت فيه ابنته الكبرى قبول خطبتها لابنه المنغولي : دايح ، إلا أن سعيداً بادر لإيواء جاره عبد السادة في داره حال غزو الخنازير للبلد بأموال و عون جروات الجوار ، حيث بقي عنده ضيفاً معززاً مكرماً طيلة ثلاثة شهور ؛ أفلح خلالها سعيد بشق النفس في حمايته من نقمة عدد من ذوي ضحاياه المعدومين الكثيرين ، و ذلك في وقت عصيب ساد فيه حكم المليشيات ، و غابت فيه تماماً سلطة القانون بعد أن انتشرت شتى أنواع الأسلحة الثقيلة و المتوسطة و الخفيفة في كل مكان ، و أصبحت رمانات القنابل اليدوية تباع في الأسواق الخضر و الفواكه أرخص من سعر الطماطم : الكيلو بربع دينار .
الآن ، فكر سعيد : لقد حلت الساعة كي يرد له عبد السادة المعيدي هذا جميله بجميل إن كانت فيه ذرة من وفاء .
اخترق صفوف السيارات السوداء الفخمة و جموع الزوار الملتحين ، و دلف إلى المكتب . أمره مدير المكتب بخلع حذائه و التوضؤ قبل الجلوس في قاعة الانتظار ريثما يحين دوره في "المثول بين يدي السيد الشيخ العلّامة" .
لحظات و عاد مدير المكتب و هو يقود بسلسلة جرواً أسود مرره أمام المنتظرين . فجأة توقف الجرو عند أحدهم و جلس .
- مبروك . لقد جاء دورك . تفضل بالمثول بين يدي السيد الشيخ العلّامة .
- شكراً جزيلاً ، لك و للجرو !
قالها المراجع المنتظر و هو يقوم مبتسماً ، و توجه نحو الرواق الطويل المؤدي إلى مكتب السيد الشيخ العلامة .
- ما موضوع هذا الجرو ؟ سأل سعيد الرجل البدين الجالس إلى يساره . .
- إنه الجرو المتخصص في تحديد الدور للمراجعين حسب فورية الحالة للزوار . يا له من جرو ملهم و مبارك !
- كيف ملهم و مبارك ؟
- ألم تره ؟ إنه يشم الزوار زائراً فزائراً ، فيلتقط رائحة مَن لديه حاجة مستعجلة أكثر من غيره ، فيقف عنده إيذاناً بالسماح له بالدخول قبل غيره . سبحان الله ، إنه جرو عادل و شفيق . نعم إنه جرو رباني مبارك بكل حق و حقيق !
- و كيف يمكن أن يكون جرواً مباركاً و الكلب حيوان نَجِسٌ و مُنَجِّس ؟ تساءل سعيد .
- الأكيد هو أن النجاسة لا تنطبق إلا على كلابنا المحلية السائبة ممن تولى الغازي انتشالهم من حاويات الزبالة ، و أجلسهم على أعلى الكراسي . أما هذا الجرو ، فهو شيء آخر مختلف . أنه جرو أمريكي متخصص ؛ جرو أجنبي مستورد ؛ و هو مخلوق خبير و مؤدب و ماجد ، و قد جاب البحار و المحيطات أولاً ، ثم قطع الفيافي و القفار في رحلته من مضارب أعمامه الذين زارهم في السعودية و الكويت قبل قدومه الميمون إلينا ، و هو سيِّد مُطاع في اختصاصه النادر ، و محل الاحترام عند كل السادة الجدد للبلد ، ناهيك عن المواطنين العاديين ! إنه المفتاح لكل الأبواب ، حتى أبواب السماء !
- أستغفر الله ! لا بد أنه جرو امبريالي هجين مثل الدستور الرخل الخرنقعي الجديد ! تالله إنها مهزلة المهازل ! لم نقبل بالبوري ، فأصمونا بالخازوق الرهيب . و لقد تجرعنا أكل الخازوق كله ، حتى تجاوز التراقي ، فعشعش في العروق و القلوب و العقول ! عشنا و شفنا حتى حل بنا زمن العجائب الأغبر هذا ! يا ليتني مت قبل هذا ، فلا العين ترى ، و لا القلب يحزن . قالها العجوز الأصلع الجالس على يمينه و هو يهز برأسه .
- لا دواء لأمثالكم إلا ذاك الرجل ! رد البدين على العجوز .
- نعم ، فالبول أفضل من الغائط ، و إن كانا إخوة !

يتبع ، لطفاً .